عزالدين محمد ابوبكر
الحوار المتمدن-العدد: 8401 - 2025 / 7 / 12 - 21:32
المحور:
الادب والفن
لقد حاولت في مقال سابق ، أن أشارك قراءتي الوجودية لأشعار وليم وردزورث ، تلك الأشعار التي وجدت فيها شيئاً ، لم أجده في عصرنا هذا ، وهو الإقتراب من الطبيعة ومحاولة فهم الوجود ، والابتعاد عن كل القيود ، وقد تبدو هذه مجرد كلمات بسيطة ، ألا إنها كلمات تحمل خلفها العديد من السمات الإنسانية ، والوجودية التي تدمج بين الأسلوب الصوفي و التفكيك الرمزي ، والبحث عن المعنى في عالم قد يبدو أنه بلا معنى ، ومن خلال قراءتنا لمارتن هايدجر نتعلم أن الشعر هو مسكن الإنسان ، وبهذا المعنى فإن الصورة الشعرية عند وردزورث ، ليست مجرد تمثيل للعالم ، بل هي حدث وجودي يتجلى فيه العالم للإنسان ، بوصفه كائناً-في-العالم (Dasein) ، وهكذا يبدو لنا أن الصورة الشعرية عند وليم وردزورث ليست مجرد تزيين لفظي أو زخرفة حسية ، بل هي كشف عن العلاقة بين الإنسان والوجود ، أو بين الذات والعالم ، ومن هذه النقطة تكون قراءة أشعار وردزورث على ضوء "شمعة" الفكر الوجودي-الأنطولوجي (الهايدجري ، لتعامله مع الشعر) ، مخرجاً من حيز الجماليات الشكلية المعتاد (الكلاسيكي) ، إلى فضاء الكشف الشعري عن كينونة الأشياء.
الشعر ليس مجرد ممارسة لغوية أو تعبيرية ، بل هو أحد أنقى الطرق التي يتجلى بها الوجود (الكينونة) ، ومن خلال هايدجر نتعلم أن الشعر ليس مجرد وصف للعالم ، بل هو انفتاح ؛ بمعنى أن الشعر يقوم بتكوين فضاء (رمزي) ، يظهر فيه العالم على نحو مغاير للتمثل العلمي أو التقني ، وفي هذا الفضاء نجد الشاعر شخصاً موجوداً ، ومستمعًا لما يتركه الوجود من صدى ، في نفسه ومعبرًا عنه عبر اللغة ، تلك اللغة التي لم تعد مجرد أداة تواصل فقط ، بل هي المنزل الذي تحيا فيه الكينونة ، أما عن فعل الشعر ، فهو ذلك الحدث الإنكشافي ، الذي يقوم بـ إزاحة ستار ما هو معتاد ، من أجل كشف جوهر الأشياء ، ومن هذه النقطة فإن الكلمة الشعرية ليست رمزية ، بل هي منفتحة على الحقيقة الكينونية للأشياء ، وأرجو منك تذكر دلالة الكينونة في التراث الإسلامي ، تحديداً عند محيي الدين بن عربي ، وهكذا يبدو لنا أن وظيفة الشاعر لا تتمحور في فكرة "الخلق" ، بل في فكرة الرعاية ؛ هذه الرعاية التي تحفظ الكينونة من السقوط في النسيان أو الابتذال ، وخير مثال على هذا نجده في قصيدة السيوطي ، الموجودة في ختام كتابه عن تاريخ الخلفاء.
ونلاحظ أن وردزورث حين يكتب عن الطفولة ، أو عن صمت الطبيعة ، أو عن ذكرى لحظة جمالية ، فهو لا يقوم بتقديم وصف تأملي مجرد ، بل يقوم بـ محاولة لإستعادة ما تم نسيانه في زخم الحداثة ، ومثلما سبق وأشرت فإن هايدجر يرى أن مهمة الشاعر ، لا تكمن في محاولة إعطاء معنى جديد للشيء ، بل هي (محاولة) إعادة الحضور لما هو منسي ، و وردزورث حين يكتب ، فهو يكتب ليستعيد هذا القرب من الوجود ، من الحياة ، من الطبيعة ، حتى من أنفسنا! ، تلك الأنفس التي دمرتها الثقافة الإستهلاكية الخاطئة.
