أنس قاسم المرفوع
أكاديمي وكاتب وسياسي سوري باحث في مركز دراسات الشرق للسلام
(Anas Qasem Al-marfua)
الحوار المتمدن-العدد: 8479 - 2025 / 9 / 28 - 01:27
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
هذه وصية تنبع كلماتها من أعماق فلسفة المفكر عبد الله أوجلان، لتشكل وصية خالدة ومرجعًا روحياً لكل مناضل ومناضلة تتوق أنفسهم إلى فجر الحرية، ويتطلعون إلى بناء عالم تسوده المساواة والإخاء. إن هذه الوصية ليست مجرد كلمات، بل هي خلاصة مسيرة نضالية طويلة ونظرية فكرية متجذرة في أرضية النضال من أجل الوجود الحر. إنها نداء الروح الثائرة التي أدركت أن طريق التحرر يبدأ من تحرر الذات أولاً، وأن النضال الحقيقي هو بناء الإنسان والمؤسسة معاً.
تحرر المرأة أساس تحرر المجتمع
يبتدئ المفكر عبدالله أوجلان فكره دائما بإجلال الأمهات، ذوات الأفئدة المحروقة، اللواتي شكلن حجر الأساس في صرح المقاومة، قائلاً: "إن المرأة هي أقدم مستعمرة، وتحرر المجتمع متوقف على تحرر المرأة". لذا، فإن تقديم الاحترام لهن هو اعتراف بأن النضال من أجل الحرية لن يكتمل إلا بتحرر المرأة، وهو يؤكد أنه في خدمتهن أكثر مما يتصورن، لأن قضيتهن هي قضية الوجود الإنساني ذاته. فهو يعلمنا أن النضال الحقيقي هو النضال من أجل إنسانية المرأة وتحررها.
معنى الحياة: الفعل ذو المغزى لا طول العمر
في تأمل عميق لمعنى الحياة والزمن، يضع المفكر أوجلان نصب أعيننا حقيقة جوهرية قائلاً: "لكل إنسان عمر واحد". ويؤكد أن العبرة ليست في طول العمر، بل في كيفية استغلاله على أكمل وجه. فهو يرى أن الحياة ليست عمراً طويلاً، بل هي فعل ذو مغزى. فالعمر واحد، لكن العبرة في كيف نملأ هذا العمر بفعل يخدم قضية الحرية، وليس بحثاً عن مجد شخصي. فالمهمة ليست مركزة على الأشخاص كأفراد، بل على الأدوار الجوهرية التي يلعبونها في المسيرة الجماعية.
المؤسسات: هيكل التضحية وإرادة الحياة
هو يجدد عهده بأن يلعب دوره بأقصى ما يستطيع، لكنه يريد أن يلفت الانتباه إلى حقيقة أعمق، ألا وهي المؤسسات، فهو يرى أن المؤسسات أثمن بكثير وأطول عمراً. فمهما عظم الأفراد، فإن المؤسسات هي الضامن الحقيقي لاستمرار النهضة وتحقيق الأهداف. فقد بُنيت هذه المؤسسات بدماء الشهداء الزكية الذين قدموا أغلى ما يملكون، لتكون لنا درباً نسير عليه ومؤسسات نرتقي بها. ولذلك، علينا أن نتذكر دائماً أن كل حجر في هذه المؤسسات، وكل منصب فيها، وكل إنجاز تحققه، هو في الحقيقة امتداد لتضحياتهم.
فالمؤسسات التي نقيمها ليست مباني من أسمنت فحسب، بل هي الهيكل المتجسد لذكريات رفاق الدرب، والوعاء الذي يحوي دماءهم الطاهرة وأحلامهم التي لم تكتمل. إنها الصورة المادية لتحول التضحية الخالصة إلى إرادة منظمة، والمعاناة الأليمة لأمهاتنا وعائلاتنا إلى قوة بناءة تخلق الحياة من رحم الفقدان. وهي، كما وصفها المفكر أوجلان، الذاكرة الحية للمجتمع بأسره وخاصة لكل عائلة قدمت شهيداً. فكلما رأت هذه العائلة مؤسسة ترتقي، يشعرون أن تضحية فلذة كبدهم لم تذهب هباء، وأن ذكراه تعيش وتزدهر في كل ركن من أركان هذا الصرح. فكل تقدم تحققه، وكل إنجاز تبلغه، هو رسالة إلى كل عائلة فقدت شهيداً تؤكد لهم أن دماء أبنائهم لم تذهب سدى، بل أصبحت أساساً لصرح يشع حرية وكرامة.
