عزالدين محمد ابوبكر
الحوار المتمدن-العدد: 8566 - 2025 / 12 / 24 - 17:35
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
- (٣) ... إن ما هو، هو فعل فكر وكون في آن.
صـ ١٢١، قصيدة بارمينيدس؛ ترجمة: يوسف الصديق.
تدوينة اليوم، هي تمشية غير مريحة في ساحة الفكر والشعر؛ لأننا سوف نتحدث عن ما هو شعري بصحبة ما هو فلسفي، ولن يرضى عن مقالنا أحد وإن رضى فلن يشاركه، المهم أننا اليوم سوف نقول أن الكلمة ليست مجرد ”أداة“، بل هي ”كينونة“ تعلن عن نفسها في مواجهة العدم، وتجربة الشاعر عبد الأمير الحصيري، ذاك الشريد، هي التي سوف ترشدنا، نعم سوف نتعلم من ذاك الشريد، الذي لم يكن يتشرد في شوارع بغداد فحسب، بل كان يشرد في تيه الوجود نفسه؛ حيث إن القراءة الفينومينولوجية لتجربة الحصيري تقتضي منا الكشف عن نمط الوجود، أو الـ Dasein الذي اختاره هذا الشاعر؛ حيث إن الحصيري لا يقدم "التشرد" كـ حالة إجتماعية أو نتيجة فقر مادي، بل كـ تموضع-وجودي-جذري، لأنه الموجود-في-العالم الذي قرر أن يفصم عراه مع ديوان الحاكم، مع البيت، ومع اليقين، ليرتمي في حضن "القلق" بوصفه المحرك الأساسي للوعي، وفي نصه الذي أسميه نص "شريد القلق"، نجد أن الحصيري ليس حالة عابره، في كتب التاريخ أو كتب الأدب العربي، مع العلم بأنه من النادر أن تجد من يلتفت له في عالمنا هذا!، لأنه مؤسس لما يسمى في الفلسفة الوجودية بـ "الإغتراب الأنطولوجي"، لكنه لم يعرف إلا الإغتراب، ولم يعرف الأنطولوجي لأنه كان يحياه، وهذا حسب قوله:
أجائعً؟ أي شيء ثُمّ يا قلقُ؟
أمن خطايّ هذا يُمطر العبقُ؟
إذا تصبّبتْ روحي دونما تَعَبِ
يُطفئ تلظّي هواك، القاتمُ الحَفِقُ
وإن ما سبق، لا يعبر إلا عن جدلية الجوع والامتلاء بالعدم عندما يسأل الحصيري "أجائع؟"، فهو لا يخاطب معدته، لأنه ليس مثل باقي أهل مدينته، بل هو يخاطب "القلق" بوصفه كيانًا يلتهم الوجود، وهناك مفارقة في النص؛ حيث نجد الشاعر يحدثنا عن "العطر" أو "العبق"، الذي ينهمر من خطاه، والخطى هنا هي بداية فعل التشرد، والحجة هنا هي كون التشرد ليس ضياعًا، بل هو "تجلي" للذات في أقصى حالات عرائها، ونعلم أيضًا أنّ الروح التي "تتصبب"، هي روح لا تبحث عن الراحة، بل تبحث عن "التلظي"، والحصيري يرى أن الوجود الحقيقي لا يتحقق إلا من خلال "الاحتراق" لا الاستقرار، وبعد ذلك، نجد الحصيري يحول القلق من مجرد كونه قلق، إلى مخاطب بقوله (يا قلقُ)، وهنا يخرج الحصيري من القلق كـ حالة نفسية إلى القلق كـ أفق للكينونة، ليكون القلق بهذا، هو "الوعي" الذي يدرك فجأة أنه وحيد أمام حريته المطلقة، وليس القلق لوحده الذي ينال من التحول نصيب في نص الحصيري، بل الجسد أيضًا؛ حيث إن الجسد هو وسيلتنا لإدراك العالم، والجسد عند الحصيري هو "المكان" الوحيد المتبقي بعد فقدان المكان (البيت)، ولعلنا نزداد امعانًا في نص الحصيري بعد هذا الاقتباس:
مُعذَّباتٌ، فما أذنبتُ يا قلقُ؟
أخشى عليكَ دمي الواري وإن بكَ في
إحراقهِ حُلمَكَ الريّان ينسحقُ
وأعتقد أننا هنا نصل إلى ذروة تجربة الحصيري الوجودية، لأنه يخشى على "القلق" من دمه المحترق!، وهذه التفاته وجودية مدهشة بحق، لأن الشاعر يدرك أن "قلقه" هو الذي يمنحه المعنى، فإذا فني الشاعر فني القلق معه!، وبذلك يفقد القلق "موضوعه"، وهذه علاقة اعتمادية متبادلة بين "الذات" و"ألمها"، والحصيري هنا مثل أي وجودي أصيل يحتضن ألمه لكي لا يغرق في العدم المحض، فالألم هو الدليل الوحيد على أنه لا يزال "موجودًا"!، وبهذا يتضح لنا أن التشرد عند الحصيري ليس "نفيًا" بل "اختيارًا" للحرية المطلقة، التي تتجاوز حدود الزمان والمكان، وإن القلق حسب تجربة الحصيري، ليس عرضًا مرضيًا، بل هو "الأداة المعرفية" التي يكتشف بها الشاعر زيف الوجود المؤسساتي، وبكل صراحة إنه في لغته شرس!، ومتفجر مثل نيتشه!، ووفي بلاغته عربدة!، تعبر عن روح لا تطيق الانضباط داخل القوالب الجاهزة، حتى وإن التزم بالشكل العمودي، فقد شحنه بطاقة تدميرية من الداخل، تذكرنا بذلك الرجل الذي قال: أنا ديناميت!، وإن تجربة الحصيري، هي تجربة "الإنسان المتوحد" الذي اكتشف أن العالم ليس سوى "حانة كبرى" أو "شارع طويل"، وأن الحقيقة الوحيدة التي لا تقبل الشك هي "أنا قلق، إذن أنا موجود"، ولنعلم أن الحصيري قد قتل "العبد" في إسمه (عبد الأمير) ليحيي "الشريد" الذي في روحه.
