عزالدين محمد ابوبكر
الحوار المتمدن-العدد: 8381 - 2025 / 6 / 22 - 18:28
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
- هل الأحلام مع ام ضد الديالكتيك؟
إن هذا لسؤال جوهري ، يحمل في طياته توترًا فلسفيًا جوهريًا ؛ حيث قد تبدو الأحلام للوهلة الأولى غير عقلانية ، لا تاريخية ، غير منطقية ، ولا تستوعب الزمانية ، وكل هذا يبدو وكأنه ضد المنهج الديالكتيكي الذي يقوم على الصيرورة ، التناقض ، والتطور عبر نفي النفي ، لكن عند التأمل العميق ، سنكتشف أن الأحلام ليست ضد الديالكتيك ، لأنها تُجسَدُه بشكل خفي ، رمزي ، و غير مباشر ، وقبل أن أقوم بتفكيك عناصر هذا السؤال بدقة ، وجب الإشارة إلى أن الديالكتيك هو في الأصل فن الحوار ، لكن قام أفلاطون بـ إستخدامه على أنه المنهج الفلسفي الصحيح ، غير أن هذا الديالكتيك قد تحرك على مر تاريخ الفلسفة اليونانية ، حركةٍ تقهقرية بين البناء والهدم ، و الإقامة والتفكيك ؛ حيث نجد البناء عند أفلاطون ، والهدم (من أجل إعادة التأسيس) عند سقراط ، و يقول هيجل أن للمنطق من حيث الصورة ثلاث جوانب وهي :
أ- الجانب المجرد ، أو جانب الفهم.
ب- الجانب الجدلي ، أو الجانب السلبي للعقل.
ج- الجانب النظري ، أو الإيجابي للعقل.
وهذه الجوانب الثلاث لا تكوّن ثلاثة أقسام من المنطق ، و إنما هي مراحل لكل فكرة منطقية ترتدي ثوب الشمول ، ولكل حقيقة أيًا كانت ، و الجدل أو الديالكتيك (لشمول الكلمة الثانية في المعنى عن الاولى) عند هيجل ، يقوم بتفسير كل حركة وكل تغير سواء في العالم أو في فكرنا معًا ، وفي الجدل الماركسي نجد نفس قضايا الجدل الهيجلي ، لكن بثوب المادية الماركسية ، بدلاً من المثالية الهيجلية.
و أول الفقرات الديالكتيكية في الأحلام ، هي فقرة التناقض ؛ حيث العالم دائماً وأبدأ نجد فيه من الظواهر ، ما هو في حركة مستمرة وتغير لا ينقطع ، لأن سبب هذه الحركة هو التناقض الكامن في الأشياء ، و هذا يعني أن سبب تطور الأشياء لا يوجد خارجها ، لأنه يقبع في جوف هذه الأشياء ذاتها ؛ حيث الطبيعة المتناقضة هي خاصية ماهوية للأشياء ، ومن المعلوم أن كل ظاهرة تحوي في جوفها متناقضات في تصارع مستمر ، و هذا التصارع المستمر هو الذي يولد الحركة ويبعث التطور ، ويرى هيجل أنه يستحيل تصور أي شكل من أشكال الحركة بدون أضداده ، ونجد نفس هذه الفكرة في الجدل الماركسي ، لكن بـ صبغة مادية بالطبع ترتبط بـ ماركس ، و تأخذ أصلها من هيجل.
ومن ما سبق يتبين أن الديالكتيك يعتمد على الوعي بالتناقض ، حيث يستحيل وجود حركة بلا أضداد (أو رد فعل على الأقل*) ، أما الحلم فهو لا-واعٍ ؛ حيث الحلم يكون غير منتظم ، غير عقلاني ، و غير خاضع للزمان ، و الديالكتيك تاريخي ؛ بينما الأحلام شخصية ، عشوائية ، ولا تسير نحو هدف واضح ، وتكون النتيجة الظاهرة :
• الحلم = لا تاريخ + لا منطق + لا وعي
وهكذا يبدو الحلم كأنه خارج الديالكتيك ، أو حتى "ضده" ، صحيح؟
في الحقيقة لا ، لأن هذا نقد سطحي.
