أنس قاسم المرفوع
أكاديمي وكاتب وسياسي سوري باحث في مركز دراسات الشرق للسلام
(Anas Qasem Al-marfua)
الحوار المتمدن-العدد: 8496 - 2025 / 10 / 15 - 12:13
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
العدالة التصالحية كقلب للديمقراطية الحقيقية
الديمقراطية، في وعيها السائد اليوم، لا تزال أسيرة لفهمٍ ميكانيكي يختزلها في انتخابات دورية، وأحزاب متنافسة، وبرلمانات تُصوّت على قوانين لا تمسّ جوهر الظلم البنيوي. هذا الفهم، الذي فُرض على كثير من مجتمعات العالم الثالث – ولا سيما في الشرق الأوسط – تحت غطاء "التحديث" أو "التحول الديمقراطي"، ولكنه لم يُنتج سوى ديمقراطيات هشّة، تُعيد إنتاج الاستبداد بثوب جديد. فهي لا تُحرّر المجتمع، بل تُوظّف لتقسيمه: طائفياً، عرقياً، مناطقياً، أو حتى جندرياً. الديمقراطية هنا لم تعد ممارسةً للحرية، بل آليةً لشرعنة الصراعات التي تُغذّيها الدولة القومية المركزية، تلك الدولة التي نشأت على أنقاض التنوّع الاجتماعي، وفرضت وحدتها بالحديد والنار، لا بالتوافق والمشاركة.
لكن ماذا لو أعدنا تعريف الديمقراطية من جذورها؟ ماذا لو لم نرَها كنظام حكم يُدار من الأعلى، بل كعملية تحرر جماعي تبدأ من القاعدة؟ هذا هو جوهر الرؤية التحررية للديمقراطية، التي لا تكتفي بانتقاد شكلها الليبرالي، بل تطرح بديلاً جذرياً: الأمة الديمقراطية.
الدولة القومية: سجنٌ للتنوع ومقبرة للديمقراطية:
الإشكالية ليست في "عدم نضج" الشعوب، كما يزعم خطاب الحداثة السلطوية، بل في البنية السياسية التي تمنع أي تجربة ديمقراطية حقيقية من النمو. الدولة القومية الحديثة، التي ورثت أدوات الحكم العثماني ثم أعيد تشكيلها بحدود سايكس-بيكو، لم تكن يوماً حيادياً. إنها كيان هرمي، بطريركي، مركزي، يحتكر السياسة، ويقصي المجتمع من صنع القرار. في هذا السياق، لا يمكن للديمقراطية أن تكون سوى مسرحية تُدار من فوق، تُستخدم فيها الهويات الفرعية كأدوات للمناورة بين النخب، بينما يظل المواطن مجرد رقم في صندوق اقتراع. هنا، يقدّم المفكر الكردي عبد الله أوجلان تشريحاً عميقاً لهذه البنية، مُحذّراً من الخلط بين "الديمقراطية الشكلية" و"الديمقراطية الجوهرية". فالديمقراطية الحقيقية، وفق رؤيته، لا تبدأ من صناديق الاقتراع، بل من استعادة المجتمع لقدراته التنظيمية الذاتية. فهي ليست وسيلة للوصول إلى السلطة، بل ممارسة يومية للحرية في كل حيّ، قرية، بلدة، ومدينة. كما يرها المفكر أوجلان حين قال: أن الديمقراطية ليست نظاماً يُفرض من الأعلى، بل حياة تُعاش من الأسفل ويضيف أن المجتمع لا يحتاج إلى دولة ليحكم نفسه، بل يحتاج إلى حرية ليُنظّم ذاته
الأمة الديمقراطية: بديلٌ جذري عن الدولة القومية
ما المقصود بـ"الأمة الديمقراطية"؟ إنها ليست دولة جديدة، ولا كياناً قومياً بديلاً. بل هي شبكة من العلاقات الطوعية بين مكونات اجتماعية متنوعة – كردية، عربية، آشورية، تركمانية، يزيدية، درزية، سُنّية، شيعية، مسيحية... تتعاون على إدارة شؤونها المحلية عبر مؤسسات ديمقراطية مباشرة: مجالس الأحياء، التعاونيات الاقتصادية، الجمعيات النسائية، اللجان البيئية، والمجالس الثقافية. هذه المؤسسات لا تنتظر تفويضاً من الدولة، بل تُعيد تعريف السياسة كممارسة جماعية من الأسفل إلى الأعلى. كمايوضح المفكرأوجلان قائلاً:الأمة الديمقراطية هي أمة لا تقوم على العِرق أو الدين، بل على الإرادة الحرة والمشاركة الطوعية.
