أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - احمد صالح سلوم - رواية - من طيرة اللوز إلى الراين - أو - ظلال الكرمل -















المزيد.....



رواية - من طيرة اللوز إلى الراين - أو - ظلال الكرمل -


احمد صالح سلوم
شاعر و باحث في الشؤون الاقتصادية السياسية

(Ahmad Saloum)


الحوار المتمدن-العدد: 8567 - 2025 / 12 / 25 - 20:39
المحور: الادب والفن
    


يحمل الشعب الفلسطيني وطنه في قلبه كجرح مفتوح لا يندمل، ومن قلب هذه المعاناة تظهر رواية "ظلال الكرمل" كعمل أدبي يجسد جوهر المقاومة الروحية، تلك المقاومة التي لا تعتمد السلاح بل الرواية نفسها، رواية الذات ضد النسيان، رواية الأرض ضد المحو. إن هذه الرواية، ببنائها الملحمي الذي يمتد عبر قرن كامل من الزمن، تذكرنا بأعمال كبرى في الأدب العالمي، من "مئة عام من العزلة" لغابرييل غارسيا ماركيز في قدرتها على نسج الواقعية السحرية مع التاريخ الدامي، إلى "الطريق" لكورماك مكارثي في تصويرها للرحيل والفقد كحالة وجودية، مروراً بـ"الجبل السحري" لتوماس مان في استكشافها للزمن المعلق بين المرض والذاكرة. لكن "ظلال الكرمل" تتفوق في كونها شهادة حية على نكبة مستمرة، نكبة لا تنتهي بحدث تاريخي بل تتجدد في كل جيل، في كل ضيق بركسة، في كل فضاء غربي يبدو واسعاً لكنه يخنق الروح.

من منظور النقد ما بعد الاستعماري، كما طوره إدوارد سعيد في "الاستشراق" وهومي بابا في مفهوم "الهجنة"، تقدم الرواية تفكيكاً عميقاً للخطاب الاستعماري الذي يرى الأرض "فارغة" أو "بدائية"، خطاب يبدأ مع الغرباء الذين يرسمون الخرائط ويصفون الجبل كمتحف رومانسي، يهملون الحياة النابضة فيه، ويبلغ ذروته في النكبة بحرق العجزة أحياء لمحو الوجود. الرواية ترد على هذا الخطاب برد فعل هجين، حيث يحمل المهجرون الطيرة داخل قلوبهم، يهجنون المنفى بالوطن، يجعلون الضيق في البركسات فضاءً واسعاً للذاكرة، والفضاء في الغرب ضيقاً للروح، فتفكك الثنائيات الاستعمارية بين "حضاري" و"بدائي"، بين "فارغ" و"مأهول"، بين "ماضٍ" و"حاضر".

من زاوية النقد النسوي، كما طورته جوليا كريستيفا في مفهوم "الأبجيكت" وهيلين سيكسو في "الكتابة الأنثوية"، تبرز فاطمة كبطلة أسطورية، امرأة تحمل في جسدها تاريخ الأرض، تلد الأجيال وتحمل الذكرى، تمرض وتعود إلى الوطن في الحمى، تموت وهي في وادي أبو الجاع، كأن جسدها الأنثوي يصبح وعاءً للذاكرة الجماعية، يقاوم المحو بالولادة المستمرة للرواية. حمدة وعليا يرثان هذا الجسد، ينقلان الوصية عبر الضيق والفضاء، يجعلان الكتابة الأنثوية فعلاً مقاوماً، كتابة تخرج من الجسد، من الدم، من الدموع، تكتب الوطن على جلد المنفى.

من منظور النقد البيئي، كما طوره تيموثي مورتون في "الإيكولوجيا المظلمة"، تقدم الرواية رؤية عميقة للأرض ككائن حي، جبل الكرمل يهمس، يبكي، يحمل أنين العجزة، ينتظر العودة، وادي أبو الجاع يعرف الأسرار، يحفظ الحب، الزيتون يشهد على الأجيال. النكبة هنا ليست فقط تهجيراً بشرياً، بل اغتصاباً للأرض، حرقاً للطبيعة مع الإنسان، لكن الأرض تبقى، تنتظر، تقاوم بالصمت الأزلي، بالينبوع الذي يجري، بالجبل الذي لا ينكسر.

من زاوية النقد التروماتي، كما طورته كاثي كاروث في "الصدمة غير المروية"، تروي الرواية الصدمة التي لا تُروى مباشرة، صدمة حرق العجزة أحياء، صدمة الرحيل، صدمة الضيق في البركسات، صدمة الفضاء البارد في الغرب، صدمة تتكرر في الأجيال، تُروى في القصص، في الأحلام، في الحمى، حتى تصبح الرواية نفسها علاجاً، شهادة تحول الصدمة إلى مقاومة، إلى وعد بالعودة.

من منظور النقد السردي، كما طوره بول ريكور في "الزمن والسرد"، تبني الرواية زمناً دائرياً، زمناً يعود فيه الماضي في الحمى، في الذكرى، في الوصية، زمن يربط بين الستين في الطيرة والأربعين في المنفى، بين النكبة وغزة، بين فاطمة وحمدة وعليا والأحفاد، زمن يجعل العودة ممكنة ليس في الواقع بل في السرد، سرد يقاوم النسيان، يقضي الأمور في وادي أبو الجاع.

"ظلال الكرمل" ليست مجرد رواية، بل فعل مقاومة أدبي، شهادة على شعب يحمل وطنه في قلبه، يقاوم المحو بالذاكرة، بالقصة، بالوصية. إنها رواية تجعلنا نسأل: هل الأرض فارغة إذا حملها شعب في قلبه؟ هل النكبة انتهت إذا بقيت حية في الأجيال؟ هل المنفى ضيق إذا وسعت فيه الروح الوطن؟ وتجيب الرواية بصوت فاطمة الذي يتردد عبر الزمن: لا، الطيرة حية، الوادي ينتظر، الينبوع يعرف، والعودة قادمة، مهما طال الضيق، مهما اتسع الفضاء، مهما حرقوا، مهما محوا.


مقدمة

في أعماق جبل الكرمل، حيث يلتقي البحر بالسماء في عناق أزلي، وتتسلق أشجار الزيتون المنحدرات كأنها أرواح تتعلق بالأرض خوفاً من الرحيل، تقع الطيرة، قرية ليست مجرد حجر وتراب، بل قلب نابض يحمل في طياته قرنًا كاملاً من الحياة، حياة فاطمة التي ولدت تحت الزيتون عام 1888، وعاشت في حضن الجبل ستين عاماً، ثم حملت الجبل في قلبها أربعين عاماً أخرى في المنفى، حتى رحلت عام 1990 وهي في الثانية بعد المئة، رحلت وهي في وادي أبو الجاع، قضت أمورها هناك، عادت إلى عادل، إلى صالح، إلى العجزة الذين حرقوا أحياء لكنهم بقوا أحياء في الروح.

هذه رواية الذاكرة التي لا تموت، ذاكرة شعب يحمل وطنه في قلبه كجرح مفتوح، جرح ينزف لكنه يولد الحياة، يولد الأجيال التي تحمل الوصية: سنعود، مهما طال الضيق، مهما اتسع الفضاء، مهما حرقوا، مهما محوا. رواية تبدأ بولادة تحت الزيتون، وتنتهي بوداع في البركسة الضيقة تحت سقف الزينكو، لكنها لا تنتهي حقاً، بل تستمر في قلوب الأحفاد، في دوسلدورف أو النيرب أو أي مكان يحمل فيه المهجر الطيرة داخل روحه.

في الطيرة، كانت الحياة واسعة كالجبل، بيوت حجرية تتسع للضيوف والأحفاد، حقول تمتد إلى البحر، وادي أبو الجاع يخفي أسرار الحب، يحمي القبلات الخجولة، يشهد على العهود. كانت فاطمة طفلة تركض حافية بين الزيتون، شابة ترقص في الأعراس تحت القمر، زوجة تبني بيتاً مع عادل، أماً تحمل الأطفال وتعلمهم حب الأرض، جدة تروي القصص حول المدفأة. كانت الطيرة حية، مفعمة بالأصوات والروائح، بالضحك والدموع، بالحصاد والأعياد، حتى جاءوا، جاءوا يرسمون خرائط، يقيسون الأرض كأنها ملكهم، يصفونها رومانسية فارغة، يهملون الناس الذين يعيشونها، يحبونها، يموتون من أجلها.

ثم جاءت النار، نار 1948 التي التهمت الطيرة ومئات القرى، نار حرقت العجزة أحياء في بيوت مغلقة، صالح يصرخ، عبد الرحمن يدعو، أجساد تتلوى في اللهب ليمحوا الوجود، ليفرغوا الأرض من أهلها، ليبنوا عليها رواية أخرى. رحلت فاطمة مع المهجرين، حملت الذكرى كجرح، سارت في الجبال، عبرت الحدود، وصلت إلى مخيم النيرب، معسكر فرنسي قديم تحول إلى بركسات ضيقة، سقوف من الزينكو تحرق في الصيف وتغرق في الشتاء، غرفة واحدة تتكدس فيها العائلة، ضيق يخنق الجسد لكنه يوسع الروح، يجعل الطيرة وطناً داخلياً، يجعل وادي أبو الجاع قلباً ينبض في كل نفس.

عاشت فاطمة أربعين عاماً في الضيق، بنت حياة من الصفر، ربت الأحفاد على الذكرى، روت عن الطيرة، عن الحب في الوادي، عن حرق العجزة أحياء، عن الوصية: سنعود. ثم جاءت الحمى، الحمى التي أعادتها إلى الطيرة، في البركسة الضيقة تحت الزينكو، عادت إلى عادل، إلى الينبوع، إلى العجزة الذين يضحكون، قضت أمورها في وادي أبو الجاع، ماتت سعيدة، عائدة إلى الوطن في آخر نفس.

انتقلت الوصية إلى حمدة، ثم إلى عليا في دوسلدورف، عليا التي تعيش في الفضاء الواسع لكن قلبها ضيق، تتمنى لو بقيت في البركسة، تسمع أنفاس العائلة، تشم رائحة الخبز على الصفيحة، لا هذا الرفاه البارد الذي يبعد الأجيال عن الينبوع. تنقل عليا الوصية إلى أبنائها، إلى أحفادها، تربطهم بالطيرة التي لم يروها، بالوادي الذي ينتظر، بالعجزة الذين حرقوا أحياء لكنهم يعيشون في القصص.

هذه رواية الذاكرة التي تقاوم النسيان، رواية شعب يحمل وطنه في قلبه، يقاوم المحو بالقصة، بالوصية، بالحلم. رواية تربط بين النكبة وغزة، بين حرق العجزة أحياء في الطيرة وحرق الأحياء اليوم، بين الضيق في البركسات والفضاء في الغرب، بين الماضي والمستقبل. رواية تقول: الطيرة لم تمت، الجبل ينتظر، الينبوع يعرف، والعودة قادمة، مهما طال الضيق، مهما اتسع الفضاء، مهما حرقوا، مهما محوا.

ادخلوا إلى الطيرة، يا قراء، ادخلوا إلى وادي أبو الجاع، اسمعوا صوت فاطمة، صوت حمدة، صوت عليا، صوت الأجيال التي تحمل الوصية: سنعود، سنقضي أمورنا في الوادي، سنعود إلى الأرض التي لم تخن، إلى الحب الذي لم يمت، إلى الحياة التي تبدأ من جديد بعد كل نار.

هذه الرواية، ليست توثيقاً حرفياً لما جرى، بل نبضاً متخيلاً ينبض بدماء ما حدث حقاً. قد تتشابه بعض الأسماء مع أسماء حقيقية من الطيرة، تلك القرية التي احتضنتها منحدرات الكرمل كأم تحمي أبناءها، لكنها ليست سيرة تاريخية، بل صرخة أدبية تُعيد خلق الجرح لتُبقيه حياً، تُعيد ترتيب الرماد لتُشعل منه ناراً تضيء طريق العودة.

إن ما روي هنا مستوحى من دماء سالت في الطيرة، في طيرة اللوز قرب حيفا، حيث أُحرقت البيوت وهي مأهولة، وفي الطنطورة حيث غُرّق البحر بأجساد الشهداء، وفي أكثر من خمسمئة قرية وبلدة فلسطينية ابتلعتها النار والحديد عام 1948، قرى لم تكن فارغة يوماً، بل مفعمة بحياة، بضحك أطفال، بأغاني نساء يحصدن، بقهوة عجزة يروون قصص الأجداد، ثم أُفرغت بالقوة، أُحرقت أجسادها الحية، أُمحيت أسماؤها من الخرائط، لكنها بقيت تنبض في قلوب المهجرين.

وتتجاوز الرواية حدود 1948 لتشهد على استمرار النار، في مخيمات اللجوء التي كانت ملاذاً آمناً فتحولت إلى مقابر، كما في مجزرة صبرا وشاتيلا عام 1982، حيث سالت الدماء في الشوارع الضيقة بين البركسات، على يد قوى فاشية لبنانية وأدوات الاحتلال الصهيوني، نساء وأطفال وعجزة يُذبحون تحت أنظار العالم الصامت، كأن التاريخ يعيد نفسه، كأن النكبة لم تنتهِ بل تكررت بوجوه جديدة، بأسلحة أحدث، بصمت أعمق.

واليوم، في زمن البث المباشر، حيث يُبث الهولوكوست الفلسطيني بالصوت والصورة، في غزة التي تُحرق أحياء كما حُرقت الطيرة، أطفال يُدفنون تحت الركام، عجزة يُقتلون في المستشفيات، نساء يلدن في الشوارع ثم يفقدن أطفالهن في القصف، يتكرر المشهد، نفس النار، نفس المحو، نفس الصمت العالمي الذي يغطي الجريمة. هذه الرواية لا تروي الماضي فقط، بل تشهد على الحاضر، تربط بين حرق العجزة في الطيرة وحرق الأحياء في غزة، بين البركسات في النيرب والخيام في رفح، بين وصية فاطمة وقضاء الأمور في الوادي، وبين صرخة طفل اليوم يقول: سنعود.

إن الأسماء قد تتشابه، والأماكن قد تتداخل، والأحداث قد تتكرر، لأن الجرح واحد، والنار واحدة، والشعب واحد، والوصية واحدة: سنعود. هذه ليست رواية خيالية، بل شهادة متخيلة، شهادة على شعب لم يمت، على أرض لم تُفرغ، على ذاكرة تقاوم النسيان، على أمل ينبض في كل قلب مهجر، في كل بركسة ضيقة، في كل شقة واسعة باردة، في كل صوت يقول: الطيرة حية، الوادي ينتظر، الينبوع يعرف، والعودة قادمة، مهما طال الزمن، مهما حرقوا، مهما محوا.


الفصل الاول

1

في أواخر القرن التاسع عشر، حين كان جبل الكرمل يغلف نفسه بضباب الصباحات الندية، ولدت فاطمة في بيت حجري صغير في قرية الطيرة، تلك القرية التي تتسلق منحدرات الجبل كأنها سرّ من أسراره. كان عام 1888، عاماً يحمل في طياته رياح تغيير خفية، لكن في عيون صالح، أبيها، كان مجرد عام آخر يبدأ بحصاد الزيتون وينتهي بدفء المدفأة. صالح، الرجل القوي البنية، ذو اللحية البيضاء المبكرة، كان يجلس على العتبة كل فجر، ينظر إلى الوادي السفلي حيث يمتد البحر كلوحة زرقاء لا تنتهي، ويهمس لنفسه: "الأرض كريمة، والله أكرم". وكانت عليا، أم فاطمة، امرأة هادئة القسمات، عيناها تحملان عمق البحر نفسه، تتحرك في البيت بخفة كأنها ترقص مع الريح التي تتسلل من النوافذ الصغيرة.

ولادة فاطمة كانت حدثاً بسيطاً، ككل الولادات في القرية، لكنها حملت في طياتها شيئاً من السحر الذي يغلف الكرمل. القابلة، نظمية، الجارة ذات الابتسامة الواسعة واليدين الخشنتين من عمل الأرض، قالت وهي تخرج الطفلة إلى النور: "يا لها من عيون، كأنها قطعتان من زيتون أسود لامع". وفعلاً، كانت عيون فاطمة سوداوين عميقتين، تحملان بريقاً يخترق الظلام، كأن الجبل نفسه قد أودع فيهما سرّه الأزلي. بكت فاطمة بكاءً قوياً، صوتها يتردد في الوادي، فابتسم صالح وقال لعليا: "ستكون قوية هذه الفتاة، مثل أرضنا التي لا تنكسر". وعليا، وهي تضم الطفلة إلى صدرها، شعرت بدفء ينتشر في جسدها، دفء يشبه رائحة الخبز الطازج الذي كانت تخبزه كل صباح على التنور الحجري.

نشأت فاطمة وسط أصوات القرية اليومية، أصوات الديكة التي تبشر بالفجر، وأجراس الأبقار التي تتجه إلى المراعي، وأحاديث النسوة حول البئر حيث يجتمعن ليملأن الجرار ويتبادلن الحكايات. كانت الطيرة قرية حية، بيوتها الحجرية تتداخل كأنها جزء من الجبل نفسه، شوارعها الضيقة تتسلق وتنزل بين أشجار الزيتون والخروب، وفي وسطها الجامع الصغير حيث يجلس عبد الرحمن، الشيخ المسن، يقرأ القرآن بصوت يهدئ القلوب. وكان يوسف سلوم العالم، الرجل الذي يقرأ الكتب ويروي الأخبار من حيفا، يجلس معه أحياناً، يناقشان أمور الدنيا بصوت منخفض، كأنهما يخشيان أن يزعجا هدوء الجبل.

في طفولتها، كانت فاطمة تتجول في الحقول مع أمها عليا، تتعلم كيف تميز الزيتون الجيد من الرديء، كيف تسمع همس الريح في الأوراق، كيف تشعر بالأرض تحت قدميها الحافيتين كأنها أم حنون. "انظري يا فاطمة"، تقول عليا وهي تشير إلى الوادي، "هذا وادي أبو الجاع، هناك تختبئ الجنية التي تحمي الزيتون، وإذا أحسنتِ إلى الأرض، أحسنت إليك". وكانت فاطمة تضحك ضحكة طفولية نقية، تهرول بين الأشجار، شعرها الأسود يتطاير كجناحي غراب، وهي تتخيل الجنية صديقة لها. أما عادل، ابن الجيران، الفتى ذو العيون الخضراء والابتسامة الخجولة، فكان يراقبها من بعيد، يساعدها في حمل السلال، ويقول لها نكاتاً تجعلها تضحك حتى تدمع عيناها.

مع مرور السنوات، بدأت فاطمة تكبر، جسدها يمتلئ بالقوة التي تأتي من عمل الأرض، روحها تتفتح كزهرة برية في الربيع. كانت تشارك في الأعراس، ترقص مع الفتيات تحت ضوء القمر، أجسادهن تتحرك على إيقاع الدربكة والمزمار، وهن يغنين أغاني قديمة تحكي عن الحب والفراق. وكان صالح ينظر إليها بفخر، يقول لعليا في الليل: "ابنتنا ستكون عماد البيت، فيها قوة الجبل نفسه". لكن في أعماقه، كان يشعر بغموض يعتم السماء أحياناً، غموض يأتي مع الغرباء الذين بدأوا يتجولون في القرية، يحملون دفاتر وكاميرات، يسألون عن الآثار القديمة في الكهوف، وكأن الحاضر لا يعنيهم. كانوا يصفون الجبل بكلمات غريبة، يقولون إنه "رومانسي"، "بيبلي"، ويهملون أن يروا الناس الذين يعيشون عليه، يزرعونه، يحبونه.

وفي إحدى الليالي، حين كانت فاطمة في العاشرة، استيقظت على صوت والدها يتحدث مع يوسف سلوم العالم خارج البيت. "هؤلاء الغرباء"، قال صالح بصوت منخفض، "يرسمون خرائط، يقيسون الأرض كأنها ملكهم". رد يوسف: "دعهم، يا صالح، الأرض تعرف أصحابها، والجبل لا يخون من يحبه". لكن فاطمة، وهي تستمع من خلف الباب، شعرت بشيء يعصر قلبها، شيء يشبه الريح الباردة التي تهب من البحر أحياناً، تحمل معها رائحة عاصفة قادمة. نامت تلك الليلة، وحلمت بالجبل يهمس لها: "لا تخافي، يا صغيرتي، أنا معك دائماً".

مع بلوغها الشباب، أصبحت فاطمة جوهرة القرية، فتاة قوية الشخصية، ذكية، تحب الحياة بكل ما فيها من بساطة وجمال. كانت تذهب مع النسوة إلى العين، تحمل الجرة على كتفها، وتغني أغاني الحصاد، صوتها يتردد في الوادي كأنه جزء من الطبيعة. وكان عادل ينتظرها دائماً عند المنعطف، يلتقيان بنظرات خجولة، يتبادلان كلمات قليلة تحمل في طياتها حباً ناشئاً. "فاطمة"، يقول لها ذات يوم في وادي أبو الجاع، حيث كانا يجمعان الزهر البري، "أنتِ مثل هذا الوادي، مليئة بالأسرار والجمال". ابتسمت فاطمة، قلبها يخفق بقوة، وشعرت أن الحياة أمامها طريق طويل مليء بالوعود.

لكن حتى في تلك السنوات الهادئة، كانت هناك لحظات سخرية مريرة تخفي خوفاً دفيناً. عندما يأتي غريب أوروبي، يصور القرية ويهمل الناس، كانت نظمية تضحك ضحكة عالية: "انظروا إليه، يرى الآثار ولا يرى أننا أحياء، كأننا أشباح في متحفه". وتضحك النسوة، لكن الضحك يحمل نكهة مرة، كزيتون غير ناضج. وكانت فاطمة تسمع وتفكر، طفلة أصبحت شابة، تشعر أن الأرض تحت قدميها تحمل تاريخاً أعمق من الذي يرويه الغرباء، تاريخاً من العمل والحب والصمود.

هكذا مرت سنوات الطفولة والشباب الأولى، سنوات مليئة برائحة الزيتون المعصور، وصوت الطيور في الصباح، ودفء العائلة حول المدفأة. كانت الطيرة وطناً كاملاً، جبلاً يحمي أبناءه، وقرية تحمل في قلبها نبض الحياة. وفاطمة، في وسط كل ذلك، تنمو كشجرة زيتون قوية، جذورها عميقة في الأرض، فروعها تمتد نحو السماء، غير عالمة بعد بالعواصف التي ستأتي، لكن قلبها مفعم بالأمل، كأن الجبل نفسه يهمس لها كل يوم: "عيشي، يا فاطمة، عيشي بكل ما أوتيتِ من قوة".

2

مع مرور السنين، أصبحت فاطمة في مطلع شبابها، تلك الفترة التي تتفتح فيها الروح كزهرة الخروب تحت شمس الربيع، مليئة بعصارة الحياة وأسرارها الخفية. كانت في الثامنة عشرة حين بدأت تشعر بثقل الأرض تحت قدميها بطريقة جديدة، ليس ثقل التعب من الحصاد، بل ثقل الارتباط العميق الذي يجعل الإنسان جزءاً من المكان، كأن دماء الجبل تجري في عروقها. كل صباح، تستيقظ على صوت أمها عليا تناديها بلطف: "قومي يا فاطمة، اليوم يوم حصاد، والزيتون ينتظر يديك الشابة". وكانت فاطمة تخرج مسرعة، شعرها الأسود المجدول يتمايل مع خطواتها الواثقة، عيناها تلمعان ببريق الشباب الذي لا يعرف الخوف.

كانت القرية في تلك السنوات، أوائل القرن العشرين، لا تزال تحتظن هدوءها القديم، رغم أن الرياح القادمة من حيفا تحمل أخباراً غريبة عن سفن تأتي محملة بغرباء، وعن أراض تباع في أماكن بعيدة. صالح، أبوها، كان يجلس مع الرجال في الساحة بعد الصلاة، يدخنون الغليون ويتحدثون عن الضرائب التي تزداد، وعن السلطان في اسطنبول الذي يبدو بعيداً كنجم في السماء. "الأرض لنا"، يقول صالح بصوت ثابت، "من عملها وزرعها، هي له ولأبنائه". وكان يوسف سلوم العالم يومئ برأسه، يضيف بفطنته المعهودة: "لكن الدنيا تتغير، يا جماعة، والغرباء ينظرون إلينا كأننا جزء من المنظر، لا أصحابه". ثم يضحكون ضحكة خفيفة، سخرية مريرة تخفي قلقاً ينمو كعشب بري في الشقوق.

أما فاطمة، فكانت غارقة في عالمها الخاص، عالم النسوة والحقول والأسرار التي تتبادلنها حول النار في الليالي الباردة. مع نظمية، صديقتها منذ الطفولة، كانت تذهب إلى وادي أبو الجاع، ذلك الوادي الخفي بين المنحدرات، حيث تتدفق ينبوع صغيرة وتنمو الزهور البرية بألوان تجعل القلب يرقص. "انظري يا نظمية"، تقول فاطمة وهي تمد يدها لتلمس الماء البارد، "هذا الوادي يعرف أسرارنا، يحفظ ضحكاتنا ودموعنا". ونظمية، بابتسامتها الواسعة التي تخفي حكمة مبكرة، ترد: "نعم، يا فاطمة، وإذا جاء يوم وابتعدنا، سيعيدنا إليه صوته". كانتا تجلسان هناك ساعات، يحكيان عن الأحلام، عن الزواج القادم، عن الرجال الذين ينظرون إليهن بنظرات تحمل وعداً بالمستقبل.

وعادل، ذلك الشاب القوي الذي كان يساعد صالح في الحقول، أ صبح جزءاً من تلك الأحلام. كان يلتقي بفاطمة عند المنعطف، يحمل لها سلة من التين الطازج، أو يساعدها في حمل الجرة من العين. عيناه الخضراوان تخفيان خجلاً يزيد من جاذبيته، وكلماته قليلة لكنها عميقة. "فاطمة"، يقول ذات يوم في الوادي، حين كانا وحدهما تحت ظل شجرة خروب عملاقة، "أنتِ تجعلين الجبل أجمل، كأنكِ سرّه الذي يخفيه عن الغرباء". احمرت وجنتاها، قلبها يخفق كطائر يحاول الطيران، وردت بصوت هادئ يحمل رعد الشباب: "وعادل، الجبل هو الذي يجعلنا أجمل، نحن أبناؤه". في تلك اللحظة، شعرت فاطمة أن الحب ينمو في قلبها كشجرة زيتون، بطيئاً وقوياً، جذوره عميقة لا تنكسر.

لكن حتى في تلك السنوات الخصبة، كانت هناك لحظات تكدر الصفو، لحظات تأتي مع الغرباء الذين ازدادوا في القرية. كان أحدهم يتجول بكاميرا كبيرة، يصور الكهوف والآثار القديمة، ويسأل عن قصص إيليا والكهنة، كأن التاريخ توقف عند تلك الحقبة. كانت فاطمة تراه من بعيد، يمر بجانب الحقول دون أن يلاحظ النسوة يحصدن، أو الأطفال يلعبون. "انظري إليه"، تقول نظمية بسخرية لاذعة، "يرى الحجارة القديمة ولا يرى أننا أحياء، نضحك ونبكي ونحب". وتضحك فاطمة، لكن الضحك يحمل نكهة غريبة، كأنها تشعر أن هؤلاء الغرباء يرسمون عالماً موازياً، عالماً لا مكان فيه لأهل الأرض.

في الليالي، كانت العائلة تجتمع حول المدفأة، صالح يروي قصصاً عن أيامه الشابة، عليا تعد الشاي بالنعناع الطازج، رائحته تملأ البيت كذكرى حلوة. "الأرض تحمي أبناءها"، يقول صالح، وهو ينظر إلى فاطمة بعين الأب الفخور، "وستبقى لكِ ولأبنائك، يا ابنتي". وكانت فاطمة تستمع، قلبها مفعم بالأمل، تتخيل مستقبلاً مع عادل، أطفالاً يركضون في الحقول، أعراساً تملأ القرية بالأغاني. لكن في أعماقها، كان هناك همس خفي، همس الجبل الذي يحذر من شيء قادم، شيء يشبه الظلال التي تطول مع غروب الشمس.

ذات يوم، في موسم الزيتون، اجتمعت القرية كلها في الحقول، الرجال يضربون الأغصان بالعصي، النسوة يجمعن الثمار في السلال، الأطفال يلعبون بين الأشجار. كانت فاطمة في وسطهم، تغني أغنية قديمة عن الحب والأرض، صوتها يعلو كأنه جزء من الريح. وعادل ينظر إليها من بعيد، يبتسم ابتسامة تحمل وعداً. في تلك اللحظة، بدا كل شيء أبدياً، الجبل يحميهم، الأرض تمنحهم، والحياة تتدفق كالينبوع في وادي أبو الجاع. لكن غريباً مرّ من بعيد، يصور المشهد بكاميراه، وكأنه يرى لوحة رومانسية، خالية من الأرواح التي تملأها.

هكذا مرت سنوات الشباب الأولى، سنوات مليئة بالضحك والعمل والحب الناشئ، سنوات تجعل فاطمة امرأة كاملة، قوية كالجبل، حنونة كالأرض. كانت تشعر أن حياتها جزء من دورة أزلية، دورة الزرع والحصاد، الولادة والنمو، دون أن تعلم أن الزمن يحمل في طياته تغييرات ستغير كل شيء، تغييرات تأتي مع أولئك الذين يرون الأرض متحفاً، لا وطناً. وفي قلبها، كان وادي أبو الجاع يبقى السرّ الأجمل، المكان الذي يجمع بينها وبين عادل، بينها وبين الجبل، رمزاً للحب الذي سيصمد أمام العواصف القادمة.

3

مع اقتراب فاطمة من العشرين، أصبحت امرأة كاملة الأنوثة، جسدها منحوت من عمل الأرض، روحها مليئة بنار الشباب التي تحرق الروتين وتضيء الليالي. كانت سنوات العشرينيات من القرن، حين بدأت القرية تشعر بتغييرات خفية، كأن الجبل نفسه يتنفس بصعوبة أحياناً، رياح تأتي من المدينة تحمل أخباراً عن أناس جدد يشترون أراضي في الجوار، يبنون بيوتاً غريبة، ويتحدثون بلغات أوروبية. لكن في قلب فاطمة، كان العالم لا يزال يدور حول الطيرة، حول وادي أبو الجاع الذي أصبح ملاذها السري مع عادل، حيث يلتقيان تحت الظلال، يتبادلان القبلات الأولى الخجولة، ويحلمان ببيت صغير يطل على البحر.

كان عادل قد أصبح رجلاً قوياً، يعمل مع صالح في الحقول، يحمل الفأس بيد ثابتة، عيناه تخفيان حباً عميقاً ينمو كشجرة السنديان. "فاطمة"، يهمس لها ذات مساء في الوادي، حين كانت الشمس تغرب خلف الجبل تاركة السماء ملطخة بدماء برتقالية، "سأطلب يدك من أبيك قريباً، سنبني حياتنا هنا، بين الزيتون الذي يعرف أسماءنا". وكانت فاطمة تضم يده، تشعر بدفء ينتشر في جسدها كالنار في الهشيم، ترد بصوت يرتجف من العاطفة: "نعم، يا عادل، هذا الوادي شاهد على حبنا، والجبل حارس عليه". في تلك اللحظات، كان العالم يتوقف، الطيور تتوقف عن الغناء، والريح تهدأ، كأن الطبيعة نفسها تشهد على اتحادهما السري، اتحاد يحمل في طياته وعد الأبدية.

لكن الحياة في القرية لم تكن كلها حباً وأحلاماً، كان هناك عمل يومي شاق، حصاد يتطلب الجهد، وأحاديث الرجال في الساحة تتزايد قلقاً. صالح، الذي بدأ الشيب يغزو لحيته بالكامل، كان يجلس مع عبد الرحمن ويوسف سلوم العالم بعد العصر، يناقشون الأخبار التي يأتي بها يوسف من حيفا. "هؤلاء اليهود الجدد"، يقول يوسف بصوت منخفض، عيناه تضيقان كأنه يرى بعيداً، "يشترون الأرض من الإقطاعيين في بيروت، يقولون إنها أرض أجدادهم، ونحن هنا منذ قرون نزرعها". يرد عبد الرحمن بهدوء الشيخ الذي قرأ الكتب القديمة: "الأرض لمن يحييها، يا إخوان، والله يعلم القلوب". أما صالح فيصمت طويلاً، ثم يقول بصوت يحمل ثقل السنين: "دعوهم يأتون، الجبل يعرف أبناءه، ولن يخوننا".

وفي البيت، كانت عليا تشعر بالقلق نفسه، لكنها تخفيه خلف ابتسامتها الهادئة، تعد الطعام بيدين ماهرتين، تخبز الخبز على التنور، وتروي لفاطمة قصصاً عن شبابها. "كنت مثلك يا بنتي"، تقول وهي تنظر إليها بعينين مليئتين بالحنان، "أحببت أباك في هذا الوادي نفسه، وادي أبو الجاع، حيث كنا نلتقي سراً". وكانت فاطمة تضحك، تحتضن أمها، تشعر أن حبها لعادل امتداد لحب أجيال، حب متجذر في الأرض كالزيتون. لكن في الليالي، حين تسمع أباها يتحدث مع الرجال، كانت تشعر بضيق في الصدر، كأن الجبل يضغط عليها بثقله، يحذرها من شيء غامض.

مع ذلك، كانت الحياة تستمر بإيقاعها الجميل، الأعياد تأتي وتذهب، الأعراس تملأ القرية بالأغاني والرقص. في إحدى الليالي، في عرس ابنة نظمية، اجتمعت القرية كلها تحت النجوم، الدربكة تدق بقوة، والنسوة يرقصن في دائرة، أجسادهن تتحرك بإيقاع أزلي. كانت فاطمة في الوسط، ترقص بعاطفة تجعل الجميع يصفقون، عادل ينظر إليها بعيون مليئة بالإعجاب والحب. "يا لها من عروس ستكون"، تهمس نظمية في أذنها بسخرية مرحة، "عادل لن يصبر طويلاً". وتضحك فاطمة، خدودها تحمر، قلبها يطير كطائر حر.

لكن حتى في تلك الليلة السعيدة، مر غريب أوروبي بالقرب، يحمل دفتر رسم، يرسم المشهد من بعيد، كأنه يرى لوحة شعبية غريبة، لا حفلاً حياً مليئاً بالأرواح. رآه يوسف سلوم العالم، فهمس لصالح: "انظر إليه، يرسمنا كأننا جزء من التراث القديم، لا أناساً نعيش ونحب". وابتسم صالح ابتسامة ساخرة: "دعه يرسم، الورق يحترق، أما الأرض فتبقى". لكن في قلب فاطمة، التي سمعت الكلام، كان هناك شعور غريب، شعور بأن هؤلاء الغرباء يبنون عالماً آخر، عالماً يهمشهم، يجعلهم خلفية لقصة ليست قصتهم.

ذات صباح، ذهبت فاطمة مع عادل إلى وادي أبو الجاع، يجلسان بجانب الينبوع، يستمعان إلى صوت الماء المتدفق. "سنتزوج قريباً"، يقول عادل، يمسك يدها بقوة، "وسنبني بيتنا هنا، أطفالنا سيلعبون بين هذه الأشجار". وكانت فاطمة تبتسم، عيناها تلمعان بدموع الفرح، ترد: "نعم، يا حبيبي، هذا الوادي سيكون شاهدنا، والجبل حامينا". في تلك اللحظة، بدا المستقبل مشرقاً، مليئاً بالأطفال والحصاد والليالي الهادئة. لكن الريح هبت فجأة، تحمل رائحة غريبة، رائحة تغيير، كأن الجبل يتنهد تنهيدة عميقة، يحذر من عواصف قادمة.

هكذا مرت سنوات العشرينيات، سنوات الخصب والحب، سنوات تجعل فاطمة امرأة ناضجة، قلبها مفعم بالأمل، جسدها قوي من العمل، روحها متعلقة بالأرض والإنسان. كانت تشعر أن حياتها جزء من نسيج كبير، نسيج من الأجيال التي عاشت وماتت في الطيرة، دون أن تعلم أن الزمن يعد لها اختبارات قاسية، اختبارات ستكشف قوة جذورها، وستجعل وادي أبو الجاع ذكرى أبدية تحملها في قلبها إلى آخر نفس. وفي كل يوم، كان الجبل يهمس لها، همساً يمزج بين الطمأنينة والتحذير، كأنه يقول: "عيشي يا فاطمة، عيشي بكل ما فيكِ، فالحياة قصيرة، والأرض شاهدة".



4

مع اقتراب فاطمة من منتصف العشرينيات، أصبح حبها لعادل ناراً موقدة لا تنطفئ، ناراً تضيء الليالي وتدفئ القلوب في برد الشتاء القارس الذي يغلف الجبل أحياناً بضباب كثيف. كان عام 1914 قد مرّ بظلاله، حرب بعيدة في أوروبا سمعت عنها القرية من يوسف سلوم العالم الذي يأتي بأخبار من حيفا، لكنها لم تمس الطيرة إلا بضرائب إضافية وقلق خفي. وفي تلك السنوات، تزوجت فاطمة من عادل في عرس ملأ القرية بالأنغام والأضواء، عرس يذكر حتى اليوم في الذكريات كأجمل ما شهدته الطيرة. كانت فاطمة ترتدي ثوباً مطرزاً بأيدي النسوة، عيناها تلمعان تحت الغطاء الأبيض، وعادل يقف بجانبها فخوراً، يمسك يدها كأنه يمسك بكنز الدنيا.

انتقلت فاطمة إلى بيت عادل الصغير على حافة القرية، بيت حجري يطل على الوادي، حيث يمكن سماع همس الينابيع في الليل. كانت حياتهما الزوجية كالحلم، مليئة بالعمل المشترك في الحقول، بالليالي الهادئة حول المدفأة، بالقبلات المسروقة في وادي أبو الجاع الذي أصبح ملاذهما الخاص. "يا فاطمة"، يهمس عادل وهو يضمها تحت شجرة الخروب، "أنتِ حياتي، وهذا الجبل شاهد على حبنا الأبدي". وكانت فاطمة ترد بدفء يفوق دفء الشمس، تشعر أن جسدها وروحها قد وجدتا مكانهما، في حضن رجل يحب الأرض كما تحبها هي، يعملها بيدين قويتين ويحترم أسرارها.

مع مرور الوقت، جاء الأطفال تباعاً، أولاد يملأون البيت بالضحك والحركة، أجساد صغيرة تركض بين أشجار الزيتون، يتعلمون من أمهم كيف يلمسون الأرض بحنان. كانت فاطمة أماً حنونة وقوية، تحمل الطفل على ظهرها وهي تحصد، تغني له أغاني قديمة تحكي عن الجنية التي تحمي الوادي، عن الضباع التي ترضع في الليل، عن الحب الذي يصمد أمام الزمن. وكان عادل ينظر إليها بإعجاب لا ينتهي، يقول لها في الليالي: "أنتِ أم الأرض نفسها، يا فاطمة، فيكِ خصبها وقوتها". وكانت تشعر بسعادة عميقة، سعادة تجعلها تنسى الهموم الصغيرة، الضرائب، الجفاف أحياناً، والأخبار الغريبة عن غرباء يزدادون في المناطق السفلى.

لكن السنوات تلك لم تخلُ من الظلال، ظلال تأتي مع زوار يتجولون في القرية أكثر فأكثر، يحملون خرائط وأدوات قياس، يسألون عن الآثار في الكهوف، عن القبور القديمة، كأن الجبل متحف مفتوح ينتظر زواره. كان أحدهم، رجل أوروبي طويل القامة بلحية مرتبة، يمر بالقرية مرات عدة، يتحدث بلغة ألمانية مع مرافقيه، يشير إلى المناظر بإعجاب يبدو بارداً. رأته فاطمة ذات يوم وهو يقف عند مدخل وادي أبو الجاع، يرسم في دفتر كبير، يصف الوادي كأنه لوحة رومانسية خالية من الأرواح. "انظري إليه"، قالت لنظمية التي كانت معها تحمل سلة زيتون، "يرى الجمال ولا يرى أننا جزء منه، كأننا أشباح في صورته". ونظمية، التي أصبحت أماً هي الأخرى، تضحك ضحكة ساخرة: "دعه يرسم، يا فاطمة، الورق يتلاشى، أما حبنا للأرض فيبقى".

في الليالي، كانت الأحاديث في البيت تتجه أحياناً نحو هؤلاء الغرباء. صالح، الذي أصبح جدّاً الآن، يجلس مع عادل ويوسف سلوم العالم، يدخنون بهدوء، يقول صالح: "هؤلاء يرون الأرض فارغة، أو مأهولة بفلاحين بدائيين، لا يرون أننا نعيشها بعمق، نحبها كأمنا". ويوسف يضيف بفطنته: "يقولون إنها أرض مقدسة لتراثهم، ينسون أننا نحييها كل يوم بعرقنا". وعادل، الشاب القوي، يقول بغضب خفي: "إن جاؤوا ليأخذوا، سنجعل الجبل يدافع عنا". لكن فاطمة، التي تستمع من المطبخ، تشعر بضيق يعصر قلبها، تضم طفلها إلى صدرها، تهمس له: "لا تخف، يا ولدي، الأرض تحمينا".

مع ذلك، كانت الحياة تتدفق بجمالها، مواسم الزيتون تأتي وتذهب، الأطفال يكبرون، والحب بين فاطمة وعادل يزداد عمقاً مع السنين. كانا يذهبان أحياناً إلى الوادي وحدهما، يتركان الأطفال مع عليا، يجلسان بجانب الينبوع، يتذكران أيام الخطبة. "تذكرين يا فاطمة"، يقول عادل وهو يمسك يدها، "كيف كنا نلتقي هنا سراً، والقلب يخفق خوفاً من أن يرانا أحد". وتبتسم فاطمة، عيناها تلمعان بدموع الذكرى: "نعم، يا حبيبي، وها نحن الآن أهل وبيت وأولاد، والوادي لا يزال يحفظ أسرارنا". في تلك اللحظات، كان الزمن يتوقف، الجبل يحيط بهما بحنانه، والحياة تبدو أبدية.

لكن في أعماق فاطمة، كان هناك شعور ينمو ببطء، شعور بأن الغرباء يبنون رواية أخرى، رواية تجعل أرضهم تبدو مهملة أو متخلفة، تنتظر من يحييها بحضارة أخرى. كانت ترى ذلك في عيون الزوار، في كلماتهم التي يتبادلونها، في الطريقة التي يصفون بها المناظر كأنها بيبلية خالية من الحاضر. وذات يوم، حين مر أحدهم بالحقل حيث كانت فاطمة تحصد مع النسوة، سمعته يقول لمرافقه: "انظروا إلى هذه اللوحة الرومانسية، الفلاحون جزء من المنظر الطبيعي". توقفت فاطمة لحظة، يدها على المنجل، قلبها يغلي، لكنها ابتسمت ابتسامة ساخرة داخلية: "لوحة؟ نحن أحياء، نتنفس ونحب ونولد، وهذه الأرض دمنا".