حيث أن الديالكتيك (عند هيجل ، ماركس ، وحتى فرويد بـ أعتبار تأويليته النفسية ديالكتيكية) لا يشترط أن تكون كل مظاهر التناقض واعية أو عقلانية ، بل العكس ، لأن الحركة التاريخية تتولد من تناقضات خفية ، تبدأ لا واعية ، رمزية ، ثم تتجلى في الواقع ، و بـ التالي فإن الحلم ليس خارج الديالكتيك ، بل هو شكل رمزي لإنعكاسة داخل الذات ، و يصعب وضعه داخل إطار معادلة إنسانية ، و هنا تساءلت ، كيف تخدم الأحلام المنهج الديالكتيكي؟
في الحقيقة ، يبدو أن الأحلام تُجسّد التناقض الداخلي ، حين يكون الحلم مُعبرًا عن الصراع بين الرغبة والواجب ، أو الأنا والهو ، الغريزة والأخلاق ، والفرد والمجتمع ، وهذه كلها تناقضات ديالكتيكية تظهر في سياق وجودي-منامي.
وقد يكون الحلم نفيًا للواقع ؛ حيث نجد في كثير من الأحيان ، أن الحلم ينفي واقع القهر أو الإغتراب ، و يتشكل هذا الأمر هكذا :
• حين يحلم N بـ الثروة ، فهذا يشير إلى واقع الفقر الذي يحيا فيه N.
• أو حين يحلم K بالطيران ، فإن هذا يشير إلى واقع القمع الذي يحياه K ، و بوتقة الضياع الوجودي ومحدودية الإمكانات.
• أو حين يحلم L باللقاء (بكل ما تحمله الكلمة من معاني في السياقات الإنسانية) ، فهذا يعني أن L يوجد قابعًا في وجود من الفقد ، و هذا يشير إلى بداية الوعي بـ الوجود وقضاياه.
وهذا النفي ليس هروبًا ، بل إشارة رمزية إلى "ما يجب أن يكون" ، وهذا ما يسميه هربرت ماركوز بـ "الخيال الراديكاليّ".
وقد يظهر الحلم كـ صيرورة داخلية ؛ حيث الحلم لا يقدم صورة ثابتة ، بل يتغير باستمرار ، و يحمل في سياقه بدايات ، ذروات ، نهايات ، و يقوم بتركيب المتناقضات ، و هذه هي بنية "الصيرورة الديالكتيكية" ، من الأطروحة ، إلى النفي ، إلى التركيب الجديد.
و وجب الإشارة إلى ديالكتيك الوعي و اللاوعي عبر الأحلام ؛ حيث نجد عند فرويد و يونج أن الحلم يمثل صراع بين مستويات مختلفة من النفس ، و يكون الديالكتيك موجودًا داخليًا بين الوعي و اللاوعي ، حين يحتوي الوعي على أفكار: السيطرة ، القيم ، الواقع.
بينما يحتوي اللاوعي على أفكار: الفوضى (المحدودة والغير محدودة) ، الرغبات ، الرموز ، لكن هذا التوتر يُنتج تكاملاً تدريجياً ، حين يفهم الإنسان ذاته من خلال أحلامه ، و هذا تحقق لـ "الديالكتيك النفسي" ، و الحلم بالنسبة إلى الإنسان ، هو كتاب بلا أبواب ، لأنه غير محدود وبلا قيود.
ويمكننا رؤية الأحلام كـ تمرين رمزي على الثورة ؛ حيث يمكننا فهم الأحلام ماركسيًا كـ نفي رمزي للنظام الطبقي ، للسلطة ، للمنظومة ، و الحلم العامل بالثورة أو التحرر هو تعبير خفي عن التناقض بين الواقع والرغبة التاريخية.
و من وجهة نظر فرانكفورتيّة ، يبدو أن الثقافة الجماهيرية تُشوه الحلم لتعيد إنتاج الهيمنة ، لكن حتى الأحلام المشوهة قد تحتوي على "بذور نفيها" ، تلك البذور النقية ، التي قد تحتوي على أنقى مفاهيم الحرية.
ومن كل هذا ، يبدو أننا نعرف إجابة سؤال "هل الأحلام مع ، ام ضد الديالكتيك؟" ، لأن الإجابة هي:
• إن الأحلام لا تسير وفق منطق الديالكتيك الواعي ، لكنها تجسد بنيته الرمزية.