من محاولتي لقراءة شعر وردزورث ، تبين لي أن شعر وردزورث يحتوي في طياته بُعدًا فلسفي متين ؛ حيث يظهر الشاعر وهو لا يكتب عن الطبيعة بوصفها مشهداً ، أو عن الذات بوصفها شعوراً ، لأنه يكتب عن تلك الكينونة ، التي تتجلى في صمت الجبال ، وفي حركة السحاب ، وفي ومضات الذاكرة ، وفي اختلاجات الروح ، و استطيع ان اقول عن وردزورث بأنه شاعر الوجود ، أو لعله شاعر للوجود ، لا بمعناه الفيزيقي أو الفيزيائي ، بل بوصفه سؤالاً ، ومأزقًا ، و أفقًا مفتوحاً ، ومن هذه النقطة ، تظل نصوصه مفتوحة على قراءات متعددة ، تحتمل التأويل الانطولوجي ، و الميتافيزيقي ، و النفسي ، والأخلاقي ، في آن معاً.
ولقد اخترت قصيدة "النرجس- The Daffodils" لدراستها ؛ بسبب جماليتها الشاعرية ، و مدى عمقها الفلسفي ، و بسبب جمال أول سطورها وآخرها ؛ حيث تبدأ بـ "تجولت وحيداً كـ السحابة الهائمة" ، و تنتهي بـ "كأن النرجس سكنني... وصارَ أنيني ويقيني" ، ويلاحظ مدى جمالية القصيدة و روعتها ، و تفردها بـ النسبة إلى وقتها ، والترجمة التي أوردتها هي ترجمتي مع تصرف في المعنى ، أما عن الترجمة المعتدلة فسوف تكون: "و يرقص مع النرجس ...في صمت وصفاء" ، و تبدأ القصيدة بـ إستعمال التشبيه ؛ حيث يقوم الشاعر بتشبيه وجوده بالسحابة ، مما يضفي على النص ، حالة من "الضياع"/"عدم الاستقرار" والانفصال عن الكينونة ، ويلاحظ في أثناء قراءة القصيدة أن الشاعر يقوم بـ استخدام المفردات الحسية ، ذات الدلالات المعنوية المكثفة ، مما يحول المشهد إلى كشف جمالي للوجود ، والفعل المضارع المستمر والتكرار ينتج إيقاعًا من التأمل والحضور ، يستحق منا أن نتوقف ونتأمله أو نسمعه.
وهذه هي محاولتي الأولى ، في ترجمة قصيدة شعرية:
(قصيدة النرجس ؛ تأليف وليم وردزورث ، ترجمة عزالدين محمد).
- تجوَلتُ وحيدًا كالسحابة الهائمة،
أطوفُ فوق التلالِ والوديانِ الحالمة،
حتى لمحْتُ جمعًا من أزهَارِ النرجسِ الذهبية،
تتمايلُ كالارواحِ، رقصتُها أبدَية.
- وعلى ضفافِ البحيرة في صف متناسق،
يمتدُّ كالعَقدِ البهيّ، في مشهدٍ فاتنٍ وساحر،
تهتزُ مع النَسيم برشاقةٍ و رقّةً،
كأنها ترقص للحياةِ، بأقدامٍ خفيفةٍ وناعمة،
- الأمواجُ كانت تتراقصُ هي الأخرى،
لكنّ النرجسَ أنقى، وأصفى ، وأبهى،
نظرتُ إليهم ، فتدفّق قلبي بالشكرِ،
ما أعظم هذا الجمال، وما أعمقَ هذا الذكر!
- كثيرًا ما أستلقي وحدي، ساكنًا في ظلالِ المساء،
فتعودُ تلك الصورةُ، رقصةُ الزهرِ في الفضاء،
يملأني السرور، وينبضُ القلبُ معالذكرى،
ويرقصُ مع النرجسِ ... في صمتٍ وصفاء.
ومن يقارن بين ترجمتي والأصل الإنجليزي ، سوف يعرف أنني تصرفت كثيراً في النص! ، وسبب هذا التصرف يكمن في أنني حاولت أن أحيا داخل أجواء القصيدة ، حتى انتقلت من موقف الترجمة إلى موقف التأليف ، وهذا أمر مخيف ، وحاولت أن أجلب هذه القصيدة وأقاربها من القارئ ، محللًا لها من أجل زيادة الوعي بخصوص قيم الفلسفة الوجودية ، و محاولاً فتح الحدود بين الفلسفة والنص والشعور.