هكذا مرت سنوات الثلاثينيات الأولى، سنوات الاستقرار النسبي، سنوات تجعل فاطمة امرأة في كامل قوتها، أماً وحبيبة وزوجة، متعلقة بالأرض كأنها امتداد لجسدها. كانت تشعر أن حياتها، رغم البساطة، غنية بعمق لا يفهمه الغرباء، غنية بالحب والعمل والأسرة. وفي كل صباح، حين تستيقظ على صوت الأطفال، ودفء عادل بجانبها، كانت تشكر الله على هذه النعمة، غير عالمة أن الظلال تطول، وأن العواصف قادمة، عواصف ستختبر صمود جذورها، وستجعل ذكريات وادي أبو الجاع نوراً يضيء أحلك الليالي. وكان الجبل، في صمته الأزلي، يراقب ويهمس، همساً يمزج بين الحنان والحزن، كأنه يقول: "تحملي يا فاطمة، فالأرض لا تخون أبناءها الحقيقيين".


5

مع دخول فاطمة عقدها الثالث، أصبحت امرأة في قمة عطائها، جسدها يحمل آثار العمل الشاق لكنه يشع بنضارة الأرض الخصبة، عيناها تحملان حكمة السنين المبكرة وحنان الأمومة الذي يفيض على أطفالها كالينبوع في الوادي. كانت الثلاثينيات تمر بإيقاع متسارع قليلاً، رياح التغيير تهب أقوى من حيفا، تحمل أخباراً عن مستوطنات جديدة في السهل الساحلي، عن أناس يأتون بأحلام غريبة يقولون إنها عودة إلى أرض الأجداد. لكن في الطيرة، كانت الحياة لا تزال تحتضن بساطتها، مواسم الزيتون تتكرر كدورة أزلية، والأطفال يكبرون تحت ظلال الأشجار، يتعلمون من عادل كيف يحترمون الأرض، ومن فاطمة كيف يحبونها بحنان الأم.

كانت فاطمة تقضي أيامها في الحقول، تحصد مع النسوة، تغني أغاني الحصاد التي تتردد في الوادي كأنها جزء من الريح. نظمية، صديقتها الأبدية، أصبحت رفيقتها في كل شيء، تجلسان بعد العمل تحت شجرة خروب، تتبادلان الحكايات عن الأطفال، عن الأزواج، عن الليالي التي تمر هادئة. "يا فاطمة"، تقول نظمية ذات يوم وهي تمسح عرق جبينها، "أطفالك يشبهونك، قويون كالجبل، وعادل يفخر بك كل يوم". وتبتسم فاطمة، قلبها يمتلئ بدفء، ترد: "ونحن يا نظمية، عشنا شبابنا هنا، في هذا الوادي، والآن نرى أطفالنا يركضون فيه، كأن الزمن دائرة لا تنتهي". لكن في أعماقها، كانت تشعر بتغيير خفي، تغيير يأتي مع ازدياد الغرباء الذين يتجولون في الجبل، يصورون ويقيسون، يتحدثون عن جمال رومانسي يبدون وكأنهم يكتشفونه لأول مرة.

ذات صيف حار، جاء مجموعة من الزوار الأوروبيين، يقودهم رجل ذو نظارات سميكة ودفتر كبير، يتجولون في القرية كأنهم في متحف مفتوح. مرّوا بالحقل حيث كانت فاطمة و النسوة يعملن، توقفوا ينظرون بإعجاب، يشيرون إلى المناظر، يتحدثون بلغة غريبة. سمعتهم فاطمة تقول كلمات مثل "بيبلي" و"رومانسي"، وكأنهم يرون لوحة قديمة، لا حياة نابضة مليئة بالعرق والضحك. توقفت لحظة، يدها على السلة، نظرت إليهم بعينين تضيقان قليلاً، ثم همست لنظمية: "انظري إليهم، يرون الجبل كأنه خالٍ، أو مأهول بأشكال غريبة، لا يرون أننا نحن الجبل نفسه". ونظمية، بسخريتها اللاذعة التي لم تخبُ مع السنين، ترد: "دعهم يرون ما يشاؤون، يا فاطمة، نحن نعيش، نأكل من ثمرته، ننام في حضنه، وهم مجرد عابرين يأخذون صوراً ويذهبون".

في المساء، روت فاطمة ما حدث لعادل، جالسين خارج البيت ينظران إلى النجوم التي تتلألأ فوق الجبل. "هؤلاء الغرباء"، تقول بصوت يحمل غضباً خفياً، "يصفون أرضنا كأنها تنتظر شيئاً، كأننا مجرد ديكور في قصتهم". ويضم عادل كتفيها، يقول بهدوء القوي: "لا تخافي يا حبيبتي، الأرض تعرف أصحابها، والذي زرعها بعرقه لن يفقدها بسهولة". لكن في عينيه كان هناك قلق ينمو، قلق يشاركه مع صالح وعبد الرحمن في الجلسات الليلية، حيث يتحدث يوسف سلوم العالم عن أخبار المدينة، عن وعد غريب سمع عنه في الأربعينيات المبكرة، وعد يتحدث عن وطن لشعب آخر. "يقولون أرض بلا شعب"، يهمس يوسف بسخرية مريرة، "ونحن هنا، شعب يعيش ويزرع ويحب منذ قرون". ويصمت الجميع، يدخنون في صمت ثقيل، كأن الجبل نفسه يستمع ويتنهد.

مع ذلك، كانت فاطمة تتمسك بالحياة اليومية، بالأطفال الذين يكبرون، بالليالي التي تقضيها مع عادل في حضن دافئ، بالزيارات إلى وادي أبو الجاع حيث يتركان العالم خلفهما. كان الوادي ملاذهما الأبدي، مكاناً يعودان إليه ليجددا حبهما، يجلسان بجانب الينبوع، يستمعان إلى صوت الماء الذي يحكي قصص الأجيال. "تخيلي يا فاطمة"، يقول عادل ذات يوم، وهو يمسك يدها، "أطفالنا سيكبرون هنا، يلعبون في هذا الوادي، يحكون لأبنائهم عنا". وكانت فاطمة تضحك ضحكة نقية، ترد: "نعم، يا عادل، والجبل سيحميهم كما حمى حبنا". في تلك اللحظات، كان الخوف يتلاشى، والحياة تبدو قوية كجذور الزيتون العميقة.

لكن الغرباء كانوا يزدادون، يأتون بكتب وخرائط، يصفون الجبل بكلمات تجعله يبدو كمتحف لتراث قديم، يهمسون عن آثار بيبلية وصلاحية، ينسون الوجود الحي الذي ينبض في كل حجر. ذات يوم، رأت فاطمة أحدهم يقف عند مدخل القرية، يتحدث مع مرافق محلي، يقول بإعجاب: "هذا المكان رومانسي جداً، قطعة من الشرق الأصيل، ينتظر من يقدره حقاً". سمعت فاطمة الكلمات، قلبها يغلي، لكنها ابتسمت ابتسامة داخلية ساخرة: "يقدره؟ نحن نعيشه، نولد فيه ونموت، نضحك ونبكي، وهو يراه مجرد قطعة رومانسية". روت ذلك لعليا أمها، التي أصبحت جدة الآن، فقالت عليا بحكمة السنين: "دعيهم يا بنتي، الذي يرى الأرض خالية أعمى، ونحن نراها أماً حنونة".

في الأعياد، كانت القرية تتجمع، ترقص وتغني، والغرباء أحياناً يمرون، يصورون كأنها عرض فولكلوري. كانت فاطمة ترقص مع النسوة، جسدها يتحرك بإيقاع الحياة، وعادل ينظر بفخر، لكن في قلبها كانت تشعر بمرارة خفيفة، مرارة الذي يُرى كجزء من المنظر لا كذات حية. "هم يروننا بدائيين"، تهمس لنظمية، "لأننا نحب الأرض هكذا، ببساطتها". وترد نظمية: "بدائيين؟ نحن أغنى، يا فاطمة، لأننا نملك ما لا يملكونه، جذوراً في التراب".

هكذا مرت تلك السنوات، سنوات الوعي المتزايد بالظلال، سنوات تجعل فاطمة أكثر قوة، أكثر تعلقاً بالأرض والعائلة. كانت تشعر أن حياتها، رغم التهديدات الخفية، مليئة بمعنى عميق، معنى يأتي من الارتباط بالجبل، بالوادي، بالحب الذي يصمد. وفي كل ليلة، حين تضم أطفالها، كانت تهمس لهم قصصاً عن الجنية في الوادي، عن الجبل الحارس، غير عالمة أن الاختبارات القادمة ستكون أقسى، لكن قلبها مفعم بالأمل، كأن الجبل نفسه يقول لها: "صمدي يا فاطمة، فأنتِ ابنته الحقيقية، والأرض لا تنسى أبناءها".




6


مع اقتراب فاطمة من الأربعين، أصبحت سيدة القرية بلا منازع، امرأة تحمل في قسماتها حكمة الجبل نفسه، عيناها العميقتان تخفيان أسرار سنين طويلة من العمل والحب والصمود الخفي. كانت الأربعينيات قد بدأت تهب برياح أثقل، رياح تحمل أخبار اضطرابات في المدن، توترات تتسلل إلى القرية كالضباب الذي يغلف المنحدرات في الشتاء. لكن في قلب فاطمة، كانت الطيرة لا تزال جنة خاصة، بيتها مملوء بأصوات الأحفاد الآن، أطفال أطفالها يركضون في الساحة، يلعبون بين الحجارة كأن الزمن لم يمر. عادل، زوجها الأبدي، أصبح رجلاً في كامل نضجه، لحيته قد شابها الشيب، لكنه لا يزال يحمل الفأس بقوة، يعمل الأرض كأنه يعانق حبيبة.

كانت فاطمة تقضي أيامها في رعاية العائلة الكبيرة، تساعد الكنائن في الحقول، تروي الحكايات للصغار حول المدفأة، حكايات عن الجنية في وادي أبو الجاع، عن الحب الذي يصمد أمام العواصف. "تعالوا يا أولاد"، تقول وهي تجمعهم حولها، صوتها دافئ كخبز التنور، "اسمعوا عن الوادي الذي يحفظ الأسرار، حيث التقى جدكم بجدتكم أول مرة، وهمس الينبوع باسمهما". وكان الأطفال يستمعون مفتوحي الأعين، يتخيلون الوادي مكاناً سحرياً، غير عالمين أنه جزء حقيقي من تراثهم، مكان يعود إليه عادل وفاطمة أحياناً وحدهما، ليجددا عهداً قديماً، يجلسان تحت الخروب العملاق، يمسكان الأيدي كشباب.

لكن السنوات تلك حملت معها زيارات أكثر تواتراً من الغرباء، زوار يأتون بسيارات غريبة أحياناً، يتجولون في القرية بعيون واسعة، يصورون البيوت والحقول والناس كأنهم في حديقة حيوانات قديمة. كانوا يتحدثون عن الجبل بإعجاب يبدو مصطنعاً، يقولون إنه "قطعة من الشرق الرومانسي"، "أرض تنتظر الإحياء"، يصفون الفلاحين كجزء من المنظر، قويي البنية، كرماء وريبين في الوقت نفسه، كأنهم يصفون نوعاً بشرياً غريباً لا أفراداً يعيشون حياة كاملة. رأتهم فاطمة ذات يوم مجموعة كبيرة، يقفون عند مدخل القرية، يشيرون إلى الآثار في الكهوف، يتحدثون عن تاريخ بيبلي وصلاحي، يهمسون عن عودة محتملة. توقفت عند بئر القرية، جرة الماء على كتفها، نظرت إليهم بعينين تضيقان، ثم همست لنظمية التي كانت بجانبها: "انظري يا أختي، يروننا كأننا بقايا من الماضي، حراس مؤقتين لتراثهم، لا أصحاب الأرض الحقيقيين".

ونظمية، التي شاخت معها كشجرة زيتون أخرى، ترد بسخرية لاذعة تخفي غضباً عميقاً: "دعهم يرون ما يشاؤون، يا فاطمة، نحن نعرف الحقيقة، الأرض دمنا، والجبل يعرف أسماءنا، ليس أسماءهم". وتضحكان ضحكة مريرة، ضحكة النسوة اللواتي عشن حياة كاملة في هذا المكان، يعرفن كل حجر وكل شجرة، كل سر في الوادي. لكن في قلب فاطمة، كانت الضحكة تتحول إلى ألم خفي، ألم الذي يشعر بأن عالماً آخر يُبنى فوق عالمهم، عالم يمحوهم تدريجياً، يجعلهم غائبين حاضرين، موجودين في الصور لكنهم غير مرئيين كأصحاب.

في الليالي، كانت الأحاديث في البيت تتجه نحو القلق أكثر، صالح الذي أصبح عجوزاً الآن، يجلس مع عادل وابنه الأكبر، يستمعون إلى يوسف سلوم العالم يروي ما سمعه في حيفا عن وعد قديم، عن خطط لوطن قومي، عن أناس يرون الأرض فارغة أو شبه فارغة. "يقولون أرض بلا شعب لشعب بلا أرض"، يقول يوسف بصوت يحمل سخرية قاسية، "ونحن هنا، شعب يملأها بالحياة منذ أجيال". ويصمت صالح طويلاً، ثم يقول بصوت يرتجف قليلاً: "الأرض لا تكذب، يا إخوان، ستدافع عن أبنائها". أما فاطمة، التي تستمع من الداخل، فتضم حفيداً إلى صدرها، تهمس له: "نام يا ولدي، الجبل يحرسنا".

مع ذلك، كانت فاطمة تتمسك بالفرح اليومي، بالأعياد التي تملأ القرية بالأغاني، بالزيارات إلى الوادي حيث يأخذان الأحفاد أحياناً، يعلمانهم كيف يستمعون إلى صوت الينبوع. "هذا الوادي"، تقول لهم، عيناها تلمعان بذكريات الشباب، "هو قلب الجبل، يحفظ حبنا وحبكم". وعادل يبتسم، يضيف: "وستعودون إليه دائماً، مهما حدث". في تلك اللحظات، كان القلق يتلاشى، والحياة تبدو قوية، متجذرة.

لكن الغرباء كانوا يتركون أثراً، كتباً تُنشر في أماكن بعيدة، تصف الجبل بجمال رومانسي، تهمش السكان، تجعلهم جزءاً من الفولكلور، بدائيين كرماء، خارج التاريخ الحديث. كانت فاطمة تشعر بذلك في كل زيارة، في كل نظرة تبدو شفقة مختلطة بإعجاب، كأنهم يرون شعباً يحتاج إلى إحياء. "هم يروننا غائبين"، تهمس لعادل ذات ليلة، "موجودين في أرضهم لكنهم لا يروننا كأصحاب". ويرد عادل بحنان: "لكننا هنا، يا حبيبتي، وسنبقى".

هكذا انتهى الفصل الأول من حياة فاطمة، سنوات الاستقرار النسبي، سنوات الوعي بالظلال المتزايدة، سنوات تجعلها امرأة حكيمة، قلبها مفعم بالحب للأرض والعائلة. كانت تشعر أن الطيرة جزء منها، والجبل أب حامٍ، غير عالمة أن العواصف القادمة ستكون الأقسى، لكن روحها مستعدة، متجذرة كالزيتون الذي يصمد أمام كل ريح. وفي كل فجر، حين تستيقظ على صوت الديكة، كانت تشكر الخالق على هذه الحياة، على وادي أبو الجاع الذي يهمس باسمها، على الجبل الذي يقول لها في صمته: "أنتِ ابنتي، يا فاطمة، وأنا معك إلى الأبد".


……..



الفصل الثاني

1

مع دخول الثلاثينيات، بدأت رياح التغيير تهب على جبل الكرمل بقوة أكبر، رياح تحمل معها غبار التوتر من المدن السفلى، أخباراً عن اشتباكات ومظاهرات، عن أناس يأتون بأعداد أكبر، يشترون الأراضي في السهول، يبنون مستوطنات تبدو كجزر غريبة في بحر الزيتون الفلسطيني. كانت فاطمة في الأربعين الآن، امرأة قوية البنيان، وجهها محفور بتجاعيد الشمس والعمل، لكن عيناها لا تزالان تحملان بريق الشباب، بريقاً ينبع من عمق الارتباط بالأرض. أطفالها قد كبروا، يساعدون عادل في الحقول، يتعلمون منه صلابة الرجال، ومنها حنان النساء، بينما الأحفاد يملأون البيت بضجيجهم البريء، يركضون في الشوارع الضيقة كأن القرية لعبة كبيرة خصصت لهم.

كانت الأيام تبدأ كالمعتاد، فاطمة تستيقظ مع الفجر، تعد الخبز على التنور، رائحته تمتد إلى الجيران كدعوة صامتة لليوم الجديد. ثم تخرج إلى الحقل، تحمل المنجل، تغني مع النسوة أغاني قديمة تحكي عن الأرض الخصبة والحب الوفي. لكن في تلك السنوات، أصبحت الأغاني تحمل نكهة مختلفة، نكهة القلق الذي يتسلل كالضباب. "يا أرضنا يا خضرة"، تغني فاطمة بصوت يعلو قليلاً، كأنها تتحدى الريح، "لا تخوني أبناءك". ونظمية، بجانبها دائماً، ترد بصوت يحمل سخرية مريرة: "الأرض لا تخون، يا فاطمة، لكن الناس يخونون". ثم تضحكان، ضحكة تخفي الخوف، خوفاً من الأخبار التي يأتي بها يوسف سلوم العالم من رحلاته إلى حيفا، أخبار عن عصابات مسلحة، عن شراء أراضٍ من إقطاعيين غائبين، عن خطط تبدو كأنها تُرسم في غرف مغلقة بعيدة.

عادل، الذي أصبح عماد العائلة بعد أن شاخ صالح قليلاً، كان يعود من الحقل متعباً، يجلس مع الرجال في الساحة، يناقشون ما يحدث. "هؤلاء الجدد"، يقول عادل بصوت يحمل غضباً مكتوماً، "يأتون بأسلحة وأحلام، يقولون إنها أرضهم، ونحن من يزرعها منذ أجدادنا". ويرد عبد الرحمن، الشيخ الذي لا يزال يجلس في الجامع يقرأ القرآن، بهدوء يخفي عاصفة: "الظلم لا يدوم، يا إخوان، والله مع الصابرين". أما صالح، جد فاطمة الآن، فيصمت طويلاً، عيناه تنظران إلى الوادي كأنه يبحث عن إجابة في المناظر العتيقة. وفاطمة، التي تستمع من بعيد، تشعر بضيق يعصر قلبها، تضم أصغر أحفادها، تهمس له قصة عن الجبل الحارس، كأنها تطمئن نفسها قبل أن تطمئنه.

في إحدى الليالي، اجتمعت العائلة الكبيرة في البيت، المدفأة تشتعل، رائحة الشاي بالنعناع تملأ المكان. كان يوسف سلوم العالم يروي ما رآه في المدينة، عن مظاهرات، عن بريطانيين يعدون بوعود متناقضة، عن مجموعات مسلحة تتدرب في الخفاء. "يقولون إن فلسطين يجب أن تكون وطناً قومياً"، يهمس يوسف، عيناه تضيقان، "لشعب يرون الأرض فارغة، أو مأهولة بمن لا يستحقها". ويصمت الجميع، النار تتراقص في المدفأة كأنها تعكس الغضب الداخلي. ثم تقول فاطمة، صوتها هادئ لكنه قوي كجذور الزيتون: "فارغة؟ ونحن هنا، نولد ونعمل ونحب، أجيالاً فوق أجيال". ويومئ عادل برأسه، يمسك يدها تحت الطاولة، يشعر بدفئها يمنحه القوة.

مع ذلك، كانت الحياة تستمر بإصرار، مواسم الحصاد تأتي، الأعراس لا تزال تملأ القرية بالفرح، والأطفال يلعبون كأن العالم آمن. ذهبت فاطمة مع عادل ذات يوم إلى وادي أبو الجاع، يتركان الضجيج خلفهما، يجلسان بجانب الينبوع كما في شبابهما. "تذكر يا عادل"، تقول فاطمة، عيناها تلمعان بدموع الذكرى، "كيف كنا نلتقي هنا سراً، والقلب يخفق خوفاً وشوقاً". ويضمها عادل، يقول بصوت يرتجف قليلاً: "ونحن الآن هنا، بعد كل هذه السنين، والوادي لا يزال يشهد على حبنا، مهما جاءوا". في تلك اللحظة، بدا الوادي ملاذاً أبدياً، الينبوع يغني أغنية الحياة، والجبل يحيط بهما بحنانه القديم.

لكن التوتر كان يزداد، أخبار عن اشتباكات في الجوار، عن قرى تتعرض لضغوط، عن رجال يتسلحون دفاعاً عن الأرض. كان عادل يشارك في الاجتماعات السرية أحياناً، يعود متعباً، يحتضن فاطمة بقوة أكبر. "سنحمي بيتنا"، يقول، "وبيوت الجيران، هذه الأرض دمنا". وكانت فاطمة تؤمن به، تؤمن بقوة الرجال، بصلابة النسوة اللواتي يعددن الطعام ويرعين الأطفال، يحتفظن بالحياة نابضة مهما كان. وفي الليالي، حين ينام الجميع، كانت فاطمة تخرج إلى الساحة، تنظر إلى النجوم، تهمس دعاءً: "يا رب احفظ أرضنا، احفظ أولادنا".

ذات صباح، جاءت أخبار عن ثورة في المدن، ثورة 1936 التي سمعت عنها القرية، رجال يقاتلون الانتداب والمستوطنين. كان عادل يتحدث مع الشباب، يناقشون كيف يساعدون، يجمعون الطعام أو يحمون القرية. وفاطمة، مع النسوة، كن يعددن الخبز الإضافي، يخبئن المؤن، يروين للأطفال قصصاً عن البطولة. "الأرض تستحق الدفاع"، تقول فاطمة لنظمية، عيناها تلمعان بعزيمة، "ونحن جزء منها". ونظمية ترد: "نعم، يا أختي، سنصمد كما صمد الجبل أمام العواصف".

هكذا مرت تلك السنوات، سنوات التوتر المتزايد، سنوات تجعل فاطمة أكثر صلابة، قلبها مفعماً بالحب للأرض والعائلة، روحها مستعدة لما سيأتي. كانت تشعر أن الطيرة ليست مجرد قرية، بل وطن صغير ينبض بالحياة، وأن وادي أبو الجاع سرّ يمنحها القوة. وفي كل يوم، كان الجبل يهمس لها في الريح، همساً يمزج بين التحذير والطمأنينة، كأنه يقول: "تحملي يا فاطمة، فالأرض معك، والحب درعك". وكانت تبتسم، تستمر في عملها، غير عالمة أن العاصفة الأكبر قادمة، عاصفة ستغير كل شيء، لكن جذورها ستظل عميقة، تحمل الذكرى إلى الأبد.
2


مع تصاعد ألسنة اللهب في المدن والقرى المجاورة خلال سنوات الثورة الكبرى، أصبحت الطيرة كجزيرة هادئة وسط بحر هائج، جزيرة تحاول الحفاظ على إيقاعها القديم رغم الأمواج التي تضرب شواطئها. كانت فاطمة في منتصف الأربعينيات من عمرها الآن، امرأة تحمل في تجاعيدها خريطة السنين، خريطة من العرق والحب والقلق الذي ينمو كالعليق بين الصخور. أيامها كانت تمتلئ بالعمل المتواصل، ترعى الأحفاد، تساعد الكنائن في إعداد المؤن، تخبز الخبز بكميات أكبر لتوزيعه على الثوار الذين يمرون سراً، أو على العائلات التي فقدت رجالها في الاشتباكات. "يا نساء الطيرة"، تقول فاطمة بصوت يعلو في الساحة ذات يوم، عيناها تلمعان بعزيمة لا تُكسر، "الأرض تحتاجنا الآن أكثر من أي وقت، نعد الطعام والدواء، نحفظ الحياة بينما الرجال يحمونها".

عادل كان من أولئك الرجال، يغيب أياماً في الجبال، يشارك في حراسة القرية أو نقل الرسائل، يعود متعباً بعيون حمراء من السهر، لكنه يبتسم لفاطمة ابتسامة تخفي الإرهاق. "لا تقلقي يا حبيبتي"، يهمس لها في الليل، يضمها بقوة كأنه يستمد منها الطاقة، "الجبل معنا، والأرض لن تترك أبناءها". وكانت فاطمة ترد بدفء يفوق دفء المدفأة، تمسح جبينه بيد خشنة من العمل، تقول: "وأنا معك، يا عادل، ومع الأرض، حتى آخر نفس". في تلك الليالي، كان الحب بينهما يتجدد كالينبوع في الوادي، حباً ناضجاً يحمل في طياته قوة اليأس والأمل معاً، حباً يجعلهما ينامان متشابكين كأنهما يتحديان العالم الخارجي.

الثورة كانت قد أشعلت ناراً في القلوب، رجال القرية يجتمعون سراً، يخططون للدفاع، يجمعون ما استطاعوا من سلاح قديم أو صنعوه بأيديهم. يوسف سلوم العالم، الذي أصبح مصدر الأخبار الرئيسي، يعود من حيفا بقصص عن بطولات، عن قرى تقاوم، عن بريطانيين يعدون بوعود كاذبة ويضربون بيد من حديد. "الدنيا تتغير"، يقول في إحدى الجلسات تحت شجرة التين الكبيرة، صوته منخفض كأنه يخشى أن تسمع الريح، "لكننا لسنا وحدنا، الشعب كله يقاوم". وصالح، العجوز الذي لم يعد يقوى على الحركة الكثيرة، يومئ برأسه، يقول بصوت يرتجف من العمر لا من الخوف: "صحيح، يا ولدي، صمدنا أمام العثمانيين، وسنصمد الآن". أما عبد الرحمن، فيرفع يديه إلى السماء، يدعو بدعاء يتردد في الصمت: "اللهم انصر المظلومين، واحفظ أرضنا من الغاصبين".

وفي البيوت، كانت النسوة عماد الصمود، فاطمة ونظمية وعليا الأولى التي لا تزال حية رغم السنين، يجتمعن ليلاً، يعددن الضمادات، يخبزن الخبز، يروين للأطفال قصصاً عن الأبطال ليزرعن في قلوبهم الشجاعة. "لا تخافوا يا أولاد"، تقول فاطمة لحفيدها الصغير الذي يبكي من صوت إطلاق نار بعيد، "الجبل يحمينا، وجدكم فيه يحرسنا". وكانت تخفي دموعها، تبتسم ابتسامة قوية، لكن في قلبها كان الخوف يعصف، خوف الأم على أبنائها، خوف الزوجة على حبيبها، خوف ابنة الأرض على وطنها. وفي الليالي الهادئة، حين يعود عادل، كانت تضمه بقوة، تشعر بنبض قلبه كأنه نبض الجبل نفسه.

ذات يوم، جاءت أخبار عن معارك قريبة، عن قرى سقطت أو دافعت ببسالة، وعن مجموعات مسلحة جديدة تتجمع في السهل. كان عادل يغيب أكثر، يعود بجروح صغيرة يخفيها، يقول لفاطمة: "لا شيء، يا حبيبتي، مجرد خدش". لكنها كانت تعرف، ترى في عينيه الإرهاق، تسمع في صوته التوتر. وفي إحدى الليالي، بعد أن نام الأطفال، جلسا خارج البيت ينظران إلى النجوم، قال عادل بهمس: "إن حدث شيء، يا فاطمة، احفظي الأولاد، اذهبي إلى الوادي، إلى أبو الجاع، هو يعرف طرق النجاة". احتضنته فاطمة، دموعها تسيل صامتة، ردت: "لن يحدث شيء، يا عادل، سنبقى معاً، والأرض ستحمينا". لكن في قلبها، كانت تشعر بأن العاصفة تقترب، عاصفة أكبر من الثورة، عاصفة ستجتاح كل شيء.

مع ذلك، كانت فاطمة تتمسك بالحياة، بالأمل الذي ينبع من الأرض نفسها، تزرع المزيد من البذور، تعلم الأحفاد كيف يحبون الزيتون، كيف يستمعون إلى همس الريح. ونظمية، رفيقتها الأبدية، كانت بجانبها دائماً، تضحكان معاً على الشائعات، تسخرан من الغرباء الذين يرون الأرض خالية بينما هي مفعمة بالحياة. "هم يعدون الوعود"، تقول نظمية ذات يوم، "لكننا نعد الخبز والزيت، وهذا أقوى". وتضحك فاطمة، ضحكة تحمل مرارة الحقيقة، ترد: "نعم، يا أختي، الخبز يغذي الأجساد، والحب يغذي الأرواح".

هكذا مرت سنوات الثورة، سنوات التوتر والصمود، سنوات تجعل فاطمة رمزاً للقرية، امرأة تحمل في قلبها نار المقاومة وحنان الأمومة. كانت تشعر أن الطيرة ليست مجرد مكان، بل روح حية، وأن وادي أبو الجاع سرّ يمنحها القوة لتواجه ما سيأتي. وفي كل فجر، حين تستيقظ على صوت الريح في الأشجار، كانت تشكر الله على يوم جديد، على عادل بجانبها، على الأرض تحت قدميها، غير عالمة أن السنين القادمة ستحمل اختباراً أقسى، اختباراً سيحرق كل شيء إلا الذكرى، ذكرى ستحملها في قلبها كشعلة لا تنطفئ. وكان الجبل، في صمته العميق، يراقب ويهمس، همساً يمزج بين الحزن والفخر، كأنه يقول: "أنتِ قوتي يا فاطمة، وأنا درعك، مهما جاءوا".

3

مع نهاية الثورة الكبرى، ودخول الأربعينيات بظلالها الثقيلة، أصبحت الطيرة كمريض يتنفس بصعوبة بعد حمى طويلة، يحاول النهوض لكنه يشعر بضعف في العظام. كانت فاطمة تقترب من الخمسين، امرأة حملت على كتفيها سنين الثورة، سنين الغياب والانتظار، سنين الخوف المكتوم الذي يتسلل إلى الأحلام كالضبع في الليل. أطفالها قد أصبحوا رجالاً ونساءً، يحملون مسؤولية البيت والحقل، يساعدون عادل في عمله، بينما الأحفاد يكبرون في أجواء مشحونة بالهمس، يسألون أسئلة بريئة عن الغرباء الذين يزدادون في السهل، عن الأصوات البعيدة التي تشبه الرعد في الليالي الهادئة.

كانت الأيام بعد الثورة تحمل هدوءاً كاذباً، هدوءاً يخفي تحت سطحه بركاناً يغلي. فاطمة تستيقظ مع الفجر، تنظر إلى عادل النائم بجانبها، وجهه محفور بتجاعيد الإرهاق، يداه الخشنتان تذكرانها بقوته التي لم تنكسر. تقبل جبينه بلطف، تخرج إلى الحقل، تحصد ما تبقى من الموسم، تغني بصوت منخفض أغنية قديمة عن الصبر والأمل. لكن الأغاني الآن تحمل نبرة مختلفة، نبرة التحدي المكتوم، كأنها تتحدث إلى الأرض نفسها: "يا أرضنا يا صابرة، لا تتركينا". ونظمية، التي فقدت ابناً في الثورة، تمشي بجانبها، عيناها غائرتان لكن روحها لا تزال تقاوم، تقول بسخرية مريرة تخفي الألم: "الثورة انتهت، يا فاطمة، لكن الظلم لم ينتهِ، يأتون الآن بوعود جديدة، كأننا أطفال يُخدعون بحلوى مسمومة".

عادل كان يعود من اجتماعات الرجال متعباً أكثر، يجلسون في الجامع بعد الصلاة، يناقشون الأخبار التي يأتي بها يوسف سلوم العالم، أخبار عن تقسيم محتمل، عن لجان دولية، عن قرارات تُتخذ في عواصم بعيدة عن أناس لم يروا الأرض يوماً. "يقولون إنها أرض لشعب آخر"، يهمس يوسف، صوته يرتجف من الغضب، "وكأننا غبار على خريطتهم، يُنفخ ويذهب". ويرد عادل بصوت يحمل صلابة الجبل: "لن نذهب، يا إخوان، سنقاتل إن لزم الأمر، الأرض دمنا، والزيتون شاهد على أجدادنا". أما عبد الرحمن، الشيخ الذي شاخ كثيراً، فيرفع يديه دعاءً: "اللهم أرنا في الظالمين يوماً أسود". وصالح، الجد الذي لم يعد يقوى على الكلام الكثير، ينظر إلى السماء، عيناه مليئتان بدموع صامتة.

في البيت، كانت فاطمة تحاول الحفاظ على الدفء، تعد الطعام بكميات أكبر، تخبئ المؤن في أماكن سرية، تعلم الكنائن كيف يخفين الذهب والأوراق المهمة. "الزمن صعب"، تقول لعليا الأولى، أمها التي لا تزال حية رغم السنين، "لكننا أقوى منه". وعليا، بصوتها الهادئ الذي يحمل حكمة العمر، ترد: "صحيح يا بنتي، عشتُ شبابي في أيام عثمانية، ورأيتُ الانتداب، وسنرى ما سيأتي، لكن الأرض تبقى لمن يحبها". وكانت فاطمة تضم أمها، تشعر بدفء ينتقل إليها، دفء الأجيال التي صمدت.

ذات ليلة، بعد أن سمعوا أخباراً عن قرار تقسيم، جلس عادل وفاطمة وحدهما خارج البيت، النجوم تتلألأ فوق الجبل كعيون تراقب. "إن جاء اليوم الأسود"، يقول عادل بهمس، يمسك يدها بقوة، "خذي الأولاد والأحفاد، اذهبي إلى الجبال، إلى وادي أبو الجاع، هو يعرف الطرق الآمنة". وكانت فاطمة تنظر إليه بعينين مليئتين بالدموع، ترد بصوت يرتجف لكنه ثابت: "ولن أذهب بدونك، يا عادل، سنواجه معاً، كما واجهناها دائماً". ثم تضمه، تشعر بنبض قلبه يتسارع، يتسارع كأنه يحاول اللحاق بالزمن الذي يهرب.

مع ذلك، كانت الحياة تحاول الاستمرار، الأطفال يلعبون، الأعراس تُقام بتواضع أكبر، والنسوة يجتمعن ليغنين أغاني المقاومة. فاطمة كانت تذهب مع عادل إلى الوادي أحياناً، يتركان القلق خلفهما، يجلسان بجانب الينبوع، يستمعان إلى صوته الذي يحكي قصص الصمود. "هذا الوادي"، تقول فاطمة، صوتها يحمل حنان الأم، "سيحمي أحفادنا كما حمى حبنا". وعادل يبتسم، يقبل يدها، يرد: "نعم، يا فاطمة، والجبل سيشهد على أننا لم نرحل طواعية".

لكن الأخبار كانت تتفاقم، أنباء عن عصابات منظمة، عن هجمات على قرى مجاورة، عن قرارات دولية تُقسم الأرض كأنها كعكة. كان الرجال يتسلحون أكثر، يحفرون خنادق سرية، يعدون للدفاع. وفاطمة، مع النسوة، كن يعددن الضمادات، يخبئن الطعام، يروين للأطفال قصصاً عن البطولة ليزرعن في قلوبهم الشجاعة. "لا تخافوا"، تقول لأحفادها، "الأرض تحبنا، ولن تتركنا". لكن في قلبها، كانت تشعر بثقل السنين، ثقل الانتظار، ثقل الخوف على عادل وعلى الأجيال القادمة.

هكذا مرت تلك السنوات، سنوات الانتظار المشحون، سنوات تجعل فاطمة أكثر عمقاً، روحها متعلقة بالأرض كأنها جزء من ترابها. كانت تشعر أن الطيرة ليست مجرد قرية، بل قلب نابض، وأن وادي أبو الجاع سرّ يمنحها الأمل في وسط الظلام. وفي كل صلاة، كانت ترفع يديها، تدعو للسلام، لكنها مستعدة للصمود، مستعدة لمواجهة ما سيأتي بقلب أم حملت الأرض في روحها ستين عاماً. وكان الجبل، في صمته الأزلي، يهمس لها كل ليلة، همساً يمزج بين الحنان والقوة، كأنه يقول: "أنا هنا يا فاطمة، وأنتِ فيّ، مهما جاء الطوفان".


4

مع اقتراب نهاية الأربعينيات، أصبحت الطيرة كطائر يشعر باقتراب العاصفة، يجمع جناحيه حوله بإحكام، يحمي صغاره في العش رغم الريح التي تهب أقوى فأقوى. كانت فاطمة في أواخر الخمسين الآن، امرأة حملت على ظهرها ستين عاماً من الحياة في هذه الأرض، وجهها محفور بخطوط تشبه شقوق الجبل نفسه، خطوط من الضحك والدموع، من الحصاد والانتظار. أحفادها يكبرون في أجواء مشحونة بالهمس، يسألون عن الأصوات البعيدة، عن الرجال الذين يغيبون ليلاً ويعودون فجراً، عن النسوة اللواتي يخبئن المؤن في حفر تحت الأرض. عادل، زوجها الأبدي، أصبح أكثر صمتاً، عيناه تحملان ثقلاً من السنين والمسؤولية، يخرج مع الشباب لحراسة القرية، يعود بجروح خفيفة يخفيها، يقول لفاطمة بابتسامة متعبة: "لا شيء، يا حبيبتي، مجرد أيام وتمر".

كانت الأخبار تتسرب كالماء من شقوق الصخر، أخبار عن قرارات في عواصم بعيدة، عن تقسيم يرسم خطوطاً على خرائط لا تعرف الزيتون ولا الوادي. يوسف سلوم العالم، الذي أصبح عجوزاً الآن، يجلس في الساحة مع من تبقى من الرجال، يروي ما سمعه في حيفا الأخيرة، صوته منخفض كأنه يخشى أن تسمع الجدران: "قرروا التقسيم، يا إخوان، أعطوا معظم الأرض للجدد، ونحن الأقلية في وطننا". ويصمت الجميع، صمت ثقيل يملأ الهواء كالدخان، ثم يقول عادل بصوت يحمل صلابة اليأس: "لن نرحل، سنقاتل حتى آخر رجل، هذه الأرض ابتلعت عرقنا، لن تبصقنا". أما عبد الرحمن، الشيخ الذي ضعف بصره وبدنه، فيرفع يديه الراجفتين، يدعو بدعاء يتردد في القلوب: "يا رب، أرنا في الظالمين عجائب قدرتك".

في البيوت، كانت النسوة يعددن للأسوأ، فاطمة تجمع الكنائن والأخوات، تعلمهن كيف يخبئن الذهب في الجرار، كيف يعددن الحقائب الصغيرة بالأوراق والملابس، كيف يحفظن الطعام الجاف لأيام قد تأتي. "لا ندري ما سيحدث"، تقول فاطمة بصوت هادئ يخفي العاصفة الداخلية، "لكننا مستعدات، كما كنا دائماً". ونظمية، التي فقدت الكثير في الثورة، ترد بمرارة ساخرة: "مستعدات؟ نحن عشنا حياتنا هنا، يا فاطمة، ولدنا وأنجبنا، والآن يريدون أن يرسموا خطاً ويقولوا اذهبوا". ثم تضحكان ضحكة قصيرة، ضحكة النساء اللواتي يواجهن الموت بالحياة، يخبزن الخبز ويغنين للأطفال ليلاً.

عادل كان يغيب أكثر، يشارك في الدفاع عن القرى المجاورة، يعود بأخبار مريرة عن هجمات ليلية، عن قرى تسقط، عن رجال يموتون دفاعاً عن بيوتهم. ذات ليلة، عاد متأخراً، وجهه شاحب، جلس بجانب فاطمة في الظلام، همس: "الأمور تسوء، يا فاطمة، العصابات منظمة، مدعومة، والجيش البريطاني يغض الطرف". وكانت فاطمة تضم يده الباردة، ترد بصوت يحمل قوة الأرض: "ونحن منظمون بحبنا، يا عادل، الجبل معنا، والوادي يعرف طرقنا". ثم يصمتان، يستمعان إلى صوت الريح في الأ arbres، ريح تحمل رائحة البارود من بعيد.

مع ذلك، كانت فاطمة تحاول الحفاظ على الروتين، تذهب إلى الحقل مع النسوة، تحصد ما تبقى، تعلم الأحفاد كيف يلمسون الزيتون بحنان، كيف يستمعون إلى همس الأرض. "هذه الشجرة"، تقول لحفيدتها الصغيرة، يدها على جذع قديم، "زرعها جدكم صالح قبل أن تولدي أنتِ، وستبقى بعدنا". وكانت الطفلة تنظر بعيون واسعة، تسأل: "وبعد الغرباء يا جدتي؟"، فتبتسم فاطمة ابتسامة حزينة، ترد: "الأرض تبقى، يا بنتي، والحب يبقى".

في الأشهر الأخيرة من 1947، ازداد التوتر، أخبار عن هدنة كاذبة، عن هجمات متفرقة، عن عائلات تبدأ بالرحيل إلى قرى أكثر أماناً. كان الرجال يحفرون ملاجئ، يخبئون السلاح، يعدون خطط الدفاع. عادل يقول لفاطمة ذات يوم: "إن هاجموا، سنقاتل في كل شارع، في كل حقل". وكانت ترد بعزيمة: "وسنقف معكم، يا عادل، النسوة لسنا أقل شجاعة". وفي الليالي، كانت تخرج لوحدها، تنظر إلى الوادي، تهمس للينبوع: "احفظنا يا وادي أبو الجاع، أنت سرنا، ملاذنا".

ذات فجر، جاءت أخبار عن إعلان الدولة الجديدة، عن حرب شاملة، عن قرى تسقط يومياً. كانت القرية في حالة تأهب، الرجال يحرسون المداخل، النسوة يعددن الطعام للمقاتلين. فاطمة تجمع الأحفاد، تروي لهم قصصاً عن الصمود، عن أجداد قاوموا، عن أرض لا تُغتصب. "لا تخافوا"، تقول، صوتها يعلو قليلاً، "نحن أبناء هذا الجبل، والجبل لا يخون". لكن في قلبها، كانت تشعر بثقل القدر، ثقل السنين الستين التي عاشتها هنا، ثقل الحب الذي بنته مع عادل، ثقل الذكريات في كل حجر.