• وهي لا تصنع التاريخ ، لكنها تشير إلى نفي الواقع ، و تلمّح إلى إمكانية المستقبل.
وهي ضد الديالكتيك ، إذا فُهمت كـ فوضى عبثية بلا صيرورة ، و هي مع الديالكتيك ، إذا فُهمت كـ مرآة رمزية لصراع الذات ، كـ نفي للواقع ، و كـ مختبر للممكن والإمكانات.
و يمكننا القول بأن الأحلام ليست برهانًا عقلانيًا ، لكنها كثافة رمزية لجدلية الذات مع العالم.
وهي ساحة تتصارع فيها القوى النفسية والإجتماعية والثقافية ، و هي ديالكتيك غير مكتمل ، لكنها جزء من صيرورة الوعي بالواقع ونفيه نحو إمكانٍ آخر.
• و ليس الحلم نقيضًا للواقع ، بل نفيه الرمزي ، ومختبر إمكانه.
- لكن ، ماذا عن قضية السلب والإيجاب في الأحلام ، ومحاولة قراءتها ديالكتيكيًا؟
إن المنهج الديالكتيكي مثلما سبق و أشرت ، لا ينظر إلى الظواهر كـ حالات ثابتة أو منقطعة ، بل كـ صراع حيوي مستمر بين المتضادات (مثل: السلب والإيجاب ، الوعي و اللاوعي ، الحرية والقيد) ، و هو ما نراه يتجلى بوضوح في "بنية الحلم".
وفي هذه القراءة ، سوف أقارب بين الأحلام ، من منظور ديالكتيكي ، خصوصاً بتأثير هيجل وماركس ، مع الرجوع إلى عظماء الفلسفة الوجودية ، المبتعدين عنها وعن صفة الفيلسوف!
و القراءة الديالكتيكية هي قراءة تستمد هدفها من الديالكتيك ، ذلك الديالكتيك الذي يُعنى بالصيرورة والتناقض ؛ حيث كل فكرة (بمعنى آخر: أطروحة) تحمل في طيّها نقيضها (النفي).
وهذا الصراع ينتج تركيبًا جديداً (نفي النفي) يتجاوز التناقض ، لكنه لا يُلغيه.
و بتطبيق هذا الأمر على الأحلام يتبين لنا:
• كيف أن الحلم ليس إيجابيًا ، أو سلبيًا بشكل مباشر.
• بل هو ساحة صراع رمزية بين القوى المتناقضة داخل الذات.
• و السلب و الإيجاب ، ليسا قيمًا أخلاقية ، بل حركية داخل الحلم.
و السلب في الحلم ، لا يمثل فقط الكابوس أو الخوف ، بل هو كل ما يمثل: النقص ، الرفض ، القيد ، التهديد ، الغربة ، القلق ، ومثال هذا في عالم الأحلام يتمحور حول: الموت ، الإنهيار ، الوحوش ، المطر الأسود أو الدموي...
أما الإيجاب ، فليس بالضرورة الراحة أو السعادة ، بل ما يُمثل: الرغبة ، التحرر ، الإنبثاق ، والامل ، و يتمثل هذا الأمر في الحلم رمزيًا ، مثل: الطيران ، النور ، الولادة ، و الاحتضان.
لكن ، الديالكتيك يعلمنا أن:
• الإيجاب قد يولد من السلب (التحرر بعد السقوط).
• والسلب قد يكون قناعًا للإيجاب (حيث الخوف يكشف عن رغبة عميقة).
وقد يكون الحلم ، حركة ديالكتيكيّة.
و هذا مثال توضيحي يكشف الأمر.
حيث يتضمن الحلم ، شخصًا يرى نفسه يسقط من جبل ثم يطير فجأة.
والتحليل الديالكتيكي هكذا:
- الأطروحة (الإيجاب) : صعود الجبل = السيطرة ، السمو ، والطموح.
- النفي (السلب) : السقوط = الفشل ، العجز ، والخوف.
- نفي النفي (التركيب) : الطيران = تجاوز السقوط بتحول رمزي ، ليس رجوعًا للسيطرة ، بل حرية جديدة نشأت من الفقد.
