أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - عزالدين محمد ابوبكر - الوعي والتفكير القمري: نحو فهم الوجود من خلال أنماط الإدراك الرمزية















المزيد.....

الوعي والتفكير القمري: نحو فهم الوجود من خلال أنماط الإدراك الرمزية


عزالدين محمد ابوبكر

الحوار المتمدن-العدد: 8381 - 2025 / 6 / 22 - 18:28
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


"ما الوعي؟ قد يبدو هذا سؤالاً بسيطًا ، لكنه ليس كذلك" ، هذا هو السطر الأول من كتاب سوزان بلاكمور عن الوعي ، وفي الحقيقة لم أجد أصدق من هذه العبارة ، لبدء مقالي هذا ؛ حيث أن الوعي يمثل أعقد ما أنتجته التجربة البشرية ، فهو ليس مجرد إدراك حسي أو عقلي ، بل هو حضور داخلي يتقاطع مع معاني الوجود ، الزمان ، الموت ، والذات ، وفي مقابل العقل الشمسي الذي ينحو نحو التحليل ، التصنيف والوضوح ، يتشكل ما يُعرف بـ التفكير القمري ، ذلك التفكير الذي يمثل نمطًا رمزيًا عميقًا يحاكي دورات الطبيعة ، حيث يتغذى من الغموض ، ويعيد اكتشاف الوجود لا عبر التفسير ، بل عبر التجربة الكونية الداخلية ؛ حيث تتحرك الخبرات المدفونة ، في أعماق الذات الإنسانية ، لتعيد اثراء التجربة الوجودية ، وتزيد من إنسانيتها ... وهذا المقال ، هو محاولة لفهم العلاقة بين الوعي الإنساني والتفكير القمري كنموذج بديل ، أعمق وأكثر هدوءًا ، لمعالجة الأسئلة الكبرى للوجود.

في البدء :
الوعي هو ذلك الشعور الداخلي بـ "أنني موجود" ، و "أنني أعلم أنني موجود" ، وهذا من وجهة نظر فينومينولوجيه ، يعني أن كل وعي هو وعي بشيء ، حيث "الخبرة" لا يمكن أن يتعامل معها الشخص ، كـ مشكلةٍ يجب حلها بالطريقة النظرية أو العملية من خلال التفكير الحسابي ، وبينما لا توجد أداة أو برنامج لإرشادنا إلى انخراطٍ تأمُّلي أكثر مع ألغاز الحياة ، لكن لا تمثل هذه العملية الإنخراطية التأمُّلية ، مجرد إنسحاب إلى الغير منطقي أو الروحي ، بل بـ الأحرى ، هي مسألة اكتساب الوعي بمعالم الخبرات والإلتزام بمشاركة حقيقة العالم عبر الحديث والتواجد المكاني ، أو التواصل وما شابهه من أمور ، وعند مارتن هايدجر "الثعلب" نجد أن الوعي هو انفتاح الكائن على العالم ، وهو ما يتيح للدازاين (الإنسان الموجود هنا) أن يكون موجودًا زمانيًا ، مما يفتح أمامه الكثير من الإمكانات في الحياة.

و أرى أنا أن الوعي هو تجربة ، لا مفهوم مجرد ؛ لأن الوعي لا يُحدّ ، بل يُعاش ؛ حيث أنه لا يُصنّف في مختبرات الإدراك فقط ، بل يظهر دائماً في لحظات التأمل ، والشعور بالزمن ، القلق من الموت ، والسكون العميق حين يندلع حريق السؤال ، وينظر الإنسان ، إلى الجوهر ، والإمكان ، و اللحظة الجمالية أو الشّعرية ، وهذه اللحظات إن مثلت شيء فهي تمثل وتجسد جوهر التفكير القمري.
و إن قابلنا بين التفكير القمري والشمسي ، أنطولوجيًا ورمزيًا وجدنا أن أسلوب الإدراك يختلف ؛ حيث يكون الإدراك في الفكر الشمس ، مبني على التحليل المباشر للمعطيات ، بينما يكون أساس العملية الإدراكية في التفكير القمري ، مبني على رؤية المعطيات ، و الإهتمام بـ الحدس والرمزية ، أما العلاقة بالزمن فنجد أن التفكير الشمسي يشرق على فكرة ، أن الزمن خطي وتقدّمي ، بينما يكون في التفكير القمري دائري وتحويلي ؛ حيث قد تتحول من فكرة إلى أخرى ، مثل تحرك القمر في السماء ، على مدى الشهر القمري ، ويكون مركز الإهتمام في التفكير الشمسي ، هو الوضوح واليقين ، بينما يرتكز التفكير القمري على الغموض والتحوّل ؛ والزمن العقلي بالنسبة إلى التفكير الشمسي ، يتعامد على "الآن الظاهرة" ، بينما تكون زاوية الشروق بالنسبة إلى التفكير القمري ، هي اللحظة الباطنية التي تحتضن الإنفتاحات الوجودية.

