أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - أنس قاسم المرفوع - نحو ثورة ذهنية: بناء مجتمع ديمقراطي قائم على العدالة والاعتراف المتبادل














المزيد.....

نحو ثورة ذهنية: بناء مجتمع ديمقراطي قائم على العدالة والاعتراف المتبادل


أنس قاسم المرفوع
أكاديمي وكاتب وسياسي سوري باحث في مركز دراسات الشرق للسلام

(Anas Qasem Al-marfua)


الحوار المتمدن-العدد: 8520 - 2025 / 11 / 8 - 13:13
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


في مجتمعاتنا لا تزال الشعارات النارية والخطابات السياسية المُعلَنة تُستخدم كأداة للسيطرة لا للتمكين. فهي في جوهرها ليست أكثر من وهم زائف، لا يعبر عن إرادة حقيقية للتغيير، بل يكرس البقاء في دوائر التخلف السياسي والاجتماعي. هذه الخطابات، بدل أن تبني وعيا ديمقراطيا، تعمل على تفريغ المفاهيم الأساسية مثل الحقوق، والحرية، والعدالة من مضمونها الإنساني، وتحولها إلى أدوات للطاعة والانصياع.

فبدل أن ينظر إلى الإنسان كذات فاعلة ومسؤولة، يختزل إلى مجرد رعية تُدار من فوق، وتطالب بالولاء دون أن تمنح حق التفكير أو الاختلاف. وفي هذا السياق، تتحول الحقوق إلى واجبات، وتفرض الهوية الجماعية كقيمة مطلقة، بينما يجرم الاختلاف وينظر إليه كخيانة. وتسوغ التدخلات في الخصوصيات الفردية والجماعية باسم مصلحة الأغلبية، وهي أغلبية غالبا ما تصاغ وفق رؤية سلطوية لا تعترف بالتعدد أو التنوع.

هذا النمط من الخطاب، الذي تتبناه أنظمة قومية مركزية، لا يهدف إلى بناء مجتمع حي، بل إلى هندسة مجتمع طيع، ينتج أفرادا يعلنون الولاء المطلق للدولة، كما لو كانت كيانا مقدسا فوق النقد أو المساءلة. وهذه صورة تذكرنا بفلسفة الدولة المطلقة عند هيغل، التي لا تتوافق مع التعقيد الحيوي للمجتمعات البشرية، ولا مع طبيعة الحياة الاجتماعية التي تقوم على التفاعل، التعدد، والاعتراف المتبادل.

النتيجة الحتمية لهذا المسار هي تعميق التطرف في القيم، وتشدد الخطاب الديني والقبلي، ورفض كل ما هو مختلف، بما يؤدي إلى تفتيت النسيج الاجتماعي وتحويله إلى كيانات متحاربة. وبدلا من أن نبني وعيا نقديا قادرا على التمييز بين المصالح والحقوق، نجد أنفسنا أسيري وعيٍ مضلل، يخلط بين الانتماء والعبودية، وبين الوطنية والكراهية.

لذلك، لم يعد كافيا أن نطالب بتغيير الأنظمة أو الحكومات، بل يجب أن نبدأ من الداخل: من الذهن، من الثقافة، من بنية القيم. فالثورة الحقيقية لا تعني فقط هدم مؤسسات سلطوية وبناء أخرى مكانها، بل تعني، في جوهرها، بناء إنسان حر، ومجتمع ديمقراطي. وهذا لا يتم من دون ثورة ذهنية جوهرية، تحرر الإنسان من أوهام الطاعة، وتزرع فيه روح المسؤولية تجاه مجتمعه. ففي المجتمع الديمقراطي، لا يطالب الفرد بحقوقه فحسب، بل يُدرك أن واجبه الأول هو المساهمة الفاعلة في بناء حياة مشتركة، قائمة على التضامن، العدل، والمشاركة الواعية.

وهنا تبرز أهمية العدالة الاجتماعية كركيزة لا غنى عنها لأي مشروع ديمقراطي حقيقي. فبدون عدالة في توزيع الثروة، الفرص، والحقوق، لا يمكن الحديث عن مساواة حقيقية، ولا عن حرية تشمل الجميع. كما أن الحوار الوطني الشامل، الذي يضم مختلف المكونات العرقية، الدينية، والثقافية، هو السبيل الوحيد لتجنب سيناريوهات الصراع والتفتيت. فالعدالة لا تتحقق دون الاعتراف بالآخر، ودون رفض منطق الهيمنة الذي يحول التنوع إلى تهديد.

لقد أثبتت تجارب عالمية أن الخروج من دوامة العنف والثأر ممكن، بل وضروري، لبناء مستقبل مستقر. ففي جنوب أفريقيا، اختار نيلسون مانديلا طريق المصالحة بدل الانتقام، وأُنشئت لجنة الحقيقة والمصالحة لمعالجة جراح الماضي دون إراقة مزيد من الدماء. وفي رواندا، وبعد مذبحة الإبادة العرقية، عملت الدولة على إعادة بناء النسيج الاجتماعي عبر آليات عدالة انتقالية محلية، ركزت على الاعتراف بالجريمة، طلب الغفران، وإعادة الإدماج. أما ألمانيا، فقد واجهت ماضيها النازي بجرأة، عبر التربية، التشريع، والاعتراف الصريح بالمسؤولية التاريخية، مما مهد لنهضة ديمقراطية عميقة الجذور.