لكن لما لا ننتقل من كوجيطو القلق، إلى كوجيطو التشرد؟
في تاريخ الفلسفة الحديثة، ارتبط الوعي دائمًا بالاستقرار واليقين، خصوصًا مع ديكارت، لكن إن تجربة الشاعر العراقي عبد الأمير الحصيري تقلب الطاولة على هذا الاستقرار، والوعي هنا لا يولد من "التأمل الهادئ" الذي عاهدناه مع ديكارت، أو "الحياة المنضبطة" التي عرفنا فيها كانط كـ بطل ميثولوجي، بل من "الارتطام العنيف" بأرصفة الوجود، والحصيري يا اعزائي لا يعرّف نفسه عبر ما يملك، بل عبر ما "يفقده"، ليتحول الفقد إلى ميزة أنطولوجية تمنحه حرية لا يملكها "المستقرون"، لكن الحصيري أصبح يريد أن يهمس لي في أذني بقوله:
ما زلتُ طفلاً غريراً كيف تقربني؟
أنا التشرّدُ والجذمانُ والأرَقُ
وإن الفكرة الجوهرية التي يريد الحصيري أن يطرحها بعد همسه هذا، هي ما يمكن تعريفه بأنه "الهوية السلبية"، لأنه يرفض "البراءة" (الطفل الغرير) لأنها تمثل حالة ما قبل الوعي، ويتبنى بدلاً عنها "التشرد والأرق"، ويهمس الحصيري مرة أخرى، لكن مع حجة وليس شعر، وهي حجة الإنفصال، أو إن الشاعر لكي يحقق ذاته، عليه أن ينفصل عن"المجموع"، والتشرد هنا ليس ضياعًا في المكان، بل هو "تموضع" خارج الزمن الاجتماعي، وعندما يقرن شاعرنا نفسه بـ "الجذمان" (وهو العطش الشديد أو تقرح الجلد)*، فإنه يحول جسده إلى "نص" مكتوب بالألم، وفي الفينومينولوجيا، إن الجسد هو وسيطنا مع العالم؛ وبما أن عالم الحصيري "موحش"، فإن جسده بالضرورة يجب أن يكون "محترقًا" ليتلاءم مع حقيقة هذا الوجود، وإن قلق الحصيري ليس مجرد قلق سيكولوجي يمكن علاجه، بل هو قلق "ميتافيزيقي"، لأنه يعاني من "تخمة الوجود" في عالم فارغ، لذا يهرب إلى التشرد لكي لا "يتشيأ" ويصبح مجرد قطعة أثاث في هذا العالم، وينتقل الحصيري إلى مستوى أرقى من الحجاج الوجودي حينما يبدأ في "أنسنة" القلق، جاعلاً منه شريكًا في الخلق والدمار، وقد سبق وعرضنا في أول المقال شعرًا للحصيري، به ما يمكن أن نقول عنه، أنه سخرية وجودية؛ حيث إن شاعرنا يسأل القلق عن جوعه، وفي ذلك إقرار بأن الذات أصبحت "وليمة" للفكرة، ومنطقيًا إذا كان القلق هو من يمطر "العبق" من خطى الشاعر، فإن "الألم" يصبح هو "العلة الفاعلة" للجمال، ولا وجود للعبق دون خطى، ولا وجود للخطى دون تشرد، ولا وجود للتشرد دون قلق، إذن يتضح التالي: إن القلق هو المصدر الأول للقيم الجمالية في عالم الحصيري، وإنه يشرعن عذابه بكونه الضريبة الوحيدة لإنتاج المعنى.