فحقيقة النموذج العملي لهذا التصور هو الكونفدرالية الديمقراطية،( كمافي مناطق شمال وشرق سوريا) حيث يتم تأسيس نظام لا مركزي يقوم على:
- المجالس الشعبية: تُنتخب مباشرة من السكان، وتتولّى إدارة التعليم، الصحة، الأمن المحلي، والخدمات.
- الاقتصاد التعاوني: مزارع جماعية، مصانع تعاونية، وبنوك اجتماعية تُعيد توزيع الثروة بعيداً عن السوق الرأسمالي.
- التحرر النسائي: لا قرار يُتخذ دون مشاركة متساوية للنساء، ووجود هيئات نسائية مستقلة تُراقب تطبيق مبادئ المساواة.
- التنوع الثقافي: كل مكون يُعلّم لغته، يحتفل بتراثه، ويشارك في صنع القرار دون أن يُفرض عليه هوية واحدة.
لكن أبرز ما يميّز هذا النموذج – وأكثره ثورية – و يعجبني هو العدالة التصالحية، التي تُشكّل العمود الفقري لأي مجتمع ديمقراطي حقيقي.
العدالة التصالحية: بديلٌ إنساني عن ثقافة العقاب
في الأنظمة التقليدية، يُنظر إلى الجريمة على أنها انتهاك للقانون، وبالتالي فإن "العدالة" تعني معاقبة الجاني بحسب حجم الجريمة. هذا النموذج، الذي يُطبّق في معظم دول الشرق الأوسط (وحتى في الغرب)، لا يُصلح الضرر، ولا يُعيد بناء العلاقة بين الضحية والجاني، ولا يُعالج الجذور الاجتماعية للجريمة. بل يُنتج سجوناً مكتظة، ومجتمعات منقسمة، ودورات لا نهاية لها من الانتقام والعنف والجريمة. حيث يؤكد المفكر أوجلان أن:العدالة الحقيقية لا تُبنى على الانتقام، بل على الفهم والشفاء ويضيف ايضا أن السجن ليس حلاً، بل هروب من مسؤولية المجتمع عن أبنائه.
في المقابل، ترى العدالة التصالحية أن الجريمة هي في جوهرها، انتهاك للعلاقات الإنسانية، وليس للقانون فقط. ولذلك، فإن الهدف ليس العقاب، بل إصلاح العلاقة، وتعويض الضرر، وإعادة دمج الجاني في المجتمع. وهي لا تُهمّش الضحية، بل تضعها في قلب العملية: فلها الحق في التعبير عن ألمها، وتحديد ما الذي سيساعدها على الشفاء، بل وحتى في المشاركة في تحديد شكل "التعويض" أو "التكفير" الذي يُقدمه الجاني.
كيف تُطبّق العدالة التصالحية ؟
يتم استبدال المحاكم المركزية والسجون التقليدية بلجان مجتمعية تُسمّى لجان العدالة الاجتماعية(لجان الصلح) . هذه اللجان تتكوّن من ممثلين عن الحي أو القرية – رجالاً ونساءً – وتُطبّق مبادئ العدالة التصالحية في حل النزاعات، من الخلافات العائلية إلى جرائم العنف.
مثال واقعي من احدى المشكلات التي تم حلها عن طريق لجان الصلح في احدى مناطق الإدارة الذاتية التي تطبق نموذج العدالة التصالحية:
ففي إحدى القرى ، اندلع نزاع بين عائلتين على ممر مائي زراعي. في النظام التقليدي، كان الطرف الأقوى سيحتكر الممر، أو تتدخل الشرطة وتلقي القبض على "المُعتدي"، مما يُولّد كرهاً دفيناً قد يتفجّر بعد سنوات. أما في النموذج التصالحي، فقد دعت لجنة الصلح المحلية الطرفين إلى جلسة حوار، بحضور شيوخ ونساء من العائلتين. تم الاستماع لكلا الطرفين، وتم الاتفاق على جدول مشترك لاستخدام الممر، مع تعهّد مكتوب من كليهما بعدم تكرار الاعتداء. النتيجة؟ لم يُسجن أحد، ولم يُغرَم أحد، لكن العلاقة بين العائلتين تحسّنت، بل وبدأ أبناؤهما باللعب معاً.
لماذا العدالة التصالحية أكثر ديمومة؟
1. تُعالج الجذور، لا الأعراض: بدلاً من معاقبة الفرد، تبحث في الظروف الاجتماعية والاقتصادية التي أدت إلى الجريمة.
