أنس قاسم المرفوع
أكاديمي وكاتب وسياسي سوري باحث في مركز دراسات الشرق للسلام
(Anas Qasem Al-marfua)
الحوار المتمدن-العدد: 8523 - 2025 / 11 / 11 - 19:35
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
حقيقة المراقب اليوم لواقع سوريا لا يجد أمام عينيه سوى أنقاض دولة، وشعب موزع بين نازح ولاجئ. فبعد عقود من الاستبداد المتوحش الذي حول أرض الحضارات إلى ساحة للتنافس الإقليمي والدولي، وجعل من الإنسان السوري مجرد رقم في معادلات القوى، وبعد سقوط الأسد المجرم، لا يكفينا الاحتفال بزوال جلاد، بل يجب أن يبدأ السؤال الأصعب: كيف نبني وطنا خرج من ركام الطغيان؟
الفراغ لا يملأ تلقائياً بالعدالة
حقيقة إن التاريخ يعلمنا أن الفراغ الذي يلي الانهيار لا يُملأ تلقائياً بالعدالة، بل أحياناً تتم سرقته مرة أخرى إن لم يُملأ بإرادة جماعية واعية ومشروع ديمقراطي جامع. فحقيقة إن علينا أن نعي أن الخلاص لن يأتي من واشنطن أو طهران أو أنقرة أو تل أبيب، بل من دير الزور والقامشلي وحمص ودمشق ودرعا والحسكة والسويداء واللاذقية وإدلب وحلب، أي يولد من رحم الشعب ذاته، وذلك عندما يقرر أن يكون صانع مصيره، لا مجرد متلقي للقرارات.
النهضة تبدأ من الوعي الجماهيري والقيادة المثقفة
الشعوب التي نهضت من ركام الحروب والاحتلالات لم تنتظر فرسان لينقذوها، بل كانت النهضة ثمرة وعي جماهيري عميق، وقيادة مثقفة تعيد صياغة العلاقة بين الفرد والمجتمع، والمجتمع والسلطة. ففي لحظات الانهيار، لا يمكن الاعتماد على من ساهم في خلقه، بل يجب تأسيس نظام جديد من الأعماق، يبدأ من إعادة تعريف مفاهيم الحرية، والعدالة، والديمقراطية، ليس بمعناها الشكلي الفارغ، بل كممارسة حقيقية تعيد للفرد كرامته، وللمجتمع سيادته، وللدولة وطنيتها.
دروس من التاريخ: ألمانيا والهند وجنوب أفريقيا
والدليل على ذلك ليس بعيداً. فما جرى في ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية حقيقة ليس معجزة، بل نتاج إرادة جماعية رفضت أن تبقى أسيرة الماضي، وقررت أن تبني دولة قائمة على المواطنة، لا على الهوية القسرية أو الانتماءات المذهبية. فقد خرجت ألمانيا من حرب دمرت كل شيء، حتى روح الإنسان فيها، ومع ذلك، لم تنتظر أن يمنحها المنتصرون ديمقراطية جاهزة، بل صنعتها بنفسها، بعقل نقي من الكراهية، وبقلب يطلب السلام لا الانتقام.
ولم يبن ذلك النهوض على اجتثاث الآخر أو استبدال طاغية بآخر، بل على فكرة بسيطة لكنها عظيمة: أن يكون الوطن مساحة للجميع، وأن تُبنى المؤسسات لا على الولاءات الفئوية، بل على العدالة والشفافية والاحترام المتبادل.
وحتى في الهند، حيث كان الاستعمار البريطاني يحكم قبضته بيد من حديد، لم ينتصر الشعب الهندي بالقوة المسلحة، بل بالوعي وبالمقاومة السلمية، تلك التي قادها شاب نحيل الجسد عظيم الروح، علّم العالم أن أقوى سلاح ضد الظلم هو الإرادة الجماعية التي لا ترهب، والمبدئية التي لا تساوم أنه المهاتما غاندي.
وفي جنوب أفريقيا، بعد عقود من الفصل العنصري، لم يبن مانديلا الدولة الجديدة على حساب الانتقام، بل على المصالحة والاعتراف بالآخر، لأن المصالحة الحقيقية لا تعني نسيان الجراح، بل تجاوزها معاً لبناء مستقبل لا مكان فيه للتمييز أو الاستبداد.
سوريا تحتاج إلى مشروع جامع يتجاوز الهوية المغلقة
هذه الدروس ليست للتاريخ فقط، بل هي مفاتيح الحل لسوريا المستقبل، لأننا، مثل أولئك الشعوب، لا نفتقر إلى الكفاءات ولا إلى روح التضحية، بل إلى مشروع جامع يخرجنا من دوامة الهوية المغلقة إلى فضاء الوطن المفتوح. لأن ما يجري ليس مجرد فشل في إدارة الدولة، بل هو مشروع ممنهج لتدمير الروح الوطنية، وتفكيك الروابط المجتمعية، وتحويل الهوية إلى سلاح يستخدم في وجه الآخر.
