أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - أنس قاسم المرفوع - فرعون في القرآن: رمزية الطغيان المتجدِّد وأولوية العدل على العبادة















المزيد.....

فرعون في القرآن: رمزية الطغيان المتجدِّد وأولوية العدل على العبادة


أنس قاسم المرفوع
أكاديمي وكاتب وسياسي سوري باحث في مركز دراسات الشرق للسلام

(Anas Qasem Al-marfua)


الحوار المتمدن-العدد: 8566 - 2025 / 12 / 24 - 18:53
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


ليس من قبيل الصدفة أن يُذكر فرعون في القرآن الكريم أربعاً وسبعين مرة، بينما تذكر العبادات الكبرى كالوضوء مرة واحدة، والصلاة بضع مرات، والإرث والحج مرة أو مرتين. هذا التوازن المدهش في الذكر ليس توزيعاً عشوائياً، بل رسالة موجهة إلى الأمة: إن الخطر الأكبر الذي يهدد وجودها ليس تخلفها في أداء الشعائر، بل استمرارها في قبول الطغيان وتكريس الاستبداد. فرعون ليس مجرد فرد تاريخي عاش في زمن سحيق؛ هو رمز حي، متجدد، يتجسد في كل من يحتكر السلطة، ويحتكر الحقيقة، ويحتكر الوجود، ويجعل من نفسه إلهاً على الأرض. ولذلك، لا يذكر فرعون كاسم يشير إلى شخص بعينه، بل كوظيفة سياسية خطيرة تتكرر في كل عصر، تحت أشكال جديدة وأقنعة مختلفة.

الدكتور محمد شحرور، في قراءته التجديدية للنص القرآني، يشير إلى أن المسلمين، عبر قرون طويلة، أغفلوا تشريح مؤسسة الطغيان السياسي، فانشغلوا بتفاصيل العبادات بينما تركوا جذور الظلم السياسي تنمو في جسد الأمة. ويوضح أن الطغيان لم يعد فقط حاكماً يحبس الرقاب أو يأمر بالقتل، بل تحول إلى آلية منظومة شاملة: طغيان اقتصادي يسرق لقمة الفقير باسم القانون، وطغيان اجتماعي يقصي الآخر ويسحق التنوع باسم الوحدة، وطغيان ديني يجعل من المؤسسة الدينية أداة في يد الحاكم لشرعنة القمع باسم الشريعة. يقدس الظالم بفتاوى، ويمول بثروات الأمة، ويعلم أطفالك في المدارس أنه القائد المؤسس. فحقيقة الطغيان هو أن يصير الحاكم الحاكم المطلق، فيمسك الاقتصاد، ويوظف الدين، ويتحكم في التعليم، ويلغي الرأي الآخر باسم الوحدة الوطنية أو الاستقرار. وهذا كله في جوهره هو تجاوز للحد، كما وصف الله تعالى فرعون: (إِنَّهُ طَغَى). والطغيان، حسب شحرور، هو الخروج عن الحد الذي وضعته السماء للإنسان: حد الحرية، حد الكرامة، حد العدل. فحقيقةً، حتى في لغة القرآن ثمة تلميح عميق: فرعون لا يوصف بأنه كافر فقط، بل طاغية. فكفره ليس فقط عقائدياً بل سلوكياً وسياسياً، وهو ما يجعل مواجهته واجباً دينياً كما هو واجب إنساني. فالمؤمن الحقيقي ليس من يغلق عينيه ويقول: اللهم ارزقنا الصبر على الظالمين، بل من يفتح عينيه ويقول: اللهم اجعلني سبباً في زوال الظلم. لذا لا عجب أن يفتح لفرعون هذا الباب الواسع في القرآن. فالعبادات قد تصلح الفرد، لكن الطغيان يفسد الأمة.

وفي هذا السياق، يصبح تقديم العدل على العبادة في مواضع قرآنية كثيرة دليلاً واضحاً على أولوية النظام العادل على الشكل العبادي. فالآية الكريمة: ﴿قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ﴾. لاحظ: قدم الله سبحانه وتعالى الأمر بالقسط – أي العدل – على الصلاة. لماذا؟ لأن الصلاة في ظل ظالم تفقد روحها. ولأن الصلاة في ظل نظام ظالم قد تتحول إلى طقوس فارغة لا تغير واقعاً، بل قد تستخدم لتبرير الطغيان نفسه. أن المسجد لا ينير قلبك إذا كان خارجه طفل جائع، أو سجين يتعذب، أو شاب أو عائلة مهجرة من بلدها لأنهم رفضوا أن يكونوا عبيداً لفرعون العصر. فالعدل ليس فضيلةً، بل شرط لصدق العبادة.