في البيت الاول ، يلاحظ القارئ حالة الإنفصال ، وهي صورة هايدجرية واضحة للـ Dasein في لحظة فقدان الأصالة ، لكن هذه العزلة تتحطم عندما يلتقي الشاعر بـ أزهار النرجس ، رمز النماء والتجدد والوقف أمام الحقيقة ، ثم يقوم الشاعر بتأمل هذه الازهار وحركاتها ، لكن ظهور النرجس ليس فقط حدثًا بصرياً ، بل هو حالة انكشاف وجودي للحضور ، ذلك المكان الذي يقترب فيه الكائن من أصالة وجوده ، ليظهر لنا غرض هذه الزهور ، وهو إخراج الذات من انغلاقيتها ، من أجل إعادة اتصالها بـ الكائن ، أو البا و الكا حسب الميثولوجيا المصرية القديمة ، و يمكن القول عن الزمن في قصيدة النرجس أنه لحظة آنية ممتدة بالذكرى.
و الهرمنيوطيقا - Hermeneutics هي فن وفلسفة التأويل ، وقد تطورت من كونها تأويلاً للنصوص المقدسة ، إلى أن صارت عند هايدجر وجادامير تأويلاً للوجود ذاته ، لكنني لا أرى الهرمنيوطيقا كمحاولة للتفسير ، بل هي محاولة للوصول إلى أكثر من وجهة أو زاوية للحقيقة ، والنص ؛ في هذا السياق ، ليس فقط "شيئاً يقرأ" ، بل هو "مكان للكشف" ، أو "حدث للمعنى" ، بل هو مجرى "للزمن المتجسد" ، أو "ذكرى-زمنية" لإمكان وجودي سابق ، وقصيدة النرجس هي قصيدة تعيد الذات إلى الحضور من خلال الجمال ؛ حيث من خلال القراءة السريعة للقصيدة ، يظهر لنا أن الزهور هي محاولة لإعطاء العالم نغمة ، أو حس ، والذات كانت تائهة كالسحابة ، ثم أعادت الطبيعة ترتيب نغمتها ، وتجربة القراءة هذه ، من رؤية جادامير هي تجربة لما هو فوق الإدراك المباشر ، و لهذا فإن نص القصيدة يقتضي منا التأمل لا التفهم ؛ حيث أن القصيدة لا تخبرنا بجمال الطبيعة أو بجمال أزهار النرجس ، لأنها تخبرنا بأن الزمانية مهمة في كل لحظة جمالية ؛ حيث أنا وأنت في حاجة للزمن كي نتفهم الجمال ، الذي قد يمر بنا دون أن نتفهمه في حينها ، أو في آنها.
لكن من تأمل كل ما سبق ، وإعادة النظر فيه يبدو أن تحليلنا ، لنص قصيدة النرجس ، هو تحليل يتجاوز البنية اللغوية ، أو حتى الفلسفية الصريحة ، ليغوص في دلالات المعنى عبر الزمن والتأويل ، في ضوء الذات القارئة والسياق ، على خطى مفكرين عظماء مثل هايدجر ، وجادامير ؛ من أجل إثراء التجربة الشعرية ، بنص تفسيري وجودي يهتم ببعض القضايا الانطولوجية ، وله القليل من السمات التفسيرية ذات الأهمية ، ألا إنه يحاول بناء نوع من التفسير ، ينطلق من القضايا الفلسفية الوجودية ، نحو كل تجربة إنسانية نصية نفسية ، ولعل هذا المقال يكون طلبًا من كل مثقف ، من أجل إعادة النظر في تراثنا الإنساني ، بعدة طرق مع محاولة ابتكار طرق جديدة للتفسير أو المقاربة ، و تذكر قول نيتشه عن الأصنام ، ولا تجعل من الفلاسفة أصنام تعبدها ، بل قم بالتحرك في فكرهم ، وقم بالسباحة في فلسفاتهم ، واصنع شيئاً جديداً للأجيال القادمة...
#عزالدين_محمد_ابوبكر (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