الانتماء إلى الوطن لا يُقاس بالهوية بل بالشراكة
لذلك، لا يمكن الحديث عن الخلاص دون الحديث أولاً عن إعادة تكوين العلاقة بين مكونات الشعب السوري بكل أطيافه: عربياً، كردياً، آشورياً، سريانياً، شركسياً، درزياً، علوياً، سنياً، إسماعيلياً، مسيحياً... فالانتماء إلى الوطن لا يجب أن يكون مشروطاً بعرق أو عقيدة، بل أن يكون انتماءً مبنياً على المساواة والشراكة والاحترام المتبادل . وهذا التلاحم المجتمعي ليس رفاهية، بل شرط وجودي لبقاء سوريا كدولة. فالتجربة تثبت أن كل محاولة لإقصاء مكون ما باسم الأغلبية أو الهيمنة أو الحفاظ على الهوية، لا تؤدي إلا إلى المزيد من التصدع، والعنف، والانفصال، وهي بالضبط ما تريده القوى التي لا تريد لسوريا أن تعود موحدة.
الساحل والسويداء: شراكة وطنية لا وصاية طائفية
وفي هذا السياق، نذكر ما حصل في مناطق الساحل السوري والسويداء، والتي عانت ولاتزال تعاني من الخطابات الطائفية ومحاولات استغلال الغضب المشروع لأغلبية الشعب السوري لدفع تلك المناطق إلى مزيد من الانفصال أو التمرد الفئوي. لكن الخلاص الحقيقي لا يكمن في بناء جدران جديدة بين أبناء الوطن الواحد، بل في إسقاط الجدران القديمة التي شيدها النظام المجرم من أجل تقسيمنا.فالساحل، بتنوعه الديني والقومي، لا يحتاج إلى وصاية طائفية، بل إلى مشاركة وطنية تضمن له حقوقه دون أن يستخدم كرهينة من أجل مشروع طائفي جديد. والسويداء أيضاً بخصائصها الاجتماعية الفريدة، لا تبحث عن عزلة تحميها من الآخرين، بل عن شراكة تحميها من التهميش.
شمال وشرق سوريا: مقاومة ضد أعتى أنواع الإرهاب
ولا يمكن إغفال التجربة التي نشأت في مناطق شمال وشرق سوريا، تلك الجغرافيا التي كانت ساحة حقيقية للمقاومة ضد أعتى أنواع الإرهاب الذي عرفه العصر الحديث. ففي أوقات لم يجب أحد فيها نداء الاستغاثة، وعندما ساد الصمت على المجازر التي ارتكبها داعش بحق المدنيين — عرباً، كرداً، آشوريين، يزيديين — لم يجد أهل تلك المناطق من يمد لهم يداً سوى إخوتهم الأكراد، الذين وقفوا سداً منيعاً في وجه الوحشية المطلقة، ودفعوا ثمناً باهظاً من دمائهم لإنقاذ قرى بأكملها لم تكن تنتمي إليهم عرقياً أو لغوياً، لكنهم اعتبروها جزءاً من الوطن وجزءاً من جغرافيا المصير المشترك.
فحقيقة لم تكن تلك المقاومة مجرد معركة عسكرية، بل كانت دفاعاً عن إنسانية كادت أن تُمحى من على وجه الأرض، في وقت تخلت فيه كل القوى السورية الموجودة على الأرض عن واجبها الإنساني والأخلاقي والأخوي.
تشويه المشروع وخطاب الكراهية
فاليوم تواجه حملة منظمة على منصات التواصل الاجتماعي، تهدف إلى تشويه هذا المشروع لتقويض كل محاولة لبناء نظام يضمن الحياة الكريمة لتلك المجتمعات ويحميها مستقبلاً من أي سيناريو مماثل، من خلال خطاب عنصري وطائفي مقيت، يختزله في انتماء إثني واحد، ويزرع في أذهان السوريين فكرة أن الحرية لا يمكن أن تُبنى إلا على أنقاض الآخر.
فتَجد صفحاتٍ تدعو صراحةً إلى تحرير هذه المناطق من سكانها الأصليين، وكأنهم غزاة، وتنشر صوراً مفبركة، وتطلق الاتهامات الجاهزة بالانفصال أو الخيانة، كل ذلك لخدمة أجندات لا تريد لسوريا أن تنهض موحدة حرة، بل أن تبقى ممزقة يتلاعب بها من يملك المال والسلاح والكراهية. هذا النكران المتعمد للتضحيات التي قدمتها تلك المناطق، والتي أنقذت أجزاء واسعة من سوريا من الجحيم، لا يخدم إلا أولئك الذين يريدون إعادة عقارب الساعة إلى زمن الطغيان.