لذلك، فإن واجبنا أن ننظر إلى هذه المؤسسات بنظرة تقديس واحترام، يترجم إلى مسؤولية وأخلاقيات رفيعة. لأن حجارتها وضعت بقيم التضحية والشهادة، وهي تمثل ذاكرة المجتمع النابضة وضميره الحي. ولذلك يجب أن تدار بأعلى المعايير الأخلاقية للأمة الديمقراطية، التي تؤمن بالتضامن والتشاركية والقيم المشتركة، لأن إدارتها بشكل سيء خيانة لتلك الأرواح الطاهرة التي وهبت نفسها. فالمفكر أوجلان يؤكد أن المجتمع الأخلاقي-السياسي هو الضامن الحقيقي للحرية والكرامة.
الكفاءة أساس البناء، والولاء الشخصي بداية الانهيار
من هذا المنطلق، ما يدعو إليه المفكر أوجلان ليس أن نكون إداريين وناطقين ومسيرين جيدين داخل هذه المؤسسات فحسب، بل أن نكون تجسيداً عملياً لفلسفة "الأمة الديمقراطية" التي ينادي بها، حيث المسؤولية جماعية والتشاركية أساس البقاء. لذلك فإن مسيرتنا المؤسساتية هي امتداد حي لأنفاس الشهداء الأخيرة، وعهد دائم بين الأجيال، ورمز لإرادة الحياة التي هزمت الموت، وتذكرة دائمة بأن طريق الحرية، وإن كان مرتفع الثمن، فإن أثره يبلغ عنان السماء ويخلد في ذاكرة الإنسانية.
لكنه يحذر من فخ التركيز على الأشخاص، قائلاً: "الأفراد يذهبون ويأتون، لكن المؤسسات تبقى". غير أن بناء هذه المؤسسات واستمرارها لا يتم بالولاءات الشخصية أو المصالح الضيقة، بل بالكفاءة والجهد والإخلاص للقضية الجماعية. فالمفكر أوجلان يحذر من أن اختيار الأقل كفاءة بدعوى الولاء هو بداية انهيار المشروع التحرري، لأن تقديم الولاء على الكفاءة يحول المؤسسة من أداة للتحرر إلى هيكل بيروقراطي عقيم، يهدر طاقات المجتمع ويقوض أسس النهضة.
فالنهضة الحقيقية، في فكر المفكر أوجلان، تقوم على أخلاقيات السياسة المجتمعية التي تضع أصحاب الكفاءة والكدح في الصدارة، لأنهم هم الذين يحملون مشعل البناء الحقيقي، ويضمنون أن تكون المسيرة فعلاً هي مسيرة انتصار لقيم التشاركية والإخاء والحرية. وهكذا، تصبح المؤسسات القائمة على الجدارة حصناً منيعاً يحمي الفكرة ويحولها إلى واقع معاش، ويكون نضال الأمس قد وجد ضالته في عمر يمتد ويتجدد. وهي التي تحول الفردية العابرة إلى تراكم جماعي، والخواطر إلى مشاريع دائمة. فهو يشبهها بخلية النحل التي لا تعرف الكلل، والتي تبني عالماً جديداً.
نقد الشخصية النضالية: من التذمر إلى الإبداع
وفي مقابل هذه الرؤية البناءة، ينقد المفكر أوجلان بعض المظاهر السلبية في الشخصية النضالية. فهو يعيب على المناضل الذي يعجز عن إيجاد الحلول، والذي لا يبصر جمال الوطن بل ينظر فقط إلى الخراب الذي خلفه العدو. ويضرب بشخصه المثل حين يقول: "إني هربت من عائلتي منذ كان عمري عشر سنوات وقمت بترتيب وتنظيم حياتي الشخصية". ومن خلال ذلك يؤكد أن النضال الحقيقي يبدأ بترتيب الذات وتنظيمها.
فهو يرى أن النمو الحقيقي للمناضل يقاس بقدرته على الخلق والإنجاز، فـ "كل شخص يطلب أن يكبر، عليه أن يكون قادراً أن يخلق، أن تكون لديه القدرة على الحل، أن يكون صاحب إنجازات. وإلا فلا يحق لأي شخص أن يدعي النضج أو الكبر".