هكذا مرت تلك الأشهر الأخيرة، أشهر الانتظار المرير، أشهر تجعل فاطمة تشعر بأن حياتها كلها تتجمع في لحظة واحدة، لحظة الوداع المحتمل. كانت تشعر أن الطيرة ليست مجرد قرية، بل جزء من روحها، وأن وادي أبو الجاع ينتظرها ربما كملاذ أخير. وفي كل صلاة، كانت تدعو للسلام، لكنها مستعدة للنار، مستعدة لحمل الذكرى إن اضطرت للرحيل. وكان الجبل، في صمته المهيب، يهمس لها كل لحظة، همساً يمزج بين الحب والألم، كأنه يقول: "أنا أعرف يا فاطمة، أعرف كل دمعة، كل ضحكة، وسأحفظك في قلبي إلى الأبد، مهما جاءوا".

5

مع بداية عام 1948، أصبحت الطيرة كقلب يخفق بسرعة في صدر مريض، يشعر باقتراب النهاية لكنه يتمسك بالحياة بكل ما أوتي من قوة. كانت فاطمة في الستين الآن، امرأة عاشت ستين عاماً كاملة في هذه الأرض، جسدها يحمل آثار السنين كالجبل يحمل شقوقه، لكن روحها لا تزال مشتعلة بنار الصمود، نار تتغذى من الذكريات والحب والغضب المكتوم. الأحفاد يكبرون في أجواء من الرعب المقنع، يسمعون الأصوات البعيدة كالرعد، يرون الرجال يغيبون ليلاً مسلحين، يعودون فجراً بوجوه شاحبة وأخبار مريرة. عادل، رفيق عمرها، أصبح أكثر صلابة، يقود الشباب في حراسة القرية، يخطط للدفاع، يقول لفاطمة في الليالي الهادئة: "لن يمرّوا، يا حبيبتي، سنوقفهم في كل وادٍ، في كل حقل".

كانت الأيام تمر كالسكين على الجرح، أخبار عن قرى سقطت، عن مذابح في الجوار، عن عصابات منظمة تهاجم تحت غطاء الظلام. فاطمة تجمع النسوة كل صباح، تعلمهن كيف يعددن الضمادات من القماش القديم، كيف يخبئن الأطفال في الملاجئ، كيف يحفظن الطعام لأسابيع قد تأتي. "الرجال يقاتلون"، تقول بصوت يعلو كأنه صوت الأرض نفسها، "ونحن نحمي الحياة، نحفظ النار مشتعلة في البيوت". ونظمية، التي أصبحت جدة مثلها، ترد بعينين تلمعان بدموع مكبوتة: "عشنا هنا عمراً، يا فاطمة، ولدنا أجيالاً، والآن يريدون أن يمحونا كأننا لم نكن". ثم تضحكان ضحكة قصيرة، ضحكة مريرة تخفي الرعب، ضحكة النساء اللواتي يواجهن المجهول بقلوب أمهات.

عادل كان يغيب أياماً، يشارك في الدفاع عن القرى المجاورة، يعود مصاباً بجراح يحاول إخفاءها، يجلس بجانب فاطمة في الظلام، يهمس: "الأمور صعبة، يا حبيبتي، العصابات كثيرة، مدعومة بأسلحة ثقيلة، والقرى تسقط واحدة تلو الأخرى". وكانت فاطمة تمسح دمه بقطعة قماش، عيناها مليئتان بالألم والعزيمة، ترد: "ونحن أقوى، يا عادل، لدينا الأرض، لدينا الجبل، لدينا ستون عاماً من الحياة هنا". ثم تضمه، تشعر بجسده المتعب يرتجف قليلاً، يرتجف كأنه يودع، لكنها ترفض التفكير في الوداع، تتمسك به كأنها تتمسك بالحياة نفسها.

في القرية، كان الجميع في حالة تأهب، الرجال يحفرون الخنادق، يعدون الكمائن، يرسلون الرسل إلى القرى الأخرى. يوسف سلوم العالم، الذي ضعف صوته، يجلس مع من تبقى من العجائز، يروي قصصاً عن الماضي ليزرع الأمل، يقول: "صمدنا أمام العثمانيين، أمام الانتداب، وسنصمد الآن". أما عبد الرحمن، الشيخ الذي لم يعد يقوى على الوقوف طويلاً، فيصلي في الجامع، يدعو بدعاء يتردد في الجدران: "يا رب، احفظ عبادك المظلومين". وصالح، جد فاطمة، الذي تجاوز الثمانين، يجلس في البيت، ينظر إلى الأحفاد بعيون مليئة بالحكمة والحزن، يقول لفاطمة: "ابنتي، إن اضطررتم للرحيل، احملي الذكرى، فهي أقوى من الحجر".

فاطمة كانت تشعر بثقل السنين، ثقل الستين عاماً التي عاشتها في الطيرة، من الولادة تحت الزيتون إلى الشيخوخة في حضن الجبل. كانت تذهب لوحدها إلى وادي أبو الجاع، تجلس بجانب الينبوع، تستمع إلى صوته كأنه يحكي لها قصة حبها مع عادل، قصة أجيالها، قصة الأرض التي لم تخن يوماً. "يا وادي"، تهمس، دموعها تسيل صامتة، "احفظ أسرارنا، احفظ أولادنا، إن جاء اليوم الأسود". وكان الينبوع يرد بصوته الهادئ، صوت يمنحها قوة، قوة لتعود إلى البيت، لتعد الطعام، لتطمئن الأحفاد، لتكون عماد العائلة في وسط العاصفة.

ذات ليلة، عاد عادل متأخراً، وجهه أشد شحوباً، جلس بجانبها، قال بهمس: "القرى حولنا تسقط، يا فاطمة، عين حوض، دلية، سقطتا، والعصابات تقترب". وكانت فاطمة تضم يده، قلبها يخفق بقوة، ترد: "ولن نسقط، يا عادل، سنقاتل، أو نرحل إذا اضطررنا، لكن الذكرى ستبقى". ثم يصمتان، يستمعان إلى صوت الريح، ريح تحمل رائحة الدخان من بعيد، رائحة النهاية.

مع ذلك، كانت فاطمة تحاول الحفاظ على الفرح الصغير، تغني للأحفاد، تروي قصصاً عن الشباب، عن الحب في الوادي، عن الأرض الخصبة. "سنعود"، تقول لهم، صوتها يحمل يقيناً، "مهما طال الغياب، الجبل ينتظرنا". وكانت نظمية بجانبها، تساعدها، تضحكان معاً على ذكريات الشباب، تسخرан من القدر الذي يلعب بنا. "عشنا حياة كاملة"، تقول نظمية، "ولن يمحونا".

هكذا مرت تلك الأيام الأخيرة، أيام الانتظار المؤلم، أيام تجعل فاطمة تشعر بأن حياتها الستين عاماً تتكثف في لحظات، لحظات الوداع المقيم. كانت تشعر أن الطيرة جزء من دمها، وأن وادي أبو الجاع قلبها النابض، وأن الجبل أبوها الحامي. وفي كل لحظة، كانت تدعو، مستعدة للنار أو الرحيل، مستعدة لحمل الذكرى كشعلة لا تنطفئ. وكان الجبل، في صمته المهيب، يهمس لها بلا انقطاع، همساً يمزج بين الحب والوداع، كأنه يقول: "أنا أعرفك يا فاطمة، من أول نفس إلى آخر، وسأحمل اسمك في صخوري إلى الأبد، مهما جاءوا ومهما فعلوا".

6

مع اقتراب الربيع في عام 1948، أصبحت الطيرة كجسد يرتجف في ليلة عاصفة، يشعر باقتراب الموت لكنه يتشبث بالنفس الأخير بكل ما أوتي من إرادة. كانت فاطمة في الستين، امرأة عاشت حياتها كاملة هنا، من الولادة تحت أشجار الزيتون إلى الشيخوخة في حضن الجبل، جسدها متعب لكنه يحمل قوة الأرض نفسها، عيناها عميقتان كالكهوف التي شهدت أسرار الأجيال. الأحفاد يتجمعون حولها في البيت، يسألون بأصوات خائفة عن الأصوات البعيدة، عن الدخان الذي يتصاعد من القرى المجاورة، عن الرجال الذين يغيبون ويعودون بوجوه مظلمة. عادل، حبيب عمرها، أصبح شبحاً لنفسه، يقضي الليالي في الحراسة، يعود فجراً ليستريح ساعة، يقبل جبين فاطمة بلطف يخفي اليأس، يقول: "اليوم سنوقفهم، يا حبيبتي، الجبل درعنا".

كانت الأخبار تأتي كالسكاكين، قرى سقطت، عين غزال، عين حوض، بلد الشيخ، مذابح تسمع عنها القرية في الهمس، عجزة يُحرقون أحياء، أطفال يُذبحون، نساء يُغتصبن قبل القتل. يوسف سلوم العالم، الذي لم يعد يقوى على الخروج، يجلس في البيت يروي ما سمعه من الرسل، صوته مرتجف: "العصابات تأتي منظمة، بأوامر من بوسي وغوريون، يقولون إنها أرضهم، يمحوننا ليبنوا عليها". ويصمت الجميع، صمت يملأ الغرفة كالدخان، ثم تقول فاطمة بصوت يعلو كأنه صوت الأرض الغاضبة: "يمحوننا؟ نحن عشنا هنا ستين عاماً، أنا ولدت هنا، أنجبت هنا، زرعت هنا، والأرض تذكر دمنا". وتضم أحفادها، عيناها تلمعان بدموع الغضب، تردد: "لن نرحل طواعية، سنقاتل أو نموت هنا".

عادل كان يعد الشباب، يرسم خطط الدفاع في كل شارع، في كل حقل، يقول لهم: "إن هاجموا، نوقفهم عند المدخل، نستخدم الجبال، نستخدم الوديان". وفاطمة، مع النسوة، كن يعددن الطعام للمقاتلين، يخبئن الأطفال في الكهوف، يحفرن ملاجئ صغيرة تحت البيوت. نظمية، رفيقتها الأبدية، تمسك يدها ذات يوم، تقول بصوت يرتجف: "يا فاطمة، إن سقطت القرية، ماذا سنفعل؟ أين نذهب؟"، وترد فاطمة بعزيمة تخفي الرعب: "نذهب إلى الجبال، إلى وادي أبو الجاع، هو يعرفنا، سيحمينا". ثم تضحكان ضحكة قصيرة، ضحكة ساخرة مريرة، ضحكة النساء اللواتي يواجهن النهاية بكرامة.

ذات فجر، جاءت الأصوات أقرب، إطلاق نار من بعيد، دخان يتصاعد من الجهة الشرقية. تجمع الرجال، عادل في مقدمتهم، يحملون ما لديهم من سلاح، يخرجون للدفاع. فاطمة تقف عند الباب، تضم عادل لحظة، تقبل خده، تهمس: "ارجع إليّ، يا حبيبي، الوادي ينتظرنا معاً". ويرد بابتسامة متعبة: "سأرجع، يا فاطمة، أو أموت هنا، لكن لن أترك الأرض". ثم يذهب، وتبقى فاطمة تنظر إليه حتى يختفي في الضباب، قلبها يخفق كأنه يودع.

مع مرور الساعات، أصبحت الأصوات أقرب، طلقات، صرخات، دخان يغطي السماء. النسوة يجمعن الأطفال، يخبئونهم في الملاجئ، فاطمة تقودهن، صوتها هادئ رغم الرعب: "لا تخافوا، الجبل يحمينا". لكن في قلبها، كانت تشعر بالنهاية، نهاية الستين عاماً، نهاية الحياة التي بنتها حجرًا حجرًا. ثم جاءت الأنباء من الرسل، العصابات اقتحمت، الرجال يقاتلون ببسالة، لكن العدد كبير، السلاح أقوى. فاطمة تجمع العائلة، تحمل حقيبة صغيرة، تقول: "إن اضطررنا، نرحل إلى الجبال، لكن نأخذ الذكرى معنا".

في تلك اللحظات، كانت فاطمة تشعر بكل شيء يتجمع، الولادة، الشباب، الحب مع عادل، الولادات، الحصاد، الثورة، كلها في لحظة واحدة. كانت تنظر إلى البيت، إلى التنور، إلى المدفأة، إلى الوادي البعيد، تهمس: "وداعاً يا طيرة، وداعاً يا جبل، سنعود يوماً". ثم تسمع الصرخات أقرب، الدخان يغطي القرية، والنسوة يبدأن بالرحيل، يحملن الأطفال، يبكين صامتاً.

هكذا انتهت سنوات الانتظار، سنوات الستين عاماً في الطيرة، سنوات مليئة بالحياة والحب والصمود، تنتهي بنار تقترب، نار ستحرق كل شيء إلا الروح. كانت فاطمة تمشي في المقدمة، تحمل حفيداً على كتفها، تنظر إلى الخلف، عيناها مليئتان بدموع لا تسيل، تردد في قلبها: "سنعود، يا طيرة، سنعود". وكان الجبل، في صمته الأخير، يودعها، يهمس همساً يمزج بين الحزن والوعد، كأنه يقول: "أنتِ فيّ يا فاطمة، دائماً، مهما جاءوا، مهما حرقوا، اسمك محفور في صخوري، ووادي أبو الجاع يبكي معك، لكنه ينتظر عودتك".


الفصل الثالث

1

في فجر ذلك اليوم المشؤوم من عام 1948، استيقظت الطيرة على صوت يشبه عواء الريح المجنونة، عواء يحمل في طياته رائحة البارود والموت. كانت فاطمة في الستين، امرأة حملت على كاهلها ستين عاماً من الحياة في حضن الجبل، تستيقظ على صرخات النسوة وإطلاق النار الذي يقترب كالوحش الجائع. خرجت من البيت مسرعة، قلبها يخفق بقوة كأنه يحاول الهروب من الصدر، رأت الدخان يتصاعد من الجهة الشرقية، ورجال القرية يركضون نحو المدخل، عادل في مقدمتهم، بندقيته على كتفه، وجهه صلب كالصخر. "فاطمة"، صاح لها من بعيد، صوته يخترق الضجيج، "خذي الأولاد والأحفاد، اذهبي إلى الخلف، إلى الجبال". وكانت تنظر إليه بعينين مليئتين بالألم والحب، ترد بصوت يرتجف لكنه ثابت: "لا أذهب بدونك، يا عادل، سنواجه معاً". لكنه هز رأسه، دفعها بلطف نحو البيت، وقال كلمته الأخيرة: "احفظيهم، يا حبيبتي، احفظي الذكرى".

اندفعت فاطمة إلى الداخل، جمعت الأحفاد والكنائن، حملت حقيبة صغيرة فيها بعض الخبز والأوراق والصور القديمة، صور عادل في شبابه، صور الأطفال تحت الزيتون. النسوة يبكين، الأطفال يصرخون، والنار تقترب، طلقات تدوي كالرعد، صرخات الرجال تتعالى في الدفاع. خرجت فاطمة مع الجميع نحو الخلف، نحو المنحدرات، تنظر إلى الخلف كل لحظة، تبحث عن عادل، عن الرجال الذين يقاتلون في الشوارع الضيقة. رأت النار تشتعل في بعض البيوت، دخان أسود يغطي السماء، ورأت العصابات تدخل، رجال مسلحون بأسلحة ثقيلة، يصرخون بكلمات غريبة، يطلقون النار على كل متحرك.

كانت القرية تقاوم ببسالة، الرجال يطلقون من وراء الحجارة، يسقطون واحداً تلو الآخر، عادل في المقدمة، يصرخ بأسماء الرفاق، يشجعهم، يقاتل كأسد جريح. لكن العدد كان غفيراً، السلاح أقوى، والخيانة تتسلل من بعض الجهات. فاطمة، وهي تسير مع النسوة نحو الجبال، سمعت الصرخات تتعالى، صرخات النساء اللواتي يُسحبن، صرخات الأطفال الذين يُضربون، وصرخات العجزة الذين لا يقوون على الحركة. توقفت لحظة، قلبها يتمزق، رأت من بعيد عبد الرحمن الشيخ يُسحب من الجامع، يدعو بدعاء أخير، ثم طلقة تخترق صدره. وبكت فاطمة بصمت، دموع حارة تسيل على وجنتيها، تهمس: "يا رب، يا رب".

مع تقدم العصابات، بدأت المذبحة الحقيقية، يجمعون العجزة في بيت كبير، صالح جد فاطمة من بينهم، الذي لم يعد يقوى على المشي، يجلسون معه آخرين، عجزة القرية الذين عاشوا عمراً في الطيرة، يروون قصصاً قديمة، يدعون الله. ثم أغلقوا الباب، سكبوا البنزين، أشعلوا النار. سمعت فاطمة الصرخات من بعيد، صرخات العجزة يحترقون أحياء، صالح يصرخ باسمها ربما، باسم العائلة، صرخات تتعالى ثم تخفت تدريجياً، تتحول إلى عويل يمزق السماء. توقفت فاطمة، جسدها يرتجف، أمسكت بصخرة، أرادت العودة، الركض نحو النار، لكن نظمية أمسكت بها، صاحت: "لا يا فاطمة، احفظي الأحفاد، هم الأمل". وبكت فاطمة بكاءً يمزق الصدر، بكاءً صامتاً يخنقها، تهمس: "يحرقونهم أحياء، يا الله، العجزة أحياء".

كانت النار تشتعل في القرية كلها، بيوت تحترق، زيتون يحترق، ذكريات ستين عاماً تتحول إلى رماد. العصابات تطلق النار على الفارين، تسحب الشباب، تقتل على الهوية، تدمر كل شيء لتمحو الوجود. فاطمة تسير مع الجميع نحو الجبال، تحمل حفيداً باكياً، تنظر إلى الخلف، ترى الدخان يغطي الطيرة، ترى النار تلتهم بيتها، بيت ولادتها، بيت حبها، بيت أولادها. وكانت تشعر بألم يفوق الوصف، ألم الرحيل القسري، ألم حرق العجزة أحياء، ألم محو حياة كاملة. "يا صالح"، تهمس، "يا عبد الرحمن، يا عجزة الطيرة، سامحونا، لم نستطع".

مع غروب الشمس، وصلن إلى الجبال، مجموعة من النسوة والأطفال، يبكين، ينظرن إلى الخلف حيث كانت الطيرة تحترق، قرية كاملة تتحول إلى أنقاض، كما حدث في مئات القرى الأخرى، حرق وتدمير وتهجير ليبنوا على الرماد رواية أخرى. فاطمة تجلس على صخرة، تضم الأحفاد، تنظر إلى الدخان، تهمس: "سنعود، يا أولادي، سنعود، الجبل ينتظرنا". لكن في قلبها، كانت تشعر بالكارثة، كارثة النكبة التي ابتلعت الطيرة، ابتلعت صالح وعبد الرحمن وكل العجزة في النار، كارثة محت حياة ستين عاماً في يوم واحد.

هكذا بدأ الرحيل، رحيل المهجرين، يسيرون في الجبال، يبكون صامتاً، يحملون الذكرى كجرح مفتوح. فاطمة تمشي في المقدمة، رأسها مرفوع، عيناها تحملان نار الغضب والحزن، تهمس للوادي البعيد: "وداعاً يا أبو الجاع، وداعاً يا طيرة، سنعود". وكان الجبل، في صمته المحترق، يبكي معها، يهمس همساً يمزج بين الألم والوعيد، كأنه يقول: "لن أنساكم يا أبنائي، لن أنسى النار التي أحرقتكم، والدم الذي سقاكم، سأحفظ أسماءكم في صخوري، إلى أن تعودوا".


2

مع مغيب الشمس في ذلك اليوم الأسود، أصبحت الطيرة كجثة محترقة تتلوى في أحشاء الجبل، نار تلتهم البيوت الحجرية التي شهدت ولادات وأعراساً ووداعاً، دخان أسود يعلو كجنازة عملاقة تغطي السماء، يخنق النجوم قبل أن تظهر. كانت فاطمة تسير في الجبال مع المهجرين، مجموعة من النسوة والأطفال يبكون صامتاً، أجسادهم ترتجف من البرد والرعب، أقدامهم تنزف على الصخور الحادة. حملت حفيداً صغيراً على كتفها، يبكي بصوت مكتوم، يسأل عن أبيه، عن البيت، عن الزيتون الذي كان يلعب تحته. وكانت فاطمة تهدئه بصوت يرتجف لكنه يحمل قوة الأم الأرض: "نام يا ولدي، الجبل يحرسنا، سنعود غداً". لكن في قلبها، كانت تعرف أن الغد لن يعود كما كان، أن النار التي أحرقت العجزة أحياء قد أحرقت جزءاً من روحها، جزءاً لا يعود.

سمعت فاطمة الصرخات تتعالى من القرية حتى بعد أن ابتعدوا، صرخات النسوة اللواتي لم يستطعن الهرب، صرخات الأطفال الذين سُحبوا، وصرخات العجزة التي خفتت تدريجياً في اللهب، صالح جدّها يحترق مع عبد الرحمن ويوسف سلوم العالم وكل من لم يقوَ على الحركة، يحترقون أحياء كأضاحي في مذبح الظلم. توقفت فاطمة لحظة، أدارت وجهها نحو الدخان، عيناها تحترقان بدموع حارة، تهمس: "يا صالح، يا أبي، يا عجزة الطيرة، سامحوني، لم أستطع إنقاذكم". وشعرت بألم يعصر قلبها، ألم يفوق ألم الجسد، ألم حرق الأحياء، حرق الذكريات، حرق ستين عاماً من الحياة في لحم بشري يصرخ ثم يصمت إلى الأبد.

كانت النسوة يسيرن خلفها، نظمية تمسك بيدها، وجهها شاحب كالموت، عيناها فارغتان من كثرة البكاء، تهمس: "حرقوهم أحياء، يا فاطمة، العجزة أحياء، كأنهم يمحوننا من الوجود، يحرقون التاريخ نفسه". وكانت فاطمة ترد بصوت يحمل غضباً مقدساً: "لن يمحونا، يا أختي، الدم يصرخ، والأرض تذكر، سنحمل النار في قلوبنا، ناراً لا تحرقنا بل تحرق الظالمين يوماً". ثم تسكت، تسير، تحمل الطفل النائم الآن من الإرهاق، تنظر إلى الجبل الذي يبتعد، يبتعد كحلم يتلاشى.

في الليل، توقفوا في كهف صغير، أشعلوا ناراً خفيفة للدفء، الأطفال يبكون من الجوع، النسوة يقسمن الخبز القليل. فاطمة تجلس في الظلام، تستمع إلى عواء الريح، ترى في خيالها عادل يقاتل، يسقط ربما، جسده ينزف على تراب الطيرة. "يا عادل"، تهمس، دموعها تسيل صامتة، "يا حبيبي، هل أنت مع العجزة الآن، في الجنة، أم لا تزال تقاوم؟". وكانت تشعر بفراغ يعصف بها، فراغ الرحيل، فراغ حرق الأحياء، فراغ محو قرية كاملة كما محيت مئات القرى الأخرى، حرق وتدمير وتهجير ليبنوا على الرماد عالماً جديداً ينكر الوجود القديم.

مع الفجر، استمروا في السير، يتجنبون الطرق، يختبئون من الدوريات، يسمعون أخباراً من فارين آخرين، قرى أخرى تحترق، عجزة يُحرقون أحياء في بيوت مغلقة، أطفال يُذبحون، نساء يُغتصبن ثم يُقتلن. كانت فاطمة تسمع وتشتد عزيمتها، تحمل الألم كدرع، تقول للنسوة: "هذا ليس نهاية، يا أخوات، هذا بداية، سنحمل الجرح، سنروي القصة، لن يمحونا". ونظمية ترد بصوت مكسور: "لكن العجزة، يا فاطمة، حرقوهم أحياء، كأنهم يحرقون أرواحنا". وتبكي فاطمة بصمت، تبكي على صالح الذي رباها، على عبد الرحمن الذي علّم الأطفال القرآن، على كل عجوز كان يجلس في الساحة يروي قصصاً قديمة.

في الطريق، التقوا بمهجرين آخرين، عائلات من قرى مجاورة، يروون القصة نفسها، حرق وتدمير، عصابات تأتي بأوامر، تقتل وتحرق لتفرغ الأرض. كانت فاطمة تستمع، قلبها ينزف، لكنها تقول: "سنبقى، سنحمل الاسم، فلسطين في قلوبنا". وكانت تحمل في حقيبتها الصغيرة حفنة من تراب الطيرة، تراب ملطخ بدماء ربما، تراب من وادي أبو الجاع، تهمس له في الليل: "أنت شاهدي، يا تراب، على النار التي أحرقت العجزة، على الظلم الذي لن يدوم".

هكذا مرت الأيام الأولى من الرحيل، أيام الجوع والخوف والألم، أيام تحمل فاطمة فيها الذكرى كسيف، ذكرى الطيرة المحترقة، ذكرى العجزة الذين حرقوا أحياء كما في مئات القرى، ذكرى حياة ستين عاماً تحولت إلى رماد. كانت تشعر بأن الجبل يبكي معها، يهمس في الريح: "أنا هنا، يا فاطمة، أحمل أنين العجزة، أحمل دمهم، وسأشهد يوم العودة". وكانت تمشي، رأسها مرفوع، عيناها تحملان ناراً لا تنطفئ، نار الغضب والحزن والأمل، نار ستحرق الظلم يوماً، وتضيء طريق العودة.


3

مع استمرار الرحيل في الجبال، أصبحت الأيام تتلاشى في بعضها كظلال طويلة تحت شمس قاسية، أيام من الجوع والعطش والألم الذي يعصف بالأجساد كالريح بعويلها. كانت فاطمة تمشي في المقدمة، قدماها تنزفان على الصخور الحادة، لكنها لا تشكو، تحمل حفيداً نائماً على كتفها، وفي قلبها نار تحرقها وتضيئها في الوقت نفسه، نار الذكرى والغضب. المهجرون يسيرون خلفها، مجموعة متناثرة من النسوة والأطفال، وجوههم شاحبة كالرماد الذي غطى الطيرة، عيونهم فارغة من كثرة البكاء، يحملون ما تبقى من حياة في حقائب مهترئة، قطع خبز جافة، صور محترقة الحواف، ذكريات تثقل أكثر من الأجساد.

في الليل، كانوا يتوقفون في وديان خفية، يشعلون ناراً صغيرة تخشى أن تُرى، يقسمون القليل من الطعام، يروون القصص ليطمئنوا الأطفال. فاطمة تجلس بجانب النار، تنظر إلى اللهب، ترى فيه وجوه العجزة يحترقون أحياء، صالح يمد يديه يستغيث، عبد الرحمن يدعو بدعاء أخير، يوسف سلوم العالم يهمس بكلمات حكيمة قبل أن تلتهمه النيران. وكانت دموعها تسيل صامتة، دموع حارة تحرق الخدود، تهمس للنار: "يا نار التي أكلت أحباءنا، أنتِ شاهدة على الظلم، على حرق الأحياء في بيوتهم، كما فعلوا في مئات القرى، يحرقون العجزة ليمحوا الذاكرة". ثم تمسح دموعها، تضم الأحفاد، تروي لهم قصة عن الطيرة قبل النار، عن الزيتون الذي يعطي زيتاً يضيء الليالي، عن وادي أبو الجاع الذي يحفظ الأسرار.

نظمية، الرفيقة التي فقدت زوجها وابنها في الدفاع، تمشي بجانبها، وجهها منحوت بالألم، تقول ذات ليلة بصوت مكسور: "يا فاطمة، هل رأيتِ عادل؟ هل سقط مع الرجال، أم لا يزال يقاتل؟". وكانت فاطمة تصمت طويلاً، قلبها يتمزق، ترد أخيراً: "عادل في قلبي، يا أختي، إن سقط فهو شهيد الأرض، وإن بقي فسيجدنا". لكن في أعماقها، كانت تشعر بالفراغ، فراغ الوداع الذي لم يتم، فراغ حب ستين عاماً يتحول إلى ريح. وكانت تبكي في الظلام، تبكي على عادل الذي قاتل حتى النهاية، على الرجال الذين سقطوا دفاعاً عن البيوت، على القرية التي أصبحت رماداً.

مع مرور الأيام، التقوا بمهجرين آخرين، عائلات من قرى مجاورة، يروون القصة نفسها، عصابات تأتي فجراً، تحرق العجزة أحياء في بيوت مغلقة، تطلق النار على الفارين، تدمر كل شيء لتفرغ الأرض. كانت فاطمة تستمع، غضبها يشتعل كالنار التي أحرقت أهلها، تقول للجميع: "هذا ليس قدراً، يا إخوان، هذا ظلم، حرقوا العجزة أحياء ليمحوا وجودنا، لكننا سنبقى، سنروي، سنعود". وكان صوتها يعلو قليلاً، صوت امرأة عاشت ستين عاماً في الطيرة، ولدت فيها، أحبت فيها، أنجبت فيها، ومهجرت منها بالنار والحديد.

في إحدى الليالي، توقفوا عند ينبوع صغير، شربوا منه، غسلوا وجوههم، فاطمة تجلس بجانبه، تتذكر وادي أبو الجاع، تلامس الماء البارد، تهمس: "يا ماء، أنت من نفس الجبل، احمل سلامي إلى عادل، إلى الطيرة المحترقة". وكانت تشعر بأن الينبوع يرد عليها، يغني أغنية حزينة، أغنية المهجرين الذين يسيرون بلا وجهة، يحملون الجرح كراية. الأطفال ينامون من الإرهاق، النسوة يبكين صامتاً، يتذكرن بيوتهن، عجزتهن الذين حرقوا أحياء، أزواجهن الذين سقطوا.

مع اقترابهم من الحدود، أصبح الطريق أصعب، دوريات، خوف من الاعتقال، جوع يعصف بالأجساد. فاطمة تحمل الجميع بعزيمتها، تقسم الخبز القليل، تطمئن الأطفال، تقول: "سنصل إلى مكان آمن، ثم نعود، الجبل ينتظرنا". لكن في قلبها، كانت تشعر بالكارثة الكبرى، كارثة محو قرى بأكملها، حرق عجزة أحياء في مئات الأماكن، تهجير شعب ليحل محله آخر. وكانت تبكي على عادل، على صالح، على كل من احترق، تهمس: "يا الله، شاهد على الظلم، على النار التي أكلت الأحياء".

هكذا مرت أيام الرحيل الأولى، أيام الألم والصمود، أيام تحمل فاطمة فيها الذكرى كسيف مزدوج، يجرحها ويحميها. كانت تشعر بأن الطيرة لم تمت، بل انتقلت إلى قلوب المهجرين، إلى دموعهم، إلى قصصهم. وفي كل خطوة، كان الجبل يهمس من بعيد، همساً يصلها مع الريح: "أنا أحمل أنين العجزة، يا فاطمة، أحمل دمهم، أحمل نارك، وأنتظر عودتك، عودتكم، مهما طال الغياب". وكانت تمشي، رأسها مرفوع، عيناها تحملان وعد العودة، وعد امرأة عاشت ستين عاماً في الطيرة، وستحملها في قلبها إلى آخر نفس.

4

مع عبور الحدود في تلك الأيام المريرة، أصبح الرحيل كجرح مفتوح ينزف ببطء، يسير المهجرون في قوافل متعثرة، أجسادهم منحنية تحت ثقل الفقد، أرواحهم معلقة بين الماضي المحترق والمستقبل المجهول. كانت فاطمة تمشي بثبات يخفي الانهيار الداخلي، قدماها المتورمتان تتركان أثراً دموياً على التراب، لكنها لا تتوقف، تحمل في عينيها ناراً لا تنطفئ، نار الستين عاماً التي عاشتها في الطيرة، نار حرق العجزة أحياء الذي لا يزال يلمع في خيالها ككابوس أبدي. الأطفال يبكون من الجوع، النسوة يهمسن دعاءً يتردد في الصمت، والريح تهب باردة تحمل رائحة الدخان من بعيد، رائحة قرى تحترق كما احترقت الطيرة، كما احترقت مئات القرى في تلك الأيام السوداء.

في إحدى الليالي، توقفوا قرب نهر صغير، شربوا من مائه العكر، غسلوا جراحهم، فاطمة تجلس على ضفة، تنظر إلى التيار الذي يجري بلا توقف، ترى فيه دموع المهجرين، دموع العجزة الذين أحرقوا أحياء في بيوتهم، صالح يصرخ في اللهب، عبد الرحمن يدعو، أجسادهم تتلوى في النار كأوراق خريف جافة. وكانت دموعها تسيل صامتة، دموع امرأة فقدت كل شيء إلا الذكرى، تهمس للنهر: "يا ماء، احمل ألمي إلى البحر، احمل صرخات العجزة الذين حرقوا أحياء، ليشهد العالم على الظلم". ثم تمسح وجهها، تقف، تطمئن النسوة: "غداً نصل إلى مكان آمن، ثم نفكر في العودة". لكن في قلبها، كانت تعرف أن العودة بعيدة، أن النار التي أكلت الطيرة أكلت جزءاً من الروح، جزءاً يبقى جرحاً ينزف إلى الأبد.

مع مرور الأسابيع، وصلوا إلى مخيمات اللجوء الأولى، خيام مهترئة ترفرف في الريح، أرض جرداء لا زيتون فيها ولا وادي، أناس يتجمعون من كل قرية محترقة، يروون القصة نفسها، حرق العجزة أحياء، تدمير البيوت، تهجير بالقوة. فاطمة تجلس مع النسوة، تستمع إلى قصص قرى أخرى، دلية الكرمل، عين حوض، بلد الشيخ، قرى أحرقت عجزتها أحياء في بيوت مغلقة، أجساد تتحول إلى فحم ليمحوا الوجود، ليبنوا على الرماد رواية جديدة تنكر الدم والعرق. وكانت فاطمة تردد في قلبها: "لن تنكرونا، يا ظالمين، الدم يصرخ، والأرض تشهد، حرقتم العجزة أحياء لتفرغوا الأرض، لكن الأرواح تبقى، تطاردكم في كوابيسكم".

نظمية، الرفيقة التي أصبحت كظلها، تجلس بجانبها، تقول بصوت يحمل مرارة السنين: "يا فاطمة، هل مات عادل؟ هل احترق مع الرجال، أم لا يزال يبحث عنا؟". وكانت فاطمة تصمت، ألم يعصف بها كالعاصفة، ترد أخيراً: "عادل في قلبي، يا أختي، إن مات فهو شهيد، وإن بقي فسيجدنا، لكن الطيرة ماتت، حرقوها، حرقوا عجزتنا أحياء". ثم تبكيان معاً، بكاء صامت يخنق الصوت، بكاء النساء اللواتي فقدن كل شيء، بيوتاً، أزواجاً، آباء، ذكريات.

في المخيم، بدأت الحياة الجديدة ببطء مؤلم، خيام تتسرب منها الريح، طعام قليل من المساعدات، أطفال يمرضون من البرد. فاطمة تصبح عماد الجميع، تعد الطعام من القليل، ترعى المرضى، تروي القصص للصغار عن الطيرة قبل النار، عن وادي أبو الجاع الذي ينتظر العودة. "سنعود"، تقول للأحفاد، صوتها يحمل يقيناً يخفي اليأس، "الجبل يحفظ أسماءنا، والأرض تذكر دمنا". وكانت الأطفال يستمعون مفتوحي الأعين، يتخيلون الزيتون، الينبوع، البيوت الحجرية، غير عالمين أنها ذكريات ستحملها أجيالاً.

لكن في الليالي، كانت فاطمة وحدها مع ألمها، تخرج من الخيمة، تنظر إلى السماء، تبحث عن نجمة تعرفها من الطيرة، تهمس: "يا عادل، يا صالح، يا عجزة حرقتم أحياء، هل تروننا؟ هل تسمعون صرخاتنا؟". وكانت تشعر بالنار لا تزال تحرقها من الداخل، نار الفقد، نار الظلم الذي محا قرية كاملة، محا مئات القرى بحرق العجزة أحياء، بتدمير كل حجر يشهد على الوجود. وكانت تبكي، تبكي على عادل الذي لم تعرف مصيره، على صالح الذي احترق في البيت، على الطيرة التي أصبحت أنقاضاً.

مع مرور الشهور، بدأ المهجرون يبنون حياة من الصفر، خيام تتحول إلى غرف طينية، أطفال يولدون في المخيم، لكن الجرح يبقى مفتوحاً. فاطمة تحمل الذكرى كراية، تروي للجميع عن الطيرة، عن حرق العجزة أحياء، عن الظلم الذي لن يدوم. "سنعود"، تردد، صوتها يعلو في الجلسات، "الأرض لا تنسى أبناءها، والدم يصرخ حتى يسمع العالم". وكانت النسوة يؤمن، يبكين، يغنين أغاني قديمة عن العودة.

هكذا مرت السنوات الأولى من اللجوء، سنوات الألم والصمود، سنوات تحمل فاطمة فيها نار النكبة، نار حرق العجزة أحياء، نار الرحيل القسري الذي محا حياة ستين عاماً. كانت تشعر بأن الطيرة انتقلت إلى قلبها، إلى قلوب المهجرين، وأن وادي أبو الجاع ينتظر، يهمس في أحلامها: "عودي يا فاطمة، عودي". وكان الجبل، من بعيد، يشهد، يحمل أنين العجزة، يحمل الدم، ينتظر يوم العدالة، يوم العودة التي ستأتي مهما طال الغياب. وكانت فاطمة تمشي في المخيم، رأسها مرفوع، عيناها تحملان وعد الأجيال، وعد امرأة لم تمت روحها، روح عاشت في الطيرة وستعود إليها، مهما حرقوا، مهما محوا.



5

مع استمرار السنوات الأولى في مخيم النيرب، أصبح اللجوء كسجن مفتوح تحت سماء قاسية، سماء لا تمنح زيتوناً ولا وادياً، بل غباراً يعصف بالخيام وأمطاراً تغرق الأرض الطينية في الشتاء. كانت فاطمة في أوائل الستينيات من عمرها الآن، امرأة شاخت قبل أوانها من ثقل الفقد، وجهها منحوت بخطوط عميقة تشبه وديان الكرمل، عيناها تحملان بريقاً خافتاً من نار لم تنطفئ، نار الستين عاماً في الطيرة، نار حرق العجزة أحياء الذي يعود في الأحلام كشبح لا يرحل. الخيمة الصغيرة التي بنتها بيديها أصبحت بيتاً، جدران من قماش مهترئ وأرضية من التراب، لكنها مليئة بأصوات الأحفاد الذين ولدوا في اللجوء، أطفال يلعبون في الغبار، يسألون عن جدهم عادل الذي لم يعد، عن الطيرة التي لم يروها إلا في القصص.

كانت فاطمة تقضي أيامها في العمل الشاق، تساعد في توزيع المساعدات، ترعى المرضى في المخيم، تعد الطعام من القليل، خبزاً رقيقاً يشبه خبز التنور القديم، لكن طعمه يحمل مرارة الغياب. في الليالي، تجمع الأحفاد حولها، تروي لهم عن الطيرة قبل النار، عن صالح الجد الذي كان يجلس على العتبة يدخن غليونه، عن عبد الرحمن الشيخ الذي يقرأ القرآن بصوت يهدئ القلوب، عن يوسف سلوم العالم الذي يروي الأخبار. "وكانوا يحرقونهم أحياء"، تهمس بصوت يرتجف من الغضب، "العجزة أحياء في بيوتهم، ليمحوا وجودنا، كما فعلوا في مئات القرى، حرق وتدمير ليبنوا على الرماد". وكانت الأطفال يستمعون مفتوحي الأعين، يتخيلون النار، يبكون على عجزة لم يعرفوهم، يتعلمون الكره والحب معاً، حب الأرض والكره للظالم.

نظمية، الرفيقة التي أصبحت كأخت، تجلس بجانبها دائماً، وجهها شاحب من المرض الذي بدأ يعصف بها، تقول ذات ليلة: "يا فاطمة، هل نسوا النار؟ هل يعيشون الآن في بيوتنا، يأكلون من زيتوننا، ونحن هنا نأكل الغبار؟". وكانت فاطمة ترد بصوت يحمل عزيمة السنين: "لم ينسوا، يا أختي، النار تحرقهم من الداخل، والعجزة الذين حرقوهم أحياء يطاردونهم في كوابيسهم، والأرض ترفضهم، ترفض من بنى على الدم". ثم تضم نظمية، تبكيان معاً بصمت، بكاء النساء اللواتي حملن الجرح ستين عاماً، جرح النكبة الذي لا يندمل.

مع مرور الوقت، بدأ الأحفاد يكبرون، يولد أحفاد جدد، المخيم يتسع، خيام تتحول إلى غرف طينية، لكن الفقر يعصف، المرض ينتشر، والأخبار تأتي من بعيد عن أرض محتلة، عن مستوطنات تبنى على أنقاض القرى، عن عجزة حرقوا أحياء في أماكن أخرى لم يسمعوا بها. فاطمة تصبح جدة المخيم، ترعى الجميع، تعلم الفتيات كيف يخبزن الخبز، كيف يحتفظن بالذكرى، تروي عن عادل الذي قاتل حتى النهاية، عن صالح الذي احترق في البيت، عن الطيرة التي كانت جنة. "كان وادي أبو الجاع"، تقول للصغار، صوتها يحمل حنان الذكرى، "ملاذنا، مكان الحب والأسرار، سنعود إليه يوماً، نغسل جراحنا في ينبوعه".

لكن في الليالي وحدها، كانت فاطمة تواجه الفراغ، فراغ عادل الذي لم تعرف مصيره باليقين، فراغ الطيرة المحترقة، فراغ حرق العجزة أحياء الذي يعود في الكوابيس، صرخاتهم تتعالى، أجسادهم تتلوى في اللهب. كانت تستيقظ مذعورة، تخرج من الخيمة، تنظر إلى السماء، تبحث عن نجمة تعرفها من الكرمل، تهمس: "يا عادل، يا صالح، يا عجزة الطيرة، هل تروننا؟ هل تشعرون بألمنا؟ حرقوكم أحياء ليمحوا وجودنا، لكننا هنا، نحملكم في قلوبنا". وكانت تبكي، تبكي على حياة ستين عاماً تحولت إلى ذكرى، ذكرى تؤلم وتقوي في الوقت نفسه.

مع ذلك، كانت فاطمة تتمسك بالحياة، تزرع بذوراً في أصيص صغير أمام الخيمة، زهور برية تذكرها بالكرمل، تعلم الأحفاد أغاني الطيرة، أغاني الحصاد والحب. "سنعود"، تردد في الجلسات مع النسوة، صوتها يعلو كأنه صوت الأرض الغاضبة، "الظلم لا يدوم، والنار التي أحرقت عجزتنا ستحرق الظالمين يوماً". وكانت النسوة يؤمن، يغنين معها، يحتفظن بالأمل كشعلة في الظلام.