وإن التشرد عند الحصيري هو فعل مقاومة أنطولوجية؛ وهو رفض لأن يكون الإنسان مجرد "وظيفة" أو "رقم"، واختيار لأن يكون "حضرًا دائم الإقامة في السفر"، والنص يثبت أن القلق هو المحرك الأساسي للوعي؛ فبدون القلق، يغط العالم في نوم عميق من "التفاهة"، بينما يبقيه الشاعر مستيقظًا بـ صرخاته، ولغة الحصيري مثلما سبق وأشرت، هي لغة "انفجارية" وليست "وصفية"؛ إنها تحاول خلق واقع بديل يتجاوز بؤس الواقع المعاش عبر ما اسميته بـ "عربدة البلاغة"، والحصيري هو "سيزيف بغداد" الذي قرر أن يحمل صخرة القلق صعودًا إلى هاوية الوعي، مدركًا أن القمة هي محض وهم، وأن النجاة الوحيدة تكمن في "الاستمتاع بالاحتراق"، وإن مأساة الحصيري تكمن في أنه كان "أكثر وعيًا مما ينبغي" في مجتمعه، وبحسب مقاييس عصره، لا عصرنا، لأنه كان في مجتمع "أكثر غفلة مما ينبغي"، مما جعل "التشرد" هو المسافة الضرورية للحفاظ على كرامة العقل.
وفي الفلسفة الوجودية تحديداً في فكر كلاً من "كيركجور"، و"هايدجر"، إن القلق ليس خوفاً من شيء محدد، بل هو الخوف من "اللاشيء"، والحصيري في مطلع قصيدته، يجسد هذا المفهوم بدقة مذهلة؛ حيث يخاطب الشاعر القلق كأنه كائن يشاركه الطعام والشراب، يخاطبه ويسأله، وبهذا ينتقل شاعرنا من العرض إلى الجوهر، وأريد أن أؤكد على أن سؤال الجوع ليس ماديًا، بل هو تعبير عن "الفراغ الوجودي"، أو حينما يكون القلق جائع لأنه يقتات على كيان الشاعر، وإن ربط الخطى بـ "العبق"، هو محاولة للتعريف بأن التشرد، هو الذي يعطي أو يمنح بمعنى أصح الوجود رائحة ومعنى، وبدون هذه الخطى "المشردة"، يظل العالم صامتًا وراكدًا، ويجب أن أشير إلى قول سارتر بأن الحرية هي حكم على الإنسان لا نقض فيه (الاقتباس على طريقتي)*، وهذه الحرية هي عبء ثقيل، والحصيري قد أختار أن يحمل هذا العبء بعيدًا عن "القطيع" أو النسق الإجتماعي المستقر، والحصيري يعلن في شعره وحياته قطيعته مع الآخر؛ لأنه لا يستجدي عطفًا ولا يبحث عن مأوى مادي أو معنوي، وإن قوله: "ألم يشرّدك تشريدٌ يمزقني"، وهنا تتجلى لنا جدلية "المُمزَّق والمُمزق" (من تأمل اللحظة، ووحي الشعر)؛ والشاعر يكون هنا موجودًا يتماهى مع فعل التشرد حتى يصبح هو والتشرد شيئًا واحدًا، وهذه هي "الأصالة" في أقصى صورها، وهي أن يقبل الإنسان مصيره المأساوي ويحوله إلى نشيد...، وشاعرنا قد أختار أن يستمر في "الاحتراق" (=الحياة المؤلمة) من أجل الحفاظ على "جذوة الحلم" و"هيبة القلق"، هذا هو "الإنتصار على العدم"، من خلال معانقة الألم، وهو ما يشبه أسطورة سيزيف عند ألبير كامو؛ حيث يجب أن نتخيل سيزيف سعيدًا وهو يرفع الصخرة، لأن الفعل في حد ذاته هو إثبات الوجود، لكن إن ما يهم الآن في بداية تدوينتي هذه (أقصد نهايتها)، هو أن الحصيري لم يولد "شريدًا"، بل "صنع" نفسه شريدًا عبر قراراته الوجودية.
وإن الألم ليس ضعفًا ثقيلاً بل هو "بوصلة" الحقيقة، والوجود الذي لا يتألم هو وجود غير واعي، وإن استخدامه لألفاظ متمردة وجمالية في آن واحد، هو انعكاس لحالة "الغثيان" الوجودي تجاه العالم الذي يدعي الاستقرار، ويخفي الزيف، وإن تجربة عبد الأمير الحصيري تمثل "الوجودية الميدانية"، أو وجودية قريبة من وجودية الشوارع المصرية؛ فهو لم يكتب عن القلق في المقهى الباريسي مثل سارتر، بل عاشه في أزقة بغداد وباراتها الرخيصة، محولاً التسكع من فعل ضياع إلى "طقس صوفي* وجودي" يبحث عن المطلق في قلب الحطام، وقد صدق وصف محمد مظلوم، لشاعرنا في كتابه "أصْحَابُ الوَاحِدَة"، عندما وصفه بأنه شاعر رجيم شريد، وهو الذي يفيض منه الشعر والذهول، وهو أيضًا الصعلوك السكير، وهو العاطل المتمرد على بيئته، لأضيف أنا أنه قبل كل شيء إنسان، وقبل إنسان هو شاعر...
#عزالدين_محمد_ابوبكر (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