أما بالنسبة إلى الوعي بالوجود ، فنجده في التفكير الشمسي خارجي وعقلاني النسق ، أما في التفكير القمري فنجده داخلي ، و تأملي يبحث في الجوانب اللامعقولة من المعقولية الفكرية.
والتفكير القمري ليس خرافيًا أو لا عقلانيًا ، بل هو بُعد وجودي من أبعاد الإدراك ، يقوم على احترام الرموز ، والانفتاح على الغموض ، واحتضان الحلم ، والقبول بالتغيّر.
ويمكننا النظر إلى القمر ، كـ مرآة للوعي.
حيث القمر لا يُضيء من ذاته ، بل يعكس.
ومثل القمر يكون الوعي القمري ، عاكسًا ما في العالم من أفكار وأشياء ، إلى الداخل ، ثم يُعيد تشكيلها في صورة معنى ، إنه الوعي الذي لا يريد السيطرة ، بل التشارك ، الذي لا يسعى إلى فهم الكون بالقياس والسيطرة ، بل بـ الإنصهار والتأمل.
والتفكير القمري يُقدّم نموذجاً للزمن بـ اعتباره تجربة داخلية ؛ حيث الليل لا يعني فقط غياب الشمس ، بل ظهور نمط آخر من الإدراك ، وهو وعي يرى الزمن لا كـ عدّ تنازلي ، بل كـ "أفق للتحول".
والقمر يُعلّم الإنسان أن كل شيء يتغيّر ، من الولادة حتى الكهولة إلى الموت ، كل هذه المراحل التي مر بها المعبود رع بالمناسبة ؛ والتفكير القمري يُدرك هذا التغيّر ، لكنه لا يراه تهديدًا ، جزءًا من الإنسجام الكوني ، ومن هذه النقطة نشأ فى الحضارات القديمة ربط القمر بالموت ، لا بوصفه نهاية ، بل كـ بوابة لعبور آخر.

لكن ، غالبًا ما ارتبط القمر في الثقافات الرمزية بـ الأنوثة ، بسبب علاقته بالدورة الشهرية ، الخصوبة ، والماء ، وهذه العلاقة ليست بيولوجية فقط ، بل رمزية ؛ حيث الأنوثة القمرية تعني القدرة على الإستقبال ، الإنفتاح ، و الإندماج مع الطبيعة ، و وجب التذكير بأن القمر في مصر القديمة كان مذكرًا (مع وجود معبود مؤنثة شريكة لـ معبود القمر) ، وتقابل الصفات القمرية الصفات الشمسية ؛ حيث الرغبة في الإنتشار ، والهيمنة ، والوضوح ، والتفكير القمري يحتضن الحلم بوصفه تلك القناة التي تربطنا بـ اللاوعي ؛ حيث تتجلى كل الأنماط العتيقة في التفكير ، و الكامنة في النفس ، كلها تتجلّى في الحلم ، و تؤكد أن الوعي ليس فقط ما نعرفه ، بل ما لا نعرفه بعد.

و الوعي القمري لا يهرب من القلق ، بل يحتضنه ، و يرى في القلق علامة على أن الإنسان كائن زماني ، فانٍ ، يبحث عن المعنى في لحظات السكون القمري ، عندما يكون المرء متأملاً ، أو ساهرًا ، أو حالمًا ، و تنشأ التساؤلات الكبرى : من أنا ، لماذا انا هنا؟ ، و ماذا بعد الموت؟

وفي بعض الحضارات يكون العقل الشمسي مفكرًا في الموت كـ قطع ، الذي يُعيد التفكير القمري تأويله كـ عبور ، وهذه الفكرة كانت محورية في الميثولوجيات القديمة ، و الوعي الصوفي ، لكن وجب الإشارة مرةً أخرى ، إلى أن النظرة إلى الموت كـ عبور هي نظرة قمرية في مصر القديمة ، بينما النظرة إليه كـ صعود هي نظرة شمسية ، قديمة قدم تاريخ مصر القديمة ، في فترة ما قبل وبداية الأسرات ، وبما أن القمر لا يموت بل يختفي ليعود ، فكذلك الإنسان - بحسب هذا التصور - لا يفنى ، بل يتحوّل ، مثل التحولات الخيميائية في فترة القرون الوسطى ، لكن بطريقة أكثر ديالكتيكيّة.

وبما أنني شخص محب للتجربة الجمالية ، فيمكنني رؤية الفنون الكبرى مثل الشعر ، الموسيقى ، الرسم ، والنحت ؛ كـ امتداد التفكير القمري ، حيث هي تمارين قمرية - وجودية على الحضور ، و هي تجلًّ مباشر للوعي القمري ؛ لأنها تحاول تجاوز اللغة المباشرة ، و تخاطب الحدس لا المنطق ، و تحاول تقديم المعنى في صورة شعور ، وفي التفكير القمري ، الجمال لا يكون في الضوء المباشر ، بل في الوميض ، و شبه الظلمة مع الغموض ، و في النقص ، و الوميض الخافت مثل نور النجوم الصغيرة ، و هذه المفاهيم تتقاطع مع أفكار شرقية ذات أهمية كبيرة ، نجدها مثلاً في التصوف الفارسي.