هكذا مرت السنوات الأولى في النيرب، سنوات البناء من الصفر، سنوات الألم الذي يتحول إلى قوة، سنوات تحمل فاطمة فيها نار النكبة، نار حرق العجزة أحياء، نار الرحيل الذي محا الطيرة ومئات القرى. كانت تشعر بأن الجبل يهمس لها من بعيد، في الريح، في الأحلام، يقول: "أنا أحمل دمهم يا فاطمة، أحمل صرخاتهم، أحمل وعد العودة". وكانت تمشي في المخيم، رأسها مرفوع، عيناها تحملان الستين عاماً كراية، راية الذكرى التي لا تموت، راية امرأة لم تنكسر، ستحمل الجرح إلى آخر نفس، وتنقله للأجيال، حتى يأتي يوم العودة، يوم تنطفئ فيه نار الظلم، وتعود الطيرة إلى أبنائها.


6


مع مرور السنين في مخيم النيرب، أصبح اللجوء كبحر هائج يبتلع الأيام والليالي، بحر من الغبار والأمل المكسور، يحمل في أمواجه أنين المهجرين الذين بنوا حياة من الرماد. كانت فاطمة تقترب من السبعين الآن، امرأة شاخت جسدها تحت ثقل الذكريات، لكن روحها بقيت شابة، مشتعلة بنار الستين عاماً في الطيرة، نار حرق العجزة أحياء الذي يعود في كل ليلة كشبح يجلس بجانبها، يهمس بأسماء صالح وعبد الرحمن ويوسف سلوم العالم، أجساد تتلوى في اللهب، صرخات تخترق الصمت. الخيمة أصبحت غرفة طينية صغيرة، جدرانها مشققة كقلبها، لكنها مليئة بأصوات الأحفاد والأبناء، أجيال تولد في المنفى، تتعلم الكلام بلكنة المخيم، لكن فاطمة تعلمهم كلمات الطيرة، أسماء الأماكن، روائح الزيتون، همس وادي أبو الجاع.

كانت فاطمة تقضي أيامها في رعاية الجميع، تساعد الجيران في الولادات، ترعى المرضى بأعشاب تجمعها من الحقول القريبة، تعد الطعام من القليل، خبزاً يشبه خبز التنور لكنه يحمل طعم الغياب. في الجلسات مع النسوة، تجلس في الوسط، تروي عن النكبة كأنها تحكي ملحمة قديمة، صوتها يعلو تدريجياً: "حرقوهم أحياء، يا أخوات، العجزة أحياء في بيوتهم، صالح جدي يصرخ، عبد الرحمن يدعو، كما فعلوا في مئات القرى، حرق وتدمير ليفرغوا الأرض منا، ليبنوا عليها عالماً ينكر وجودنا". وكانت النسوة يبكين، يمسحن دموعهن، يرددن معها: "لن يمحونا، الدم يصرخ، والأرض تشهد". ثم تغني فاطمة أغنية قديمة عن العودة، صوتها يتردد في المخيم كأنه صوت الجبل البعيد.

نظمية، الرفيقة التي أصبحت ضعيفة من المرض، تجلس بجانبها دائماً، تمسك يدها الباردة، تقول بصوت خافت: "يا فاطمة، ألم يعد الزمن يشفي؟ حرقوا عجزتنا أحياء، ونحن لا نزال نحمل النار". وكانت فاطمة ترد بعزيمة تخفي الألم: "النار تشفي يا أختي، تحرق الضعف وتبقي القوة، سنحملها للأجيال، حتى يعودوا، حتى يروا الطيرة مجدداً". ثم تضمها، تشعر بجسدها الهزيل، تبكي داخلياً على صداقة عاشت معها الشباب والحب والنكبة، صداقة ستنتهي قريباً، لكن الذكرى ستبقى.

مع مرور الوقت، بدأت الأجيال الجديدة تكبر، أحفاد يذهبون إلى المدارس البسيطة في المخيم، يتعلمون القراءة والكتابة، لكن فاطمة تعلمهم في البيت عن الطيرة، ترسم لهم خريطة على الأرض بالعصا، تشير إلى مكان البيت، الجامع، وادي أبو الجاع. "هنا كان بيتنا"، تقول، صوتها يحمل حنان الذكرى، "وهناك حرقوا جدكم صالح أحياء مع العجزة، ليمحوا وجودنا، لكن انظروا، نحن هنا، أحياء، نحمل الاسم". وكان الأحفاد يستمعون، عيونهم تلمعان بالفخر والحزن، يسألون: "ومتى نعود يا جدتي؟"، فترد بيقين يخفي اليأس: "قريباً يا أولادي، الأرض تنتظرنا، والجبل يحفظ دمنا".

في الليالي، كانت فاطمة تواجه الوحدة، تخرج من الغرفة، تنظر إلى السماء، تبحث عن النجوم التي كانت تراها من الطيرة، تهمس لعادل الغائب: "يا حبيبي، هل تسمعني؟ حرقوا عجزتنا أحياء، دمروا بيتنا، لكنني أحملك في قلبي، أحمل حبنا الذي بدأ في وادي أبو الجاع". وكانت تشعر بالنار لا تزال تحرقها، نار الفقد، نار الظلم الذي محا قرى بأكملها بحرق العجزة أحياء، تدمير كل حجر يشهد على الحياة. وكانت تبكي، تبكي على ستين عاماً تحولت إلى قصة تُروى، قصة ألم وصمود.

مع ذلك، كانت فاطمة رمز الأمل في المخيم، تساعد في الزيجات، ترعى الولادات، تحتفل بالأعياد بتواضع، تغني أغاني الطيرة لتبقي الروح حية. "الظلم لا يدوم"، تقول في الجلسات، صوتها يعلو كأنه صوت جبل بعيد، "حرقوا العجزة أحياء ليخيفونا، لكن الخوف مات، وبقي الغضب، غضب يبني العودة". وكانت النسوة يؤمن، يغنين معها، يحتفظن بالأمل ككنز مخفي.

هكذا انتهت سنوات اللجوء الأولى، سنوات البناء من الرماد، سنوات تحمل فاطمة فيها نار النكبة كشعلة مقدسة، نار حرق العجزة أحياء، نار الرحيل الذي محا الطيرة ومئات القرى. كانت تشعر بأن الجبل يهمس لها في الأحلام، يقول: "أنا أحمل صرخاتهم يا فاطمة، أحمل دمهم، أحمل وعدك بالعودة". وكانت تستيقظ، تمسح دموعها، تستمر في الحياة، رأسها مرفوع، عيناها تحملان الستين عاماً كتراث، تراث ألم وصمود، تراث ستورثه للأجيال، حتى يأتي يوم ينطفئ فيه الظلم، وتعود الطيرة إلى أبنائها، تعود كحلم يتحقق بعد كابوس طويل.


الفصل الرابع


1

مع حلول الخمسينيات في مخيم النيرب، أصبح اللجوء كشجرة برية تنمو في أرض قاحلة، جذورها عميقة في التراب الغريب، فروعها تمتد نحو سماء لا تعرفها، تحمل ثماراً مرة من الذكرى والأمل المُعلق. كانت فاطمة في أواخر الستينيات من عمرها الآن، امرأة شاخت جسدها تحت شمس المنفى القاسية، لكن روحها بقيت نابضة بنار الطيرة، نار الستين عاماً التي عاشتها هناك، نار حرق العجزة أحياء الذي يعود في كل فجر كضيف ثقيل لا يرحل. الغرفة الطينية الصغيرة التي بنتها بيديها أصبحت مليئة بأصوات الأحفاد والأبناء، أجيال تولد في المخيم، تتعلم المشي على أرض لا زيتون فيها، لكن فاطمة تعلمهم الزيتون في القصص، ترسم لهم أشجاره على الجدران بالفحم، تهمس لهم عن الينبوع في وادي أبو الجاع الذي يغني أغنية الحب القديم.

كانت فاطمة تستيقظ مع أذان الفجر، تخرج إلى الساحة الصغيرة أمام الغرفة، تنظر إلى السماء الشاسعة، تبحث عن الجبل البعيد الذي لم ترَه منذ عشر سنين، تهمس دعاءً يتردد في الصمت: "يا رب، احفظ الطيرة في قلبي، احفظ ذكرى العجزة الذين حرقوا أحياء، صالح ينادي، عبد الرحمن يدعو، أجسادهم تتحول إلى رماد ليمحوا وجودنا". ثم تعود، تعد الشاي بالنعناع القليل، تجمع الأحفاد حولها، تروي لهم عن الطيرة كأنها تحكي جنة مفقودة، عن البيوت الحجرية التي احتضنت ولاداتها، عن الحقول التي شهدت حبها مع عادل، عن النار التي التهمت كل شيء في يوم واحد. "كانوا يحرقون العجزة أحياء"، تقول بصوت يرتجف من الغضب المقدس، "في بيوتهم، في قريتنا، في مئات القرى، ليفرغوا الأرض، ليبنوا عليها عالماً ينكر دمنا". وكانت الأطفال يستمعون مفتوحي الأفواه، عيونهم تلمعان بحزن مبكر، يتعلمون أن المنفى ليس قدراً، بل ظلماً سيأتي يوم ينتهي.

نظمية، الرفيقة التي أصبحت جزءاً من روحها، كانت لا تزال بجانبها رغم المرض الذي يعصف بها، تجلس في الظل، وجهها شاحب كورقة خريف، تقول بصوت خافت: "يا فاطمة، عشر سنين مرت، والنار لا تزال تحرقنا، حرقوا عجزتنا أحياء، ونحن نحرق كل يوم بالذكرى". وكانت فاطمة تمسك يدها، ترد بحنان الأم: "الذكرى درعنا يا أختي، تحمينا من النسيان، سنحملها حتى نعود، حتى نغسل جراحنا في وادي أبو الجاع". ثم تضمها، تشعر بجسدها الهزيل، تبكي داخلياً على صداقة عاشت معها الخصب والنكبة، صداقة ستبقى حتى لو رحلت نظمية.

مع مرور الوقت، بدأ المخيم يتغير ببطء، غرف طينية أكبر، طرق مرصوفة بالحجارة، مدارس صغيرة تبنى من المساعدات، أطفال يتعلمون القراءة والكتابة، لكن فاطمة تعلمهم في البيت عن فلسطين، ترسم خريطة على الأرض، تشير إلى الكرمل، إلى الطيرة، إلى المكان الذي حرق فيه العجزة أحياء. "هنا كانت قريتنا"، تقول، عصاها ترسم خطوطاً في التراب، "وهنا حرقوا جدكم صالح أحياء مع العجزة، ليمحوا تاريخنا، لكن انظروا، التاريخ يعيش فينا". وكان الأحفاد يسألون، يتعلمون، يحملون الجرح كإرث مقدس.

في الليالي، كانت فاطمة تواجه الفراغ، تخرج لوحدها، تنظر إلى القمر، تتذكر ليالي الطيرة تحت القمر نفسه، ليالي مع عادل، يضمان بعضهما في وادي أبو الجاع. "يا عادل"، تهمس، دموعها تسيل، "عشر سنين وأنا أبحث عنك في الذكرى، هل سقطت في الدفاع، أم بحثت عنا؟ حرقوا عجزتنا أحياء، دمروا بيتنا، لكن حبنا بقي". وكانت تشعر بالنار لا تزال تحرق، نار الفقد، نار الظلم الذي محا الطيرة ومئات القرى بحرق العجزة أحياء.

مع ذلك، كانت فاطمة عماد المخيم، ترعى الجميع، تحتفل بالأعياد بتواضع، تغني أغاني الطيرة، تحافظ على الأمل كشعلة في الظلام. "سنعود"، تردد، صوتها يعلو في الجلسات، "الأرض تنتظرنا، والجبل يحفظ دمنا". وكانت النسوة يغنين معها، يحتفظن بالروح حية.

هكذا مرت السنوات الأولى في النيرب، سنوات الاستقرار النسبي في المنفى، سنوات تحمل فاطمة فيها نار النكبة، نار حرق العجزة أحياء، نار الستين عاماً في الطيرة التي أصبحت ذكرى مقدسة. كانت تشعر بأن الجبل يهمس لها في الأحلام، يقول: "أنا أحمل أنينهم يا فاطمة، أحمل وعدك، عودي يوماً". وكانت تستيقظ، تمسح دموعها، تستمر في الحياة، رأسها مرفوع، عيناها تحملان الإرث، إرث ألم وصمود، إرث ستورثه للأجيال، حتى يأتي يوم العودة، يوم تنطفئ فيه نار الظلم، وتعود الطيرة إلى قلبها الحي.



2

مع حلول الستينيات في مخور النيرب، أصبح المخيم كجسد قديم يعاني من جروح لا تندمل، معسكر سابق للجيش الفرنسي تحول إلى مدينة من البركسات الضيقة، سقوف من الزينكو تشتعل حرارة في الصيف كأفران جهنمية، وتتسرب منها الأمطار في الشتاء كدموع لا تنتهي. كانت فاطمة في السبعينيات من عمرها الآن، امرأة انحنت ظهرها قليلاً تحت ثقل السنين والذكريات، لكن عيناها لا تزالان تحملان بريقاً من نار الطيرة، نار الستين عاماً التي عاشتها هناك، نار حرق العجزة أحياء الذي يعود في كل صيف حار كأن الزينكو نفسه يحرق الجلد تذكيراً باللهب القديم. البركسة الصغيرة التي تخص عائلتها كانت مكاناً ضيقاً، غرفة واحدة تفصل بينها ستارة مهترئة، سريرين أو ثلاثة يتكدس عليها الأحفاد والأبناء، مطبخ صغير في الزاوية يدخن من موقد الكاز، ورائحة الخبز المخبوز على صفيحة خارجية تمتزج برائحة الزينكو الساخن.

كانت فاطمة تستيقظ مع أول ضوء يتسلل من شقوق الزينكو، تخرج إلى الساحة الضيقة بين البركسات، تنظر إلى السماء المحجوبة جزئياً بسقوف المعسكر القديم، تهمس دعاءً يتردد في الصمت: "يا رب، احفظنا في هذا الضيق، واحفظ ذكرى الطيرة الواسعة، ذكرى العجزة الذين حرقوا أحياء في بيوتهم الحجرية". ثم تعود، تعد الشاي في إبريق مكسور، تجمع الأحفاد حولها على الأرض، تروي لهم عن الطيرة كأنها تحكي عالماً سحرياً مفقوداً، عن البيوت الحجرية الواسعة التي كانت تطل على الوادي، عن الحقول التي لا تنتهي، عن وادي أبو الجاع الذي يجري ماؤه بارداً حتى في الصيف. "كان الزينكو هذا"، تقول بسخرية مريرة تخفي الألم، "لا يوجد في الطيرة، كنا ننام تحت سقف من الحجر البارد، والريح تهب حرة، لا تحرق كما يحرق هذا الزينكو جلدنا في الحر". وكانت الأطفال يستمعون، يتخيلون العالم الواسع، يسألون عن جد عادل الذي لم يروا، عن جد صالح الذي احترق في النار.

نظمية، الرفيقة التي أصبحت كجزء من جسدها، كانت لا تزال في بركسة مجاورة، ضعيفة من المرض، لكنها تأتي كل يوم تجلس مع فاطمة في الظل الضيق بين البركسات، تتحدثان بصوت منخفض عن الطيرة، عن السنين قبل النكبة. "يا فاطمة"، تقول نظمية بصوت يرتجف، "هذا الزينكو يحرقنا كل صيف، يذكرني بالنار التي أحرقت عجزتنا أحياء، كأن المنفى يعاقبنا مرتين". وكانت فاطمة تمسك يدها، ترد بحنان يخفي الغضب: "النار دربنا يا أختي، حرقوا العجزة أحياء ليفرغوا الأرض، لكننا ملأناها بأولادنا، بذكرانا، والزينكو هذا لن يحرق روحنا". ثم تضحكان ضحكة قصيرة، ضحكة النساء اللواتي عشن في ضيق البركسات عشرين عاماً، يتكدس في المكان الضيق عائلة كاملة، ينامون متلاصقين للدفء في الشتاء، يعانون الحر في الصيف، لكن يحتفظن بالكرامة.

مع مرور الوقت، بدأ الأحفاد يكبرون في الضيق، يلعبون في الشوارع الضيقة بين البركسات، يتعلمون في مدارس المخيم، يحملون الذكرى كإرث ثقيل. فاطمة تعلمهم في البركسة الضيقة، ترسم على جدران الزينكو بفحم خريطة الطيرة، تشير إلى مكان البيت، الجامع، الوادي. "هنا كان بيتنا واسعاً"، تقول، صوتها يحمل شوقاً يعصر القلب، "وليس ضيقاً كالبركسة هذه، حيث يتكدس الجميع في غرفة واحدة، يسمع بعضهم أنفاس بعض". وكان الأحفاد يسألون عن عادل، عن كيف قاتل، عن النار التي أحرقت العجزة أحياء، فيتعلمون الحكاية كدرس مقدس، درس الظلم والصمود.

في الصيف، كان الزينكو يتحول إلى جحيم، حرارة تخنق، أجساد تتعرق، أطفال يبكون من الحر. فاطمة تخرج مع النسوة إلى الساحة، يجلسن في الظل القليل، يتحدثن عن الطيرة الباردة، عن الريح التي تهب من البحر. "كان الزينكو هذا"، تقول فاطمة بسخرية لاذعة، "لا يوجد في قريتنا، كنا ننام تحت النجوم، والجبل يحمينا من الحر". وكانت النسوة يضحكن، ضحكة مريرة تخفي الشوق، شوق إلى فضاء واسع، إلى بيوت لا تضيق على الأرواح.

في الشتاء، كانت الأمطار تتسرب من السقوف، تغرق الأرضية، يتكدس الجميع في زاوية جافة، يحتضنون بعضهم للدفء. فاطمة تضم الأحفاد، تروي قصصاً عن الشتاء في الطيرة، عن المدفأة التي تشتعل بالحطب، عن الثلج النادر الذي يغطي الجبل. "كان البرد هناك حنوناً"، تقول، صوتها يحمل دفء الذكرى، "لا يتسرب كالماء من الزينكو، يغرقنا في الضيق". وكانت الأطفال ينامون على صوتها، يحلمون بالطيرة الواسعة، غير عالمين أن الضيق يبني فيهم صموداً أقوى.

مع ذلك، كانت فاطمة تحافظ على الروح، تزرع نعناعاً في أصيص خارج البركسة، تخبز الخبز للجيران، تحتفل بالأعياد في الضيق، تغني أغاني الطيرة لتبقي الذكرى حية. "البركسة ضيقة"، تقول للأحفاد، "لكن قلوبنا واسعة، تحمل الطيرة كاملة، تحمل حرق العجزة أحياء كشعلة لا تنطفئ". وكانت تغني، صوتها يتردد بين الزينكو، يصل إلى البركسات المجاورة، يمنح الأمل.

هكذا مرت السنوات في ضيق النيرب، سنوات البركسات والزينكو، سنوات تحمل فاطمة فيها الذكرى كوطن داخلي، وطن واسع يفوق الضيق، يحمل نار النكبة، نار حرق العجزة أحياء، نار الستين عاماً في الطيرة. كانت تشعر بأن الجبل يهمس لها في الريح التي تهب بين البركسات، يقول: "أنا أحمل ضيقك يا فاطمة، أحمل شوقك، وأنتظر عودتك". وكانت تبتسم، تمسح عرق جبينها في الحر، أو ترتجف في البرد، تستمر في الحياة، رأسها مرفوع، عيناها تحملان الإرث، إرث الضيق الذي يبني القوة، إرث ستورثه للأجيال، حتى يأتي يوم ينتهي فيه المنفى، ويعودوا إلى الفضاء الواسع، إلى الطيرة التي تنتظر في قلب كل مهجر.


3

مع حلول السبعينيات في مخيم النيرب، أصبح المنفى كمرض مزمن يعصف بالأجساد والأرواح، مرض يتغلغل في العظام كالرطوبة التي تتسرب من سقوف الزينكو في الشتاء، يجمد الأطراف ويثقل القلوب. كانت فاطمة في الثمانينيات من عمرها الآن، امرأة انحنت ظهرها تحت ثقل السنين والغياب، خطوط وجهها عميقة كوديان الكرمل، لكن عيناها لا تزالان تحملان شرارة من نار الطيرة، نار الستين عاماً التي عاشتها هناك قبل أن تتحول إلى رماد، نار حرق العجزة أحياء الذي يعود في كل برد قارس كأن الزينكو نفسه يبرد ليذكر باللهب الذي أكل أجساد صالح وعبد الرحمن وكل من لم يقوَ على الهرب. البركسة الضيقة، ذلك المكان الذي خصص للعائلة في معسكر الجيش الفرنسي القديم، أصبحت عالماً كاملاً، غرفة واحدة تفصل بينها ستارة رقيقة، سرير يتكدس عليه الأجيال الثلاثة، مطبخ صغير في الزاوية يدخن من موقد يعمل بالكاز، ورائحة الرطوبة تمتزج برائحة الخبز الذي تخبزه فاطمة على صفيحة خارجية، خبزاً رقيقاً يشبه خبز التنور لكنه يحمل طعم الضيق والصبر.

كانت فاطمة تستيقظ مع أول صوت للزينكو يئن تحت قطرات المطر، تخرج إلى المدخل الضيق، تنظر إلى السماء المغطاة بغيوم ثقيلة، تهمس دعاءً يتسلل من بين شقوق السقف: "يا رب، احفظنا في هذا الضيق، واحفظ ذكرى الطيرة الواسعة، ذكرى العجزة الذين حرقوا أحياء في بيوتهم الحجرية الباردة". ثم تعود، تضيء مصباح الكاز الخافت، تجمع الأحفاد حولها على الأرض الرطبة، تروي لهم عن الطيرة كأنها تحكي ملحمة أسطورية، عن البيوت الواسعة التي كانت تطل على الوادي، عن السقوف الحجرية التي لا تتسرب منها قطرة، عن الشتاء الهادئ حيث تشتعل المدفأة بالحطب وتدفئ القلوب. "كان الزينكو هذا"، تقول بسخرية مريرة تخفي الشوق، "لا يوجد في قريتنا، كنا ننام في فضاء واسع، والريح تهب حرة تحمل رائحة الزيتون، لا رطوبة تخنقنا في الضيق هذا، غرفة واحدة لعائلة كاملة، يتكدس الجميع كأننا في قبر حي". وكانت الأطفال يستمعون، عيونهم واسعة من الدهشة والحزن، يتخيلون العالم الواسع، يسألون عن جد عادل الغائب، عن جد صالح الذي احترق في النار.

البركسات الضيقة كانت عالماً قاسياً، في الشتاء تتسرب المياه من السقوف، تغرق الأرضية، يتجمع الجميع في زاوية جافة، يحتضنون بعضهم للدفء، يرتجفون من البرد الذي يتسلل كالثعبان. فاطمة تضم الأحفاد، تغني لهم أغنية قديمة من الطيرة، صوتها يتردد بين جدران الزينكو الرطبة، يمنح الدفء الذي لا يمنحه السقف. "كان الشتاء هناك حنوناً"، تهمس، عيناها تلمعان بدموع الذكرى، "الحطب يشتعل، والقصص تروى حول المدفأة، لا رطوبة تغرقنا في الضيق، لا زينكو يئن فوق رؤوسنا كأنه يبكي معنا". وكانت الأطفال ينامون على صوتها، يحلمون بالطيرة الدافئة، غير عالمين أن الضيق يعلمهم الصمود، يجعلهم أقوى من أجدادهم.

في الصيف، كان الزينكو يتحول إلى فرن، حرارة تخنق، أجساد تتعرق، أطفال يبكون من الحر الذي يحرق الجلد كأنه يذكر بالنار القديمة. فاطمة تخرج مع النسوة إلى الساحات الضيقة، يجلسن في ظلال قليلة، يتحدثن عن الطيرة الباردة، عن الريح التي تهب من البحر تحمل برودة الجبل. "هذا الزينكو"، تقول فاطمة، صوتها يحمل مرارة ساخرة، "يحرقنا كل صيف، يذكرني بالنار التي أحرقت عجزتنا أحياء، حرقوهم في بيوتهم ليفرغوا الأرض، والآن يحرقنا الزينكو في الضيق هذا، غرفة واحدة لعائلة، يطبخون وينامون ويبكون في المكان نفسه". وكانت النسوة يضحكن ضحكة قصيرة، ضحكة تخفي الدموع، دموع النساء اللواتي عشن في البركسات عقوداً، يتكدسن في الضيق، يحتضنن الأطفال ليلاً ليحموهم من الحر أو البرد.

مع ذلك، كانت فاطمة تحافظ على الروح، تزرع ريحاناً ونعناعاً في علب قديمة خارج البركسة، تخبز الخبز للجيران، ترعى المرضى بأعشاب تجمعها، تعلم الفتيات كيف يطرزن ثياباً تشبه تطريز الطيرة. "الضيق لا يقتلنا"، تقول للأحفاد، صوتها يعلو في الغرفة الضيقة، "يجعلنا أقوى، كما جعلتنا النكبة أقوى، حرقوا عجزتنا أحياء، دمرونا، لكننا بنينا حياة في الزينكو هذا، في الضيق هذا، وسنعود يوماً إلى الفضاء الواسع". وكانت تغني، صوتها يتردد بين الجدران الرقيقة، يصل إلى البركسات المجاورة، يمنح الأمل في وسط الضيق.

هكذا مرت السنوات في ضيق النيرب، سنوات البركسات والزينكو الذي يحرق في الصيف ويغرق في الشتاء، سنوات تحمل فاطمة فيها الذكرى كوطن داخلي واسع، يفوق الضيق، يحمل نار النكبة، نار حرق العجزة أحياء، نار الستين عاماً في الطيرة التي أصبحت قلباً ينبض في المنفى. كانت تشعر بأن الجبل يهمس لها في صوت الزينكو الذي يئن، يقول: "أنا أحمل ضيقك يا فاطمة، أحمل بردك وحرك، وأنتظر عودتك إلى فضائي". وكانت تبتسم، تمسح عرقها في الحر، أو ترتجف في البرد، تستمر في الحياة، رأسها مرفوع، عيناها تحملان الإرث، إرث الضيق الذي يبني الأجيال، إرث ستورثه حتى يأتي يوم ينتهي فيه المنفى، ويعودوا إلى الطيرة، إلى الفضاء الذي يليق بأرواحهم الواسعة.



4


مع حلول الثمانينيات في مخيم النيرب، أصبح المنفى كقيد حديدي يضيق على الأرواح يوماً بعد يوم، قيد من جدران البركسات الضيقة التي بنيت أصلاً لجنود الجيش الفرنسي، سقوف من الزينكو تئن تحت الشمس كأنها تشتكي من ثقل الذكريات، وفي الشتاء تتسرب منها قطرات باردة كدموع السماء على المهجرين. كانت فاطمة في أواخر الثمانينيات من عمرها الآن، امرأة تجاوزت الثمانين بقليل، جسدها هزيل كشجرة زيتون عانت الجفاف، لكن روحها لا تزال تقاوم كالجذور العميقة التي تتحدى الصخر، عيناها غائرتان لكن فيهما بريق خافت من نار الطيرة، نار الستين عاماً التي عاشتها هناك قبل أن تتحول إلى لهب يلتهم العجزة أحياء، صالح ينادي في اللهب، عبد الرحمن يدعو، أجسادهم تتلوى في بيوت مغلقة كما في مئات القرى التي محيت بالنار والحديد. البركسة الضيقة، ذلك المكان الذي خصص للعائلة، غرفة واحدة لا تتجاوز بضعة أمتار، يتكدس فيها الأجيال، سرير ينام عليه الأحفاد فوق بعضهم، مطبخ صغير في الزاوية يدخن من موقد يعمل بالكاز، وجدران رقيقة تسمع منها أنفاس الجيران، ضيق يخنق الأحلام لكنه يجبر على الصمود.

كانت فاطمة تستيقظ مع أول صوت للزينكو يسخن تحت شمس الصباح، تخرج إلى المدخل الضيق، تنظر إلى الساحة المزدحمة بين البركسات، تهمس دعاءً يتسلل من بين شقوق السقف: "يا رب، احفظنا في هذا الضيق الذي يضغط على الصدر، واحفظ ذكرى الطيرة الواسعة، ذكرى العجزة الذين حرقوا أحياء في بيوتهم الفسيحة". ثم تعود، تضيء مصباحاً خافتاً، تجمع الأحفاد حولها على الأرض الضيقة، تروي لهم عن الطيرة كأنها تحكي عالماً آخر، عن البيوت الحجرية الواسعة التي كانت تتسع للعائلة والجيران، عن السقوف التي لا تحرق في الصيف ولا تغرق في الشتاء، عن وادي أبو الجاع الذي يجري ماؤه حرّاً. "كان الزينكو هذا"، تقول بصوت يحمل سخرية مريرة تخفي الشوق العميق، "لا يوجد في قريتنا، كنا نعيش في فضاء يتنفس، لا في غرفة ضيقة تتكدس فيها العائلة كأننا في صندوق، يسمع بعضنا أنفاس بعض، يطبخ وينام ويبكي في المكان نفسه". وكانت الأطفال يستمعون، عيونهم واسعة من الدهشة، يتخيلون العالم الواسع، يسألون عن جد عادل الغائب، عن جد صالح الذي احترق في النار.

في الصيف، كان الزينكو يتحول إلى جحيم حقيقي، حرارة تخنق التنفس، أجساد تتعرق حتى الثياب تلتصق بالجلد، أطفال يبكون من الحر الذي يحرق كأنه يذكر باللهب القديم. فاطمة تخرج مع النسوة إلى الساحات الضيقة، يجلسن في ظلال نادرة، يرششن الماء على وجوههن، يتحدثن عن الطيرة الباردة، عن الريح التي تهب من البحر تحمل برودة الجبل. "هذا الزينكو"، تقول فاطمة، صوتها يرتجف من الحر والغضب، "يحرقنا كل صيف، يذكرني بالنار التي أحرقت عجزتنا أحياء، حرقوهم في بيوتهم ليفرغوا الأرض، والآن يحرقنا الزينكو في الضيق هذا، غرفة واحدة لعائلة كاملة، يغلي الهواء فينا كأننا في تنور". وكانت النسوة يضحكن ضحكة قصيرة، ضحكة تخفي الدموع، دموع النساء اللواتي عشن عقوداً في البركسات، يتكدسن في الضيق، يحتضنن الأطفال ليلاً ليحموهم من الحر الذي يخنق الأحلام.

في الشتاء، كانت الرطوبة تتسرب من السقوف، قطرات باردة تسقط على الوجوه النائمة، تغرق الأرضية، يتجمع الجميع في زاوية جافة، يرتجفون من البرد الذي يتسلل كالثعبان. فاطمة تضم الأحفاد، تغني لهم أغنية قديمة من الطيرة، صوتها يتردد بين جدران الزينكو الرطبة، يمنح الدفء الذي لا يمنحه السقف. "كان الشتاء هناك حنوناً"، تهمس، عيناها تلمعان بدموع الذكرى، "الحطب يشتعل في المدفأة، والقصص تروى في فضاء واسع، لا رطوبة تغرقنا في الضيق، لا زينكو يئن فوق رؤوسنا كأنه يبكي على ضيقنا". وكانت الأطفال ينامون على صوتها، يحلمون بالطيرة الدافئة، غير عالمين أن الضيق يبني فيهم صموداً أقوى، صموداً ورثوه من جدة عاشت في الضيق عقوداً، تحمل الذكرى كدرع.

مع ذلك، كانت فاطمة تحافظ على الروح في البركسة الضيقة، تزرع ريحاناً في علب قديمة خارج المدخل، تخبز الخبز للجيران على صفيحة مشتركة، ترعى المرضى بأعشاب تجمعها، تعلم الفتيات كيف يطرزن ثياباً تشبه تطريز الطيرة. "الضيق لا يقتلنا"، تقول للأحفاد، صوتها يعلو في الغرفة الضيقة، "يجعلنا أقوى، كما جعلتنا النكبة أقوى، حرقوا عجزتنا أحياء، دمرونا، لكننا بنينا حياة في الزينكو هذا، في الضيق هذا، وسنعود يوماً إلى الفضاء الواسع". وكانت تغني، صوتها يتردد بين الجدران الرقيقة، يصل إلى البركسات المجاورة، يمنح الأمل في وسط الضيق.

هكذا مرت السنوات في ضيق النيرب، سنوات البركسات والزينكو الذي يحرق في الصيف ويغرق في الشتاء، سنوات تحمل فاطمة فيها الذكرى كوطن داخلي واسع، يفوق الضيق، يحمل نار النكبة، نار حرق العجزة أحياء، نار الستين عاماً في الطيرة التي أصبحت قلباً ينبض في المنفى. كانت تشعر بأن الجبل يهمس لها في صوت الزينكو الذي يئن، يقول: "أنا أحمل ضيقك يا فاطمة، أحمل بردك وحرك، وأنتظر عودتك إلى فضائي". وكانت تبتسم، تمسح عرقها في الحر، أو ترتجف في البرد، تستمر في الحياة، رأسها مرفوع، عيناها تحملان الإرث، إرث الضيق الذي يبني الأجيال، إرث ستورثه حتى يأتي يوم ينتهي فيه المنفى، ويعودوا إلى الطيرة، إلى الفضاء الذي يليق بأرواحهم الواسعة.


5


مع حلول أواخر الثمانينيات في مخيم النيرب، أصبح المنفى كسجن من الزمن نفسه، سجن يضيق جدرانه يوماً بعد يوم، جدران بركسات المعسكر الفرنسي القديم التي لم تُبنَ للبشر بل للجنود العابرين، سقوف من الزينكو تئن تحت ثقل السنين، تحرق في الصيف كأفران لا ترحم، وتتسرب منها الرطوبة في الشتاء كأنها دموع السماء على أرواح محاصرة. كانت فاطمة تقترب من التسعين الآن، امرأة هزيلة الجسد كشجرة زيتون عانت عواصف لا تنتهي، خطوط وجهها عميقة كشقوق الجبل الذي لم ترَه منذ أربعين عاماً، لكن روحها لا تزال مشتعلة بنار الطيرة، نار الستين عاماً التي عاشتها هناك قبل أن تتحول إلى لهب يلتهم العجزة أحياء، صالح يصرخ في اللهب، عبد الرحمن يدعو بصوت يخفت تدريجياً، أجساد تتلوى في بيوت مغلقة كما في مئات القرى التي محيت بالنار ليفرغوا الأرض من أهلها. البركسة الضيقة، ذلك المكان الذي خصص للعائلة، غرفة واحدة لا تكاد تتسع للأنفاس، يتكدس فيها الأجيال، سرير ينام عليه الأحفاد فوق بعضهم، مطبخ صغير في الزاوية يدخن من موقد يعمل بالكاز، وجدران رقيقة تسمع منها همس الجيران، ضيق يخنق الأحلام لكنه يجبر على الحياة، يجعل الروح تتمدد داخلياً لتعوض عن الضيق الخارجي.

كانت فاطمة تستيقظ مع أول صوت للزينكو يسخن تحت شمس الصباح، تخرج إلى المدخل الضيق، تنظر إلى الساحة المزدحمة بين البركسات، تهمس دعاءً يتسلل من بين شقوق السقف: "يا رب، احفظنا في هذا الضيق الذي يضغط على الروح، واحفظ ذكرى الطيرة الواسعة، ذكرى العجزة الذين حرقوا أحياء في بيوتهم الفسيحة". ثم تعود، تضيء مصباحاً خافتاً، تجمع الأحفاد حولها على الأرض الضيقة، تروي لهم عن الطيرة كأنها تحكي عالماً سحرياً مفقوداً، عن البيوت الحجرية الواسعة التي كانت تتسع للضيوف والأحفاد، عن السقوف التي لا تحرق في الصيف ولا تغرق في الشتاء، عن وادي أبو الجاع الذي يجري ماؤه حرّاً. "كان الزينكو هذا"، تقول بصوت يحمل سخرية مريرة تخفي الشوق العميق، "لا يوجد في قريتنا، كنا نعيش في فضاء يتنفس، لا في غرفة ضيقة تتكدس فيها العائلة كأننا في قبر حي، يطبخ وينام ويبكي في المكان نفسه، يسمع بعضنا أنفاس بعض". وكانت الأطفال يستمعون، عيونهم واسعة من الدهشة، يتخيلون العالم الواسع، يسألون عن جد عادل الغائب، عن جد صالح الذي احترق في النار.

في الصيف، كان الزينكو يتحول إلى جحيم لا يرحم، حرارة تخنق التنفس، أجساد تتعرق حتى الثياب تلتصق بالجلد، أطفال يبكون من الحر الذي يحرق كأنه يذكر باللهب القديم. فاطمة تخرج مع النسوة إلى الساحات الضيقة، يجلسن في ظلال نادرة، يرششن الماء على وجوههن، يتحدثن عن الطيرة الباردة، عن الريح التي تهب من البحر تحمل برودة الجبل. "هذا الزينكو"، تقول فاطمة، صوتها يرتجف من الحر والغضب، "يحرقنا كل صيف، يذكرني بالنار التي أحرقت عجزتنا أحياء، حرقوهم في بيوتهم ليفرغوا الأرض، والآن يحرقنا الزينكو في الضيق هذا، غرفة واحدة لعائلة كاملة، يغلي الهواء فينا كأننا في تنور". وكانت النسوة يضحكن ضحكة قصيرة، ضحكة تخفي الدموع، دموع النساء اللواتي عشن عقوداً في البركسات، يتكدسن في الضيق، يحتضنن الأطفال ليلاً ليحموهم من الحر الذي يخنق الأحلام.

في الشتاء، كانت الرطوبة تتسرب من السقوف، قطرات باردة تسقط على الوجوه النائمة، تغرق الأرضية، يتجمع الجميع في زاوية جافة، يرتجفون من البرد الذي يتسلل كالثعبان. فاطمة تضم الأحفاد، تغني لهم أغنية قديمة من الطيرة، صوتها يتردد بين جدران الزينكو الرطبة، يمنح الدفء الذي لا يمنحه السقف. "كان الشتاء هناك حنوناً"، تهمس، عيناها تلمعان بدموع الذكرى، "الحطب يشتعل في المدفأة، والقصص تروى في فضاء واسع، لا رطوبة تغرقنا في الضيق، لا زينكو يئن فوق رؤوسنا كأنه يبكي على ضيقنا". وكانت الأطفال ينامون على صوتها، يحلمون بالطيرة الدافئة، غير عالمين أن الضيق يبني فيهم صموداً أقوى، صموداً ورثوه من جدة عاشت في الضيق عقوداً، تحمل الذكرى كدرع.

مع ذلك، كانت فاطمة تحافظ على الروح في البركسة الضيقة، تزرع ريحاناً في علب قديمة خارج المدخل، تخبز الخبز للجيران على صفيحة مشتركة، ترعى المرضى بأعشاب تجمعها، تعلم الفتيات كيف يطرزن ثياباً تشبه تطريز الطيرة. "الضيق لا يقتلنا"، تقول للأحفاد، صوتها يعلو في الغرفة الضيقة، "يجعلنا أقوى، كما جعلتنا النكبة أقوى، حرقوا عجزتنا أحياء، دمرونا، لكننا بنينا حياة في الزينكو هذا، في الضيق هذا، وسنعود يوماً إلى الفضاء الواسع". وكانت تغني، صوتها يتردد بين الجدران الرقيقة، يصل إلى البركسات المجاورة، يمنح الأمل في وسط الضيق.

هكذا مرت السنوات في ضيق النيرب، سنوات البركسات والزينكو الذي يحرق في الصيف ويغرق في الشتاء، سنوات تحمل فاطمة فيها الذكرى كوطن داخلي واسع، يفوق الضيق، يحمل نار النكبة، نار حرق العجزة أحياء، نار الستين عاماً في الطيرة التي أصبحت قلباً ينبض في المنفى. كانت تشعر بأن الجبل يهمس لها في صوت الزينكو الذي يئن، يقول: "أنا أحمل ضيقك يا فاطمة، أحمل بردك وحرك، وأنتظر عودتك إلى فضائي". وكانت تبتسم، تمسح عرقها في الحر، أو ترتجف في البرد، تستمر في الحياة، رأسها مرفوع، عيناها تحملان الإرث، إرث الضيق الذي يبني الأجيال، إرث ستورثه حتى يأتي يوم ينتهي فيه المنفى، ويعودوا إلى الطيرة، إلى الفضاء الذي يليق بأرواحهم الواسعة.


6


مع اقتراب نهاية الثمانينيات في مخيم النيرب، أصبح المنفى كلعنة قديمة تتجدد مع كل فجر، لعنة من بركسات المعسكر الفرنسي القديم التي لم تُبنَ للعائلات بل للجنود العابرين، سقوف من الزينكو تئن تحت ثقل الذكريات أكثر من ثقل السنين، تحرق في الصيف كأنها تذكر باللهب الذي أكل العجزة أحياء، وتتسرب منها الرطوبة في الشتاء كأنها دموع الجبل البعيد على أبنائه المهجرين. كانت فاطمة في التسعينيات من عمرها الآن، امرأة تجاوزت التسعين بقليل، جسدها هزيل كغصن زيتون جاف، لكن روحها لا تزال تقاوم كالجذور التي تخترق الصخر، عيناها غائرتان في وجه منحوت بالألم والشوق، لكن فيهما بريق خافت من نار الطيرة، نار الستين عاماً التي عاشتها هناك قبل أن تتحول إلى لهب يلتهم صالح وعبد الرحمن وكل العجزة في بيوت مغلقة، أجساد تتلوى في النار كما في مئات القرى التي محيت ليفرغوا الأرض من أهلها. البركسة الضيقة، ذلك المكان الذي خصص للعائلة، غرفة واحدة لا تكاد تتسع للأنفاس، يتكدس فيها الأجيال، سرير ينام عليه الأحفاد فوق بعضهم، مطبخ صغير في الزاوية يدخن من موقد يعمل بالكاز، وجدران رقيقة تسمع منها همس الجيران، ضيق يخنق الأحلام لكنه يجبر على الحياة، يجعل الروح تتمدد داخلياً لتعوض عن الضيق الخارجي.

كانت فاطمة تستيقظ مع أول صوت للزينكو يئن تحت قطرات المطر أو تحت حرارة الشمس، تخرج إلى المدخل الضيق، تنظر إلى الساحة المزدحمة بين البركسات، تهمس دعاءً يتسلل من بين شقوق السقف: "يا رب، احفظنا في هذا الضيق الذي يضغط على الروح كالقبر، واحفظ ذكرى الطيرة الواسعة، ذكرى العجزة الذين حرقوا أحياء في بيوتهم الفسيحة". ثم تعود، تضيء مصباحاً خافتاً، تجمع الأحفاد حولها على الأرض الضيقة، تروي لهم عن الطيرة كأنها تحكي عالماً سحرياً مفقوداً، عن البيوت الحجرية الواسعة التي كانت تتسع للضيوف والأحفاد، عن السقوف التي لا تحرق في الصيف ولا تغرق في الشتاء، عن وادي أبو الجاع الذي يجري ماؤه حرّاً. "كان الزينكو هذا"، تقول بصوت يحمل سخرية مريرة تخفي الشوق العميق، "لا يوجد في قريتنا، كنا نعيش في فضاء يتنفس، لا في غرفة ضيقة تتكدس فيها العائلة كأننا في قبر حي، يطبخ وينام ويبكي في المكان نفسه، يسمع بعضنا أنفاس بعض". وكانت الأطفال يستمعون، عيونهم واسعة من الدهشة، يتخيلون العالم الواسع، يسألون عن جد عادل الغائب، عن جد صالح الذي احترق في النار.