ولكن طرح هذه النماذج لا يعني أننا يجب أن نقلدها حرفيا، بل للتعلمنا أن القطيعة مع ثقافة الانتقام، والتمييز، والخطابات الاستبعادية هي شرط مسبق لأي تقدم حقيقي. فالمجتمع الذي لا يحترم اختلافاته، ويتعامل مع مكوناته كأعداء محتملين، لن يبني دولة ديمقراطية، بل سيعيد إنتاج نفس دوائر العنف والانقسام.

لذا يجب أن تكون سياستنا اليوم قائمة على الشمولية المجتمعية، لا على الأنانية الفردية أو المصلحة الضيقة. يجب أن نعلم أبناءنا أن الانتماء الحقيقي لا يعني كراهية الآخر، بل احترامه. وأن العزة لا تبنى على إذلال الشريك، بل على التعاون معه. وأن الأخوة بين الشعوب ليست شعارا رومانسيا، بل ممارسة يومية تنفذ عبر احترام اللغات، الثقافات، والمعتقدات، وضمان حق الجميع في العيش الكريم، دون تمييز على أساس عرقي، طائفي، أو قبلي.

في الختام، لا مستقبل لشعوبنا دون ثورة في الوعي، وبناء مجتمع يقدس الإنسان لا السلطة، ويعلي من قيم العدالة لا الطاعة، ويكرس الحوار لا الإقصاء. إن البناء الديمقراطي لا يبدأ بقوانين فقط، بل بضمائر أحرار يختارون أن يكونوا مواطنين، لا رعايا.



#أنس_قاسم_المرفوع (هاشتاغ)       Anas_Qasem_Al-marfua#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الانسحاب الكردي من تركيا: بين رؤية المفكر أوجلان للسلام ومأز ...
- تأسيس الكيانات القومية في الشرق الأوسط: من الأدوات الاستعمار ...
- الديمقراطية من منظور تحرري: نحو -أمة ديمقراطية- في قلب الشرق ...
- مشروع الشرق الأوسط الكبير: من الفوضى المُنظمة إلى أمة ديمقرا ...
- أخلاقيات النضال في فلسفة المفكر عبدالله أوجلان : حين تتحول ت ...
- أخلاقيات النضال: حين تتحول تضحيات الشهداء إلى مؤسسات خالدة
- الدولة المركزية: القمع والدمار وبدائل التحرر
- لاعدالة دون اعتراف : ذاكرة المظلومين أساس بناء الدول :
- إعادة تشكيل سوريا الجديدة: نحو مشروع ديمقراطي تشاركي من خلال ...
- سوريا المستقبل من نموذج الاستعمار إلى أمة التحرر: المرأة أسا ...
- سوريا ما بعد الأسد: من دولة الهيمنة إلى مجتمع التعاقد - نحو ...
- الأخلاق كبنية تحتية للأمة الديمقراطية: قراءة في فكر أوجلان ح ...
- الضربات الأمريكية على إيران هل تفتح الباب لثورة داخلية أم حر ...
- من التشرذم إلى الثورة: كيف تصنع شعوب الشرق الاوسط مصيرها في ...
- الشرق الأوسط الجديد كيف تم تحويل الأخوة إلى اعداء؟ من التفتي ...
- من الدولة الدينية إلى الأمة الديمقراطية: تحليل المفكر أوجلان ...
- صدام الرؤى: حرية النخبة المجردة مقابل حرية المجتمع الجذرية م ...
- قراءة في خطاب السفير الأمريكي ورؤية أوجلان الاستشرافية


المزيد.....




- الثريات النحتية اليدوية.. إبداع تتجاوز قيمته 90 ألف دولار
- -على مقهى شعبي-.. أحمد الشرع يثير تفاعلا بلقاء عائلات سورية ...
- رئيس ألماني سابق يدعو لمواجهة عداء السامية -الألماني والعربي ...
- سر -الشعبوية الجذابة- التي استثمرها ممداني لحسم نيويورك
- مصر تطالب بالانتقال للمرحلة الثانية من اتفاق غزة وتنفيذ هدنة ...
- هل تسبب الكربوهيدرات الاكتئاب؟
- تلغراف: تعثر خطة ميرتس لإعادة السوريين إلى بلادهم
- غارديان: بريطانيا تجاهلت خططا لمنع الفظائع بالسودان
- طبيب بريطاني يتحدث عن أهوال غزة وعودة مستشفياتها 100 عام للو ...
- فوز ممداني بمنصب عمدة نيويورك يثير قلقا إسرائيليا عميقا


المزيد.....

- ثوبها الأسود ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ / غنية ولهي- - - سمية حملاوي
- شيوعيون على مر الزمان ...الجزء الأول شيوعيون على مر الزمان ... / غيفارا معو
- حكمة الشاعر عندما يصير حوذي الريح دراسات في شعر محمود درويش / د. خالد زغريت
- التاريخ يكتبنا بسبابته / د. خالد زغريت
- التاريخ يكتبنا بسبابته / د. خالد زغريت
- جسد الطوائف / رانية مرجية
- الحجز الإلكتروني المسبق لموسم الحنطة المحلية للعام 2025 / كمال الموسوي
- الأرملة السوداء على شفا سوريا الجديدة / د. خالد زغريت
- المدخل الى موضوعة الحوكمة والحكم الرشيد / علي عبد الواحد محمد


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - أنس قاسم المرفوع - نحو ثورة ذهنية: بناء مجتمع ديمقراطي قائم على العدالة والاعتراف المتبادل