2. تُعيد بناء الثقة: في مجتمعات ممزقة بالحروب والطائفية، لا يمكن إعادة اللحمة عبر السجون، بل عبر الحوار والاعتراف المتبادل.
3. تُقلّل من دوافع الانتقام: لأن الضحية تُسمَع، والجاني يُعترف بخطئه، ينخفض احتمال تحوّل النزاع إلى دورة عنف مستمرة.
4. تناسب السياقات المحلية: لا تُفرض من فوق، بل تُبنى على تقاليد الوساطة والصلح الموجودة أصلاً في مجتمعاتنا المحلية (مثل "الصلح العشائري"، لكن بتحديث ديمقراطي ونسوي).
لماذا الديمقراطية التحررية ضرورية للشرق الأوسط؟
الشرق الأوسط ليس كياناً متجانساً، بل موزاييك حضاري عمره آلاف السنين، نسجته تفاعلات الشعوب والثقافات عبر القرون – من بلاد الرافدين إلى الشام، ومن الأناضول إلى الجزيرة العربية. ومع ذلك، لا يزال الخطاب الغربي – حتى في أحدث تجلياته – ينظر إلى هذه المنطقة بعين الاستعلاء الاستعماري ذاتها. فتصريحات المبعوث الأمريكي إلى سوريا، توم باراك التي وصف فيها الشرق الأوسط بأنه "ليس منطقة سياسية شرعية"، بل "مجموعة من القبائل والقرى التي جرى تقسيمها على أيدي القوى الأوروبية"، ليست سوى تجسيد حديث لرؤية سايكس-بيكو: رؤية تُنكر على شعوب المنطقة حقها في الوجود السياسي، وتعتبرها كيانات بدائية لا تستحق سوى أن تُدار من الخارج أو تُقسّم حسب مصالح الإمبراطوريات.
لكن المفارقة العميقة هنا أن باراك – ومن يشاركه هذا التصور – يتجاهلون أن الدولة القومية الحديثة، التي فُرضت على المنطقة بعد الحرب العالمية الأولى، هي بالذات ما حوّل هذه "القبائل والقرى" إلى كيانات متصارعة. فالحدود المصطنعة لم تُضعف فقط الروابط الاجتماعية والاقتصادية القديمة، بل حوّلت التنوّع – الذي كان يوماً مصدر غنى – إلى ذريعة للقمع والتمييز. واليوم، حين يُنكر الغرب "شرعية" الشرق الأوسط كمنطقة سياسية، فهو في الحقيقة يُنكر على شعوبه حقها في ابتكار نماذج سياسية خارج الإطار الذي صنعه الاستعمار.
الازدواجية الغربية: ديمقراطية للآخرين، هيمنة لأنفسهم
هنا يتكشّف التناقض الجوهري في الخطاب الغربي المعاصر: فهو يدّعي دعم "الديمقراطية" كقيمة عالمية، لكنه في الممارسة يُصرّ على أن الديمقراطية الوحيدة المقبولة هي تلك التي تخدم مصالحه الجيوسياسية. عندما تنتخب شعوب المنطقة حكومات لا تتوافق مع أجندات واشنطن أو بروكسل – كالحالة في فلسطين عام 2006 أو في السودان بعد ثورة 2019 – يُسارع الغرب إلى وصفها بـ"الانقلاب" أو "الخطر على الاستقرار"، بل ويُقدّم الدعم لقوى عسكرية أو أمنية لقلبها. أما حين تُقام انتخابات تُعيد إنتاج النخب الموالية، فيُحتفى بها كـ"انتصار للديمقراطية"، حتى لو كانت تجري تحت حكم استبدادي. هذا التناقض ليس صدفة، بل جوهر الليبرالية الإمبريالية: فهي تروّج للديمقراطية كقيمة فردية مجردة (حق التصويت، حرية التعبير)، لكنها ترفض أي شكل من أشكال الديمقراطية الجماعية التي تهدّد الهيمنة الاقتصادية أو العسكرية للغرب. لذلك، لا عجب أن يُنكر مسؤول غربي "الشرعية السياسية" للشرق الأوسط، فـ"الشرعية" في عرفه لا تعني إرادة الشعوب، بل الخضوع للنظام الدولي الليبرالي الذي يقوده الغرب.