في الصيف، كان الزينكو يتحول إلى جحيم لا يرحم، حرارة تخنق التنفس، أجساد تتعرق حتى الثياب تلتصق بالجلد، أطفال يبكون من الحر الذي يحرق كأنه يذكر باللهب القديم. فاطمة تخرج مع النسوة إلى الساحات الضيقة، يجلسن في ظلال نادرة، يرششن الماء على وجوههن، يتحدثن عن الطيرة الباردة، عن الريح التي تهب من البحر تحمل برودة الجبل. "هذا الزينكو"، تقول فاطمة، صوتها يرتجف من الحر والغضب، "يحرقنا كل صيف، يذكرني بالنار التي أحرقت عجزتنا أحياء، حرقوهم في بيوتهم ليفرغوا الأرض، والآن يحرقنا الزينكو في الضيق هذا، غرفة واحدة لعائلة كاملة، يغلي الهواء فينا كأننا في تنور". وكانت النسوة يضحكن ضحكة قصيرة، ضحكة تخفي الدموع، دموع النساء اللواتي عشن عقوداً في البركسات، يتكدسن في الضيق، يحتضنن الأطفال ليلاً ليحموهم من الحر الذي يخنق الأحلام.

في الشتاء، كانت الرطوبة تتسرب من السقوف، قطرات باردة تسقط على الوجوه النائمة، تغرق الأرضية، يتجمع الجميع في زاوية جافة، يرتجفون من البرد الذي يتسلل كالثعبان. فاطمة تضم الأحفاد، تغني لهم أغنية قديمة من الطيرة، صوتها يتردد بين جدران الزينكو الرطبة، يمنح الدفء الذي لا يمنحه السقف. "كان الشتاء هناك حنوناً"، تهمس، عيناها تلمعان بدموع الذكرى، "الحطب يشتعل في المدفأة، والقصص تروى في فضاء واسع، لا رطوبة تغرقنا في الضيق، لا زينكو يئن فوق رؤوسنا كأنه يبكي على ضيقنا". وكانت الأطفال ينامون على صوتها، يحلمون بالطيرة الدافئة، غير عالمين أن الضيق يبني فيهم صموداً أقوى، صموداً ورثوه من جدة عاشت في الضيق عقوداً، تحمل الذكرى كدرع.

مع ذلك، كانت فاطمة تحافظ على الروح في البركسة الضيقة، تزرع ريحاناً في علب قديمة خارج المدخل، تخبز الخبز للجيران على صفيحة مشتركة، ترعى المرضى بأعشاب تجمعها، تعلم الفتيات كيف يطرزن ثياباً تشبه تطريز الطيرة. "الضيق لا يقتلنا"، تقول للأحفاد، صوتها يعلو في الغرفة الضيقة، "يجعلنا أقوى، كما جعلتنا النكبة أقوى، حرقوا عجزتنا أحياء، دمرونا، لكننا بنينا حياة في الزينكو هذا، في الضيق هذا، وسنعود يوماً إلى الفضاء الواسع". وكانت تغني، صوتها يتردد بين الجدران الرقيقة، يصل إلى البركسات المجاورة، يمنح الأمل في وسط الضيق.

هكذا مرت السنوات في ضيق النيرب، سنوات البركسات والزينكو الذي يحرق في الصيف ويغرق في الشتاء، سنوات تحمل فاطمة فيها الذكرى كوطن داخلي واسع، يفوق الضيق، يحمل نار النكبة، نار حرق العجزة أحياء، نار الستين عاماً في الطيرة التي أصبحت قلباً ينبض في المنفى. كانت تشعر بأن الجبل يهمس لها في صوت الزينكو الذي يئن، يقول: "أنا أحمل ضيقك يا فاطمة، أحمل بردك وحرك، وأنتظر عودتك إلى فضائي". وكانت تبتسم، تمسح عرقها في الحر، أو ترتجف في البرد، تستمر في الحياة، رأسها مرفوع، عيناها تحملان الإرث، إرث الضيق الذي يبني الأجيال، إرث ستورثه حتى يأتي يوم ينتهي فيه المنفى، ويعودوا إلى الطيرة، إلى الفضاء الذي يليق بأرواحهم الواسعة.




الفصل الخامس



1


مع حلول عام 1990 في مخيم النيرب، أصبح المنفى كقبر حي يضم الأحياء والموتى معاً، قبر من بركسات المعسكر الفرنسي القديم، سقوف من الزينكو تئن تحت ثقل السنين والذكريات، تحرق في الصيف كأنها تذكر باللهب الذي أكل العجزة أحياء، وتتسرب منها الرطوبة في الشتاء كأنها دموع الجبل على أبنائه المهجرين. كانت فاطمة في الثانية بعد المئة الآن، امرأة ولدت عام 1888 في الطيرة، عاشت فيها ستين عاماً كاملة، ثم أربعين في ضيق البركسات، جسدها هزيل كغصن زيتون جاف، لكن روحها لا تزال تقاوم كالجذور التي تخترق الصخر، عيناها غائرتان في وجه منحوت بالألم والشوق، لكن فيهما بريق خافت من نار الطيرة، نار الستين عاماً التي عاشتها هناك قبل أن تتحول إلى لهب يلتهم صالح وعبد الرحمن وكل العجزة في بيوت مغلقة، أجساد تتلوى في النار كما في مئات القرى التي محيت ليفرغوا الأرض من أهلها. البركسة الضيقة، ذلك المكان الذي خصص للعائلة، غرفة واحدة لا تكاد تتسع للأنفاس، يتكدس فيها الأجيال، سرير ينام عليه الأحفاد فوق بعضهم، مطبخ صغير في الزاوية يدخن من موقد يعمل بالكاز، وجدران رقيقة تسمع منها همس الجيران، ضيق يخنق الأحلام لكنه يجبر على الحياة، يجعل الروح تتمدد داخلياً لتعوض عن الضيق الخارجي.

كانت فاطمة تشعر بالمرض يتسلل إليها ببطء، حمى خفيفة في البداية، ثم أقوى، تجعل جسدها يرتجف في البرد أو يحترق في الحر، كأن الزينكو نفسه يحرقها من الداخل تذكيراً بالنار القديمة. في تلك الأيام، بدأت تتحدث كأنها لم ترحل يوماً، كأن البركسة الضيقة تحولت إلى بيت الطيرة الواسع، كأن الزينكو سقف حجري بارد، كأن المخيم جبل الكرمل نفسه. حمدة، ابنتها التي أصبحت في منتصف العمر، تجلس بجانبها في الغرفة الضيقة، تمسح جبينها بقطعة قماش مبللة، تسمع أمها تهمس بكلمات غريبة، كأنها في عالم آخر. "حمدة"، تقول فاطمة بصوت ضعيف لكنه واضح، عيناها مفتوحتان على عالم لا تراه حمدة، "اليوم يوم حصاد، اذهبي إلى وادي أبو الجاع، قضي أمورنا هناك، الينبوع ينتظر، عادل ينتظر". وكانت حمدة تبكي صامتاً، تمسك يد أمها الهزيلة، ترد: "نعم يا أمي، سأذهب، لكن ابقي معي، لا تذهبي أنتِ".

في الحمى، كانت فاطمة تعود إلى الطيرة كاملة، ترى البيوت الحجرية، تسمع صوت الديكة في الفجر، رائحة الخبز على التنور، صوت عادل يناديها من الحقل. "حمدة"، تهمس مجدداً، جسدها يرتجف من الحمى، "اذهبي إلى وادي أبو الجاع، قضي أمورنا، الزيتون ناضج، والعجزة ينتظرون، صالح يقول القهوة جاهزة". وكانت حمدة تسمع، قلبها يتمزق، تتذكر كيف روت لها أمها عن الوادي، مكان الحب والأسرار، مكان كان عادل وفاطمة يلتقيان فيه سراً، يبنيان حلم العمر. الآن، في البركسة الضيقة، تحت سقف الزينكو الذي يئن، تعود فاطمة إلى هناك، كأن الحمى فتحت باباً إلى الطيرة، باباً يغلق على المنفى.

الأحفاد يتجمعون حول السرير، ينظرون إلى جدتهم بقلق، يسمعون كلماتها الغريبة، عن الطيرة، عن العجزة الذين حرقوا أحياء، عن وادي أبو الجاع الذي يجب قضاء الأمور فيه. حمدة تهدئهم، تقول: "جدتكم تعود إلى وطنها، إلى الطيرة، الحمى تأخذها إلى هناك". وكانت فاطمة تبتسم ابتسامة خافتة، عيناها تتلألأن كأنها ترى الجبل، تهمس: "نعم، يا حمدة، أنا في الطيرة، الزينكو هذا سقف بيتنا، والضيق فضاء الجبل، اذهبي إلى الوادي، قضي أمورنا، عادل يقول الينبوع بارد". وكانت حمدة تبكي، تمسك يدها، تشعر بأن أمها ترحل ببطء، ترحل إلى الطيرة التي لم ترحل عن قلبها يوماً.

في تلك الأيام من الحمى، كانت فاطمة تعيش الطيرة مجدداً، ترى عادل يعود من الحقل، صالح يجلس على العتبة، عبد الرحمن يقرأ في الجامع، نظمية تضحك في الساحة. "حمدة"، تقول بصوت أقوى قليلاً، "لا تبكي، أنا سعيدة، عدت إلى الطيرة، إلى وادي أبو الجاع، قضي أمورنا هناك، الزيتون ينتظر، والعجزة يبتسمون". وكانت حمدة تسمع، قلبها يتمزق، تتذكر كيف روت لها أمها عن النكبة، عن حرق العجزة أحياء، عن الرحيل، لكن الآن، في الحمى، تعود أمها إلى ما قبل النار، إلى الحياة الواسعة.

البركسة الضيقة كانت مفعمة بالحزن، الزينكو يئن فوق الرؤوس، الجدران الرقيقة تسمع منها بكاء الجيران، لكن فاطمة في عالمها، سعيدة، تهمس عن الطيرة، عن العودة. حمدة تجلس بجانبها ليلاً ونهاراً، تمسح جبينها، تسمع كلماتها، تحمل الوصية: "قضي أمورنا في وادي أبو الجاع". وكانت تشعر بأن أمها ترحل، ترحل إلى الطيرة، إلى عادل، إلى صالح، إلى العجزة الذين حرقوا أحياء، ترحل إلى وطن لم يغب عن قلبها يوماً.

هكذا بدأت أيام الحمى الأخيرة، أيام تعود فيها فاطمة إلى الطيرة كاملة، في البركسة الضيقة تحت الزينكو، كأن المنفى يتلاشى، والطيرة تعود. كانت تشعر بالسلام، سلام الذي عاشت من أجله، سلام العودة إلى الجبل، إلى الوادي، إلى الحياة التي محيت بالنار لكنها بقيت في القلب. وكان الجبل، من بعيد، يهمس لها في أحلامها، يقول: "تعالي يا فاطمة، تعالي، أنا أحملك منذ الولادة، وسأحملك إلى الأبد". وكانت تبتسم، تنتظر اللحظة، لحظة اللقاء الأخير مع الطيرة.



2

مع تفاقم الحمى في تلك الأيام الأخيرة من عام 1990، أصبحت البركسة الضيقة في مخيم النيرب كقبر حي يضم الأحياء والموتى معاً، سقف من الزينكو يئن تحت حرارة الشمس أو رطوبة المطر، جدران رقيقة تتسرب منها أصوات الجيران كأن الضيق يجمع الأرواح في حضن واحد لا يفلت. كانت فاطمة غارقة في الحمى، جسدها الهزيل يرتجف على السرير الضيق الذي يتكدس عليه الأحفاد أحياناً، عيناها مفتوحتان على عالم بعيد، عالم الطيرة الواسعة التي لم تغب عن قلبها يوماً، رغم أربعين عاماً في ضيق البركسات، ضيق يخنق الجسد لكنه يوسع الروح، يجعل الذكرى وطناً داخلياً يفوق الزينكو والجدران الرقيقة. حمدة تجلس بجانبها ليلاً ونهاراً، تمسح جبينها بقطعة قماش مبللة، تسمع أمها تهمس بكلمات تأتي من عالم آخر، كأن الحمى فتحت باباً إلى الطيرة، باباً يغلق على المنفى والزينكو الذي يحرق أو يغرق.

"حمدة"، تهمس فاطمة بصوت أضعف، لكنه يحمل قوة السنين الستين في الطيرة، "اذهبي إلى وادي أبو الجاع، قضي أمورنا، الينبوع بارد اليوم، عادل ينتظر مع الزيتون، والعجزة يجلسون في الساحة، صالح يقول القهوة جاهزة". وكانت حمدة تمسك يدها الهزيلة، دموعها تسيل صامتة على وجهها، ترد بصوت يرتجف: "نعم يا أمي، سأقضي الأمور، لكن ابقي معي، لا تذهبي إلى الوادي بدوني". لكن فاطمة تبتسم ابتسامة خافتة، عيناها تتلألأن كأنها ترى الينبوع يجري، ترى عادل يقف تحت الخروب، يمد يده لها كما في شبابهما، تهمس: "أنا ذاهبة يا بنتي، الطيرة تناديني، الزينكو هذا سقف بيتنا، والضيق فضاء الجبل، قضي أمورنا في الوادي، الينبوع يعرف".

الأحفاد يتجمعون في البركسة الضيقة، ينظرون إلى جدتهم بقلق، يسمعون كلماتها الغريبة، عن وادي أبو الجاع الذي يجب قضاء الأمور فيه، عن عادل الذي ينتظر، عن العجزة الذين لم يحترقوا في خيالها، بل يجلسون في الساحة يشربون القهوة. حمدة تهدئهم، تقول بصوت مكسور: "جدتكم تعود إلى وطنها، إلى الطيرة، الحمى تأخذها إلى هناك قبلنا". وكانت فاطمة تسمع، تبتسم، تهمس: "نعم، يا حمدة، أنا في الطيرة، البركسة هذه بيتنا الواسع، والزينكو سقف حجري، اذهبي إلى الوادي، قضي أمورنا، الزيتون ناضج، والحب ينتظر". وكانت حمدة تبكي، تمسك يدها، تشعر بأن أمها ترحل ببطء، ترحل إلى عالم لا ضيق فيه، عالم الستين عاماً قبل النار.

في الحمى، كانت فاطمة تعيش الطيرة كأنها اليوم، ترى عادل يعود من الحقل، يحمل سلة زيتون، يقبلها في الوادي، يهمس باسمها كما في الشباب. "حمدة"، تقول بصوت أقوى قليلاً، جسدها يرتجف، "عادل يقول الينبوع بارد، اذهبي قضي أمورنا، العجزة يضحكون، صالح يروي قصة، لا تحزني، أنا سعيدة". وكانت حمدة تسمع، قلبها يتمزق، تتذكر كيف روت لها أمها عن حرق العجزة أحياء، عن النار التي محت الطيرة، لكن في الحمى، تعود أمها إلى ما قبل، إلى الحياة الخصبة، إلى الحب الذي لم يمت.

البركسة الضيقة كانت مفعمة بالحزن، الزينكو يئن فوق الرؤوس كأنه يبكي معهم، الجدران الرقيقة تسمع منها بكاء الجيران الذين يعرفون أن فاطمة ترحل، فاطمة عماد المخيم، جدة الجميع. حمدة تجلس بجانبها، تمسح جبينها، تسمع الوصية تتكرر: "قضي أمورنا في وادي أبو الجاع، الينبوع يعرف، عادل يعرف". وكانت تشعر بأن أمها سعيدة، سعيدة في عودتها إلى الطيرة، إلى عادل، إلى صالح، إلى العجزة الذين لم يحترقوا في خيالها، بل يعيشون في الوادي، ينتظرون.

هكذا استمرت أيام الحمى، أيام تعود فيها فاطمة إلى الطيرة كاملة، في البركسة الضيقة تحت الزينكو، كأن المنفى يتلاشى، والطيرة تعود. كانت تشعر بالسلام، سلام الذي عاشت من أجله، سلام العودة إلى الجبل، إلى الوادي، إلى الحياة التي محيت بالنار لكنها بقيت في القلب. وكان الجبل، من بعيد، يهمس لها في أحلامها، يقول: "تعالي يا فاطمة، تعالي، أنا أحملك منذ الولادة، وسأحملك إلى الأبد". وكانت تبتسم، تنتظر اللحظة، لحظة اللقاء الأخير مع الطيرة، مع عادل، مع الينبوع الذي يعرف أسرارها، مع الأرض التي لم تخن يوماً.


3


مع تفاقم الحمى في تلك الأيام الأخيرة من عام 1990، أصبحت البركسة الضيقة في مخيم النيرب كمرآة تعكس عالماً مزدوجاً، عالم المنفى القاسي بجدرانه الرقيقة وسقفه من الزينكو الذي يئن تحت الريح كأنه يبكي على الضيق، وعالم الطيرة الواسع الذي يعود في حمى فاطمة كحلم لا ينتهي. كانت فاطمة غارقة أعمق في الحمى، جسدها الهزيل يرتعش على السرير الضيق الذي يتكدس عليه الأحفاد أحياناً، تنفسها ثقيلاً كأنها تحمل ثقل الستين عاماً في الطيرة وأربعين في المنفى، عيناها مفتوحتان على الوادي الذي لا تراه حمدة، وادي أبو الجاع يجري ماؤه بارداً، عادل يقف هناك يمد يده، يبتسم ابتسامة الشباب الأول. حمدة تجلس بجانبها، يدها في يد أمها، تمسح جبينها بقطعة قماش مبللة، تسمع الهمس يتكرر كوصية مقدسة: "حمدة، اذهبي إلى وادي أبو الجاع، قضي أمورنا، الينبوع يعرف، عادل يقول الزيتون ناضج، والعجزة يجلسون في الساحة، صالح يضحك، لا تحزني يا بنتي، أنا سعيدة".

في تلك اللحظات، كانت فاطمة تعيش الطيرة كأنها الحاضر الوحيد، البركسة الضيقة تتحول في خيالها إلى بيت حجري واسع، الزينكو سقفاً يحمي لا يخنق، الضيق فضاء الجبل الشاسع. "حمدة"، تهمس بصوت أضعف، لكنه يحمل قوة الحب الأزلي، "قضي أمورنا في الوادي، عادل ينتظر، يقول الينبوع بارد، والخروب يظللنا، والعجزة يروون قصصاً، لم يحرقوا، يا بنتي، في قلبي لم يحرقوا". وكانت حمدة تبكي، دموعها تسيل على يد أمها، ترد بصوت يخنقه الحزن: "نعم يا أمي، سأقضي الأمور، سأذهب إلى الوادي يوماً، لكن ابقي معي، لا تتركيني في الضيق هذا، في البركسة التي تضغط على الصدر". لكن فاطمة تبتسم، ابتسامة سلام عميق، عيناها تتلألأن كأنها ترى الينبوع يلمع تحت الشمس، تهمس: "الضيق انتهى يا حمدة، أنا في الطيرة، الزينكو هذا سقف بيتنا، والمخيم جبلنا، قضي أمورنا، الينبوع يعرف كل شيء".

الأحفاد يتجمعون في البركسة الضيقة، ينظرون إلى جدتهم بقلوب مثقلة، يسمعون كلماتها عن الوادي، عن عادل، عن العجزة الذين لم يحترقوا في خيالها، بل يعيشون في الساحة يشربون القهوة. حمدة تهدئهم، تقول بصوت مكسور: "جدتكم سعيدة، تعود إلى وطنها، إلى الطيرة الواسعة، إلى وادي أبو الجاع الذي يحمل أسرارها". وكانت فاطمة تسمع، تمد يدها الهزيلة، تمسح رأس حفيد صغير، تهمس: "لا تبكوا يا أولادي، أنا ذاهبة إلى الطيرة، إلى عادل، إلى صالح، قضوا أموركم في الوادي يوماً، الينبوع ينتظركم". وكانت الأطفال يبكون، يتذكرون قصصها عن الحب في الوادي، عن الحياة قبل النار.

في الحمى، كانت فاطمة ترى الطيرة كأنها لم تحترق، ترى عادل يقترب، يمسك يدها كما في الشباب، يقول: "تعالي يا فاطمة، الينبوع بارد، قضينا أمورنا". وكانت تبتسم، جسدها يرتخي قليلاً، تهمس لحمدة: "عادل جاء، يا بنتي، يقول قضي أمورنا في الوادي، لا تحزني، أنا سعيدة". وكانت حمدة تشعر بالرحيل يقترب، تمسك يدها بقوة، تبكي: "لا تذهبي يا أمي، ابقي معنا في الضيق هذا، في البركسة، حتى نعود معاً". لكن فاطمة تهز رأسها بلطف، عيناها تتلألأن بسلام، تهمس: "الضيق انتهى، يا حمدة، أنا في الطيرة، في الوادي، قضي أمورنا، الينبوع يعرف".

البركسة الضيقة كانت مفعمة بحزن عميق، الزينكو يئن فوق الرؤوس كأنه يودع، الجدران الرقيقة تسمع منها بكاء الجيران الذين يعرفون أن فاطمة ترحل، فاطمة التي كانت عماد الجميع في المنفى. حمدة تجلس بجانبها، تسمع الوصية تتكرر كترنيمة أخيرة: "قضي أمورنا في وادي أبو الجاع، الينبوع يعرف، عادل يعرف، صالح يعرف". وكانت تشعر بأن أمها سعيدة حقاً، سعيدة في عودتها إلى الطيرة، إلى الحياة الواسعة، إلى الحب الذي لم يمت.

هكذا استمرت أيام الحمى، أيام تعود فيها فاطمة إلى الطيرة كاملة، في البركسة الضيقة تحت الزينكو، كأن المنفى يتلاشى، والطيرة تعود. كانت تشعر بالسلام، سلام الذي عاشت من أجله، سلام العودة إلى الجبل، إلى الوادي، إلى عادل، إلى الحياة التي محيت بالنار لكنها بقيت في القلب. وكان الجبل، من بعيد، يهمس لها في أحلامها، يقول: "تعالي يا فاطمة، تعالي، أنا أحملك منذ الولادة، وسأحملك إلى الأبد". وكانت تبتسم، تنتظر اللحظة، لحظة اللقاء الأخير مع الطيرة، مع الينبوع الذي يعرف أسرارها، مع الأرض التي لم تخن يوماً، مع الحب الذي صمد أمام النار والمنفى.


4


مع تعمق الحمى في تلك الأيام الأخيرة من عام 1990، أصبحت البركسة الضيقة في مخيم النيرب كقبر يضم الحياة والموت في حضن واحد، سقف من الزينكو يئن تحت برد الشتاء كأنه يبكي على الضيق الذي يخنق الأنفاس، جدران رقيقة تتسرب منها رطوبة تخترق العظام، غرفة واحدة تتكدس فيها العائلة كأنها في صندوق من الذكريات والألم. كانت فاطمة غارقة أعمق في عالمها، جسدها الهزيل يرتعش على السرير الضيق، تنفسها ثقيلاً كأنها تحمل ثقل الستين عاماً في الطيرة وأربعين في المنفى، عيناها مفتوحتان على الوادي الذي يدعوها، وادي أبو الجاع يجري ماؤه بارداً، عادل يقف هناك يمد يده، يبتسم ابتسامة الحب الأزلي، والعجزة يجلسون في الساحة يروون قصصاً، صالح يضحك، عبد الرحمن يدعو، كأن النار لم تمسهم في خيالها، بل بقوا أحياء في قلبها. حمدة تجلس بجانبها، يدها في يد أمها، تمسح جبينها بقطعة قماش مبللة، تسمع الهمس يتكرر كترنيمة وداع: "حمدة، اذهبي إلى وادي أبو الجاع، قضي أمورنا، الينبوع يعرف، عادل يقول الزيتون ناضج، والعجزة ينتظرون، لا تحزني يا بنتي، أنا ذاهبة إلى الطيرة".

في تلك اللحظات، كانت فاطمة تعيش الطيرة كأنها الحقيقة الوحيدة، البركسة الضيقة تتحول في حماها إلى بيت حجري واسع، الزينكو سقفاً يحمي لا يخنق، الضيق فضاء الجبل الشاسع حيث تهب الريح حرة. "حمدة"، تهمس بصوت أضعف، لكنه يحمل قوة الحب الذي صمد أمام النار، "قضي أمورنا في الوادي، عادل جاء، يمسك يدي، يقول الينبوع بارد، والخروب يظللنا، والعجزة يضحكون، صالح يروي قصة عن الشباب، لم يحرقوا يا بنتي، في قلبي لم يحرقوا". وكانت حمدة تمسك يدها بقوة، دموعها تسيل على السرير الضيق، ترد بصوت يخنقه الحزن: "نعم يا أمي، سأقضي الأمور، سأذهب إلى الوادي يوماً، لكن ابقي معي، لا تتركيني في الضيق هذا، في البركسة التي تضغط على الصدر كالقبر". لكن فاطمة تهز رأسها بلطف، عيناها تتلألأن بسلام عميق، تهمس: "الضيق انتهى يا حمدة، أنا في الطيرة، في الوادي، عادل ينتظر، قضي أمورنا، الينبوع يعرف كل شيء".

الأحفاد يتجمعون في البركسة الضيقة، ينظرون إلى جدتهم بقلوب مثقلة، يسمعون كلماتها عن الوادي، عن عادل، عن العجزة الذين يعيشون في الساحة، يشربون القهوة، يضحكون. حمدة تهدئهم، تقول بصوت مكسور: "جدتكم سعيدة، تعود إلى وطنها، إلى الطيرة الواسعة، إلى وادي أبو الجاع الذي يحمل أسرار حبها". وكانت فاطمة تمد يدها الهزيلة، تمسح رأس حفيد صغير، تهمس: "لا تبكوا يا أولادي، أنا ذاهبة إلى الطيرة، إلى عادل، إلى صالح، قضوا أموركم في الوادي يوماً، الينبوع ينتظركم، يعرف أسماءكم". وكانت الأطفال يبكون، يتذكرون قصصها عن الحب في الوادي، عن الحياة قبل النار، يشعرون بأن جدتهم ترحل إلى عالم أجمل، عالم لا ضيق فيه، لا زينكو يئن.

في الحمى، كانت فاطمة ترى عادل يقترب أكثر، يمسك يدها، يقول بصوته الذي لم يغب عن قلبها: "تعالي يا فاطمة، قضينا أمورنا في الوادي، الينبوع بارد، والعجزة يبتسمون". وكانت تبتسم، جسدها يرتخي، تهمس لحمدة: "عادل جاء، يا بنتي، يقول قضي أمورنا، لا تحزني، أنا سعيدة، الطيرة تنتظرني". وكانت حمدة تشعر بالرحيل يقترب، تمسك يدها بقوة أكبر، تبكي: "لا تذهبي يا أمي، ابقي معنا في الضيق هذا، حتى نعود معاً إلى الوادي". لكن فاطمة تهز رأسها، عيناها تغلقان ببطء، تهمس آخر كلمات: "الضيق انتهى، يا حمدة، أنا في الطيرة، في الوادي، قضي أمورنا، الينبوع يعرف".

البركسة الضيقة كانت مفعمة بحزن عميق، الزينكو يئن فوق الرؤوس كأنه يودع، الجدران الرقيقة تسمع منها بكاء الجيران الذين يعرفون أن فاطمة ترحل، فاطمة التي كانت عماد الجميع في المنفى. حمدة تجلس بجانبها، تسمع التنفس يضعف، تحمل الوصية كإرث مقدس: "قضي أمورنا في وادي أبو الجاع، الينبوع يعرف". وكانت تشعر بأن أمها سعيدة حقاً، سعيدة في عودتها إلى الطيرة، إلى الحياة الواسعة، إلى الحب الذي لم يمت.

هكذا استمرت أيام الحمى، أيام تعود فيها فاطمة إلى الطيرة كاملة، في البركسة الضيقة تحت الزينكو، كأن المنفى يتلاشى، والطيرة تعود. كانت تشعر بالسلام، سلام الذي عاشت من أجله، سلام العودة إلى الجبل، إلى الوادي، إلى عادل، إلى الحياة التي محيت بالنار لكنها بقيت في القلب. وكان الجبل، من بعيد، يهمس لها في أحلامها، يقول: "تعالي يا فاطمة، تعالي، أنا أحملك منذ الولادة، وسأحملك إلى الأبد". وكانت تبتسم، تنتظر اللحظة، لحظة اللقاء الأخير مع الطيرة، مع الينبوع الذي يعرف أسرارها، مع الأرض التي لم تخن يوماً، مع الحب الذي صمد أمام النار والمنفى.



5


مع تفاقم الحمى في تلك الأيام الأخيرة من عام 1990، أصبحت البركسة الضيقة في مخيم النيرب كمرقد أخير يجمع بين الضيق الخارجي والفضاء الداخلي الشاسع، سقف من الزينكو يئن تحت قطرات المطر الباردة كأنها دموع السماء على المهجرين، جدران رقيقة تتسرب منها رطوبة تخترق العظام، غرفة واحدة تتكدس فيها العائلة كأنها في حضن أم حنون لكنها قاسية، سرير ضيق ينام عليه الأجيال فوق بعضهم، مطبخ صغير في الزاوية يدخن من موقد يعمل بالكاز، ضيق يخنق الجسد لكنه يوسع الروح، يجعل الذكرى وطناً يفوق البركسات والزينكو. كانت فاطمة غارقة أعمق في الحمى، جسدها الهزيل يرتعش على السرير، تنفسها ثقيلاً كأنها تحمل ثقل الستين عاماً في الطيرة وأربعين في المنفى، عيناها مفتوحتان على الوادي الذي يدعوها بإلحاح، وادي أبو الجاع يجري ماؤه بارداً، عادل يقف هناك يمد يده بابتسامة الحب الأزلي، والعجزة يجلسون في الساحة يروون قصصاً، صالح يضحك كأنه لم يحترق يوماً، عبد الرحمن يدعو بصوت يهدئ القلوب. حمدة تجلس بجانبها، يدها في يد أمها، تمسح جبينها بقطعة قماش مبللة، تسمع الهمس يتكرر كوصية مقدسة: "حمدة، اذهبي إلى وادي أبو الجاع، قضي أمورنا، الينبوع يعرف، عادل يقول الزيتون ناضج، والعجزة ينتظرون، لا تحزني يا بنتي، أنا ذاهبة إلى الطيرة".

في تلك اللحظات، كانت فاطمة تعيش الطيرة كأنها الحقيقة الوحيدة، البركسة الضيقة تتحول في حماها إلى بيت حجري واسع، الزينكو سقفاً يحمي لا يخنق، الضيق فضاء الجبل الشاسع حيث تهب الريح حرة تحمل رائحة الزيتون. "حمدة"، تهمس بصوت أضعف، لكنه يحمل قوة الحب الذي صمد أمام النار، "قضي أمورنا في الوادي، عادل جاء، يمسك يدي، يقول الينبوع بارد، والخروب يظللنا، والعجزة يضحكون، صالح يروي قصة عن الشباب، لم يحرقوا يا بنتي، في قلبي لم يحرقوا". وكانت حمدة تمسك يدها بقوة، دموعها تسيل على السرير الضيق، ترد بصوت يخنقه الحزن: "نعم يا أمي، سأقضي الأمور، سأذهب إلى الوادي يوماً، لكن ابقي معي، لا تتركيني في الضيق هذا، في البركسة التي تضغط على الصدر كالقبر". لكن فاطمة تهز رأسها بلطف، عيناها تتلألأن بسلام عميق، تهمس: "الضيق انتهى يا حمدة، أنا في الطيرة، في الوادي، عادل ينتظر، قضي أمورنا، الينبوع يعرف كل شيء".

الأحفاد يتجمعون في البركسة الضيقة، ينظرون إلى جدتهم بقلوب مثقلة، يسمعون كلماتها عن الوادي، عن عادل، عن العجزة الذين يعيشون في الساحة، يشربون القهوة، يضحكون. حمدة تهدئهم، تقول بصوت مكسور: "جدتكم سعيدة، تعود إلى وطنها، إلى الطيرة الواسعة، إلى وادي أبو الجاع الذي يحمل أسرار حبها". وكانت فاطمة تمد يدها الهزيلة، تمسح رأس حفيد صغير، تهمس: "لا تبكوا يا أولادي، أنا ذاهبة إلى الطيرة، إلى عادل، إلى صالح، قضوا أموركم في الوادي يوماً، الينبوع ينتظركم، يعرف أسماءكم". وكانت الأطفال يبكون، يتذكرون قصصها عن الحب في الوادي، عن الحياة قبل النار، يشعرون بأن جدتهم ترحل إلى عالم أجمل، عالم لا ضيق فيه، لا زينكو يئن.

في الحمى، كانت فاطمة ترى عادل يقترب أكثر، يمسك يدها، يقول بصوته الذي لم يغب عن قلبها: "تعالي يا فاطمة، قضينا أمورنا في الوادي، الينبوع بارد، والعجزة يبتسمون". وكانت تبتسم، جسدها يرتخي، تهمس لحمدة: "عادل جاء، يا بنتي، يقول قضي أمورنا، لا تحزني، أنا سعيدة، الطيرة تنتظرني". وكانت حمدة تشعر بالرحيل يقترب، تمسك يدها بقوة أكبر، تبكي: "لا تذهبي يا أمي، ابقي معنا في الضيق هذا، حتى نعود معاً إلى الوادي". لكن فاطمة تهز رأسها، عيناها تغلقان ببطء، تهمس آخر كلمات: "الضيق انتهى، يا حمدة، أنا في الطيرة، في الوادي، قضي أمورنا، الينبوع يعرف".

البركسة الضيقة كانت مفعمة بحزن عميق، الزينكو يئن فوق الرؤوس كأنه يودع، الجدران الرقيقة تسمع منها بكاء الجيران الذين يعرفون أن فاطمة ترحل، فاطمة التي كانت عماد الجميع في المنفى. حمدة تجلس بجانبها، تسمع التنفس يضعف، تحمل الوصية كإرث مقدس: "قضي أمورنا في وادي أبو الجاع، الينبوع يعرف". وكانت تشعر بأن أمها سعيدة حقاً، سعيدة في عودتها إلى الطيرة، إلى الحياة الواسعة، إلى الحب الذي لم يمت.

هكذا استمرت أيام الحمى، أيام تعود فيها فاطمة إلى الطيرة كاملة، في البركسة الضيقة تحت الزينكو، كأن المنفى يتلاشى، والطيرة تعود. كانت تشعر بالسلام، سلام الذي عاشت من أجله، سلام العودة إلى الجبل، إلى الوادي، إلى عادل، إلى الحياة التي محيت بالنار لكنها بقيت في القلب. وكان الجبل، من بعيد، يهمس لها في أحلامها، يقول: "تعالي يا فاطمة، تعالي، أنا أحملك منذ الولادة، وسأحملك إلى الأبد". وكانت تبتسم، تنتظر اللحظة، لحظة اللقاء الأخير مع الطيرة، مع الينبوع الذي يعرف أسرارها، مع الأرض التي لم تخن يوماً، مع الحب الذي صمد أمام النار والمنفى.



6


مع اقتراب النهاية في تلك الأيام الأخيرة من عام 1990، أصبحت البركسة الضيقة في مخيم النيرب كمرقد أخير يجمع بين المنفى والوطن في حضن واحد، سقف من الزينكو يئن تحت قطرات المطر الباردة كأنها دموع السماء على المهجرين، جدران رقيقة تتسرب منها رطوبة تخترق العظام، غرفة واحدة تتكدس فيها العائلة كأنها في قبر حي، سرير ضيق ينام عليه الأجيال فوق بعضهم، مطبخ صغير في الزاوية يدخن من موقد يعمل بالكاز، ضيق يخنق الجسد لكنه يوسع الروح، يجعل الذكرى وطناً يفوق البركسات والزينكو. كانت فاطمة في أعمق غياهب الحمى، جسدها الهزيل يرتعش على السرير، تنفسها ضعيفاً كأنها تودع الهواء نفسه، عيناها مفتوحتان على الوادي الذي يدعوها بإلحاح أخير، وادي أبو الجاع يجري ماؤه بارداً، عادل يقف هناك يمد يده بابتسامة الحب الأزلي، والعجزة يجلسون في الساحة يروون قصصاً، صالح يضحك كأنه لم يحترق يوماً، عبد الرحمن يدعو بصوت يهدئ القلوب. حمدة تجلس بجانبها، يدها في يد أمها، تمسح جبينها بقطعة قماش مبللة، تسمع الهمس يتكرر كترنيمة وداع أخيرة: "حمدة، اذهبي إلى وادي أبو الجاع، قضي أمورنا، الينبوع يعرف، عادل يقول الزيتون ناضج، والعجزة ينتظرون، لا تحزني يا بنتي، أنا ذاهبة إلى الطيرة".

في تلك اللحظات الأخيرة، كانت فاطمة تعيش الطيرة كأنها الحقيقة الوحيدة، البركسة الضيقة تتحول في حماها إلى بيت حجري واسع، الزينكو سقفاً يحمي لا يخنق، الضيق فضاء الجبل الشاسع حيث تهب الريح حرة تحمل رائحة الزيتون. "حمدة"، تهمس بصوت أضعف، لكنه يحمل قوة الحب الذي صمد أمام النار، "قضي أمورنا في الوادي، عادل جاء، يمسك يدي، يقول الينبوع بارد، والخروب يظللنا، والعجزة يضحكون، صالح يروي قصة عن الشباب، لم يحرقوا يا بنتي، في قلبي لم يحرقوا". وكانت حمدة تمسك يدها بقوة، دموعها تسيل على السرير الضيق، ترد بصوت يخنقه الحزن: "نعم يا أمي، سأقضي الأمور، سأذهب إلى الوادي يوماً، لكن ابقي معي، لا تتركيني في الضيق هذا، في البركسة التي تضغط على الصدر كالقبر". لكن فاطمة تهز رأسها بلطف، عيناها تتلألأن بسلام عميق، تهمس: "الضيق انتهى يا حمدة، أنا في الطيرة، في الوادي، عادل ينتظر، قضي أمورنا، الينبوع يعرف كل شيء".

الأحفاد يتجمعون في البركسة الضيقة، ينظرون إلى جدتهم بقلوب مثقلة، يسمعون كلماتها عن الوادي، عن عادل، عن العجزة الذين يعيشون في الساحة، يشربون القهوة، يضحكون. حمدة تهدئهم، تقول بصوت مكسور: "جدتكم سعيدة، تعود إلى وطنها، إلى الطيرة الواسعة، إلى وادي أبو الجاع الذي يحمل أسرار حبها". وكانت فاطمة تمد يدها الهزيلة، تمسح رأس حفيد صغير، تهمس: "لا تبكوا يا أولادي، أنا ذاهبة إلى الطيرة، إلى عادل، إلى صالح، قضوا أموركم في الوادي يوماً، الينبوع ينتظركم، يعرف أسماءكم". وكانت الأطفال يبكون، يتذكرون قصصها عن الحب في الوادي، عن الحياة قبل النار، يشعرون بأن جدتهم ترحل إلى عالم أجمل، عالم لا ضيق فيه، لا زينكو يئن.

في الحمى، كانت فاطمة ترى عادل يقترب أكثر، يمسك يدها، يقول بصوته الذي لم يغب عن قلبها: "تعالي يا فاطمة، قضينا أمورنا في الوادي، الينبوع بارد، والعجزة يبتسمون". وكانت تبتسم، جسدها يرتخي، تنفسها يبطئ، تهمس لحمدة: "عادل جاء، يا بنتي، يقول قضي أمورنا، لا تحزني، أنا سعيدة، الطيرة تنتظرني". وكانت حمدة تشعر بالرحيل يقترب، تمسك يدها بقوة أكبر، تبكي: "لا تذهبي يا أمي، ابقي معنا في الضيق هذا، حتى نعود معاً إلى الوادي". لكن فاطمة تهز رأسها، عيناها تغلقان ببطء، تهمس آخر كلمات: "الضيق انتهى، يا حمدة، أنا في الطيرة، في الوادي، قضي أمورنا، الينبوع يعرف".

ثم سكتت، تنفسها يتوقف بلطف، جسدها يرتخي كأنه يذوب في السرير الضيق، روحها ترحل إلى الطيرة، إلى عادل، إلى الوادي، إلى العجزة الذين لم يحترقوا في قلبها. حمدة تضمها، تبكي بصوت عالٍ يتردد في البركسة، يصل إلى الجيران، يملأ المخيم بحزن عميق. ماتت فاطمة في البركسة الضيقة تحت الزينكو، ماتت في المنفى، لكنها عادت إلى الطيرة في آخر نفس، عادت إلى الستين عاماً من الحياة الواسعة، إلى الحب الذي لم يمت، إلى الوادي الذي قضت فيه أمورها.

البركسة الضيقة امتلأت بالبكاء، الزينكو يئن كأنه يبكي معهم، الجدران الرقيقة تسمع منها عويل الجيران، عويل على فاطمة التي كانت عماد الجميع. حمدة تضم جسد أمها، تهمس الوصية: "سأقضي أمورنا في وادي أبو الجاع، يا أمي، سأذهب يوماً، الينبوع يعرف". وكانت تشعر بأن أمها سعيدة، سعيدة في رحيلها إلى الطيرة، إلى الحياة الواسعة، إلى الحب الذي لم يمت.

هكذا انتهت حياة فاطمة، في البركسة الضيقة تحت الزينكو، انتهت في المنفى، لكنها بدأت من جديد في الطيرة، في قلب الجبل، في وادي أبو الجاع الذي يعرف أسرارها. ماتت فاطمة، لكن الذكرى بقيت، ذكرى الستين عاماً في الطيرة، ذكرى حرق العجزة أحياء، ذكرى الصمود في الضيق، ذكرى وعد العودة الذي حملته في قلبها إلى آخر نفس. وكان الجبل، من بعيد، يودعها، يهمس همساً أبدياً: "عدتِ يا فاطمة، عدتِ إليّ، إلى الوادي، إلى الأرض التي لم تخن يوماً، وأحفادك سيأتون، سيأتون ليقضوا الأمور، الينبوع ينتظرهم". وكانت روح فاطمة تبتسم، حرة أخيراً، في فضاء الطيرة الواسع، حيث لا ضيق، لا زينكو، لا منفى، فقط الحب والأرض والسلام الأبدي.


