محمود كلّم
(Mahmoud Kallam)
الحوار المتمدن-العدد: 8568 - 2025 / 12 / 26 - 13:06
المحور:
القضية الفلسطينية
ميلادٌ آخر يحلّ على فلسطين، لكن شعلته هذا العام أكثر خفوتاً من أيّ وقت مضى. ليس لأن الأعياد فقدت معناها، بل لأن الأرض نفسها تئنّ تحت الركام، وغزة تُطفئ شموع الميلاد بدم أطفالها، لا بالأنغام ولا بأجراس الكنائس. ومع ذلك وسط هذا الظلام، ارتفع صوتُ الآذان في الكنائس… لا كطقسٍ دينيّ، بل كصرخة إنسانية تقول إن هذه الأرض، مهما ضاق بها القهر، ما زالت قادرة على احتضان كلّ من يسكنها.
في غزة حيث تلتقي السماء بالغبار، وحيث يتحوّل الليل إلى نشرة حصادٍ يوميّ للدمار، لم يعد ثمّة فرق بين مسجدٍ قُصف وكنيسةٍ احترقت. هنا يموت الناس بوصفهم بشراً، لا بحسب انتمائهم الديني. هنا يُدفَن المسيحيّ والمسلم في المقبرة نفسها، ويبحث الاثنان عن ماء، ودواء، ونسمة حياة في مدينةٍ تُعاقَب لأنها ما زالت على قيد الحياة.
وحين يرفع المسيحيون الآذان فوق مذابح الكنيسة المهدّمة، فإنهم لا يضيفون لحناً جديداً إلى تراتيلهم، بل يضيفون معنى جديداً لفلسطين: فلسطين التي تعرف أن دماء أهلها واحدة، وأن أحزانهم واحدة، وأن مقاومتهم واحدة. فلسطين التي تعلّم العالم أن الوحدة ليست شعاراً سياسياً، بل جداراً يستند إليه من بقي حيّاً وسط العاصفة.
وفي الضفة أيضاً لم يعد الميلاد يمرّ دون دمعة. بيت لحم، التي وُلد فيها رمز السلام، باتت محاصرة بالحواجز؛ يغيب عنها الزائرون، بينما يحضر الجنود. شوارعها التي كانت تلمع في هذا الوقت من كلّ عام، تُطفئ زينتها لأن غزة بلا كهرباء، ولأن طفلاً في خان يونس يبحث عن أمّه تحت الأنقاض، ولأن أمّاً في دير البلح تنتظر ابناً لن يعود.
ولأن الميلاد ليس احتفالاً بالفرح فحسب، بل احتفالاً بالإنسان، فإن الفلسطينيين—مسيحيين ومسلمين—أرادوا هذا العام أن يقولوا للعالم: لقد حاول الجميع خنق أصواتنا، لكننا سنظلّ نرفع النداء من كلّ مكان؛ من المساجد التي تهدّمت، ومن الكنائس التي فقدت أبوابها ونوافذها. سنرفع صوت الآذان داخل الكنائس كما سنقرع أجراس الميلاد في قلب المخيمات. لأننا ببساطة، شعبٌ واحد، وقضية واحدة، وجرح واحد.
ميلادٌ مجيد لمن رفعوا صوتَ الآذان في كنائسهم،
لمن فهموا أن قداسة الإنسان أسمى من قداسة الحجر،
لمن كتبوا بأفعالهم ما عجزت السياسة عن قوله:
إنّ فلسطين لا تُقسَّم… وإنّ غزة ليست وحدها…
وإنّ الميلاد الحقيقي، في هذا الزمن الجريح،
هو أن يواصل الفلسطينيون حمل نورهم في وجه هذا الليل الطويل.
*محمود كلّم، كاتبٌ وباحثٌ فلسطينيّ، يكتب في الشأنين السياسيّ والوجدانيّ، ويُعنى بقضايا الانتماء والهويّة الفلسطينيّة. يرى في الكلمة امتداداً للصوت الحرّ، وفي المقال ساحةً من ساحات النضال.
#محمود_كلّم (هاشتاغ)
Mahmoud_Kallam#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