التحشيد الممنهج وانقلاب منطق الدولة القومية
وهذا التحشيد الممنهج ليس سوى امتداد لمنطق الدولة القومية القديمة، التي لا ترى في التعدد سوى تهديد، وفي التعاون المجتمعي سوى خروج على السيادة. فحقيقة على الجميع أن يعي أن سوريا المستقبل لا تُبنى من فوق، بل من الأسفل، لا بالقبضة الأمنية، بل بالثقة المتبادلة.
وأن يعلموا أيضاً أن التغيير في سوريا يجب أن يبدأ من الداخل، لا من عواصم القرار الخارجي التي لا تنظر إلينا إلا من زاوية المصالح الجيوسياسية.
الوحدة تُبنى بالعدل لا بالقمع
والمخرج الوحيد لا يكون إلا عبر فهم عميق بأن وحدة سوريا لا تُبنى بالقمع، بل بالعدل، وأن استقرارها لا يتحقق بالهيمنة، بل بالتشاركية والتعددية والاعتراف المتبادل. ومن هنا، فإن بناء بديل سياسي حقيقي لا يمكن أن يبدأ من داخل دوائر السلطة، بل من رحم المجتمع، من خلال بناء دولة تعتمد على اللامركزية الديمقراطية، التي تضمن للجميع مشاركة حقيقية في صنع القرار، وتدبير شؤون حياتهم اليومية، دون أن يُفرض عليهم نمط واحد للعيش أو التفكير.
وفي هذا الإطار، تصبح جميع المكونات فاعلاً رئيسياً في صنع مستقبل، ويتم رفع الغطاء الشعبي عن القوى التي تستغل الدين لتبرير الهيمنة والفساد، والذي يعتبر أول الطريق نحو تحرير الإرادة الوطنية.
التغيير الحقيقي سلمي وجماهيري
وإذا كان البعض يرى في العنف وسيلة للتغيير، فإن التاريخ يعلمنا أن التغيير الحقيقي يكون دائماً سلمياً، جماهيرياً، مدنياً، قائماً على الإرادة الجماعية، لا على التفويض الإلهي أو المطالبة بالسلطة باسم الدم. فسوريا التي نحلم بها لا يمكن أن تُبنى بالانقلابات أو بالمؤامرات، بل بالحوار، والتفاهم، والتنظيم، والتربية السياسية.
حينها سينهض الشعب السوري بعقله وضميره، لا بسلاحه وغضبه. عندها تعود سوريا وطناً للجميع، لا ساحة للجميع.
دور المثقفين في زراعة بذور الوعي
ولذلك فالدور الأكبر يقع على عاتق المثقفين، ليس كمن ينحت الكلمات على الورق، بل كمن يزرع بذور الوعي في قلوب الناس، ويفتح لهم نوافذ الأمل على مستقبل مختلف. عليهم أن يوصلوا رسالة واضحة: أنه لا خلاص إلا بالمجتمع، ولا أمان إلا بالديمقراطية، ولا عدالة إلا بالتعددية.وأن أي محاولة لإعادة إنتاج الاستبداد تحت أي شعار، ديني أو قومي أو طائفي أو عرقي، هو خيانة لتضحيات الشعب السوري بأكمله.
الفرصة الأخيرة أمام الشعب السوري
إذاً، المطلوب اليوم ليس حكومة جديدة فقط، بل منظومة قيم جديدة، تضع الإنسان في مركزها، وترفض أن يكون الوطن سلعة تُباع وتشترى، أو ساحة تُقسم بين المحاور.
وبالنهاية، علي أن أقول بأن الفرصة التي تلوح اليوم بعد سقوط الأسد قد تكون الأخيرة. فإن أهدرناها في صراعات جانبية أو انتقام عاطفي أو ارتهان لأجندات خارجية، فلن يعود أمامنا سوى الدخول في دوامة جديدة، أكثر قتامة من سابقاتها.
والطريق لن يكون مفروشاً بالورود، بل محفوفاً بالتضحيات. لكن التضحيات على درب الحرية والكرامة خير ألف مرة من العيش في ظل أنظمة تدعي الوطنية وهي تبيع الوطن، أو ترفع شعارات التحرير وهي تسجن الإنسان. فالشعب السوري، بكل مكوناته، قادر أن يصنع معجزته الخاصة، شرط أن يقرر أن يكون واحداً، لا في الهوية القسرية، بل في المصير المشترك والوطن الواحد
#أنس_قاسم_المرفوع (هاشتاغ)
Anas_Qasem_Al-marfua#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