الفصل السادس


1


مع حلول التسعينيات في دوسلدورف، أصبحت عليا، الحفيدة التي سميت على اسم جدتها الأولى، امرأة في أواخر السبعينيات، تعيش في شقة واسعة تطل على نهر الراين، شقة مليئة بكل وسائل الراحة التي يمنحها الغرب، دفء مركزي يدفع برد الشتاء، مطبخ حديث يغني عن التنور القديم، نوافذ زجاجية كبيرة تسمح للضوء بالتدفق حرّاً، لكن قلبها يبقى ضيقاً كبركسة النيرب، ضيق يخنق الروح رغم الفضاء الخارجي. كانت عليا لم ترَ الطيرة يوماً بعينيها، ولدت بعد النكبة بسنين، نشأت على قصص فاطمة التي روتها حمدة أمها في المخيم، قصص عن قرية على الجبل، عن بيوت حجرية واسعة، عن وادي أبو الجاع الذي يجري ماؤه بارداً، عن عجزة حرقوا أحياء في بيوت مغلقة، صالح يصرخ، عبد الرحمن يدعو، نار تلتهم الأجساد لتمحو الوجود. ومع ذلك، كانت عليا تتذكر كل تفصيل، كأنها عاشت هناك، كأن الطيرة انتقلت إلى دمها، إلى أحلامها، إلى كل نفس تتنفسه في الرفاهية الباردة.

كانت عليا تجلس في شقتها الفسيحة، تنظر إلى النهر الذي يجري هادئاً تحت النوافذ، لكن عيناها تريان وادي أبو الجاع، تسمع صوت الينبوع بدلاً من هدير السيارات في الشارع. "هنا كل شيء متوفر"، تهمس لنفسها بسخرية مريرة، "دفء لا يحتاج حطباً، طعام يأتي من الثلاجة، سرير واسع لي في الليل، لكن الضيق في القلب، ضيق البركسات الذي روته لي أمي، ضيق الزينكو الذي يحرق في الصيف ويغرق في الشتاء، ضيق غرفة واحدة تتكدس فيها العائلة". وكانت تتمنى، تتمنى لو بقيت في الطيرة، لو عاشت في البيت الحجري الواسع، لو سمعت صوت الريح في الزيتون بدلاً من صوت القطارات، لو قضت أمورها في وادي أبو الجاع بدلاً من التسوق في الأسواق الباردة.

حمدة، أمها، كانت تتصل من المخيم أحياناً، صوتها يأتي عبر الهاتف مشحوناً بالشوق، تروي عن البركسات الضيقة، عن الزينكو الذي لا يزال يئن، عن الأحفاد الذين يكبرون في الضيق لكنهم يحملون الطيرة في قلوبهم. "يا عليا"، تقول حمدة، صوتها يحمل إرث فاطمة، "جدتك ماتت وهي في الطيرة، في الحمى عادت إلى وادي أبو الجاع، قضت أمورها هناك، ونحن لا نزال في الضيق". وكانت عليا تبكي صامتاً، ترد: "أمي، أنا هنا في الرفاهية، شقة واسعة، عمل جيد، كل شيء متوفر، لكنني أتمنى لو بقيت في الطيرة، في البركسة الضيقة معكم، مع الذكرى الحية، لا في هذا الفضاء البارد الذي لا يعرف الزيتون". وكانت تشعر بالذنب، ذنب الشتات المريح، ذنب من عاشت في الغرب بينما أهلها في الضيق، ذنب من تتذكر كل تفصيل عن الطيرة رغم أنها لم ترها، كأن فاطمة نقلت الوطن إليها في الدم.

في الليالي، كانت عليا تخرج إلى الشرفة، تنظر إلى الراين، لكنها ترى وادي أبو الجاع، تسمع صوت عادل ينادي فاطمة، ترى العجزة يجلسون في الساحة، صالح يدخن غليونه، عبد الرحمن يقرأ، يوسف سلوم العالم يروي أخباراً. "كيف أتذكر كل هذا"، تهمس لنفسها، "وأنا لم أعش هناك، لم أرَ الطيرة إلا في قصص جدتي، لكنها فيّ، كأن النكبة ولدتني، حرق العجزة أحياء ولد فيّ غضباً، الرحيل ولد فيّ شوقاً". وكانت تتمنى لو بقيت في المخيم، في البركسة الضيقة تحت الزينكو، مع الجيران الذين يتكدسون في الغرفة الواحدة، يضحكون ويبكون معاً، لا في هذه الشقة الواسعة الباردة حيث الجيران غرباء، والليل يأتي صامتاً بلا قصص.

ذات يوم، جلست عليا تكتب رسالة لحمدة، تروي لها عن حياتها في دوسلدورف، عن العمل، عن الرفاهية، لكن الكلمات تتحول إلى شوق: "أمي، هنا كل شيء متوفر، لكنني أتمنى لو بقيت في الطيرة، لو عشت في البركسة الضيقة معكم، أسمع أنفاسكم في الليل، أشم رائحة الخبز على الصفيحة، لا هذا الفضاء الذي يخنق بالوحدة". وكانت تبكي، تبكي على الطيرة التي تعيش في قلبها كاملة، على العجزة الذين حرقوا أحياء، على فاطمة التي ماتت وهي في الوادي، قضت أمورها هناك.

في دوسلدورف، كانت عليا تحمل الطيرة في كل لحظة، تزرع نعناعاً في أصيص على الشرفة، تخبز خبزاً رقيقاً يذكرها بالمخيم، تروي لأبنائها عن جدتهم فاطمة التي عادت إلى الطيرة في الحمى، عن وادي أبو الجاع الذي ينتظر العودة. "سنعود"، تقول لهم، صوتها يحمل يقين فاطمة، "الضيق هنا في القلب، رغم الفضاء، والطيرة واسعة في الروح، رغم المنفى". وكانت تشعر بأنها تعيش في متحف بارد، متحف الرفاهية، بينما الطيرة حية فيها، تنبض بالحب والألم والوعد.

هكذا مرت سنوات عليا في دوسلدورف، سنوات الرفاهية التي تخفي الضيق الداخلي، سنوات تتمنى فيها لو بقيت في الطيرة، في البركسة الضيقة تحت الزينكو، مع الذكرى الحية، لا في هذا الفضاء الذي يبدو واسعاً لكنه يخنق الروح. كانت تشعر بأن الجبل يهمس لها من بعيد، في الريح التي تهب على الراين، يقول: "أنتِ ابنتي يا عليا، تحملين الطيرة في قلبك، تحملين نار العجزة الذي يحرق الظلم، تحملين وعد العودة". وكانت تبتسم، تمسح دموعها، تستمر في الحياة، رأسها مرفوع، عيناها تحملان الإرث، إرث الطيرة الواسعة في قلب ضيق، إرث ستورثه لأبنائها، حتى يأتي يوم العودة، يوم ينتهي فيه المنفى، وتعود الطيرة إلى أبنائها، واسعة كالحلم، حنونة كالأم.


2


مع تفاقم الحمى في تلك الأيام الأخيرة من عام 1990، أصبحت البركسة الضيقة في مخيم النيرب كقبر حي يضم الأحياء والموتى معاً، سقف من الزينكو يئن تحت قطرات المطر الباردة كأنها دموع السماء على المهجرين، جدران رقيقة تتسرب منها رطوبة تخترق العظام، غرفة واحدة تتكدس فيها العائلة كأنها في حضن أم حنون لكنها قاسية، سرير ضيق ينام عليه الأجيال فوق بعضهم، مطبخ صغير في الزاوية يدخن من موقد يعمل بالكاز، ضيق يخنق الجسد لكنه يوسع الروح، يجعل الذكرى وطناً يفوق البركسات والزينكو. كانت فاطمة غارقة أعمق في الحمى، جسدها الهزيل يرتعش على السرير، تنفسها ثقيلاً كأنها تحمل ثقل الستين عاماً في الطيرة وأربعين في المنفى، عيناها مفتوحتان على الوادي الذي يدعوها بإلحاح أخير، وادي أبو الجاع يجري ماؤه بارداً، عادل يقف هناك يمد يده بابتسامة الحب الأزلي، والعجزة يجلسون في الساحة يروون قصصاً، صالح يضحك كأنه لم يحترق يوماً، عبد الرحمن يدعو بصوت يهدئ القلوب. حمدة تجلس بجانبها، يدها في يد أمها، تمسح جبينها بقطعة قماش مبللة، تسمع الهمس يتكرر كترنيمة وداع: "حمدة، اذهبي إلى وادي أبو الجاع، قضي أمورنا، الينبوع يعرف، عادل يقول الزيتون ناضج، والعجزة ينتظرون، لا تحزني يا بنتي، أنا ذاهبة إلى الطيرة".

في تلك اللحظات، كانت فاطمة تعيش الطيرة كأنها الحقيقة الوحيدة، البركسة الضيقة تتحول في حماها إلى بيت حجري واسع، الزينكو سقفاً يحمي لا يخنق، الضيق فضاء الجبل الشاسع حيث تهب الريح حرة تحمل رائحة الزيتون. "حمدة"، تهمس بصوت أضعف، لكنه يحمل قوة الحب الذي صمد أمام النار، "قضي أمورنا في الوادي، عادل جاء، يمسك يدي، يقول الينبوع بارد، والخروب يظللنا، والعجزة يضحكون، صالح يروي قصة عن الشباب، لم يحرقوا يا بنتي، في قلبي لم يحرقوا". وكانت حمدة تمسك يدها بقوة، دموعها تسيل على السرير الضيق، ترد بصوت يخنقه الحزن: "نعم يا أمي، سأقضي الأمور، سأذهب إلى الوادي يوماً، لكن ابقي معي، لا تتركيني في الضيق هذا، في البركسة التي تضغط على الصدر كالقبر". لكن فاطمة تهز رأسها بلطف، عيناها تتلألأن بسلام عميق، تهمس: "الضيق انتهى يا حمدة، أنا في الطيرة، في الوادي، عادل ينتظر، قضي أمورنا، الينبوع يعرف كل شيء".

الأحفاد يتجمعون في البركسة الضيقة، ينظرون إلى جدتهم بقلوب مثقلة، يسمعون كلماتها عن الوادي، عن عادل، عن العجزة الذين يعيشون في الساحة، يشربون القهوة، يضحكون. حمدة تهدئهم، تقول بصوت مكسور: "جدتكم سعيدة، تعود إلى وطنها، إلى الطيرة الواسعة، إلى وادي أبو الجاع الذي يحمل أسرار حبها". وكانت فاطمة تمد يدها الهزيلة، تمسح رأس حفيد صغير، تهمس: "لا تبكوا يا أولادي، أنا ذاهبة إلى الطيرة، إلى عادل، إلى صالح، قضوا أموركم في الوادي يوماً، الينبوع ينتظركم، يعرف أسماءكم". وكانت الأطفال يبكون، يتذكرون قصصها عن الحب في الوادي، عن الحياة قبل النار، يشعرون بأن جدتهم ترحل إلى عالم أجمل، عالم لا ضيق فيه، لا زينكو يئن.

في الحمى، كانت فاطمة ترى عادل يقترب أكثر، يمسك يدها، يقول بصوته الذي لم يغب عن قلبها: "تعالي يا فاطمة، قضينا أمورنا في الوادي، الينبوع بارد، والعجزة يبتسمون". وكانت تبتسم، جسدها يرتخي، تهمس لحمدة: "عادل جاء، يا بنتي، يقول قضي أمورنا، لا تحزني، أنا سعيدة، الطيرة تنتظرني". وكانت حمدة تشعر بالرحيل يقترب، تمسك يدها بقوة أكبر، تبكي: "لا تذهبي يا أمي، ابقي معنا في الضيق هذا، حتى نعود معاً إلى الوادي". لكن فاطمة تهز رأسها، عيناها تغلقان ببطء، تهمس آخر كلمات: "الضيق انتهى، يا حمدة، أنا في الطيرة، في الوادي، قضي أمورنا، الينبوع يعرف".

البركسة الضيقة كانت مفعمة بحزن عميق، الزينكو يئن فوق الرؤوس كأنه يودع، الجدران الرقيقة تسمع منها بكاء الجيران الذين يعرفون أن فاطمة ترحل، فاطمة التي كانت عماد الجميع في المنفى. حمدة تجلس بجانبها، تسمع التنفس يضعف، تحمل الوصية كإرث مقدس: "قضي أمورنا في وادي أبو الجاع، الينبوع يعرف". وكانت تشعر بأن أمها سعيدة حقاً، سعيدة في عودتها إلى الطيرة، إلى الحياة الواسعة، إلى الحب الذي لم يمت.

هكذا استمرت أيام الحمى، أيام تعود فيها فاطمة إلى الطيرة كاملة، في البركسة الضيقة تحت الزينكو، كأن المنفى يتلاشى، والطيرة تعود. كانت تشعر بالسلام، سلام الذي عاشت من أجله، سلام العودة إلى الجبل، إلى الوادي، إلى عادل، إلى الحياة التي محيت بالنار لكنها بقيت في القلب. وكان الجبل، من بعيد، يهمس لها في أحلامها، يقول: "تعالي يا فاطمة، تعالي، أنا أحملك منذ الولادة، وسأحملك إلى الأبد". وكانت تبتسم، تنتظر اللحظة، لحظة اللقاء الأخير مع الطيرة، مع الينبوع الذي يعرف أسرارها، مع الأرض التي لم تخن يوماً، مع الحب الذي صمد أمام النار والمنفى.


3


مع تعمق الحمى في تلك الأيام الأخيرة من عام 1990، أصبحت البركسة الضيقة في مخيم النيرب كمرقد أخير يجمع بين المنفى والوطن في حضن واحد، سقف من الزينكو يئن تحت برد الشتاء كأنه يبكي على الضيق الذي يخنق الأنفاس، جدران رقيقة تتسرب منها رطوبة تخترق العظام، غرفة واحدة تتكدس فيها العائلة كأنها في قبر حي، سرير ضيق ينام عليه الأجيال فوق بعضهم، مطبخ صغير في الزاوية يدخن من موقد يعمل بالكاز، ضيق يخنق الجسد لكنه يوسع الروح، يجعل الذكرى وطناً يفوق البركسات والزينكو. كانت فاطمة غارقة أعمق في الحمى، جسدها الهزيل يرتعش على السرير، تنفسها ثقيلاً كأنها تحمل ثقل الستين عاماً في الطيرة وأربعين في المنفى، عيناها مفتوحتان على الوادي الذي يدعوها بإلحاح أخير، وادي أبو الجاع يجري ماؤه بارداً، عادل يقف هناك يمد يده بابتسامة الحب الأزلي، والعجزة يجلسون في الساحة يروون قصصاً، صالح يضحك كأنه لم يحترق يوماً، عبد الرحمن يدعو بصوت يهدئ القلوب. حمدة تجلس بجانبها، يدها في يد أمها، تمسح جبينها بقطعة قماش مبللة، تسمع الهمس يتكرر كترنيمة وداع: "حمدة، اذهبي إلى وادي أبو الجاع، قضي أمورنا، الينبوع يعرف، عادل يقول الزيتون ناضج، والعجزة ينتظرون، لا تحزني يا بنتي، أنا ذاهبة إلى الطيرة".

في تلك اللحظات، كانت فاطمة تعيش الطيرة كأنها الحقيقة الوحيدة، البركسة الضيقة تتحول في حماها إلى بيت حجري واسع، الزينكو سقفاً يحمي لا يخنق، الضيق فضاء الجبل الشاسع حيث تهب الريح حرة تحمل رائحة الزيتون. "حمدة"، تهمس بصوت أضعف، لكنه يحمل قوة الحب الذي صمد أمام النار، "قضي أمورنا في الوادي، عادل جاء، يمسك يدي، يقول الينبوع بارد، والخروب يظللنا، والعجزة يضحكون، صالح يروي قصة عن الشباب، لم يحرقوا يا بنتي، في قلبي لم يحرقوا". وكانت حمدة تمسك يدها بقوة، دموعها تسيل على السرير الضيق، ترد بصوت يخنقه الحزن: "نعم يا أمي، سأقضي الأمور، سأذهب إلى الوادي يوماً، لكن ابقي معي، لا تتركيني في الضيق هذا، في البركسة التي تضغط على الصدر كالقبر". لكن فاطمة تهز رأسها بلطف، عيناها تتلألأن بسلام عميق، تهمس: "الضيق انتهى يا حمدة، أنا في الطيرة، في الوادي، عادل ينتظر، قضي أمورنا، الينبوع يعرف كل شيء".

الأحفاد يتجمعون في البركسة الضيقة، ينظرون إلى جدتهم بقلوب مثقلة، يسمعون كلماتها عن الوادي، عن عادل، عن العجزة الذين يعيشون في الساحة، يشربون القهوة، يضحكون. حمدة تهدئهم، تقول بصوت مكسور: "جدتكم سعيدة، تعود إلى وطنها، إلى الطيرة الواسعة، إلى وادي أبو الجاع الذي يحمل أسرار حبها". وكانت فاطمة تمد يدها الهزيلة، تمسح رأس حفيد صغير، تهمس: "لا تبكوا يا أولادي، أنا ذاهبة إلى الطيرة، إلى عادل، إلى صالح، قضوا أموركم في الوادي يوماً، الينبوع ينتظركم، يعرف أسماءكم". وكانت الأطفال يبكون، يتذكرون قصصها عن الحب في الوادي، عن الحياة قبل النار، يشعرون بأن جدتهم ترحل إلى عالم أجمل، عالم لا ضيق فيه، لا زينكو يئن.

في الحمى، كانت فاطمة ترى عادل يقترب أكثر، يمسك يدها، يقول بصوته الذي لم يغب عن قلبها: "تعالي يا فاطمة، قضينا أمورنا في الوادي، الينبوع بارد، والعجزة يبتسمون". وكانت تبتسم، جسدها يرتخي، تهمس لحمدة: "عادل جاء، يا بنتي، يقول قضي أمورنا، لا تحزني، أنا سعيدة، الطيرة تنتظرني". وكانت حمدة تشعر بالرحيل يقترب، تمسك يدها بقوة أكبر، تبكي: "لا تذهبي يا أمي، ابقي معنا في الضيق هذا، حتى نعود معاً إلى الوادي". لكن فاطمة تهز رأسها، عيناها تغلقان ببطء، تهمس آخر كلمات: "الضيق انتهى، يا حمدة، أنا في الطيرة، في الوادي، قضي أمورنا، الينبوع يعرف".

البركسة الضيقة كانت مفعمة بحزن عميق، الزينكو يئن فوق الرؤوس كأنه يودع، الجدران الرقيقة تسمع منها بكاء الجيران الذين يعرفون أن فاطمة ترحل، فاطمة التي كانت عماد الجميع في المنفى. حمدة تجلس بجانبها، تسمع التنفس يضعف، تحمل الوصية كإرث مقدس: "قضي أمورنا في وادي أبو الجاع، الينبوع يعرف". وكانت تشعر بأن أمها سعيدة حقاً، سعيدة في عودتها إلى الطيرة، إلى الحياة الواسعة، إلى الحب الذي لم يمت.

هكذا استمرت أيام الحمى، أيام تعود فيها فاطمة إلى الطيرة كاملة، في البركسة الضيقة تحت الزينكو، كأن المنفى يتلاشى، والطيرة تعود. كانت تشعر بالسلام، سلام الذي عاشت من أجله، سلام العودة إلى الجبل، إلى الوادي، إلى عادل، إلى الحياة التي محيت بالنار لكنها بقيت في القلب. وكان الجبل، من بعيد، يهمس لها في أحلامها، يقول: "تعالي يا فاطمة، تعالي، أنا أحملك منذ الولادة، وسأحملك إلى الأبد". وكانت تبتسم، تنتظر اللحظة، لحظة اللقاء الأخير مع الطيرة، مع الينبوع الذي يعرف أسرارها، مع الأرض التي لم تخن يوماً، مع الحب الذي صمد أمام النار والمنفى.

4

مع تعمق الحمى في تلك الأيام الأخيرة من عام 1990، أصبحت البركسة الضيقة في مخيم النيرب كمرقد أخير يجمع بين المنفى والوطن في حضن واحد، سقف من الزينكو يئن تحت برد الشتاء كأنه يبكي على الضيق الذي يخنق الأنفاس، جدران رقيقة تتسرب منها رطوبة تخترق العظام، غرفة واحدة تتكدس فيها العائلة كأنها في قبر حي، سرير ضيق ينام عليه الأجيال فوق بعضهم، مطبخ صغير في الزاوية يدخن من موقد يعمل بالكاز، ضيق يخنق الجسد لكنه يوسع الروح، يجعل الذكرى وطناً يفوق البركسات والزينكو. كانت فاطمة غارقة أعمق في الحمى، جسدها الهزيل يرتعش على السرير، تنفسها ثقيلاً كأنها تحمل ثقل الستين عاماً في الطيرة وأربعين في المنفى، عيناها مفتوحتان على الوادي الذي يدعوها بإلحاح أخير، وادي أبو الجاع يجري ماؤه بارداً، عادل يقف هناك يمد يده بابتسامة الحب الأزلي، والعجزة يجلسون في الساحة يروون قصصاً، صالح يضحك كأنه لم يحترق يوماً، عبد الرحمن يدعو بصوت يهدئ القلوب. حمدة تجلس بجانبها، يدها في يد أمها، تمسح جبينها بقطعة قماش مبللة، تسمع الهمس يتكرر كترنيمة وداع: "حمدة، اذهبي إلى وادي أبو الجاع، قضي أمورنا، الينبوع يعرف، عادل يقول الزيتون ناضج، والعجزة ينتظرون، لا تحزني يا بنتي، أنا ذاهبة إلى الطيرة".

في تلك اللحظات، كانت فاطمة تعيش الطيرة كأنها الحقيقة الوحيدة، البركسة الضيقة تتحول في حماها إلى بيت حجري واسع، الزينكو سقفاً يحمي لا يخنق، الضيق فضاء الجبل الشاسع حيث تهب الريح حرة تحمل رائحة الزيتون. "حمدة"، تهمس بصوت أضعف، لكنه يحمل قوة الحب الذي صمد أمام النار، "قضي أمورنا في الوادي، عادل جاء، يمسك يدي، يقول الينبوع بارد، والخروب يظللنا، والعجزة يضحكون، صالح يروي قصة عن الشباب، لم يحرقوا يا بنتي، في قلبي لم يحرقوا". وكانت حمدة تمسك يدها بقوة، دموعها تسيل على السرير الضيق، ترد بصوت يخنقه الحزن: "نعم يا أمي، سأقضي الأمور، سأذهب إلى الوادي يوماً، لكن ابقي معي، لا تتركيني في الضيق هذا، في البركسة التي تضغط على الصدر كالقبر". لكن فاطمة تهز رأسها بلطف، عيناها تتلألأن بسلام عميق، تهمس: "الضيق انتهى يا حمدة، أنا في الطيرة، في الوادي، عادل ينتظر، قضي أمورنا، الينبوع يعرف كل شيء".

الأحفاد يتجمعون في البركسة الضيقة، ينظرون إلى جدتهم بقلوب مثقلة، يسمعون كلماتها عن الوادي، عن عادل، عن العجزة الذين يعيشون في الساحة، يشربون القهوة، يضحكون. حمدة تهدئهم، تقول بصوت مكسور: "جدتكم سعيدة، تعود إلى وطنها، إلى الطيرة الواسعة، إلى وادي أبو الجاع الذي يحمل أسرار حبها". وكانت فاطمة تمد يدها الهزيلة، تمسح رأس حفيد صغير، تهمس: "لا تبكوا يا أولادي، أنا ذاهبة إلى الطيرة، إلى عادل، إلى صالح، قضوا أموركم في الوادي يوماً، الينبوع ينتظركم، يعرف أسماءكم". وكانت الأطفال يبكون، يتذكرون قصصها عن الحب في الوادي، عن الحياة قبل النار، يشعرون بأن جدتهم ترحل إلى عالم أجمل، عالم لا ضيق فيه، لا زينكو يئن.

في الحمى، كانت فاطمة ترى عادل يقترب أكثر، يمسك يدها، يقول بصوته الذي لم يغب عن قلبها: "تعالي يا فاطمة، قضينا أمورنا في الوادي، الينبوع بارد، والعجزة يبتسمون". وكانت تبتسم، جسدها يرتخي، تهمس لحمدة: "عادل جاء، يا بنتي، يقول قضي أمورنا، لا تحزني، أنا سعيدة، الطيرة تنتظرني". وكانت حمدة تشعر بالرحيل يقترب، تمسك يدها بقوة أكبر، تبكي: "لا تذهبي يا أمي، ابقي معنا في الضيق هذا، حتى نعود معاً إلى الوادي". لكن فاطمة تهز رأسها، عيناها تغلقان ببطء، تهمس آخر كلمات: "الضيق انتهى، يا حمدة، أنا في الطيرة، في الوادي، قضي أمورنا، الينبوع يعرف".

البركسة الضيقة كانت مفعمة بحزن عميق، الزينكو يئن فوق الرؤوس كأنه يودع، الجدران الرقيقة تسمع منها بكاء الجيران الذين يعرفون أن فاطمة ترحل، فاطمة التي كانت عماد الجميع في المنفى. حمدة تجلس بجانبها، تسمع التنفس يضعف، تحمل الوصية كإرث مقدس: "قضي أمورنا في وادي أبو الجاع، الينبوع يعرف". وكانت تشعر بأن أمها سعيدة حقاً، سعيدة في عودتها إلى الطيرة، إلى الحياة الواسعة، إلى الحب الذي لم يمت.

هكذا استمرت أيام الحمى، أيام تعود فيها فاطمة إلى الطيرة كاملة، في البركسة الضيقة تحت الزينكو، كأن المنفى يتلاشى، والطيرة تعود. كانت تشعر بالسلام، سلام الذي عاشت من أجله، سلام العودة إلى الجبل، إلى الوادي، إلى عادل، إلى الحياة التي محيت بالنار لكنها بقيت في القلب. وكان الجبل، من بعيد، يهمس لها في أحلامها، يقول: "تعالي يا فاطمة، تعالي، أنا أحملك منذ الولادة، وسأحملك إلى الأبد". وكانت تبتسم، تنتظر اللحظة، لحظة اللقاء الأخير مع الطيرة، مع الينبوع الذي يعرف أسرارها، مع الأرض التي لم تخن يوماً، مع الحب الذي صمد أمام النار والمنفى.


5

مع تفاقم الحمى في تلك الأيام الأخيرة من عام 1990، أصبحت البركسة الضيقة في مخيم النيرب كمرقد أخير يجمع بين المنفى والوطن في حضن واحد، سقف من الزينكو يئن تحت برد الشتاء كأنه يبكي على الضيق الذي يخنق الأنفاس، جدران رقيقة تتسرب منها رطوبة تخترق العظام، غرفة واحدة تتكدس فيها العائلة كأنها في قبر حي، سرير ضيق ينام عليه الأجيال فوق بعضهم، مطبخ صغير في الزاوية يدخن من موقد يعمل بالكاز، ضيق يخنق الجسد لكنه يوسع الروح، يجعل الذكرى وطناً يفوق البركسات والزينكو. كانت فاطمة غارقة أعمق في الحمى، جسدها الهزيل يرتعش على السرير، تنفسها ثقيلاً كأنها تحمل ثقل الستين عاماً في الطيرة وأربعين في المنفى، عيناها مفتوحتان على الوادي الذي يدعوها بإلحاح أخير، وادي أبو الجاع يجري ماؤه بارداً، عادل يقف هناك يمد يده بابتسامة الحب الأزلي، والعجزة يجلسون في الساحة يروون قصصاً، صالح يضحك كأنه لم يحترق يوماً، عبد الرحمن يدعو بصوت يهدئ القلوب. حمدة تجلس بجانبها، يدها في يد أمها، تمسح جبينها بقطعة قماش مبللة، تسمع الهمس يتكرر كترنيمة وداع: "حمدة، اذهبي إلى وادي أبو الجاع، قضي أمورنا، الينبوع يعرف، عادل يقول الزيتون ناضج، والعجزة ينتظرون، لا تحزني يا بنتي، أنا ذاهبة إلى الطيرة".

في تلك اللحظات، كانت فاطمة تعيش الطيرة كأنها الحقيقة الوحيدة، البركسة الضيقة تتحول في حماها إلى بيت حجري واسع، الزينكو سقفاً يحمي لا يخنق، الضيق فضاء الجبل الشاسع حيث تهب الريح حرة تحمل رائحة الزيتون. "حمدة"، تهمس بصوت أضعف، لكنه يحمل قوة الحب الذي صمد أمام النار، "قضي أمورنا في الوادي، عادل جاء، يمسك يدي، يقول الينبوع بارد، والخروب يظللنا، والعجزة يضحكون، صالح يروي قصة عن الشباب، لم يحرقوا يا بنتي، في قلبي لم يحرقوا". وكانت حمدة تمسك يدها بقوة، دموعها تسيل على السرير الضيق، ترد بصوت يخنقه الحزن: "نعم يا أمي، سأقضي الأمور، سأذهب إلى الوادي يوماً، لكن ابقي معي، لا تتركيني في الضيق هذا، في البركسة التي تضغط على الصدر كالقبر". لكن فاطمة تهز رأسها بلطف، عيناها تتلألأن بسلام عميق، تهمس: "الضيق انتهى يا حمدة، أنا في الطيرة، في الوادي، عادل ينتظر، قضي أمورنا، الينبوع يعرف كل شيء".

الأحفاد يتجمعون في البركسة الضيقة، ينظرون إلى جدتهم بقلوب مثقلة، يسمعون كلماتها عن الوادي، عن عادل، عن العجزة الذين يعيشون في الساحة، يشربون القهوة، يضحكون. حمدة تهدئهم، تقول بصوت مكسور: "جدتكم سعيدة، تعود إلى وطنها، إلى الطيرة الواسعة، إلى وادي أبو الجاع الذي يحمل أسرار حبها". وكانت فاطمة تمد يدها الهزيلة، تمسح رأس حفيد صغير، تهمس: "لا تبكوا يا أولادي، أنا ذاهبة إلى الطيرة، إلى عادل، إلى صالح، قضوا أموركم في الوادي يوماً، الينبوع ينتظركم، يعرف أسماءكم". وكانت الأطفال يبكون، يتذكرون قصصها عن الحب في الوادي، عن الحياة قبل النار، يشعرون بأن جدتهم ترحل إلى عالم أجمل، عالم لا ضيق فيه، لا زينكو يئن.

في الحمى، كانت فاطمة ترى عادل يقترب أكثر، يمسك يدها، يقول بصوته الذي لم يغب عن قلبها: "تعالي يا فاطمة، قضينا أمورنا في الوادي، الينبوع بارد، والعجزة يبتسمون". وكانت تبتسم، جسدها يرتخي، تهمس لحمدة: "عادل جاء، يا بنتي، يقول قضي أمورنا، لا تحزني، أنا سعيدة، الطيرة تنتظرني". وكانت حمدة تشعر بالرحيل يقترب، تمسك يدها بقوة أكبر، تبكي: "لا تذهبي يا أمي، ابقي معنا في الضيق هذا، حتى نعود معاً إلى الوادي". لكن فاطمة تهز رأسها، عيناها تغلقان ببطء، تهمس آخر كلمات: "الضيق انتهى، يا حمدة، أنا في الطيرة، في الوادي، قضي أمورنا، الينبوع يعرف".

البركسة الضيقة كانت مفعمة بحزن عميق، الزينكو يئن فوق الرؤوس كأنه يودع، الجدران الرقيقة تسمع منها بكاء الجيران الذين يعرفون أن فاطمة ترحل، فاطمة التي كانت عماد الجميع في المنفى. حمدة تجلس بجانبها، تسمع التنفس يضعف، تحمل الوصية كإرث مقدس: "قضي أمورنا في وادي أبو الجاع، الينبوع يعرف". وكانت تشعر بأن أمها سعيدة حقاً، سعيدة في عودتها إلى الطيرة، إلى الحياة الواسعة، إلى الحب الذي لم يمت.

هكذا استمرت أيام الحمى، أيام تعود فيها فاطمة إلى الطيرة كاملة، في البركسة الضيقة تحت الزينكو، كأن المنفى يتلاشى، والطيرة تعود. كانت تشعر بالسلام، سلام الذي عاشت من أجله، سلام العودة إلى الجبل، إلى الوادي، إلى عادل، إلى الحياة التي محيت بالنار لكنها بقيت في القلب. وكان الجبل، من بعيد، يهمس لها في أحلامها، يقول: "تعالي يا فاطمة، تعالي، أنا أحملك منذ الولادة، وسأحملك إلى الأبد". وكانت تبتسم، تنتظر اللحظة، لحظة اللقاء الأخير مع الطيرة، مع الينبوع الذي يعرف أسرارها، مع الأرض التي لم تخن يوماً، مع الحب الذي صمد أمام النار والمنفى.


6

مع اقتراب النهاية في تلك الأيام الأخيرة من عام 1990، أصبحت البركسة الضيقة في مخيم النيرب كمرقد أخير يجمع بين المنفى والوطن في حضن واحد، سقف من الزينكو يئن تحت برد الشتاء كأنه يبكي على الضيق الذي يخنق الأنفاس، جدران رقيقة تتسرب منها رطوبة تخترق العظام، غرفة واحدة تتكدس فيها العائلة كأنها في قبر حي، سرير ضيق ينام عليه الأجيال فوق بعضهم، مطبخ صغير في الزاوية يدخن من موقد يعمل بالكاز، ضيق يخنق الجسد لكنه يوسع الروح، يجعل الذكرى وطناً يفوق البركسات والزينكو. كانت فاطمة في أعمق غياهب الحمى، جسدها الهزيل يرتعش على السرير، تنفسها ضعيفاً كأنها تودع الهواء نفسه، عيناها مفتوحتان على الوادي الذي يدعوها بإلحاح أخير، وادي أبو الجاع يجري ماؤه بارداً، عادل يقف هناك يمد يده بابتسامة الحب الأزلي، والعجزة يجلسون في الساحة يروون قصصاً، صالح يضحك كأنه لم يحترق يوماً، عبد الرحمن يدعو بصوت يهدئ القلوب. حمدة تجلس بجانبها، يدها في يد أمها، تمسح جبينها بقطعة قماش مبللة، تسمع الهمس يتكرر كترنيمة وداع: "حمدة، اذهبي إلى وادي أبو الجاع، قضي أمورنا، الينبوع يعرف، عادل يقول الزيتون ناضج، والعجزة ينتظرون، لا تحزني يا بنتي، أنا ذاهبة إلى الطيرة".

في تلك اللحظات الأخيرة، كانت فاطمة تعيش الطيرة كأنها الحقيقة الوحيدة، البركسة الضيقة تتحول في حماها إلى بيت حجري واسع، الزينكو سقفاً يحمي لا يخنق، الضيق فضاء الجبل الشاسع حيث تهب الريح حرة تحمل رائحة الزيتون. "حمدة"، تهمس بصوت أضعف، لكنه يحمل قوة الحب الذي صمد أمام النار، "قضي أمورنا في الوادي، عادل جاء، يمسك يدي، يقول الينبوع بارد، والخروب يظللنا، والعجزة يضحكون، صالح يروي قصة عن الشباب، لم يحرقوا يا بنتي، في قلبي لم يحرقوا". وكانت حمدة تمسك يدها بقوة، دموعها تسيل على السرير الضيق، ترد بصوت يخنقه الحزن: "نعم يا أمي، سأقضي الأمور، سأذهب إلى الوادي يوماً، لكن ابقي معي، لا تتركيني في الضيق هذا، في البركسة التي تضغط على الصدر كالقبر". لكن فاطمة تهز رأسها بلطف، عيناها تتلألأن بسلام عميق، تهمس: "الضيق انتهى يا حمدة، أنا في الطيرة، في الوادي، عادل ينتظر، قضي أمورنا، الينبوع يعرف كل شيء".

الأحفاد يتجمعون في البركسة الضيقة، ينظرون إلى جدتهم بقلوب مثقلة، يسمعون كلماتها عن الوادي، عن عادل، عن العجزة الذين يعيشون في الساحة، يشربون القهوة، يضحكون. حمدة تهدئهم، تقول بصوت مكسور: "جدتكم سعيدة، تعود إلى وطنها، إلى الطيرة الواسعة، إلى وادي أبو الجاع الذي يحمل أسرار حبها". وكانت فاطمة تمد يدها الهزيلة، تمسح رأس حفيد صغير، تهمس: "لا تبكوا يا أولادي، أنا ذاهبة إلى الطيرة، إلى عادل، إلى صالح، قضوا أموركم في الوادي يوماً، الينبوع ينتظركم، يعرف أسماءكم". وكانت الأطفال يبكون، يتذكرون قصصها عن الحب في الوادي، عن الحياة قبل النار، يشعرون بأن جدتهم ترحل إلى عالم أجمل، عالم لا ضيق فيه، لا زينكو يئن.

في الحمى، كانت فاطمة ترى عادل يقترب أكثر، يمسك يدها، يقول بصوته الذي لم يغب عن قلبها: "تعالي يا فاطمة، قضينا أمورنا في الوادي، الينبوع بارد، والعجزة يبتسمون". وكانت تبتسم، جسدها يرتخي، تنفسها يبطئ، تهمس لحمدة: "عادل جاء، يا بنتي، يقول قضي أمورنا، لا تحزني، أنا سعيدة، الطيرة تنتظرني". وكانت حمدة تشعر بالرحيل يقترب، تمسك يدها بقوة أكبر، تبكي: "لا تذهبي يا أمي، ابقي معنا في الضيق هذا، حتى نعود معاً إلى الوادي". لكن فاطمة تهز رأسها، عيناها تغلقان ببطء، تهمس آخر كلمات: "الضيق انتهى، يا حمدة، أنا في الطيرة، في الوادي، قضي أمورنا، الينبوع يعرف".

ثم سكتت، تنفسها يتوقف بلطف، جسدها يرتخي كأنه يذوب في السرير الضيق، روحها ترحل إلى الطيرة، إلى عادل، إلى الوادي، إلى العجزة الذين لم يحترقوا في قلبها. حمدة تضمها، تبكي بصوت عالٍ يتردد في البركسة، يصل إلى الجيران، يملأ المخيم بحزن عميق. ماتت فاطمة في البركسة الضيقة تحت الزينكو، ماتت في المنفى، لكنها عادت إلى الطيرة في آخر نفس، عادت إلى الستين عاماً من الحياة الواسعة، إلى الحب الذي لم يمت، إلى الوادي الذي قضت فيه أمورها.

البركسة الضيقة امتلأت بالبكاء، الزينكو يئن كأنه يبكي معهم، الجدران الرقيقة تسمع منها عويل الجيران، عويل على فاطمة التي كانت عماد الجميع. حمدة تضم جسد أمها، تهمس الوصية: "سأقضي أمورنا في وادي أبو الجاع، يا أمي، سأذهب يوماً، الينبوع يعرف". وكانت تشعر بأن أمها سعيدة، سعيدة في رحيلها إلى الطيرة، إلى الحياة الواسعة، إلى الحب الذي لم يمت.

هكذا انتهت حياة فاطمة، في البركسة الضيقة تحت الزينكو، انتهت في المنفى، لكنها بدأت من جديد في الطيرة، في قلب الجبل، في وادي أبو الجاع الذي يعرف أسرارها. ماتت فاطمة، لكن الذكرى بقيت، ذكرى الستين عاماً في الطيرة، ذكرى حرق العجزة أحياء، ذكرى الصمود في الضيق، ذكرى وعد العودة الذي حملته في قلبها إلى آخر نفس. وكان الجبل، من بعيد، يودعها، يهمس همساً أبدياً: "عدتِ يا فاطمة، عدتِ إليّ، إلى الوادي، إلى الأرض التي لم تخن يوماً، وأحفادك سيأتون، سيأتون ليقضوا الأمور، الينبوع ينتظرهم". وكانت روح فاطمة تبتسم، حرة أخيراً، في فضاء الطيرة الواسع، حيث لا ضيق، لا زينكو، لا منفى، فقط الحب والأرض والسلام الأبدي.


الفصل السادس:

1

مع حلول التسعينيات في دوسلدورف، أصبحت عليا، الحفيدة التي حملت اسم جدتها الأولى كإرث مقدس، امرأة في أواخر السبعينيات، تعيش في شقة واسعة تطل على نهر الراين، شقة مليئة بكل ما يمنح الراحة في الغرب، دفء مركزي يدفع برد الشتاء، مطبخ حديث يغني عن التنور القديم والصفيحة، نوافذ زجاجية كبيرة تسمح للضوء بالتدفق حرّاً كأنه يحاول تعويض عن ضيق الروح. لم ترَ عليا الطيرة يوماً بعينيها، ولدت بعد النكبة بسنين، نشأت على قصص فاطمة التي روتها حمدة أمها في مخيم النيرب، قصص عن قرية على الجبل، عن بيوت حجرية واسعة، عن وادي أبو الجاع الذي يجري ماؤه بارداً، عن عجزة حرقوا أحياء في بيوت مغلقة، صالح يصرخ، عبد الرحمن يدعو، نار تلتهم الأجساد ليمحوا الوجود. ومع ذلك، كانت عليا تتذكر كل تفصيل، كأنها عاشت هناك، كأن الطيرة انتقلت إلى دمها، إلى أحلامها، إلى كل نفس تتنفسه في الرفاهية الباردة التي تحيط بها.

كانت عليا تجلس في شقتها الفسيحة، تنظر إلى النهر الذي يجري هادئاً تحت النوافذ، لكن عيناها تريان وادي أبو الجاع، تسمع صوت الينبوع بدلاً من هدير السيارات في الشارع. "هنا كل شيء متوفر"، تهمس لنفسها بسخرية مريرة، "دفء لا يحتاج حطباً، طعام يأتي من الثلاجة، سرير واسع لي في الليل، لكن الضيق في القلب، ضيق البركسات الذي روته لي أمي، ضيق الزينكو الذي يحرق في الصيف ويغرق في الشتاء، ضيق غرفة واحدة تتكدس فيها العائلة كأننا في قبر حي". وكانت تتمنى، تتمنى لو بقيت في الطيرة، لو عاشت في البيت الحجري الواسع، لو سمعت صوت الريح في الزيتون بدلاً من صوت القطارات، لو قضت أمورها في وادي أبو الجاع بدلاً من التسوق في الأسواق الباردة حيث الناس غرباء لا يعرفون بعضهم.

حمدة، أمها، كانت تتصل من المخيم أحياناً، صوتها يأتي عبر الهاتف مشحوناً بالشوق، تروي عن البركسات الضيقة، عن الزينكو الذي لا يزال يئن، عن الأحفاد الذين يكبرون في الضيق لكنهم يحملون الطيرة في قلوبهم. "يا عليا"، تقول حمدة، صوتها يحمل إرث فاطمة، "جدتك ماتت وهي في الطيرة، في الحمى عادت إلى وادي أبو الجاع، قضت أمورها هناك، ونحن لا نزال في الضيق". وكانت عليا تبكي صامتاً، ترد: "أمي، أنا هنا في الرفاهية، شقة واسعة، عمل جيد، كل شيء متوفر، لكنني أتمنى لو بقيت في الطيرة، في البركسة الضيقة معكم، مع الذكرى الحية، لا في هذا الفضاء البارد الذي لا يعرف الزيتون". وكانت تشعر بالذنب، ذنب الشتات المريح، ذنب من عاشت في الغرب بينما أهلها في الضيق، ذنب من تتذكر كل تفصيل عن الطيرة رغم أنها لم ترها، كأن فاطمة نقلت الوطن إليها في الدم.