الوعي قبل الجسارة، والوجدان أساس النضال
ويحذر المفكر أوجلان من الجسارة العمياء التي يمتلكها الكثيرون، والتي لن تثمر سوى الخسائر، لأن الشجاعة بدون وعي هي انتحار، قائلاً: "أنا كانت نسبة الجسارة والجرأة 10 بالمئة والخوف 90 بالمئة، ولكن من خلال التجارب تغير ذلك مع الوقت". فالجسارة يجب أن تكون منظمة ومدروسة، نابعة من الوجدان والإيمان العميق بالقضية.
فهو ينفي عن نفسه صفة القائد بالاسلوب التقليدي (الذي يعتمد على الولاءات لا الكفاءات)، رافضاً أن يكون قائداً لعائلة أو لعلاقات ضيقة، قائلاً: "أي قائد تعتبروني؟ أنا قائد الحقيقة". فهو يرى أن القائد الحقيقي هو من يقود نحو الحقيقة والحرية، لا نحو الولاءات الشخصية. ويطالب المناضلين بأن يتحلوا بالوجدان، ويطلبوا الحياة بكل صدق، وأن تكون لديهم القدرة الحقيقية على الحل. فهو يرى أن الحرية لا تمنح، بل تنتزع بانضباط ذاتي عال. فالقائد الحقيقي في فلسفته هو من يدفع أتباعه إلى الاعتماد على أنفسهم، إلى أن يصبحوا رفاق قرار لا أتباعاً سلبيين. وهو يطالبهم بالوجدان الذي يعرفه بأنه "القدرة على الشعور بألم الآخر وكأنه ألمك الخاص". فبدون هذا الوجدان، يصبح النضال مجرد مهنة. فالهدف النهائي لدى المفكر أوجلان هو خلق الإنسان الديمقراطي-الإيكلوجي، القادر على حل مشكلاته بنفسه، والمشارك في بناء الكونفدرالية الديمقراطية. أما الذي يتخلى عن النضال لأجل أمور تافهة، فهو كمن يبيع روحه للعدو.
ويحذر المناضل من المبالغة في الذات والتركيز على الأنا، بقوله: "على المناضل أن لا يبالغ بنفسه، أي لا يكرر كلمة أنا أنا". ويتابع قائلاً: "بالرغم من أنني بذلت جهوداً حثيثة، إلا أنني أجد نفسي مثل الطفل، ولا أقول أبداً أنني عملت بهذا القدر وأنا كبير بهذا القدر، فهذا تقارب خاطئ".
سلاح الفكر والأداة الشاملة للنضال
في الختام، يربط المفكر أوجلان أدوات النضال ربطاً عضوياً، مؤكداً أن القلم والسلاح وجهان لنفس العملة، بل إن سلاح الفكر قد يكون أكثر فتكاً بالاستعمار من الرصاص. فهو يؤكد أن العمل النضالي ليس حكراً على الأدباء والمثقفين، بل "أن ما نقوم به نسيره وفق سمات المناضل، وليس هناك فرق بين استعمال السلاح واستعمال القلم والفكر". بل إنه يرى أن حرب الفكر واللغة قد تكون أكثر ضراوة وأهمية في بعض الأحيان، قائلاً: "حاربت بالكلمة والفكر أكثر ألف مرة مما حاربتم بالسلاح، وسأحرز النصر باللغة والمنطق". فهو يرى أن درب النجاح هو درب النضال الشامل الذي يجمع بين الفكر والفعل، بين القلم والبندقية، في سبيل حرية الإنسان وكرامته.
وبذلك، تتحقق النتيجة الحتمية لهذه الرؤية الثورية: انتصار الفكر.
ففي المحصلة النهائية، نجح المفكر أوجلان في إحراز النصر من خلال سلاحيْه الأقوى: اللغة والمنطق. وقد مثلت التحولات التاريخية في مسيرة القضية منعطفاً حاسماً، انتقل فيه التركيز من حقل النضال المسلح إلى فضاء النضال السياسي والفكري الأرحب. هذا التحول لم يكن تراجعاً، بل كان ارتقاءً يؤكد حكمة مقولته الخالدة:
"بينما يخفت صوت الرصاص، تعلو كلمة الحق، لتثبت أن النصر الحقيقي هو انتصار الإرادة والإقناع".
وهكذا، أثبت هذا المسار أن قوة الفكر الصادق والكلمة الحرة يمكن أن تبلغ من التأثير ما تعجز عنه قوة السلاح، لتخلّد في ذاكرة الإنسانية طريقاً نحو الحرية لا يغلب عليه البلى.
#أنس_قاسم_المرفوع (هاشتاغ)
Anas_Qasem_Al-marfua#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