والمفارقة الصادمة التي يكشفها شحرور: أننا، كأمة، بقينا نصلي، نحج، نتصدق… ونكرس الطغيان في سلوكنا السياسي والاجتماعي. حتى لم يعد الطغيان فقط سلطاناً سياسياً، بل تحول إلى طغيان اقتصادي: حيث توزع الثروات على النخبة ويترك الشعب يتسول. وطغيان اجتماعي: حيث يمنع الفتى من أن يتزوج لأن العشيرة على خلاف مع عشيرته، أو يمنع الرجل من أن يعلم ابنته لأن الدين لا يسمح (وهذا كذب على الدين!). وطغيان ديني: حيث يصبح الفقيه والمفتي ناطقاً باسم الله، ويجرم من يفكر رأياً له، ويفسر القرآن ليبرر العبودية الجديدة باسم الولاء للحاكم. أما العدل فهو الحد الفاصل بين الوجود والانهيار. فعندما يستبدل العدل بالولاء، ويستبدل الحق بالطاعة العمياء، تبدأ الأمة في الانهيار من الداخل، حتى لو ظلت المساجد عامرةً والصدور حافظة للقرآن.

فحقيقةً، إن جذور الأزمة في المجتمعات الشرقية، بل في البشرية جمعاء، تكمن في الدولة السلطوية التي تركز السلطة في يد واحدة، وتلغي دور المجتمع، وتحول الإنسان من كائن سياسي فاعل إلى مجرد تابع خانع. فالحاكم الطاغية يشبه فرعون عندما يغتصب إرادة الشعب ويستبدلها بإرادته، ويقدس نفسه، ويجعل الدين وسيلة لتخدير الجماهير. فحقيقة الدولة السلطوية لا تقتصر على الحاكم الفرد، بل تشمل كل بنية تمارس التسلط: كالمؤسسات العسكرية والجهاز الأمني، والمؤسسة الدينية المسخرة، وحتى الأنظمة التعليمية التي تعلم الطاعة بدلاً من التفكير.

لنأخذ مثالاً من واقعنا: في مجتمع تحتكر فيه الثروة من قبل عائلة واحدة، وتمنع فيه النقابات، ويسجن فيه كل من يطالب بالحد الأدنى للأجور، ويستخدم فيه الخطاب الديني لوصف المطالبين بالعدالة بأنهم عملاء للخارج، هناك نجد فرعون بعينه، لكن باسم جديد وحاشية معاصرة. وفي مجتمع آخر، يمارس فيه التمييز ضد مجموعة دينية أو إثنية، ويمنع فيها الآخرون من الوصول إلى المناصب القيادية، وتلغى فيها هوياتهم الثقافية تحت ذريعة الوحدة الوطنية، هناك أيضاً فرعون جديد، يمارس الطغيان الاجتماعي والثقافي.

فحقيقة الخلاص من فرعون لا يتم فقط بإسقاط الحاكم، بل بإعادة بناء المجتمع من الأسفل عبر نموذج الديمقراطية التشاركية التي تعيد للإنسان دوره كفاعل في صنع قراراته. لا ديمقراطية تمثيلية شكلية تكتفي بصندوق انتخاب تعيد إنتاج النخبة نفسها، بل ديمقراطية تشاركية حقيقية توزع السلطة على البلديات، على الجمعيات، على المجالس الشعبية، بحيث لا تركز القوة أبداً في يد واحدة. فحقيقة المواجهة الحقيقية لفرعون تكون من خلال بناء مجتمعات لا تقبل الطغيان، لا في السياسة ولا في الاقتصاد ولا في الدين، على أسس ديمقراطية تشاركية، لا مركزية، واعية. فحقيقةً، لا يمكن أن نفهم تكرار ذكر فرعون في القرآن دون أن نراه تحذيراً دائماً من "الحالة الفرعونية" التي قد تطل علينا في أي لحظة من خلال حاكم، أو نخبة، أو مؤسسة. فالقرآن الكريم لا يحدثنا عن فرعون ليجعلنا نتفرج على قصة من الماضي، بل ليجعلنا نتساءل كل يوم: من هو فرعوننا اليوم؟ أين يختبئ؟ وماذا يفعل؟

وأمام هذا الواقع، لا يكفي أن نتلو آيات العذاب التي نزلت على فرعون كأنها قصة معجزات، بل يجب أن نراها دعوة للعمل، وتحريضاً على الوعي، ونداءً للتحرر. لأن العبادة الحقيقية لا تبدأ بالركوع والسجود فحسب، بل تبدأ برفض الظلم، ومحاربة الطغيان، وبناء مجتمعات تقوم على العدل والكرامة والحرية. وإلا فستظل المساجد عامرة، والقلوب خاوية، والمجتمعات أسيرة لفراعنة جدد، لا يسمون أنفسهم فراعنة، لكنهم يمارسون نفس الجرم: تجاوز الحد.