في الليالي، كانت عليا تخرج إلى الشرفة، تنظر إلى الراين، لكنها ترى وادي أبو الجاع، تسمع صوت عادل ينادي فاطمة، ترى العجزة يجلسون في الساحة، صالح يدخن غليونه، عبد الرحمن يقرأ، يوسف سلوم العالم يروي أخباراً. "كيف أتذكر كل هذا"، تهمس لنفسها، "وأنا لم أعش هناك، لم أرَ الطيرة إلا في قصص جدتي، لكنها فيّ، كأن النكبة ولدتني، حرق العجزة أحياء ولد فيّ غضباً، الرحيل ولد فيّ شوقاً". وكانت تتمنى لو بقيت في المخيم، في البركسة الضيقة تحت الزينكو، مع الجيران الذين يتكدسون في الغرفة الواحدة، يضحكون ويبكون معاً، لا في هذه الشقة الواسعة الباردة حيث الجيران غرباء، والليل يأتي صامتاً بلا قصص.

ذات يوم، جلست عليا تكتب رسالة لحمدة، تروي لها عن حياتها في دوسلدورف، عن العمل، عن الرفاهية، لكن الكلمات تتحول إلى شوق: "أمي، هنا كل شيء متوفر، لكنني أتمنى لو بقيت في الطيرة، لو عشت في البركسة الضيقة معكم، أسمع أنفاسكم في الليل، أشم رائحة الخبز على الصفيحة، لا هذا الفضاء الذي يخنق بالوحدة". وكانت تبكي، تبكي على الطيرة التي تعيش في قلبها كاملة، على العجزة الذين حرقوا أحياء، على فاطمة التي ماتت وهي في الوادي، قضت أمورها هناك.

في دوسلدورف، كانت عليا تحمل الطيرة في كل لحظة، تزرع نعناعاً في أصيص على الشرفة، تخبز خبزاً رقيقاً يذكرها بالمخيم، تروي لأبنائها عن جدتهم فاطمة التي عادت إلى الطيرة في الحمى، عن وادي أبو الجاع الذي ينتظر العودة. "سنعود"، تقول لهم، صوتها يحمل يقين فاطمة، "الضيق هنا في القلب، رغم الفضاء، والطيرة واسعة في الروح، رغم المنفى". وكانت تشعر بأنها تعيش في متحف بارد، متحف الرفاهية، بينما الطيرة حية فيها، تنبض بالحب والألم والوعد.

هكذا مرت سنوات عليا في دوسلدورف، سنوات الرفاهية التي تخفي الضيق الداخلي، سنوات تتمنى فيها لو بقيت في الطيرة، في البركسة الضيقة تحت الزينكو، مع الذكرى الحية، لا في هذا الفضاء الذي يبدو واسعاً لكنه يخنق الروح. كانت تشعر بأن الجبل يهمس لها من بعيد، في الريح التي تهب على الراين، يقول: "أنتِ ابنتي يا عليا، تحملين الطيرة في قلبك، تحملين نار العجزة الذي يحرق الظلم، تحملين وعد العودة". وكانت تبتسم، تمسح دموعها، تستمر في الحياة، رأسها مرفوع، عيناها تحملان الإرث، إرث الطيرة الواسعة في قلب ضيق، إرث ستورثه لأبنائها، حتى يأتي يوم العودة، يوم ينتهي فيه المنفى، وتعود الطيرة إلى أبنائها، واسعة كالحلم، حنونة كالأم.




2


مع مرور السنين في دوسلدورف، أصبحت عليا، الحفيدة التي حملت اسم جدتها كوصية أبدية، تشعر بالضيق يعمق جذوره في قلبها رغم الفضاء الواسع الذي تحيط به، شقة تطل على الراين حيث يجري النهر هادئاً كأنه يحاول غسل ذنب الغرب، لكن قلبها يبقى معلقاً بضيق البركسات في مخيم النيرب، ذلك المعسكر الفرنسي القديم الذي تحول إلى سجن من الزينكو، سقوف تحرق في الصيف وتغرق في الشتاء، غرف ضيقة تتكدس فيها العائلات كأنها في أحشاء وحش لا يرحم. كانت عليا تتذكر كل تفصيل روته لها حمدة أمها عن المخيم، عن البركسة الضيقة حيث ولدت وكبرت، عن الزينكو الذي يئن كأنه يبكي على المهجرين، عن الغرفة الواحدة التي تضم الأجيال، ينامون متلاصقين للدفء أو يتعرقون معاً في الحر، ضيق يخنق الجسد لكنه يولد صموداً يفوق الفضاء الواسع الذي تعيشه الآن. "هنا في دوسلدورف"، تهمس لنفسها في الليالي، عيناها تتجولان في الشقة الفسيحة، "كل شيء متوفر، سرير واسع، مطبخ لا يدخن، دفء لا يحتاج موقداً، لكنني أتمنى لو بقيت في الضيق ذاك، في البركسة الضيقة تحت الزينكو، مع أمي وإخوتي، أسمع أنفاسهم في الليل، أشم رائحة الخبز على الصفيحة، لا هذا الصمت البارد الذي يخنق الروح".

كانت عليا تتواصل مع حمدة بانتظام، مكالمات تأتي من المخيم، صوت أمها يعبر المسافات مشحوناً بالشوق والألم، تروي عن البركسات التي لا تزال تضيق على الأحفاد، عن الزينكو الذي يحرق في الصيف كأنه يذكر بالنار القديمة، عن الغرف الضيقة التي تتكدس فيها العائلات، يطبخون وينامون ويبكون في المكان نفسه. "يا عليا"، تقول حمدة، صوتها يحمل إرث فاطمة، "الضيق هنا لا يزال، البركسة تضغط على الصدر، لكن الطيرة واسعة في قلوبنا، جدتك ماتت وهي في الوادي، قضت أمورها هناك، ونحن نحمل الوصية". وكانت عليا تبكي، ترد: "أمي، أنا هنا في الفضاء الواسع، شقة تتسع للعائلة كلها لو جئتم، لكن قلبي ضيق، أتمنى لو بقيت في البركسة الضيقة معكم، أعيش الذكرى الحية، لا هذا الرفاه الذي يبعدنا عن الطيرة". وكانت تشعر بالذنب يعصف بها، ذنب من انتقلت إلى الغرب، عاشت في الراحة بينما أهلها في الضيق، ذنب من تتذكر كل تفصيل عن الطيرة رغم أنها لم ترها، كأن فاطمة زرعت الوطن في دمها قبل أن ترحل.

في الليالي، كانت عليا تخرج إلى الشرفة، تنظر إلى الراين الذي يجري هادئاً، لكنها ترى وادي أبو الجاع، تسمع صوت الينبوع، ترى عادل يمد يده لفاطمة، ترى العجزة يجلسون في الساحة، صالح يدخن غليونه، عبد الرحمن يقرأ، كأن النار لم تمسهم في خيالها. "كيف أعيش هنا"، تهمس، دموعها تسيل، "في الفضاء الواسع، وأنا أتمنى الضيق ذاك، ضيق البركسة تحت الزينكو، حيث تتكدس العائلة، تسمع أنفاس بعضها، تشعر بالدفء الحقيقي، لا هذا الدفء المصطنع الذي يأتي من الجدران". وكانت تتذكر قصص حمدة عن الزينكو الذي يحرق في الصيف، يغرق في الشتاء، عن الغرفة الضيقة التي تضم الأجيال، عن الصمود الذي يولد من الضيق، صمود جعل فاطمة تحمل الذكرى إلى آخر نفس.

ذات يوم، جلست عليا تكتب رسالة طويلة لحمدة، تروي لها عن حياتها في دوسلدورف، عن النهر الهادئ، عن الشقة الواسعة، لكن الكلمات تتحول إلى اعتراف: "أمي، هنا كل شيء متوفر، لكنني أتمنى لو بقيت في الطيرة، لو عشت في البركسة الضيقة معكم، أعاني الحر تحت الزينكو، أرتجف من البرد في الرطوبة، لكن أعيش معكم، مع الذكرى الحية، لا في هذا الفضاء الذي يبعدنا عن الوادي". وكانت تبكي، تبكي على الطيرة التي تعيش في قلبها كاملة، على العجزة الذين حرقوا أحياء، على فاطمة التي ماتت وهي في الوادي، قضت أمورها هناك، على حمدة التي لا تزال في الضيق.

في دوسلدورف، كانت عليا تحمل الطيرة في كل لحظة، تزرع نعناعاً في أصيص على الشرفة يذكرها بريحان المخيم، تخبز خبزاً رقيقاً يشبه خبز الصفيحة، تروي لأبنائها عن جدتهم فاطمة التي عادت إلى الطيرة في الحمى، عن وادي أبو الجاع الذي ينتظر العودة. "سنعود"، تقول لهم، صوتها يحمل يقين فاطمة، "الضيق هنا في القلب، رغم الفضاء، والطيرة واسعة في الروح، رغم المنفى". وكانت تشعر بأنها تعيش في متحف بارد، متحف الرفاهية، بينما الطيرة حية فيها، تنبض بالحب والألم والوعد.

هكذا مرت سنوات عليا في دوسلدورف، سنوات الرفاهية التي تخفي الضيق الداخلي، سنوات تتمنى فيها لو بقيت في الطيرة، في البركسة الضيقة تحت الزينكو، مع الذكرى الحية، لا في هذا الفضاء الذي يبدو واسعاً لكنه يخنق الروح. كانت تشعر بأن الجبل يهمس لها من بعيد، في الريح التي تهب على الراين، يقول: "أنتِ ابنتي يا عليا، تحملين الطيرة في قلبك، تحملين نار العجزة الذي يحرق الظلم، تحملين وعد العودة". وكانت تبتسم، تمسح دموعها، تستمر في الحياة، رأسها مرفوع، عيناها تحملان الإرث، إرث الطيرة الواسعة في قلب ضيق، إرث ستورثه لأبنائها، حتى يأتي يوم العودة، يوم ينتهي فيه المنفى، وتعود الطيرة إلى أبنائها، واسعة كالحلم، حنونة كالأم.


3

مع تعمق السنين في دوسلدورف، أصبحت عليا، الحفيدة التي ورثت اسم جدتها كسرّ مقدس، تشعر بالضيق ينمو في قلبها كشجرة برية في أرض غريبة، جذورها تتعمق رغم الرفاهية التي تحيط بها، شقة واسعة تطل على الراين حيث يجري النهر هادئاً كأنه يحاول طمس الذكريات، لكن قلبها يبقى معلقاً بضيق البركسات في مخيم النيرب، ذلك المعسكر الفرنسي القديم الذي تحول إلى عالم من الزينكو، سقوف تحرق في الصيف كأنها تذكر باللهب الذي أكل العجزة أحياء، وتتسرب منها الرطوبة في الشتاء كدموع لا تنتهي، غرف ضيقة تتكدس فيها العائلات كأنها في أحشاء وحش لا يرحم. كانت عليا تتذكر كل تفصيل روته لها حمدة أمها عن المخيم، عن البركسة الضيقة حيث ولدت وكبرت، عن الزينكو الذي يئن كأنه يبكي على المهجرين، عن الغرفة الواحدة التي تضم الأجيال، ينامون متلاصقين للدفء أو يتعرقون معاً في الحر، ضيق يخنق الجسد لكنه يولد صموداً يفوق الفضاء الواسع الذي تعيشه الآن. "هنا في دوسلدورف"، تهمس لنفسها في الليالي، عيناها تتجولان في الشقة الفسيحة، "كل شيء متوفر، سرير واسع، مطبخ لا يدخن، دفء لا يحتاج موقداً، لكنني أتمنى لو بقيت في الضيق ذاك، في البركسة الضيقة تحت الزينكو، مع أمي وإخوتي، أسمع أنفاسهم في الليل، أشم رائحة الخبز على الصفيحة، لا هذا الصمت البارد الذي يخنق الروح".

كانت عليا تتواصل مع حمدة بانتظام، مكالمات تأتي من المخيم، صوت أمها يعبر المسافات مشحوناً بالشوق والألم، تروي عن البركسات التي لا تزال تضيق على الأحفاد، عن الزينكو الذي يحرق في الصيف كأنه يذكر بالنار القديمة، عن الغرف الضيقة التي تتكدس فيها العائلات، يطبخون وينامون ويبكون في المكان نفسه. "يا عليا"، تقول حمدة، صوتها يحمل إرث فاطمة، "الضيق هنا لا يزال، البركسة تضغط على الصدر، لكن الطيرة واسعة في قلوبنا، جدتك ماتت وهي في الوادي، قضت أمورها هناك، ونحن نحمل الوصية". وكانت عليا تبكي، ترد: "أمي، أنا هنا في الفضاء الواسع، شقة تتسع للعائلة كلها لو جئتم، لكن قلبي ضيق، أتمنى لو بقيت في البركسة الضيقة معكم، أعاني الحر تحت الزينكو، أرتجف من البرد في الرطوبة، لكن أعيش معكم، مع الذكرى الحية، لا هذا الرفاه الذي يبعدنا عن الوادي". وكانت تشعر بالذنب يعصف بها، ذنب من انتقلت إلى الغرب، عاشت في الراحة بينما أهلها في الضيق، ذنب من تتذكر كل تفصيل عن الطيرة رغم أنها لم ترها، كأن فاطمة زرعت الوطن في دمها قبل أن ترحل.

في الليالي، كانت عليا تخرج إلى الشرفة، تنظر إلى الراين الذي يجري هادئاً، لكنها ترى وادي أبو الجاع، تسمع صوت الينبوع، ترى عادل يمد يده لفاطمة، ترى العجزة يجلسون في الساحة، صالح يدخن غليونه، عبد الرحمن يقرأ، كأن النار لم تمسهم في خيالها. "كيف أعيش هنا"، تهمس، دموعها تسيل، "في الفضاء الواسع، وأنا أتمنى الضيق ذاك، ضيق البركسة تحت الزينكو، حيث تتكدس العائلة، تسمع أنفاس بعضها، تشعر بالدفء الحقيقي، لا هذا الدفء المصطنع الذي يأتي من الجدران". وكانت تتذكر قصص حمدة عن الزينكو الذي يحرق في الصيف، يغرق في الشتاء، عن الغرفة الضيقة التي تضم الأجيال، عن الصمود الذي يولد من الضيق، صمود جعل فاطمة تحمل الذكرى إلى آخر نفس.

ذات يوم، جلست عليا تكتب رسالة طويلة لحمدة، تروي لها عن حياتها في دوسلدورف، عن النهر الهادئ، عن الشقة الواسعة، لكن الكلمات تتحول إلى اعتراف: "أمي، هنا كل شيء متوفر، لكنني أتمنى لو بقيت في الطيرة، لو عشت في البركسة الضيقة معكم، أعاني الحر تحت الزينكو، أرتجف من البرد في الرطوبة، لكن أعيش معكم، مع الذكرى الحية، لا هذا الفضاء الذي يبعدنا عن الوادي". وكانت تبكي، تبكي على الطيرة التي تعيش في قلبها كاملة، على العجزة الذين حرقوا أحياء، على فاطمة التي ماتت وهي في الوادي، قضت أمورها هناك، على حمدة التي لا تزال في الضيق.

في دوسلدورف، كانت عليا تحمل الطيرة في كل لحظة، تزرع نعناعاً في أصيص على الشرفة يذكرها بريحان المخيم، تخبز خبزاً رقيقاً يشبه خبز الصفيحة، تروي لأبنائها عن جدتهم فاطمة التي عادت إلى الطيرة في الحمى، عن وادي أبو الجاع الذي ينتظر العودة. "سنعود"، تقول لهم، صوتها يحمل يقين فاطمة، "الضيق هنا في القلب، رغم الفضاء، والطيرة واسعة في الروح، رغم المنفى". وكانت تشعر بأنها تعيش في متحف بارد، متحف الرفاهية، بينما الطيرة حية فيها، تنبض بالحب والألم والوعد.

هكذا مرت سنوات عليا في دوسلدورف، سنوات الرفاهية التي تخفي الضيق الداخلي، سنوات تتمنى فيها لو بقيت في الطيرة، في البركسة الضيقة تحت الزينكو، مع الذكرى الحية، لا في هذا الفضاء الذي يبدو واسعاً لكنه يخنق الروح. كانت تشعر بأن الجبل يهمس لها من بعيد، في الريح التي تهب على الراين، يقول: "أنتِ ابنتي يا عليا، تحملين الطيرة في قلبك، تحملين نار العجزة الذي يحرق الظلم، تحملين وعد العودة". وكانت تبتسم، تمسح دموعها، تستمر في الحياة، رأسها مرفوع، عيناها تحملان الإرث، إرث الطيرة الواسعة في قلب ضيق، إرث ستورثه لأبنائها، حتى يأتي يوم العودة، يوم ينتهي فيه المنفى، وتعود الطيرة إلى أبنائها، واسعة كالحلم، حنونة كالأم.




4


مع تعمق السنين في دوسلدورف، أصبحت عليا، الحفيدة التي ورثت اسم جدتها كتراث ينبض في الدم، تشعر بالضيق يتعمق في روحها كجذور زيتون تخترق صخراً غريباً، رغم الفضاء الواسع الذي يحيط بها، شقة تطل على الراين حيث يجري النهر هادئاً كأنه يحاول إغراق الذكريات في تياره البارد، لكن قلبها يبقى محاصراً بضيق البركسات في مخيم النيرب، ذلك المعسكر الفرنسي القديم الذي تحول إلى عالم من الزينكو، سقوف تحرق في الصيف كأنها تذكر باللهب الذي أكل العجزة أحياء، وتتسرب منها الرطوبة في الشتاء كدموع لا تنتهي على المهجرين. كانت عليا تتذكر كل تفصيل روته لها حمدة أمها عن المخيم، عن البركسة الضيقة حيث ولدت وكبرت، عن الزينكو الذي يئن كأنه يبكي على المهجرين، عن الغرفة الواحدة التي تضم الأجيال، ينامون متلاصقين للدفء أو يتعرقون معاً في الحر، ضيق يخنق الجسد لكنه يولد صموداً يفوق الفضاء الواسع الذي تعيشه الآن. "هنا في دوسلدورف"، تهمس لنفسها في الليالي، عيناها تتجولان في الشقة الفسيحة، "كل شيء متوفر، سرير واسع، مطبخ لا يدخن، دفء لا يحتاج موقداً، لكنني أتمنى لو بقيت في الضيق ذاك، في البركسة الضيقة تحت الزينكو، مع أمي وإخوتي، أسمع أنفاسهم في الليل، أشم رائحة الخبز على الصفيحة، لا هذا الصمت البارد الذي يخنق الروح".

كانت عليا تتواصل مع حمدة بانتظام، مكالمات تأتي من المخيم، صوت أمها يعبر المسافات مشحوناً بالشوق والألم، تروي عن البركسات التي لا تزال تضيق على الأحفاد، عن الزينكو الذي يحرق في الصيف كأنه يذكر بالنار القديمة، عن الغرف الضيقة التي تتكدس فيها العائلات، يطبخون وينامون ويبكون في المكان نفسه. "يا عليا"، تقول حمدة، صوتها يحمل إرث فاطمة، "الضيق هنا لا يزال، البركسة تضغط على الصدر، لكن الطيرة واسعة في قلوبنا، جدتك ماتت وهي في الوادي، قضت أمورها هناك، ونحن نحمل الوصية". وكانت عليا تبكي، ترد: "أمي، أنا هنا في الفضاء الواسع، شقة تتسع للعائلة كلها لو جئتم، لكن قلبي ضيق، أتمنى لو بقيت في البركسة الضيقة معكم، أعاني الحر تحت الزينكو، أرتجف من البرد في الرطوبة، لكن أعيش معكم، مع الذكرى الحية، لا هذا الرفاه الذي يبعدنا عن الوادي". وكانت تشعر بالذنب يعصف بها، ذنب من انتقلت إلى الغرب، عاشت في الراحة بينما أهلها في الضيق، ذنب من تتذكر كل تفصيل عن الطيرة رغم أنها لم ترها، كأن فاطمة زرعت الوطن في دمها قبل أن ترحل.

في الليالي، كانت عليا تخرج إلى الشرفة، تنظر إلى الراين الذي يجري هادئاً، لكنها ترى وادي أبو الجاع، تسمع صوت الينبوع، ترى عادل يمد يده لفاطمة، ترى العجزة يجلسون في الساحة، صالح يدخن غليونه، عبد الرحمن يقرأ، كأن النار لم تمسهم في خيالها. "كيف أعيش هنا"، تهمس، دموعها تسيل، "في الفضاء الواسع، وأنا أتمنى الضيق ذاك، ضيق البركسة تحت الزينكو، حيث تتكدس العائلة، تسمع أنفاس بعضها، تشعر بالدفء الحقيقي، لا هذا الدفء المصطنع الذي يأتي من الجدران". وكانت تتذكر قصص حمدة عن الزينكو الذي يحرق في الصيف، يغرق في الشتاء، عن الغرفة الضيقة التي تضم الأجيال، عن الصمود الذي يولد من الضيق، صمود جعل فاطمة تحمل الذكرى إلى آخر نفس.

ذات يوم، جلست عليا تكتب رسالة طويلة لحمدة، تروي لها عن حياتها في دوسلدورف، عن النهر الهادئ، عن الشقة الواسعة، لكن الكلمات تتحول إلى اعتراف: "أمي، هنا كل شيء متوفر، لكنني أتمنى لو بقيت في الطيرة، لو عشت في البركسة الضيقة معكم، أعاني الحر تحت الزينكو، أرتجف من البرد في الرطوبة، لكن أعيش معكم، مع الذكرى الحية، لا هذا الفضاء الذي يبعدنا عن الوادي". وكانت تبكي، تبكي على الطيرة التي تعيش في قلبها كاملة، على العجزة الذين حرقوا أحياء، على فاطمة التي ماتت وهي في الوادي، قضت أمورها هناك، على حمدة التي لا تزال في الضيق.

في دوسلدورف، كانت عليا تحمل الطيرة في كل لحظة، تزرع نعناعاً في أصيص على الشرفة يذكرها بريحان المخيم، تخبز خبزاً رقيقاً يشبه خبز الصفيحة، تروي لأبنائها عن جدتهم فاطمة التي عادت إلى الطيرة في الحمى، عن وادي أبو الجاع الذي ينتظر العودة. "سنعود"، تقول لهم، صوتها يحمل يقين فاطمة، "الضيق هنا في القلب، رغم الفضاء، والطيرة واسعة في الروح، رغم المنفى". وكانت تشعر بأنها تعيش في متحف بارد، متحف الرفاهية، بينما الطيرة حية فيها، تنبض بالحب والألم والوعد.

هكذا مرت سنوات عليا في دوسلدورف، سنوات الرفاهية التي تخفي الضيق الداخلي، سنوات تتمنى فيها لو بقيت في الطيرة، في البركسة الضيقة تحت الزينكو، مع الذكرى الحية، لا في هذا الفضاء الذي يبدو واسعاً لكنه يخنق الروح. كانت تشعر بأن الجبل يهمس لها من بعيد، في الريح التي تهب على الراين، يقول: "أنتِ ابنتي يا عليا، تحملين الطيرة في قلبك، تحملين نار العجزة الذي يحرق الظلم، تحملين وعد العودة". وكانت تبتسم، تمسح دموعها، تستمر في الحياة، رأسها مرفوع، عيناها تحملان الإرث، إرث الطيرة الواسعة في قلب ضيق، إرث ستورثه لأبنائها، حتى يأتي يوم العودة، يوم ينتهي فيه المنفى، وتعود الطيرة إلى أبنائها، واسعة كالحلم، حنونة كالأم.


5


مع تعمق السنين في دوسلدورف، أصبحت عليا، الحفيدة التي ورثت اسم جدتها كسرّ ينبض في العروق، تشعر بالضيق يتعمق في أعماق روحها كجرح لا يندمل، رغم الفضاء الواسع الذي يحيط بها، شقة تطل على الراين حيث يجري النهر هادئاً كأنه يحاول محو الذكريات في تياره البارد، لكن قلبها يبقى محاصراً بضيق البركسات في مخيم النيرب، ذلك المعسكر الفرنسي القديم الذي تحول إلى عالم من الزينكو، سقوف تحرق في الصيف كأنها تذكر باللهب الذي أكل العجزة أحياء، وتتسرب منها الرطوبة في الشتاء كدموع لا تنتهي على المهجرين. كانت عليا تتذكر كل تفصيل روته لها حمدة أمها عن المخيم، عن البركسة الضيقة حيث ولدت وكبرت، عن الزينكو الذي يئن كأنه يبكي على المهجرين، عن الغرفة الواحدة التي تضم الأجيال، ينامون متلاصقين للدفء أو يتعرقون معاً في الحر، ضيق يخنق الجسد لكنه يولد صموداً يفوق الفضاء الواسع الذي تعيشه الآن. "هنا في دوسلدورف"، تهمس لنفسها في الليالي، عيناها تتجولان في الشقة الفسيحة، "كل شيء متوفر، سرير واسع، مطبخ لا يدخن، دفء لا يحتاج موقداً، لكنني أتمنى لو بقيت في الضيق ذاك، في البركسة الضيقة تحت الزينكو، مع أمي وإخوتي، أسمع أنفاسهم في الليل، أشم رائحة الخبز على الصفيحة، لا هذا الصمت البارد الذي يخنق الروح".

كانت عليا تتواصل مع حمدة بانتظام، مكالمات تأتي من المخيم، صوت أمها يعبر المسافات مشحوناً بالشوق والألم، تروي عن البركسات التي لا تزال تضيق على الأحفاد، عن الزينكو الذي يحرق في الصيف كأنه يذكر بالنار القديمة، عن الغرف الضيقة التي تتكدس فيها العائلات، يطبخون وينامون ويبكون في المكان نفسه. "يا عليا"، تقول حمدة، صوتها يحمل إرث فاطمة، "الضيق هنا لا يزال، البركسة تضغط على الصدر، لكن الطيرة واسعة في قلوبنا، جدتك ماتت وهي في الوادي، قضت أمورها هناك، ونحن نحمل الوصية". وكانت عليا تبكي، ترد: "أمي، أنا هنا في الفضاء الواسع، شقة تتسع للعائلة كلها لو جئتم، لكن قلبي ضيق، أتمنى لو بقيت في البركسة الضيقة معكم، أعاني الحر تحت الزينكو، أرتجف من البرد في الرطوبة، لكن أعيش معكم، مع الذكرى الحية، لا هذا الرفاه الذي يبعدنا عن الوادي". وكانت تشعر بالذنب يعصف بها، ذنب من انتقلت إلى الغرب، عاشت في الراحة بينما أهلها في الضيق، ذنب من تتذكر كل تفصيل عن الطيرة رغم أنها لم ترها، كأن فاطمة زرعت الوطن في دمها قبل أن ترحل.

في الليالي، كانت عليا تخرج إلى الشرفة، تنظر إلى الراين الذي يجري هادئاً، لكنها ترى وادي أبو الجاع، تسمع صوت الينبوع، ترى عادل يمد يده لفاطمة، ترى العجزة يجلسون في الساحة، صالح يدخن غليونه، عبد الرحمن يقرأ، كأن النار لم تمسهم في خيالها. "كيف أعيش هنا"، تهمس، دموعها تسيل، "في الفضاء الواسع، وأنا أتمنى الضيق ذاك، ضيق البركسة تحت الزينكو، حيث تتكدس العائلة، تسمع أنفاس بعضها، تشعر بالدفء الحقيقي، لا هذا الدفء المصطنع الذي يأتي من الجدران". وكانت تتذكر قصص حمدة عن الزينكو الذي يحرق في الصيف، يغرق في الشتاء، عن الغرفة الضيقة التي تضم الأجيال، عن الصمود الذي يولد من الضيق، صمود جعل فاطمة تحمل الذكرى إلى آخر نفس.

ذات يوم، جلست عليا تكتب رسالة طويلة لحمدة، تروي لها عن حياتها في دوسلدورف، عن النهر الهادئ، عن الشقة الواسعة، لكن الكلمات تتحول إلى اعتراف: "أمي، هنا كل شيء متوفر، لكنني أتمنى لو بقيت في الطيرة، لو عشت في البركسة الضيقة معكم، أعاني الحر تحت الزينكو، أرتجف من البرد في الرطوبة، لكن أعيش معكم، مع الذكرى الحية، لا هذا الفضاء الذي يبعدنا عن الوادي". وكانت تبكي، تبكي على الطيرة التي تعيش في قلبها كاملة، على العجزة الذين حرقوا أحياء، على فاطمة التي ماتت وهي في الوادي، قضت أمورها هناك، على حمدة التي لا تزال في الضيق.

في دوسلدورف، كانت عليا تحمل الطيرة في كل لحظة، تزرع نعناعاً في أصيص على الشرفة يذكرها بريحان المخيم، تخبز خبزاً رقيقاً يشبه خبز الصفيحة، تروي لأبنائها عن جدتهم فاطمة التي عادت إلى الطيرة في الحمى، عن وادي أبو الجاع الذي ينتظر العودة. "سنعود"، تقول لهم، صوتها يحمل يقين فاطمة، "الضيق هنا في القلب، رغم الفضاء، والطيرة واسعة في الروح، رغم المنفى". وكانت تشعر بأنها تعيش في متحف بارد، متحف الرفاهية، بينما الطيرة حية فيها، تنبض بالحب والألم والوعد.

هكذا مرت سنوات عليا في دوسلدورف، سنوات الرفاهية التي تخفي الضيق الداخلي، سنوات تتمنى فيها لو بقيت في الطيرة، في البركسة الضيقة تحت الزينكو، مع الذكرى الحية، لا في هذا الفضاء الذي يبدو واسعاً لكنه يخنق الروح. كانت تشعر بأن الجبل يهمس لها من بعيد، في الريح التي تهب على الراين، يقول: "أنتِ ابنتي يا عليا، تحملين الطيرة في قلبك، تحملين نار العجزة الذي يحرق الظلم، تحملين وعد العودة". وكانت تبتسم، تمسح دموعها، تستمر في الحياة، رأسها مرفوع، عيناها تحملان الإرث، إرث الطيرة الواسعة في قلب ضيق، إرث ستورثه لأبنائها، حتى يأتي يوم العودة، يوم ينتهي فيه المنفى، وتعود الطيرة إلى أبنائها، واسعة كالحلم، حنونة كالأم.


6

مع تعمق السنين في دوسلدورف، أصبحت عليا، الحفيدة التي ورثت اسم جدتها كوصية أبدية تنبض في الدم، تشعر بالضيق يتعمق في أعماق روحها كجرح ينزف ببطء، رغم الفضاء الواسع الذي يحيط بها، شقة تطل على الراين حيث يجري النهر هادئاً كأنه يحاول إغراق الذكريات في تياره البارد، لكن قلبها يبقى محاصراً بضيق البركسات في مخيم النيرب، ذلك المعسكر الفرنسي القديم الذي تحول إلى عالم من الزينكو، سقوف تحرق في الصيف كأنها تذكر باللهب الذي أكل العجزة أحياء، وتتسرب منها الرطوبة في الشتاء كدموع لا تنتهي على المهجرين. كانت عليا تتذكر كل تفصيل روته لها حمدة أمها عن المخيم، عن البركسة الضيقة حيث ولدت وكبرت، عن الزينكو الذي يئن كأنه يبكي على المهجرين، عن الغرفة الواحدة التي تضم الأجيال، ينامون متلاصقين للدفء أو يتعرقون معاً في الحر، ضيق يخنق الجسد لكنه يولد صموداً يفوق الفضاء الواسع الذي تعيشه الآن. "هنا في دوسلدورف"، تهمس لنفسها في الليالي، عيناها تتجولان في الشقة الفسيحة، "كل شيء متوفر، سرير واسع، مطبخ لا يدخن، دفء لا يحتاج موقداً، لكنني أتمنى لو بقيت في الضيق ذاك، في البركسة الضيقة تحت الزينكو، مع أمي وإخوتي، أسمع أنفاسهم في الليل، أشم رائحة الخبز على الصفيحة، لا هذا الصمت البارد الذي يخنق الروح".

كانت عليا تتواصل مع حمدة بانتظام، مكالمات تأتي من المخيم، صوت أمها يعبر المسافات مشحوناً بالشوق والألم، تروي عن البركسات التي لا تزال تضيق على الأحفاد، عن الزينكو الذي يحرق في الصيف كأنه يذكر بالنار القديمة، عن الغرف الضيقة التي تتكدس فيها العائلات، يطبخون وينامون ويبكون في المكان نفسه. "يا عليا"، تقول حمدة، صوتها يحمل إرث فاطمة، "الضيق هنا لا يزال، البركسة تضغط على الصدر، لكن الطيرة واسعة في قلوبنا، جدتك ماتت وهي في الوادي، قضت أمورها هناك، ونحن نحمل الوصية". وكانت عليا تبكي، ترد: "أمي، أنا هنا في الفضاء الواسع، شقة تتسع للعائلة كلها لو جئتم، لكن قلبي ضيق، أتمنى لو بقيت في البركسة الضيقة معكم، أعاني الحر تحت الزينكو، أرتجف من البرد في الرطوبة، لكن أعيش معكم، مع الذكرى الحية، لا هذا الرفاه الذي يبعدنا عن الوادي". وكانت تشعر بالذنب يعصف بها، ذنب من انتقلت إلى الغرب، عاشت في الراحة بينما أهلها في الضيق، ذنب من تتذكر كل تفصيل عن الطيرة رغم أنها لم ترها، كأن فاطمة زرعت الوطن في دمها قبل أن ترحل.

في الليالي، كانت عليا تخرج إلى الشرفة، تنظر إلى الراين الذي يجري هادئاً، لكنها ترى وادي أبو الجاع، تسمع صوت الينبوع، ترى عادل يمد يده لفاطمة، ترى العجزة يجلسون في الساحة، صالح يدخن غليونه، عبد الرحمن يقرأ، كأن النار لم تمسهم في خيالها. "كيف أعيش هنا"، تهمس، دموعها تسيل، "في الفضاء الواسع، وأنا أتمنى الضيق ذاك، ضيق البركسة تحت الزينكو، حيث تتكدس العائلة، تسمع أنفاس بعضها، تشعر بالدفء الحقيقي، لا هذا الدفء المصطنع الذي يأتي من الجدران". وكانت تتذكر قصص حمدة عن الزينكو الذي يحرق في الصيف، يغرق في الشتاء، عن الغرفة الضيقة التي تضم الأجيال، عن الصمود الذي يولد من الضيق، صمود جعل فاطمة تحمل الذكرى إلى آخر نفس.

ذات يوم، جلست عليا تكتب رسالة طويلة لحمدة، تروي لها عن حياتها في دوسلدورف، عن النهر الهادئ، عن الشقة الواسعة، لكن الكلمات تتحول إلى اعتراف: "أمي، هنا كل شيء متوفر، لكنني أتمنى لو بقيت في الطيرة، لو عشت في البركسة الضيقة معكم، أعاني الحر تحت الزينكو، أرتجف من البرد في الرطوبة، لكن أعيش معكم، مع الذكرى الحية، لا هذا الفضاء الذي يبعدنا عن الوادي". وكانت تبكي، تبكي على الطيرة التي تعيش في قلبها كاملة، على العجزة الذين حرقوا أحياء، على فاطمة التي ماتت وهي في الوادي، قضت أمورها هناك، على حمدة التي لا تزال في الضيق.

في دوسلدورف، كانت عليا تحمل الطيرة في كل لحظة، تزرع نعناعاً في أصيص على الشرفة يذكرها بريحان المخيم، تخبز خبزاً رقيقاً يشبه خبز الصفيحة، تروي لأبنائها عن جدتهم فاطمة التي عادت إلى الطيرة في الحمى، عن وادي أبو الجاع الذي ينتظر العودة. "سنعود"، تقول لهم، صوتها يحمل يقين فاطمة، "الضيق هنا في القلب، رغم الفضاء، والطيرة واسعة في الروح، رغم المنفى". وكانت تشعر بأنها تعيش في متحف بارد، متحف الرفاهية، بينما الطيرة حية فيها، تنبض بالحب والألم والوعد.

هكذا مرت سنوات عليا في دوسلدورف، سنوات الرفاهية التي تخفي الضيق الداخلي، سنوات تتمنى فيها لو بقيت في الطيرة، في البركسة الضيقة تحت الزينكو، مع الذكرى الحية، لا في هذا الفضاء الذي يبدو واسعاً لكنه يخنق الروح. كانت تشعر بأن الجبل يهمس لها من بعيد، في الريح التي تهب على الراين، يقول: "أنتِ ابنتي يا عليا، تحملين الطيرة في قلبك، تحملين نار العجزة الذي يحرق الظلم، تحملين وعد العودة". وكانت تبتسم، تمسح دموعها، تستمر في الحياة، رأسها مرفوع، عيناها تحملان الإرث، إرث الطيرة الواسعة في قلب ضيق، إرث ستورثه لأبنائها، حتى يأتي يوم العودة، يوم ينتهي فيه المنفى، وتعود الطيرة إلى أبنائها، واسعة كالحلم، حنونة كالأم.


الفصل السابع


1


مع ربط الأجيال في تلك السنوات التي امتدت كخيط رفيع بين المنفى والوطن، أصبحت الطيرة كروح تتجول بين الأحفاد، روح لا تموت، تنتقل من قلب فاطمة إلى حمدة في ضيق البركسات، ثم إلى عليا في فضاء دوسلدورف البارد، ومن ثم إلى أبناء عليا الذين ولدوا في الغرب، يتحدثون الألمانية بطلاقة لكنهم يسمعون في أحلامهم صوت الينبوع في وادي أبو الجاع. كانت عليا تجلس في شقتها الواسعة، تنظر إلى أبنائها وأحفادها يلعبون في الحديقة أمام النهر، أجساد حرة في الفضاء، لكنها ترى في عيونهم شوقاً خفياً، شوقاً إلى ضيق البركسات الذي روته لهم، ضيق الزينكو الذي يئن في الصيف والشتاء، غرفة واحدة تتكدس فيها العائلة كأنها في حضن واحد لا يفلت، يضحكون ويبكون معاً، يحملون الذكرى كراية لا تسقط. "هنا كل شيء متوفر"، تهمس عليا لنفسها بسخرية مريرة عميقة، "حدائق خضراء، مدارس حديثة، ألعاب لا تنتهي، لكن الضيق في القلب، ضيق البركسة الذي روته جدتكم فاطمة، ضيق يولد الصمود، يجعل الروح واسعة رغم الجدران الرقيقة".

كانت حمدة تتصل من النيرب، صوتها يأتي عبر الهاتف كأنه يعبر الزمن، تروي عن الأحفاد الجدد الذين يكبرون في الضيق، عن البركسات التي لا تزال تقاوم الانهيار، عن الزينكو الذي يئن لكنه يحمي، عن الغرفة الضيقة التي تضم العائلة، يتكدس فيها الأجيال يتبادلون القصص عن الطيرة. "يا عليا"، تقول حمدة، صوتها يحمل إرث فاطمة الذي لم يخفت، "جدتك قضت أمورنا في الوادي، ماتت وهي سعيدة في الطيرة، ونحن نحمل الوصية، الضيق هنا يعلمنا الصبر، والطيرة واسعة في قلوبنا". وكانت عليا تبكي، ترد بصوت يرتجف من الشوق: "أمي، أنا هنا في الفضاء الواسع، لكن قلبي في الضيق معكم، أتمنى لو بقيت في البركسة، أعيش الذكرى الحية، أسمع أنفاسكم في الليل، لا هذا الرفاه الذي يبعد الأجيال عن الوادي". وكانت تشعر بأن الأجيال ترتبط بخيط رفيع، خيط الذكرى الذي نسجته فاطمة في الحمى، وصية قضاء الأمور في وادي أبو الجاع، وصية تنتقل من جيل إلى جيل، من الضيق إلى الفضاء، من النيرب إلى دوسلدورف.

في الليالي، كانت عليا تجمع أبناءها وأحفادها في الشقة الواسعة، تروي لهم عن فاطمة التي عاشت مئة واثنتين، عن الطيرة التي عاشت فيها ستين، عن النكبة التي حرقت العجزة أحياء، عن المنفى الذي بدأ في الضيق وانتقل إلى الرفاه. "جدتكم فاطمة"، تقول، صوتها يعلو كأنه صوت الجبل، "ماتت وهي في الطيرة، عادت إلى وادي أبو الجاع في الحمى، قضت أمورنا هناك، والوصية لنا: سنعود، مهما طال الضيق أو اتسع الفضاء". وكانت الأطفال يستمعون، عيونهم تلمعان بشوق إلى عالم لم يعيشوه، يتخيلون البركسة الضيقة كمكان دافئ، الزينكو كسقف يحمي، الغرفة الواحدة كحضن يجمع، يتمنون لو عاشوا هناك بدلاً من الشقة الواسعة الباردة.

ذات يوم، جلست عليا مع أحفادها، ترسم لهم خريطة الطيرة على ورقة كبيرة، تشير إلى الوادي، إلى البيوت، إلى المكان الذي حرق فيه العجزة أحياء. "هنا وادي أبو الجاع"، تقول، صوتها يحمل يقين فاطمة، "جدتكم قضت أمورنا هناك، الينبوع يعرف، عادل يعرف، صالح يعرف، ونحن سنذهب يوماً، سنقضي الأمور، سنعود". وكانت الأطفال يسألون، يتعلمون، يحملون الوصية كإرث، إرث يربط بين الضيق في النيرب والفضاء في دوسلدورف، بين المنفى والوطن.

كانت عليا تشعر بأن الأجيال تتوحد في الذكرى، حمدة في البركسة الضيقة تحمل الوصية، عليا في الشقة الواسعة تنقلها، الأحفاد في الغرب يحلمون بها. "الطيرة لم تمت"، تهمس لنفسها، "حرقوا العجزة أحياء، دمرونا، لكن الروح بقيت، تنتقل من جيل إلى جيل، من الضيق إلى الفضاء، تنتظر العودة". وكانت تربط بين النكبة والحاضر، ترى في غزة استمراراً للنار، حرقاً جديداً للأحياء، تهجيراً جديداً، لكن الوصية تبقى: قضي الأمور في الوادي، عودي إلى الطيرة.