و إن التفكير القمري لا يُقصي العقل ، بل يكمله.
إنه نداء للبطء والتروي ، للتأمل ، للقبول بالغموض ، و العيش مع الزمن لا ضده.
في عالم يتسارع و يتفكك ، قد يكون التفكير القمري نوعًا من المقاومة الوجودية.
حيث تتواجد مقاومة للنسيان ، لـ السطحية ، و للإغتراب ، و إنه دعوة إلى أن نعيد إكتشاف وعينا لا كـ أداة ، بل كـ مرآة للكون...

المصادر :
- صـ ٧ ، الوعي: مقدمة قصيرة جدًّا ؛ تأليف: سوزان بلاكمور ، ترجمة: مصطفى محمد فؤاد ، نسخة رقمية صادرة عن مؤسسة هنداوي عام-٢٠١٥.
- صـ ١٠١ ، الظاهراتية ؛ تأليف: تشاد إنجلاند ، ترجمة: عبدالفتاح عبدالله ، مراجعة: مصطفى محمد فؤاد ، نسخة رقمية صادرة عن مؤسسة هنداوي عام-٢٠٢٤.



#عزالدين_محمد_ابوبكر (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- القمر ، والتفكير القمري على الطريقة المصرية القديمة: بين الد ...
- ديالكتيكيّة تفسير الأحلام عند ابن سيرين
- هل يمكن قراءة الأعمال الكرتونيّة وجوديًا؟
- المنطق الوجوديّ ... -المنطق الذي لا يسعى للتوصل إلى قوانين ث ...
- المنطق الوجودي ... منطق الإنسان الملقى به في الوجود
- مقالة غير ختاميّة عن فلسفة الشوارع المصريّة
- مقالات أدبيّة: الشذرّة الرهاويّة ... من الأدب الرؤيويّ الأپو ...
- مقالات وجودية: نظريّة المراحل الكيركجوريّة
- مقالات وجودية: فلسفة الشوارع المصرية ، الجزء الثاني
- مقالات وجودية: نظريّة المراحل عند كيركجور
- فلسفة الشوارع المصريّة : فلسفة مواقف ، وتفكر إنسانيّ.
- مقالات وجوديّة: أبو الدرداء ، حياته ، ومذهبه ، ومواقفه الوجو ...
- مقالات وجودية: هل يمكن دراسة ”السحر العربي“ وجودياً؟
- مقالات وجودية: كيركجور ومواقفه الفلسفية
- مقالات وجودية: «المتصوف الغريب» ... مقاربات وجودية الجزء الث ...
- مقالات وجودية: «المتصوف الغريب» ، النِفَّريّ مقاربات بين الو ...
- «المتصوف الغريب» ... بدأ من العراق وانتهى في مصر: النِفَّريّ
- وقائع من العصر الذهبي المصري القديم : الجزء الثاني
- مقالات وجودية: هل يمكن قيام تفسيرية ”وجودية“ للآثار المصرية؟
- مقالات وجودية: كيركجور حياته وأثرها على فكره


المزيد.....




- إدانات دولية وتحذيرات بعد الهجوم الإيراني على قاعدة العديد ا ...
- إيران: ضرباتنا ضد إسرائيل -استمرت حتى اللحظة الأخيرة-
- هجوم صاروخي إيراني جديد على إسرائيل
- البيت الأبيض: ترامب منفتح على الحوار لكن الإيرانيين قد يسقطو ...
- ترامب يعلن نهاية الحرب بين إسرائيل وإيران
- كشف كواليس التوصل لاتفاق وقف إطلاق النار بين إسرائيل وإيران ...
- مسؤول إيراني يؤكد موافقة طهران على وقف الحرب مع إسرائيل
- ترامب يتوقع استمرار وقف القتال بين إسرائيل وإيران -للأبد-
- فيديو: انفجارات قوية تهز العاصمة الإيرانية طهران
- وزير خارجية إيران: لا اتفاق على وقف إطلاق النار -حتى الآن- ...


المزيد.....

- الآثار العامة للبطالة / حيدر جواد السهلاني
- سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي / محمود محمد رياض عبدالعال
- -تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو ... / ياسين احمادون وفاطمة البكاري
- المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة / حسنين آل دايخ
- حوار مع صديقي الشات (ج ب ت) / أحمد التاوتي
- قتل الأب عند دوستويفسكي / محمود الصباغ
- العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا ... / محمد احمد الغريب عبدربه
- تداولية المسؤولية الأخلاقية / زهير الخويلدي
- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي
- معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية / زهير الخويلدي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - عزالدين محمد ابوبكر - الوعي والتفكير القمري: نحو فهم الوجود من خلال أنماط الإدراك الرمزية