وهنا نرى أن "الإيجاب الحق لا يُولد إلا عبر تجربة السلب".
وهذه هي جدلية الذات في علاقاتها مع الوجود والمجهول ، و الحياة الواعية: تسعى للثبات ، الهوية ، التماسك.
و الحلم يكشف نفي هذا: التمزق ، التناقض ، الخوف ، والرغبة.
لكن الديالكتيك لا يُبقي هذه (الذات) في عزلة ، لأنه عبر الحلم ، يخترق اللاوعي الوعي ، ويكشف ما ينقصه ليكتمل ، و الحلم هو نفي الوعي الزائف ، و إمكان لتركيب وعي أعلى ، و الحلم يمكن أن يكون نفيًا للواقع القمعي (وهذا رأي ذو خلفية فرانكفورتيّة) ، و هو تعبير عن إرادة غير مدركة في التحرر من النظام الإجتماعي الرأسمالي.
إذا ، الحلم سلبي لأنه يبعدك عن الواقع ؛ لكنه إيجابي لأنه يريك "ما يجب أن يكون ، لا ما هو كائن".
وهنا أريد أن اخبرك/كي بأننا ، اطلعنا على جدلية الطوباوي والواقعي.
و السلب والإيجاب في رمزية الحلم ، يظهران في شكل مختلف ؛ حيث في السلب (النفي) ، يظهر الغرباء ، الأعداء ، و الموتى ، بينما في الإيجاب (التحقيق) ، نجد الأم ، الطفل ، و الصديق ، و المحبوب ، و الحالة النفسية في السلب ، تكون خوف ، عجز ، فقدان ، بينما في الإيجاب ، دهشة ، وضوح ، استعادة.
وكل عنصر سلبي في الحلم ، قد يحمل بذرة إيجابية ، و العكس ، و هذا جوهر التحركية الديالكتيكية.
ويمكننا استخدام الديالكتيك ، كوسيلة لفهم الذات الحلمية ؛ حيث إن الذات في الحلم ليست "أنا" موحدة ، بل تعددية.
الفاعل/المنفعل ، الرافض/الراغب ، الهارب/الساعي ، و الحلم هو صراع بين هذه الذوات ، و كل لحظة فيه تعبير عن "جدل داخلي" ، لا يحسم بسهولة ، و النفي في الحلم ليس عيبًا أو مرضًا ، بل "ضرورة-وجودية" لولادة ذات أكثر أصالة.
- والحلم ليس جوابًا ، بل سؤالاً متجددًا.
- و ليس هروبًا أو لحظة هروب ، بل مساحة تفجر الصراع الكامن في الذات.
- و ليس سلباً أو إيجاباً فقط ، بل حركة دائمة بينهما ، تسعى نحو تركيب أعمق للحقيقة الشخصية.
وهكذا فإن "قراءة الحلم ديالكتيكيّا" تكشف أنه "مرآة للصراع" ، لا مجرد انعكاس عابر.
والحلم هو نص داخلي ، ينبض بتناقضاتنا ، و يقترح في صمته ما لا نجرؤ على فعله في يقظتنا.
المصادر:
- صـ ٣١٠ ، المنهج الجدلي عند هيجل: دراسة لمنطق هيجل ؛ تأليف: إمام عبد الفتاح إمام ، المكتبة الهيجلية ٦ ، دار التنوير للطباعة والنشر والتوزيع ، الطبعة الثالثة عام-٢٠٠٧ ، بيروت.
- صـ ٢١١ ، موسوعة العلوم الفلسفية ؛ تأليف: هيجل ، ترجمة وتقديم وتعليق: إمام عبد الفتاح إمام ، المكتبة الهيجلية ٦ ، دار التنوير للطباعة والنشر والتوزيع ، الطبعة الثالثة عام-٢٠٠٧ ، بيروت.
- صـ ١٦٢١٦٣ ، معجم مصطلحات هيجل ؛ بقلم: ميخائيل أنوود ، ترجمة وتقديم وتعليق: إمام عبد الفتاح إمام ، المركز القومي للترجمة ، الطبعة الأولى عام-٢٠٠٠ ، القاهرة.
#عزالدين_محمد_ابوبكر (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