في النهاية، كانت عليا تجلس مع أحفادها، تغني أغنية قديمة روتها فاطمة، صوتها يتردد في الشقة الواسعة، يملأ الفراغ: "سنعود يا طيرة، سنعود يا وادي، الينبوع يعرف، الأرض تنتظر". وكانت تشعر بأن الظلال تعود، ظلال فاطمة وحمدة، ظلال العجزة والمهجرين، تتجول في الغرب، تشهد على الاستمرارية، على أن الأرض لم تكن فارغة يوماً، والشعب لم يغب، يحمل الوطن في القلب، ينتظر يوم العودة.

هكذا ربطت الأجيال، ربطاً بخيط الذكرى والوصية، من ضيق البركسات إلى فضاء الغرب، من نار النكبة إلى أمل العودة، من فاطمة التي قضت أمورها في الوادي إلى أحفاد يحملون الوعد. وكان الجبل يهمس من بعيد، في كل قلب، يقول: "عدتم يا أبنائي، عدتم في الروح، واليوم الآخر قادم، يوم تعودون إلى الطيرة، إلى الوادي، إلى الأرض التي لم تخن، إلى الحب الذي لم يمت". وكانت الأرواح تبتسم، تبتسم في الضيق والفضاء، تبتسم ساخرة مريرة: "قالوا أرض بلا شعب، فأصبح شعب بلا أرض، لكنهم لم يحسبوا أن الشعب يحمل الأرض في قلبه، يحملها أجيالاً، حتى يعود، حتى يقضي أموره في وادي أبو الجاع، حتى تنتهي النار، وتبدأ الحياة من جديد".


2


مع ربط الأجيال في تلك السنوات التي امتدت كسلسلة من الظلال المتداخلة، أصبحت الطيرة كنداء خفي يتردد في دماء الأحفاد، نداء لا يخفت، ينتقل من صرخة فاطمة في الحمى إلى همس حمدة في ضيق البركسات، ثم إلى صوت عليا في فضاء دوسلدورف البارد، ومن ثم إلى أحفاد عليا الذين يلعبون في الحدائق الخضراء لكنهم يحلمون بزيتون لم يلمسوه، بينبوع لم يشربوا منه، بجبل لم يتسلقوه. كانت عليا تجلس مع أحفادها في الشقة الواسعة، ترسم لهم على الأرض خريطة الطيرة بإصبعها، تشير إلى وادي أبو الجاع كأنه قلب نابض، تهمس بصوت يحمل إرث فاطمة: "هنا قضت جدتكم الكبرى أمورنا، في الحمى عادت إلى الينبوع، إلى عادل، إلى صالح، إلى العجزة الذين حرقوا أحياء لكنهم بقوا أحياء في قلوبنا". وكانت الأطفال يستمعون، عيونهم تلمعان بشوق إلى عالم يبدو أسطورياً، يسألون عن البركسات الضيقة تحت الزينكو، عن الغرفة الواحدة التي تضم العائلة، عن الضيق الذي يولد الدفء الحقيقي، لا الدفء المصطنع الذي يأتي من الجدران في الغرب.

كانت حمدة تروي من النيرب، في المكالمات التي تأتي كجسر هش بين الضيق والفضاء، عن الأحفاد الذين يكبرون في البركسات، يتكدسون في الغرف الضيقة، يسمعون أنفاس بعضهم في الليل، يعانون الحر تحت الزينكو في الصيف والرطوبة في الشتاء، لكنهم يحملون الطيرة ككنز مخفي. "يا عليا"، تقول حمدة، صوتها يحمل صمود الأجيال، "الضيق هنا يعلمنا، البركسة تضغط على الصدر لكنها توسع القلب، الأحفاد يروون قصص جدتهم فاطمة، عن الوادي الذي قضت فيه أمورنا، عن العجزة الذين حرقوا أحياء لكنهم يعيشون في القصص". وكانت عليا ترد بدموع تخفيها، صوتها يرتجف: "أمي، أخبريهم أننا هنا في الفضاء الواسع، لكن قلوبنا في الضيق معكم، أتمنى لو بقيت في البركسة، أعيش الذكرى الحية، أشم رائحة الخبز على الصفيحة، لا هذا الرفاه الذي يبعد الأجيال عن الينبوع". وكانت تشعر بأن الربط يتم، ربط الأجيال بخيط الشوق والألم، من ضيق النيرب إلى فضاء الغرب، من نار النكبة إلى أمل العودة.

في دوسلدورف، كانت عليا تربي أحفادها على الوصية، تجمعهم في الشقة الواسعة، تروي عن فاطمة التي عاشت مئة واثنتين، عن الستين في الطيرة الواسعة، عن الأربعين في الضيق، عن الحمى التي أعادتها إلى الوادي. "جدتكم الكبرى"، تقول، صوتها يعلو كأنه صوت الجبل، "قضت أمورنا في وادي أبو الجاع، عادت إلى عادل، إلى صالح، إلى العجزة الذين حرقوا أحياء لكنهم بقوا أحياء في الروح، والوصية لنا: سنعود، مهما طال الضيق أو اتسع الفضاء". وكانت الأطفال يسألون عن البركسات، عن الزينكو الذي يئن، عن الغرفة الضيقة التي تجمع العائلة، يتمنون لو عاشوا هناك، في الضيق الذي يولد الدفء، لا في الفضاء الذي يولد الوحدة.

كانت عليا تربط بين النكبة والحاضر، ترى في غزة استمراراً للنار، حرقاً جديداً للأحياء، تهجيراً جديداً، لكن الوصية تبقى: قضي الأمور في الوادي، عودي إلى الطيرة. "الظلم مستمر"، تهمس لأحفادها، عيناها تلمعان بغضب مقدس، "حرقوا العجزة أحياء في الطيرة، ويحرقون اليوم في غزة، ليفرغوا الأرض، لكن الأرواح تبقى، تتجول، تشهد، تنتظر العودة". وكانت الأطفال يتعلمون، يحملون الغضب والأمل، يغنون أغاني الطيرة التي روتها عليا، أغاني العودة التي بدأتها فاطمة في الحمى.

في النهاية، كانت الأجيال تتوحد في الروح، حمدة في البركسة الضيقة تحمل الوصية، عليا في الشقة الواسعة تنقلها، الأحفاد في الغرب يحلمون بها، أرواح فاطمة وعادل وصالح تتجول بينهم، تشهد على الاستمرارية. "الطيرة لم تمت"، تهمس عليا، صوتها يعلو في الشقة، "حرقوا العجزة أحياء، دمرونا، لكن الروح بقيت، تنتقل من جيل إلى جيل، من الضيق إلى الفضاء، تنتظر العودة". وكانت تربط بين الماضي والحاضر، ترى في كل ظلم جديد استمراراً للنكبة، لكن في كل جيل جديد أملاً جديداً، أملاً يولد من الضيق والفضاء معاً.

هكذا ربطت الأجيال، ربطاً بخيط الذكرى والوصية، من ضيق البركسات إلى فضاء الغرب، من نار النكبة إلى أمل العودة، من فاطمة التي قضت أمورها في الوادي إلى أحفاد يحملون الوعد. وكان الجبل يهمس من بعيد، في كل قلب، يقول: "عدتم يا أبنائي، عدتم في الروح، واليوم الآخر قادم، يوم تعودون إلى الطيرة، إلى الوادي، إلى الأرض التي لم تخن، إلى الحب الذي لم يمت". وكانت الأرواح تبتسم، تبتسم ساخرة مريرة: "قالوا أرض بلا شعب، فأصبح شعب بلا أرض، لكنهم لم يحسبوا أن الشعب يحمل الأرض في قلبه، يحملها أجيالاً، حتى يعود، حتى يقضي أموره في وادي أبو الجاع، حتى تنتهي النار، وتبدأ الحياة من جديد".


3


مع ربط الأجيال في تلك السنوات التي امتدت كأنها حلقات سلسلة من الظلال المتشابكة، أصبحت الطيرة كنداء أزلي يتردد في أعماق الأحفاد، نداء يعبر الضيق والفضاء، ينتقل من همس فاطمة في الحمى إلى صوت حمدة في البركسات الضيقة، ثم إلى كلمات عليا في شقتها الواسعة على الراين، ومن ثم إلى أحفاد عليا الذين يركضون في الحدائق الخضراء لكنهم يحملون في قلوبهم رائحة زيتون لم يقطفوه، صوت ينبوع لم يشربوا منه، دفء عجزة لم يجلسوا معهم. كانت عليا تجمع أحفادها في الشقة الفسيحة، ترسم لهم على الأرض خريطة الطيرة بإصبع مرتجف قليلاً من السنين، تشير إلى وادي أبو الجاع كأنه نبض حي، تهمس بصوت يحمل إرث فاطمة الذي لم يخفت: "هنا قضت جدتكم الكبرى أمورنا، في الحمى عادت إلى الينبوع، إلى عادل الذي يمد يده، إلى صالح الذي يضحك، إلى العجزة الذين حرقوا أحياء لكنهم بقوا أحياء في الروح، يروون قصصاً في الساحة". وكانت الأطفال يستمعون، عيونهم تلمعان بشوق إلى عالم يبدو أسطورياً، يسألون عن البركسات الضيقة تحت الزينكو، عن الغرفة الواحدة التي تضم العائلة، عن الضيق الذي يولد الدفء الحقيقي، لا الدفء المصطنع الذي يأتي من الجدران في الغرب.

كانت حمدة تروي من النيرب، في المكالمات التي تأتي كجسر هش بين الضيق والفضاء، عن الأحفاد الذين يكبرون في البركسات، يتكدسون في الغرف الضيقة، يسمعون أنفاس بعضهم في الليل، يعانون الحر تحت الزينكو في الصيف والرطوبة في الشتاء، لكنهم يحملون الطيرة ككنز مخفي. "يا عليا"، تقول حمدة، صوتها يحمل صمود الأجيال، "الضيق هنا يعلمنا، البركسة تضغط على الصدر لكنها توسع القلب، الأحفاد يروون قصص جدتهم فاطمة، عن الوادي الذي قضت فيه أمورنا، عن العجزة الذين حرقوا أحياء لكنهم يعيشون في القصص". وكانت عليا ترد بدموع تخفيها، صوتها يرتجف: "أمي، أخبريهم أننا هنا في الفضاء الواسع، لكن قلوبنا في الضيق معكم، أتمنى لو بقيت في البركسة، أعيش الذكرى الحية، أشم رائحة الخبز على الصفيحة، لا هذا الرفاه الذي يبعد الأجيال عن الينبوع". وكانت تشعر بأن الربط يتم، ربط الأجيال بخيط الشوق والألم، من ضيق النيرب إلى فضاء الغرب، من نار النكبة إلى أمل العودة.

في دوسلدورف، كانت عليا تربي أحفادها على الوصية، تجمعهم في الشقة الواسعة، تروي عن فاطمة التي عاشت مئة واثنتين، عن الستين في الطيرة الواسعة، عن الأربعين في الضيق، عن الحمى التي أعادتها إلى الوادي. "جدتكم الكبرى"، تقول، صوتها يعلو كأنه صوت الجبل، "قضت أمورنا في وادي أبو الجاع، عادت إلى عادل، إلى صالح، إلى العجزة الذين حرقوا أحياء لكنهم بقوا أحياء في الروح، يروون قصصاً في الساحة، والوصية لنا: سنعود، مهما طال الضيق أو اتسع الفضاء". وكانت الأطفال يسألون عن البركسات، عن الزينكو الذي يئن، عن الغرفة الضيقة التي تجمع العائلة، يتمنون لو عاشوا هناك، في الضيق الذي يولد الدفء، لا في الفضاء الذي يولد الوحدة.

كانت عليا تربط بين النكبة والحاضر، ترى في غزة استمراراً للنار، حرقاً جديداً للأحياء، تهجيراً جديداً، لكن الوصية تبقى: قضي الأمور في الوادي، عودي إلى الطيرة. "الظلم مستمر"، تهمس لأحفادها، عيناها تلمعان بغضب مقدس، "حرقوا العجزة أحياء في الطيرة، ويحرقون اليوم في غزة، ليفرغوا الأرض، لكن الأرواح تبقى، تتجول، تشهد، تنتظر العودة". وكانت الأطفال يتعلمون، يحملون الغضب والأمل، يغنون أغاني الطيرة التي روتها عليا، أغاني العودة التي بدأتها فاطمة في الحمى.

في النهاية، كانت الأجيال تتوحد في الروح، حمدة في البركسة الضيقة تحمل الوصية، عليا في الشقة الواسعة تنقلها، الأحفاد في الغرب يحلمون بها، أرواح فاطمة وعادل وصالح تتجول بينهم، تشهد على الاستمرارية. "الطيرة لم تمت"، تهمس عليا، صوتها يعلو في الشقة، "حرقوا العجزة أحياء، دمرونا، لكن الروح بقيت، تنتقل من جيل إلى جيل، من الضيق إلى الفضاء، تنتظر العودة". وكانت تربط بين الماضي والحاضر، ترى في كل ظلم جديد استمراراً للنكبة، لكن في كل جيل جديد أملاً جديداً، أملاً يولد من الضيق والفضاء معاً.

هكذا ربطت الأجيال، ربطاً بخيط الذكرى والوصية، من ضيق البركسات إلى فضاء الغرب، من نار النكبة إلى أمل العودة، من فاطمة التي قضت أمورها في الوادي إلى أحفاد يحملون الوعد. وكان الجبل يهمس من بعيد، في كل قلب، يقول: "عدتم يا أبنائي، عدتم في الروح، واليوم الآخر قادم، يوم تعودون إلى الطيرة، إلى الوادي، إلى الأرض التي لم تخن، إلى الحب الذي لم يمت". وكانت الأرواح تبتسم، تبتسم ساخرة مريرة: "قالوا أرض بلا شعب، فأصبح شعب بلا أرض، لكنهم لم يحسبوا أن الشعب يحمل الأرض في قلبه، يحملها أجيالاً، حتى يعود، حتى يقضي أموره في وادي أبو الجاع، حتى تنتهي النار، وتبدأ الحياة من جديد".


4


مع ربط الأجيال في تلك السنوات التي امتدت كأنها نسيج من الظلال المتداخلة، أصبحت الطيرة كسرّ يتوارثه الأحفاد كتراث مقدس، سرّ لا يفنى، ينتقل من همس فاطمة في الحمى إلى صمت حمدة في ضيق البركسات، ثم إلى كلمات عليا في شقتها الواسعة على الراين، ومن ثم إلى أحفاد عليا الذين يركضون في الشوارع المرصوفة لكنهم يحملون في أعماقهم صوت الينبوع في وادي أبو الجاع، رائحة الزيتون في الحقول، دفء العجزة الذين حرقوا أحياء لكنهم بقوا أحياء في القصص. كانت عليا تجمع أحفادها في الشقة الفسيحة، ترسم لهم على الطاولة خريطة الطيرة بقلم حبر، تشير إلى الوادي كأنه قلب ينبض، تهمس بصوت يحمل إرث فاطمة الذي لم يخفت: "هنا قضت جدتكم الكبرى أمورنا، في الحمى عادت إلى الينبوع، إلى عادل الذي يمد يده، إلى صالح الذي يضحك، إلى العجزة الذين حرقوا أحياء لكنهم بقوا أحياء في الروح، يروون قصصاً في الساحة". وكانت الأطفال يستمعون، عيونهم تلمعان بشوق إلى عالم يبدو أسطورياً، يسألون عن البركسات الضيقة تحت الزينكو، عن الغرفة الواحدة التي تضم العائلة، عن الضيق الذي يولد الدفء الحقيقي، لا الدفء المصطنع الذي يأتي من الجدران في الغرب.

كانت حمدة تروي من النيرب، في المكالمات التي تأتي كجسر هش بين الضيق والفضاء، عن الأحفاد الذين يكبرون في البركسات، يتكدسون في الغرف الضيقة، يسمعون أنفاس بعضهم في الليل، يعانون الحر تحت الزينكو في الصيف والرطوبة في الشتاء، لكنهم يحملون الطيرة ككنز مخفي. "يا عليا"، تقول حمدة، صوتها يحمل صمود الأجيال، "الضيق هنا يعلمنا، البركسة تضغط على الصدر لكنها توسع القلب، الأحفاد يروون قصص جدتهم فاطمة، عن الوادي الذي قضت فيه أمورنا، عن العجزة الذين حرقوا أحياء لكنهم يعيشون في القصص". وكانت عليا ترد بدموع تخفيها، صوتها يرتجف: "أمي، أخبريهم أننا هنا في الفضاء الواسع، لكن قلوبنا في الضيق معكم، أتمنى لو بقيت في البركسة، أعيش الذكرى الحية، أشم رائحة الخبز على الصفيحة، لا هذا الرفاه الذي يبعد الأجيال عن الينبوع". وكانت تشعر بأن الربط يتم، ربط الأجيال بخيط الشوق والألم، من ضيق النيرب إلى فضاء الغرب، من نار النكبة إلى أمل العودة.

في دوسلدورف، كانت عليا تربي أحفادها على الوصية، تجمعهم في الشقة الواسعة، تروي عن فاطمة التي عاشت مئة واثنتين، عن الستين في الطيرة الواسعة، عن الأربعين في الضيق، عن الحمى التي أعادتها إلى الوادي. "جدتكم الكبرى"، تقول، صوتها يعلو كأنه صوت الجبل، "قضت أمورنا في وادي أبو الجاع، عادت إلى عادل، إلى صالح، إلى العجزة الذين حرقوا أحياء لكنهم بقوا أحياء في الروح، يروون قصصاً في الساحة، والوصية لنا: سنعود، مهما طال الضيق أو اتسع الفضاء". وكانت الأطفال يسألون عن البركسات، عن الزينكو الذي يئن، عن الغرفة الضيقة التي تجمع العائلة، يتمنون لو عاشوا هناك، في الضيق الذي يولد الدفء، لا في الفضاء الذي يولد الوحدة.

كانت عليا تربط بين النكبة والحاضر، ترى في غزة استمراراً للنار، حرقاً جديداً للأحياء، تهجيراً جديداً، لكن الوصية تبقى: قضي الأمور في الوادي، عودي إلى الطيرة. "الظلم مستمر"، تهمس لأحفادها، عيناها تلمعان بغضب مقدس، "حرقوا العجزة أحياء في الطيرة، ويحرقون اليوم في غزة، ليفرغوا الأرض، لكن الأرواح تبقى، تتجول، تشهد، تنتظر العودة". وكانت الأطفال يتعلمون، يحملون الغضب والأمل، يغنون أغاني الطيرة التي روتها عليا، أغاني العودة التي بدأتها فاطمة في الحمى.

في النهاية، كانت الأجيال تتوحد في الروح، حمدة في البركسة الضيقة تحمل الوصية، عليا في الشقة الواسعة تنقلها، الأحفاد في الغرب يحلمون بها، أرواح فاطمة وعادل وصالح تتجول بينهم، تشهد على الاستمرارية. "الطيرة لم تمت"، تهمس عليا، صوتها يعلو في الشقة، "حرقوا العجزة أحياء، دمرونا، لكن الروح بقيت، تنتقل من جيل إلى جيل، من الضيق إلى الفضاء، تنتظر العودة". وكانت تربط بين الماضي والحاضر، ترى في كل ظلم جديد استمراراً للنكبة، لكن في كل جيل جديد أملاً جديداً، أملاً يولد من الضيق والفضاء معاً.

هكذا ربطت الأجيال، ربطاً بخيط الذكرى والوصية، من ضيق البركسات إلى فضاء الغرب، من نار النكبة إلى أمل العودة، من فاطمة التي قضت أمورها في الوادي إلى أحفاد يحملون الوعد. وكان الجبل يهمس من بعيد، في كل قلب، يقول: "عدتم يا أبنائي، عدتم في الروح، واليوم الآخر قادم، يوم تعودون إلى الطيرة، إلى الوادي، إلى الأرض التي لم تخن، إلى الحب الذي لم يمت". وكانت الأرواح تبتسم، تبتسم ساخرة مريرة: "قالوا أرض بلا شعب، فأصبح شعب بلا أرض، لكنهم لم يحسبوا أن الشعب يحمل الأرض في قلبه، يحملها أجيالاً، حتى يعود، حتى يقضي أموره في وادي أبو الجاع، حتى تنتهي النار، وتبدأ الحياة من جديد".


5

مع ربط الأجيال في تلك السنوات التي امتدت كأنها خيوط عنكبوت من الذكريات المتشابكة، أصبحت الطيرة كضوء خافت يتسلل من شقوق الزمن، ضوء لا ينطفئ، ينتقل من روح فاطمة في الحمى إلى صبر حمدة في ضيق البركسات، ثم إلى شوق عليا في فضاء دوسلدورف البارد، ومن ثم إلى أحفاد عليا الذين يمشون في شوارع حديثة لكنهم يحملون في أعماقهم صوت الينبوع في وادي أبو الجاع، رائحة الخروب في الربيع، دفء العجزة الذين حرقوا أحياء لكنهم بقوا أحياء في القصص. كانت عليا تجمع أحفادها في الشقة الواسعة، ترسم لهم على الجدران بألوان مائية خريطة الطيرة، تشير إلى الوادي كأنه شريان حي، تهمس بصوت يحمل إرث فاطمة الذي لم يخفت: "هنا قضت جدتكم الكبرى أمورنا، في الحمى عادت إلى الينبوع، إلى عادل الذي يمد يده، إلى صالح الذي يضحك، إلى العجزة الذين حرقوا أحياء لكنهم بقوا أحياء في الروح، يروون قصصاً في الساحة". وكانت الأطفال يستمعون، عيونهم تلمعان بشوق إلى عالم يبدو أسطورياً، يسألون عن البركسات الضيقة تحت الزينكو، عن الغرفة الواحدة التي تضم العائلة، عن الضيق الذي يولد الدفء الحقيقي، لا الدفء المصطنع الذي يأتي من الجدران في الغرب.

كانت حمدة تروي من النيرب، في المكالمات التي تأتي كجسر هش بين الضيق والفضاء، عن الأحفاد الذين يكبرون في البركسات، يتكدسون في الغرف الضيقة، يسمعون أنفاس بعضهم في الليل، يعانون الحر تحت الزينكو في الصيف والرطوبة في الشتاء، لكنهم يحملون الطيرة ككنز مخفي. "يا عليا"، تقول حمدة، صوتها يحمل صمود الأجيال، "الضيق هنا يعلمنا، البركسة تضغط على الصدر لكنها توسع القلب، الأحفاد يروون قصص جدتهم فاطمة، عن الوادي الذي قضت فيه أمورنا، عن العجزة الذين حرقوا أحياء لكنهم يعيشون في القصص". وكانت عليا ترد بدموع تخفيها، صوتها يرتجف: "أمي، أخبريهم أننا هنا في الفضاء الواسع، لكن قلوبنا في الضيق معكم، أتمنى لو بقيت في البركسة، أعيش الذكرى الحية، أشم رائحة الخبز على الصفيحة، لا هذا الرفاه الذي يبعد الأجيال عن الينبوع". وكانت تشعر بأن الربط يتم، ربط الأجيال بخيط الشوق والألم، من ضيق النيرب إلى فضاء الغرب، من نار النكبة إلى أمل العودة.

في دوسلدورف، كانت عليا تربي أحفادها على الوصية، تجمعهم في الشقة الواسعة، تروي عن فاطمة التي عاشت مئة واثنتين، عن الستين في الطيرة الواسعة، عن الأربعين في الضيق، عن الحمى التي أعادتها إلى الوادي. "جدتكم الكبرى"، تقول، صوتها يعلو كأنه صوت الجبل، "قضت أمورنا في وادي أبو الجاع، عادت إلى عادل، إلى صالح، إلى العجزة الذين حرقوا أحياء لكنهم بقوا أحياء في الروح، يروون قصصاً في الساحة، والوصية لنا: سنعود، مهما طال الضيق أو اتسع الفضاء". وكانت الأطفال يسألون عن البركسات، عن الزينكو الذي يئن، عن الغرفة الضيقة التي تجمع العائلة، يتمنون لو عاشوا هناك، في الضيق الذي يولد الدفء، لا في الفضاء الذي يولد الوحدة.

كانت عليا تربط بين النكبة والحاضر، ترى في غزة استمراراً للنار، حرقاً جديداً للأحياء، تهجيراً جديداً، لكن الوصية تبقى: قضي الأمور في الوادي، عودي إلى الطيرة. "الظلم مستمر"، تهمس لأحفادها، عيناها تلمعان بغضب مقدس، "حرقوا العجزة أحياء في الطيرة، ويحرقون اليوم في غزة، ليفرغوا الأرض، لكن الأرواح تبقى، تتجول، تشهد، تنتظر العودة". وكانت الأطفال يتعلمون، يحملون الغضب والأمل، يغنون أغاني الطيرة التي روتها عليا، أغاني العودة التي بدأتها فاطمة في الحمى.

في النهاية، كانت الأجيال تتوحد في الروح، حمدة في البركسة الضيقة تحمل الوصية، عليا في الشقة الواسعة تنقلها، الأحفاد في الغرب يحلمون بها، أرواح فاطمة وعادل وصالح تتجول بينهم، تشهد على الاستمرارية. "الطيرة لم تمت"، تهمس عليا، صوتها يعلو في الشقة، "حرقوا العجزة أحياء، دمرونا، لكن الروح بقيت، تنتقل من جيل إلى جيل، من الضيق إلى الفضاء، تنتظر العودة". وكانت تربط بين الماضي والحاضر، ترى في كل ظلم جديد استمراراً للنكبة، لكن في كل جيل جديد أملاً جديداً، أملاً يولد من الضيق والفضاء معاً.

هكذا ربطت الأجيال، ربطاً بخيط الذكرى والوصية، من ضيق البركسات إلى فضاء الغرب، من نار النكبة إلى أمل العودة، من فاطمة التي قضت أمورها في الوادي إلى أحفاد يحملون الوعد. وكان الجبل يهمس من بعيد، في كل قلب، يقول: "عدتم يا أبنائي، عدتم في الروح، واليوم الآخر قادم، يوم تعودون إلى الطيرة، إلى الوادي، إلى الأرض التي لم تخن، إلى الحب الذي لم يمت". وكانت الأرواح تبتسم، تبتسم ساخرة مريرة: "قالوا أرض بلا شعب، فأصبح شعب بلا أرض، لكنهم لم يحسبوا أن الشعب يحمل الأرض في قلبه، يحملها أجيالاً، حتى يعود، حتى يقضي أموره في وادي أبو الجاع، حتى تنتهي النار، وتبدأ الحياة من جديد".



6


مع ربط الأجيال في تلك السنوات التي امتدت كأنها نسيج من الظلال المتداخلة إلى الأبد، أصبحت الطيرة كنجمة خفية تضيء في سماء القلوب، نجمة لا تخفت، تنتقل من روح فاطمة في الحمى إلى صبر حمدة في ضيق البركسات، ثم إلى شوق عليا في فضاء دوسلدورف البارد، ومن ثم إلى أحفاد عليا الذين يمشون في عالم حديث لكنهم يحملون في أعماقهم صوت الينبوع في وادي أبو الجاع، رائحة الخروب في الربيع، دفء العجزة الذين حرقوا أحياء لكنهم بقوا أحياء في القصص. كانت عليا تجمع أحفادها في الشقة الواسعة، ترسم لهم على الجدران بألوان زاهية خريطة الطيرة، تشير إلى الوادي كأنه نبض حي، تهمس بصوت يحمل إرث فاطمة الذي لم يخفت: "هنا قضت جدتكم الكبرى أمورنا، في الحمى عادت إلى الينبوع، إلى عادل الذي يمد يده، إلى صالح الذي يضحك، إلى العجزة الذين حرقوا أحياء لكنهم بقوا أحياء في الروح، يروون قصصاً في الساحة". وكانت الأطفال يستمعون، عيونهم تلمعان بشوق إلى عالم يبدو أسطورياً، يسألون عن البركسات الضيقة تحت الزينكو، عن الغرفة الواحدة التي تضم العائلة، عن الضيق الذي يولد الدفء الحقيقي، لا الدفء المصطنع الذي يأتي من الجدران في الغرب.

كانت حمدة تروي من النيرب، في المكالمات التي تأتي كجسر هش بين الضيق والفضاء، عن الأحفاد الذين يكبرون في البركسات، يتكدسون في الغرف الضيقة، يسمعون أنفاس بعضهم في الليل، يعانون الحر تحت الزينكو في الصيف والرطوبة في الشتاء، لكنهم يحملون الطيرة ككنز مخفي. "يا عليا"، تقول حمدة، صوتها يحمل صمود الأجيال، "الضيق هنا يعلمنا، البركسة تضغط على الصدر لكنها توسع القلب، الأحفاد يروون قصص جدتهم فاطمة، عن الوادي الذي قضت فيه أمورنا، عن العجزة الذين حرقوا أحياء لكنهم يعيشون في القصص". وكانت عليا ترد بدموع تخفيها، صوتها يرتجف: "أمي، أخبريهم أننا هنا في الفضاء الواسع، لكن قلوبنا في الضيق معكم، أتمنى لو بقيت في البركسة، أعيش الذكرى الحية، أشم رائحة الخبز على الصفيحة، لا هذا الرفاه الذي يبعد الأجيال عن الينبوع". وكانت تشعر بأن الربط يتم، ربط الأجيال بخيط الشوق والألم، من ضيق النيرب إلى فضاء الغرب، من نار النكبة إلى أمل العودة.

في دوسلدورف، كانت عليا تربي أحفادها على الوصية، تجمعهم في الشقة الواسعة، تروي عن فاطمة التي عاشت مئة واثنتين، عن الستين في الطيرة الواسعة، عن الأربعين في الضيق، عن الحمى التي أعادتها إلى الوادي. "جدتكم الكبرى"، تقول، صوتها يعلو كأنه صوت الجبل، "قضت أمورنا في وادي أبو الجاع، عادت إلى عادل، إلى صالح، إلى العجزة الذين حرقوا أحياء لكنهم بقوا أحياء في الروح، يروون قصصاً في الساحة، والوصية لنا: سنعود، مهما طال الضيق أو اتسع الفضاء". وكانت الأطفال يسألون عن البركسات، عن الزينكو الذي يئن، عن الغرفة الضيقة التي تجمع العائلة، يتمنون لو عاشوا هناك، في الضيق الذي يولد الدفء، لا في الفضاء الذي يولد الوحدة.

كانت عليا تربط بين النكبة والحاضر، ترى في غزة استمراراً للنار، حرقاً جديداً للأحياء، تهجيراً جديداً، لكن الوصية تبقى: قضي الأمور في الوادي، عودي إلى الطيرة. "الظلم مستمر"، تهمس لأحفادها، عيناها تلمعان بغضب مقدس، "حرقوا العجزة أحياء في الطيرة، ويحرقون اليوم في غزة، ليفرغوا الأرض، لكن الأرواح تبقى، تتجول، تشهد، تنتظر العودة". وكانت الأطفال يتعلمون، يحملون الغضب والأمل، يغنون أغاني الطيرة التي روتها عليا، أغاني العودة التي بدأتها فاطمة في الحمى.

في النهاية، كانت الأجيال تتوحد في الروح، حمدة في البركسة الضيقة تحمل الوصية، عليا في الشقة الواسعة تنقلها، الأحفاد في الغرب يحلمون بها، أرواح فاطمة وعادل وصالح تتجول بينهم، تشهد على الاستمرارية. "الطيرة لم تمت"، تهمس عليا، صوتها يعلو في الشقة، "حرقوا العجزة أحياء، دمرونا، لكن الروح بقيت، تنتقل من جيل إلى جيل، من الضيق إلى الفضاء، تنتظر العودة". وكانت تربط بين الماضي والحاضر، ترى في كل ظلم جديد استمراراً للنكبة، لكن في كل جيل جديد أملاً جديداً، أملاً يولد من الضيق والفضاء معاً.

هكذا ربطت الأجيال، ربطاً بخيط الذكرى والوصية، من ضيق البركسات إلى فضاء الغرب، من نار النكبة إلى أمل العودة، من فاطمة التي قضت أمورها في الوادي إلى أحفاد يحملون الوعد. وكان الجبل يهمس من بعيد، في كل قلب، يقول: "عدتم يا أبنائي، عدتم في الروح، واليوم الآخر قادم، يوم تعودون إلى الطيرة، إلى الوادي، إلى الأرض التي لم تخن، إلى الحب الذي لم يمت". وكانت الأرواح تبتسم، تبتسم ساخرة مريرة: "قالوا أرض بلا شعب، فأصبح شعب بلا أرض، لكنهم لم يحسبوا أن الشعب يحمل الأرض في قلبه، يحملها أجيالاً، حتى يعود، حتى يقضي أموره في وادي أبو الجاع، حتى تنتهي النار، وتبدأ الحياة من جديد".

وكان الجبل يبكي، لكنه يبكي دموع أمل، دموع أرواح تتجول في غزة، تشهد على الاستمرارية، على أن النكبة لم تنتهِ، بل تتجدد، لكن الروح تبقى، تنتظر، تقاوم، تعود. وكانت فاطمة، من عالمها، تبتسم، ترى الأجيال تحمل وصيتها، ترى الطيرة حية في كل قلب، ترى الينبوع يجري أبدياً، ينتظر العودة، ينتظر يوم يقضي فيه الأحفاد الأمور، يوم ينتهي فيه المنفى، وتعود الطيرة إلى أبنائها، واسعة كالحلم، حنونة كالأم، مقاومة كالجبل الذي لم ينكسر.


……..



كتابة ملخص عن فصول الرواية



في رواية "ظلال الكرمل"، تنسج الأجيال خيطاً رفيعاً من الذكرى يربط بين الطيرة الخضراء والمنفى القاسي، خيطاً يحمل في طياته نار النكبة التي لم تنطفئ، ووعد العودة الذي ينبض في كل قلب.

يبدأ الفصل الأول، "ولادة تحت الزيتون"، برحلة فاطمة من المهد إلى الشباب في الطيرة، قرية تتسلق منحدرات الكرمل كأنها سر من أسراره. تولد فاطمة عام 1888 في بيت حجري صغير، تنشأ وسط رائحة الزيتون والخبز الطازج، تتعلم من أمها عليا حنان الأرض، ومن أبيها صالح قوة الجبل. تكبر فاطمة بين الحقول والوديان، تلتقي عادل في وادي أبو الجاع، يبنيان حباً ناشئاً تحت ظل الخروب، حباً يصمد أمام الغرباء الذين يتجولون في القرية يرسمون خرائط ويصفون الجبل كمتحف رومانسي، يهملون الحياة النابضة التي تملأه. يرسم الفصل حياة يومية غنية، حصاداً وأعراساً وحكايات، مع تلميح خفي إلى الرياح القادمة التي تحمل رائحة التغيير.

أما الفصل الثاني، "الرياح القادمة"، فيصور تصاعد التوتر في الثلاثينيات والأربعينيات، زواج فاطمة من عادل، ولادة الأطفال، حياة خصبة في الطيرة رغم الظلال التي تطول. يأتون الغرباء أكثر، يشترون الأراضي، يرسمون خططاً في غرف مغلقة، يتحدثون عن أرض بلا شعب، بينما الطيرة مفعمة بالحياة، بالحصاد والثورة الكبرى التي تشعل نار المقاومة. يقاتل عادل مع الرجال، تحمي فاطمة الحياة مع النسوة، يعدون للأسوأ، يحفرون الملاجئ، يخبئون المؤن، والوادي يبقى ملاذاً سرياً يجددان فيه الحب وسط العاصفة القادمة.

في الفصل الثالث، "اللهب"، تنفجر النكبة عام 1948، تدمير الطيرة، وصول العصابات، حرق العجزة أحياء في بيوت مغلقة، صالح وعبد الرحمن ويوسف سلوم يحترقون أحياء كرمز لما حدث في مئات القرى، صرخات تتعالى ثم تخفت في اللهب. تقاوم القرية ببسالة، يقاتل عادل والرجال، تسقط الطيرة، تهجير قسري، فاطمة تسير مع النسوة والأطفال نحو الجبال، تحمل الذكرى كجرح مفتوح، ترى النار تلتهم بيتها، زيتونها، حياتها الستين عاماً، تبكي على العجزة المحروقين أحياء، على عادل الذي سقط ربما، وتبدأ رحلة التهجير، رحلة الجوع والخوف والألم.

الفصل الرابع، "أربعون عاماً في الخيمة"، يروي حياة اللجوء في مخيم النيرب، معسكر فرنسي قديم تحول إلى بركسات ضيقة بسقوف من الزينكو تحرق في الصيف وتغرق في الشتاء، غرفة واحدة تتكدس فيها العائلة، ضيق يخنق الجسد لكنه يولد صموداً. تعيش فاطمة أربعين عاماً في الضيق، تبني حياة من الصفر، تربي الأحفاد على الذكرى، تروي عن الطيرة، عن وادي أبو الجاع، عن حرق العجزة أحياء، تحافظ على الوصية، تنقل الشوق إلى حمدة وابنتها.

في الفصل الخامس، "الحمى تعيد الجبل"، يأتي المرض الأخير عام 1990، حمى تجعل فاطمة في الثانية بعد المئة تعود إلى الطيرة، في البركسة الضيقة تحت الزينكو، تتحدث مع حمدة كأنها في الوادي، تطلب قضاء الأمور في وادي أبو الجاع، ترى عادل ينتظر، العجزة يضحكون، الطيرة حية. تموت فاطمة سعيدة، عائدة إلى الطيرة في آخر نفس، تاركة الوصية لحمدة، وصية العودة، قضاء الأمور في الوادي.

الفصل السادس، "الذاكرة الأبدية"، ينتقل إلى عليا الحفيدة في دوسلدورف، تعيش في الرفاهية الواسعة، شقة تطل على الراين، كل شيء متوفر، لكن قلبها ضيق، تتذكر كل تفصيل عن الطيرة رغم أنها لم ترها، تتمنى لو بقيت في الضيق مع حمدة، في البركسة تحت الزينكو، تحمل الذكرى كجرح حي، تروي لأبنائها عن فاطمة، عن الوادي، عن حرق العجزة أحياء.

أخيراً، الفصل السابع، "عودة الظلال"، يربط الأجيال، من فاطمة إلى حمدة إلى عليا إلى الأحفاد في الغرب، ربط بخيط الذكرى والوصية، قضاء الأمور في وادي أبو الجاع، العودة إلى الطيرة. ترى الأجيال في غزة استمراراً للنار، حرقاً جديداً، لكن الروح تبقى، تتجول، تشهد، تنتظر. تنتهي الرواية بوداع ساخر مرير: قالوا أرض بلا شعب، فأصبح شعب بلا أرض، لكنهم لم يحسبوا أن الشعب يحمل الأرض في قلبه، يحملها أجيالاً، حتى يعود، حتى يقضي أموره في وادي أبو الجاع، حتى تنتهي النار، وتبدأ الحياة من جديد، في الطيرة الواسعة، حنونة كالأم، مقاومة كالجبل.

……….



#احمد_صالح_سلوم (هاشتاغ)       Ahmad_Saloum#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- نهاية الإمبراطورية الرقمية: كيف خسرت أمريكا سباق الرقائق أما ...
- دراسة أدبية نقدية معمقة لرواية -دمية بعين واحدة- لأحمد صالح ...
- حلب... عندما تَصْفَعُ المدافعُ وجهُ الماضي
- في تشريحِ خُرَافَةِ مُعَادَاةِ السَّامِيَّةِ وَتَجْنيدِهَا س ...
- بروكسل في الفجر: فاتورة الوهم على كاهل أوروبا( كتيب)
- كبت الرمال: تناقضات التقوى في محميات الخليج
- همسة رضيع في عاصفة الإبادة..قصة قصيرة عن الهولوكوست الأمريكي ...
- مقبرة الأسياد.. كيف تشيّع بروكسل أحلامها بأكفان شعبين؟..الجو ...
- قمة بروكسل تفضح أزمة الإمبريالية المتأخرة في مواجهة روسيا
- في معنى تعدد الأقطاب : عندما تعترف واشنطن بالقوى الصاعدة : ا ...
- قصة : رقصةُ الغزال الأخيرة
- تقشف أوروبي تحت غطاء العسكرة: كيف يُعاد تشكيل الدولة الاجتما ...
- انتصار جنرال الوقت على الهيمنة الأمريكية
- تراجع التفوق الأمريكي: وثيقة سرية تكشف هشاشة الإمبراطورية أم ...
- يوروكلير: قبر اليورو الذهبي
- كيف استثمرت بروكسل في هزيمتها المحققة اليوم
- ما التحديات التي تطرحها وثيقة ترامب الاستراتيجية على محور ال ...
- رواية : أنفاسٌ لا تُقاس أو اسم اخر للرواية (عبودية في ثياب ا ...
- استراتيجية الأمن القومي الأمريكية لعام 2025: نظرة عامة وتقيي ...
- حول رواية ( لماذا ؟ ..صرخة في قصر أصم )..مقدمات نقدية لمدارس ...


المزيد.....




- بدون زينة ولا موسيقى.. السويداء تحيي عيد الميلاد في جو من ال ...
- شانلي أورفا التركية على خريطة فنون الطهي العالمية بحلول 2029 ...
- ريهام عبد الغفور.. صورة الفنانة المصرية تحدث جدلا ونقابة الم ...
- زلزال -طريق الملح- يضرب دور النشر في لندن ويعيد النظر إلى أد ...
- الكوميدي هشام ماجد: أنا ضد البطل الأوحد وهذا دور والدتي في ح ...
- فنان هندي يصنع تمثالًا لبابا نويل باستخدام 1.5 طنًا من التفا ...
- مكتبة الحكمة في بغداد.. جوهرة ثقافية في قبو بشارع المتنبي
- وفاة الممثل الفلسطيني المعروف محمد بكري عن عمر يناهز 72 عاما ...
- قرار ترامب باستدعاء سفراء واشنطن يفاقم أزمة التمثيل الدبلوما ...
- عرض فيلم وثائقي يكشف تفاصيل 11 يوما من معركة تحرير سوريا


المزيد.....

- دراسة تفكيك العوالم الدرامية في ثلاثية نواف يونس / السيد حافظ
- مراجعات (الحياة الساكنة المحتضرة في أعمال لورانس داريل: تساؤ ... / عبدالرؤوف بطيخ
- ليلة الخميس. مسرحية. السيد حافظ / السيد حافظ
- زعموا أن / كمال التاغوتي
- خرائط العراقيين الغريبة / ملهم الملائكة
- مقال (حياة غويا وعصره ) بقلم آلان وودز.مجلةدفاعاعن الماركسية ... / عبدالرؤوف بطيخ
- يوميات رجل لا ينكسر رواية شعرية مكثفة. السيد حافظ- الجزء ال ... / السيد حافظ
- ركن هادئ للبنفسج / د. خالد زغريت
- حــوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الثاني / السيد حافظ
- رواية "سفر الأمهات الثلاث" / رانية مرجية


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - احمد صالح سلوم - رواية - من طيرة اللوز إلى الراين - أو - ظلال الكرمل -