في هذا السياق، تبرز الديمقراطية التحررية كرفض جذري لهذا الازدواج:
فهي لا تطلب من الشعوب أن "تتخلّى" عن هوياتها المحلية أو القبلية أو الدينية، بل أن تتجاوز الإطار القومي القسري عبر بناء مصالح مشتركة في إدارة الحياة اليومية ،فالديمقراطية التحررية لا تنتظر اعتراف واشنطن أو بروكسل بـ"شرعيتها"،. بل تُعيد تعريف الديمقراطية من الداخل من خلال الممارسة في مجلس الحي، في التعاونية الزراعية، في لجنة العدالة التصالحية، وفي المدرسة ثنائية اللغة.بعيداً عن صناديق الاقتراع التي تُستخدم كأداة تجميل للهيمنة. الديمقراطية هنا ليست "هدية" من الخارج، بل حقٌّ تُنتزع أدواته من يد الدولة والسوق والامبريالية معاً.
خذوا مثلا مدينة القامشلي في شمال شرق سوريا: كرديّ يزرع القمح، عربيّ يدير مخبزاً، آشوريّ يُدرّس في مدرسة ثنائية اللغة، وامرأة يزيدية ترأس لجنة محلية. لا أحد يُجبر الآخر على التنازل عن هويته، لكنهم جميعاً يشاركون في مجلس المدينة، ويقررون معاً كيف يُوزّع الماء، كيف يُنظّف الحي كيف يوزع الخبز كيف يتم الحفاظ على أمن الحي....الخ ،من هنا، لا تُبنى الوحدة على القسر، بل على التعاون المادي والمعنوي. وهنا أيضاً، تُثبت الشعوب أن "الشرعية السياسية" لا تُمنح من عواصم الاستعمار والامبريالية، بل تُنتزع من خلال بناء مجتمعات حرة، قادرة على تقرير مصيرها من دون وصاية.
تحرير المرأة: مفتاح التغيير الاجتماعي
في هذا السياق، لا يمكن فصل الديمقراطية عن التحرر النسائي. فالدولة القومية، ببنيتها البطريركية، لا تُهمّش المرأة فحسب، بل تُعيد إنتاج عقلية السيطرة في كل مفاصل المجتمع. لذلك، في النموذج التحرري، تُعتبر المساواة بين الجنسين شرطاً لا غنى عنه لأي ممارسة ديمقراطية حقيقية. ليس لأن المرأة "نصف المجتمع"، بل لأن عقلية التحرر لا تبدأ إلا حين يُكسر قيد السلطة الأبوية – في العائلة، في الاقتصاد، في السياسة حيث يقول المفكر أوجلان في هذا الصدد، بكل وضوح: لا يمكن أن تكون هناك ديمقراطية حقيقية دون تحرر المرأة. فتحرير المرأة هو معيار تحرر المجتمع بأكمله ويضيف:المجتمع الأبوي هو جذر كل أشكال الاستبداد. ومن لا يحارب الذكورة، لا يحارب الدولة.
في نموذج الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا، لا توجد لجنة أو مجلس دون وجود امرأتين على الأقل في كل منصب قيادي. بل إن هناك وحدات حماية المرأة (YPJ) التي لم تُقاتل فقط ضد داعش، بل ضد ثقافة الذكورة التي طالما استخدمتها الدولة لتبرير العنف والقمع.
خاتمة: ديمقراطية لا تحفر قبوراً، بل تزرع أشجاراً
الديمقراطية التي نحتاجها في الشرق الأوسط ليست تلك التي تُدار من قصور الرئاسة أو تحت إشراف جيوش أجنبية. إنها ديمقراطية تُولد في الأزقة، تُروى بعرق الفلاحات، وتُدافع عنها النساء في خطوط المواجهة الأولى. إنها ليست غاية نصل إليها، بل طريق نسلكه معاً، يوماً بعد يوم، في بناء مجتمع حر، لا يُحكم، بل يُدار ذاتياً.
الشرق الأوسط، بكل جراحه وتنوعه، قادر على أن يكون مهد "أمة ديمقراطية" حقيقية – ليس عبر تقليد الغرب، بل عبر استلهام تقاليدنا الجماعية: من مجالس العشائر إلى تعاونيات الري، ومن ندوات الحوار المشتركة إلى أسواق التبادل غير النقدي. كل ما نحتاجه هو الشجاعة لرؤية أن الحرية لا تُمنح، بل تُبنى.
ولعل في هذا البديل ما يُعيد الأمل إلى شعوبٍ طالما استُخدمت الديمقراطية كذريعة لقمعها، وليُثبت أن الحقيقة تستحق أن تُقال، مهما كلف الثمن.
#أنس_قاسم_المرفوع (هاشتاغ)
Anas_Qasem_Al-marfua#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