لذا فإن ذكر فرعون 74 مرة ليس تكراراً، بل هو إنذار مدوٍّ يقرع أسماع الأجيال: لا عبادة حقَّة دون عدل سياسي، ولا إيمان حقيقي دون مقاومة للطغيان، ولا وجود مستقر لأمة تقبل أن يُحصر حقها في الحياة بيد فرد واحد. واليوم، أكثر من أي وقت مضى، يحتاج أبناء هذه الأمة إلى أن يقرؤوا قصة فرعون لا كحكاية من الماضي، بل كمرآة تنعكس فيها وجوه حكامهم وأنظمتهم وصمتهم.



#أنس_قاسم_المرفوع (هاشتاغ)       Anas_Qasem_Al-marfua#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- من دولة الخوف إلى مجتمع الثقة: نحو لامركزية ديمقراطية في سور ...
- نحو ديمقراطية حقيقية: دعوة لبناء سوريا من القاعدة
- التحديات والاختلافات: رؤيتي للديمقراطية في سوريا والسياق الع ...
- إعادة تكوين الإنسان العربي: من التهميش إلى الولادة الجديدة
- التسامح كفعل ثوري: قراءة في أخلاقيات المقاومة
- حقيقة القيادة: قراءة في فلسفة عبد الله أوجلان الوجودية والجم ...
- معضلة التبعية وأمل التحرر الحقيقي
- الإسلام بين التراث والتحرير: نحو مشروع حضاري قائم على العدال ...
- سوريا من ركام الطغيان إلى وطن التعددية: معضلة البناء وآفاق ا ...
- الديمقراطية كأخلاقيات: من مقاومة الدولة إلى بناء المجتمع
- نحو ثورة ذهنية: بناء مجتمع ديمقراطي قائم على العدالة والاعتر ...
- الانسحاب الكردي من تركيا: بين رؤية المفكر أوجلان للسلام ومأز ...
- تأسيس الكيانات القومية في الشرق الأوسط: من الأدوات الاستعمار ...
- الديمقراطية من منظور تحرري: نحو -أمة ديمقراطية- في قلب الشرق ...
- مشروع الشرق الأوسط الكبير: من الفوضى المُنظمة إلى أمة ديمقرا ...
- أخلاقيات النضال في فلسفة المفكر عبدالله أوجلان : حين تتحول ت ...
- أخلاقيات النضال: حين تتحول تضحيات الشهداء إلى مؤسسات خالدة
- الدولة المركزية: القمع والدمار وبدائل التحرر
- لاعدالة دون اعتراف : ذاكرة المظلومين أساس بناء الدول :
- إعادة تشكيل سوريا الجديدة: نحو مشروع ديمقراطي تشاركي من خلال ...


المزيد.....




- الحرس الثوري يعلن اعتراض سفينة نفط محمّلة بأربعة ملايين ليتر ...
- خلال العقد المقبل.. إسرائيل تخطط لاستثمار بقيمة 110 مليارات ...
- تهديدات أوروبية بالرد على فرض واشنطن عقوبات على شخصيات أوروب ...
- كأس أمم أفريقيا: ديالو يقود منتخب ساحل العاج حامل اللقب إلى ...
- الشيباني في روسيا وتأكيد على أهمية العلاقات بين دمشق وموسكو ...
- الاستعمار وأزمة القضاء في تونس
- شهيد ومصابون بجباليا والاحتلال ينسف مباني في خان يونس
- فايزر تعلن وفاة مريض بعد تلقيه دواء لعلاج سيولة الدم في تجرب ...
- دراسة: دواء فالاسيكلوفير قد يزيد تفاقم التدهور المعرفي لدى م ...
- خبراء أمميون: الحصار البحري الأميركي على فنزويلا ينتهك القان ...


المزيد.....

- الوثيقة التصحيحية المنهجية التأسيسية في النهج التشكيكي النقد ... / علي طبله
- الطبقة، الطائفة، والتبعية قراءة تحليلية منهجية في بلاغ المجل ... / علي طبله
- قراءة في تاريخ الاسلام المبكر / محمد جعفر ال عيسى
- اليسار الثوري في القرن الواحد والعشرين: الثوابت والمتحركات، ... / رياض الشرايطي
- رواية / رانية مرجية
- ثوبها الأسود ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ / غنية ولهي- - - سمية حملاوي
- شيوعيون على مر الزمان ...الجزء الأول شيوعيون على مر الزمان ... / غيفارا معو
- حكمة الشاعر عندما يصير حوذي الريح دراسات في شعر محمود درويش / د. خالد زغريت
- التاريخ يكتبنا بسبابته / د. خالد زغريت


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - أنس قاسم المرفوع - فرعون في القرآن: رمزية الطغيان المتجدِّد وأولوية العدل على العبادة