عزالدين محمد ابوبكر
الحوار المتمدن-العدد: 8341 - 2025 / 5 / 13 - 21:42
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
محاولة إقامة تعريف :
المنطق الوجودي هو نهج فلسفي يفكر في الوجود لا كمجرد مُعطى موضوعي ، بل كتجربة ذاتيّة حيّة ، و لا يسعى المنطق الوجودي إلى "البرهان" في إطار القوانين العقلية الجامدة ، بل إلى فهم الوجود الإنسانيً في توتره ، و تناقضاته ، و تفرده ، و هذا المنطق لا يعتمد على الضرورة الشكليّة ، بل يعتمد على فكرة الإنكشاف الوجودي ، و المنطق الوجودي هو أحد الموضوعات العميقة و المعقدة ، التي تقع عند تقاطع الفلسفة الوجوديّة مع المنطق التقليدي ، على عكس المنطق الصوري الكلاسيكي ، الذي يسعى إلى فهم العلاقات بين القضايا ، و النتائج بـ طريقة موضوعيّة و غير شخصيّة ، و من هذه النقطة فـالمنطق الوجودي ، ينطلق من مقولات الفلسفة الوجوديّة ، بخصوص أسبقيّة الوجود على الماهيّة ، و مدى أهميّة الزمانيّة ، و تركيز الفلسفة الوجوديّة على الإنسان ، و مدى أهمية الحريّة للإنسان ، و جدارة الإعتبارات الأخلاقيّة بـ الإهتمام.
• ما هو المنطق في الأساس؟
- كلمة "منطق" من ناحيّة الاشتقاق اللغويّ كانت تدل في أول الأمر على الكلام ، فعلى سبيل المثال نجد أن الكلمة الإنجليزيّة Logic ، هي كلمة مشتقة من الكلمة اليونانيّة Λόγος (بـ القبطي: ⲗⲟⲅⲟⲥ ) التي تعني «الكلمة» ، ثم أخذت معنى اصطلاحيًا و هو ما وراء الكلمة من عملية عقلية ، فإذا كانت Λόγος معناها «الكلمة» ، فهي تدل أيضًا على العقل ، أو الفكر ، و البرهان ، و من هذه النقطة السابقة تم استخدام اسم صفة منها ، لكي يدل على الفكر ، و البرهان ، و طريقة التفكير العقليّ بـ شكل عام و هذا هو أصل كلمة «منطق» في اللغات الأوروبيّة ، أما الكلمة العربية منطق فقد عُرِفَت حين تُرْجِمَ المنطق اليوناني إلى اللغة العربيّة ، و لم تكن الكلمة في أول الأمر تتضمن معنى التفكير أو الإستدلال ، بل كانت تدل على معنى الكلام ، لأن كلمة «النطق» في أصلها اللغوي لا تدل إلا على الكلام و التلفظ ، فـ المترجمون في القرن الثامن الهجري حين أرادوا ترجمة كلمة Λόγος ، رجعوا إلى الأصل المستعمل حينئذ لهذا اللفظ ، حيث إنه لم يكن يدل على العقل أو الفكر كما هو الحال في اليونانيّة ، و من هنا أضطّر الفلاسفة المتحدثين بـ العربيّة حينئذ إلى تبرير هذا الإستعمال ، بأن فرقوا بين نوعين من النطق :
· الأول : ظاهريّ ؛ يفيد التكلم.
· الثاني: باطنيّ ؛ يفيد إدراك المعقولات.
و بهذه التفرقة أعطوا الكلمة مدلولها الأصليّ و الإصطلاحي معًا.
• متى بدأ استعمال كلمة المنطق؟
كانت بداية استعمال كلمة λογϊχη اليونانية ، غير معروفة على وجه التحديد ، لأننا لا نعرف على وجه الدقة من هو أول من أستعملها اصطلاحيًا ، ولا في أي عصر ، لكن يرجح أنه من الممكن ، أن تكون الكلمة من وضع شُراح أرسطو ، الذين وضعوها اصطلاحًا من أجل أن يقابلوا بين أورغانون أرسطو ، و دياليكتيك الرواقيين ، و يرى الدكتور عبد الرحمن بدوي أن هذه العمليّة قد تمت ، في عهد أندرونيقوس الرودسي ، و قد استخدم شيشرون الكلمة في إحدى مؤلفاته ، ويدل استعمال شُراح أرسطو ومنهم الإسكندر الأفروديسي ، على أنها قد أصبحت شائعة في عصرهم ، أي القرن الثاني بعد الميلاد.
• ما هو المنطق؟
المشكلة الأولى التي يتعرض لها أي باحث في المنطق ، هي مشكلة التعريف ؛ حيث يقول تشارلز بيرس «يمكن تقديم حوالي مائة تعريف للمنطق» ، غير أن بيرس يستدرك الأمر قائلاً : «و مع ذلك فإنه عادةً ما يتم الإقرار بأن الموضوع الرئيسي للمنطق هو تصنيف البراهين لمعرفة الصحيح منها والباطل ...» و من هذه النقطة فإن المنطق ، يقوم بـ دراسة المناهج و المبادئ التي تمكننا من التمييز بين البراهين الصحيحة و البراهين الباطلة ، و عندما نرجع إلى التراث الفلسفيّ العربيّ ، نجد أن ابن سينا (شارح أرسطو) يقول عن المنطق أنه "صناعة النظرية التي تعرفنا من أي الصور و المواد يكون الحد الصحيح الذي يسمى بالحقيقة حدًا ، و القياس الصحيح الذي يسمى برهانًا" ، و أنا أتفق مع الدكتور علي سامي النشار ، في أن هذا التعريف أرسطو-طاليسي بحت ، حيث أن ابن سينا لم يبتعد عن تعريف أرسطو كثيرًا ، و من الملاحظ في الفلسفة العربيّة القروسطيّة (فترة القرون الوسطى) ، و المسيحيّة المدرسيّة ، أن التعريف الخاص بالمنطق الذي طرحه أرسطو ظل يردد كما هو ، مع القليل من التعديلات التي زادها الشُراح على التعريف الأصلي ، و نجد وضوح التعريف عند القديس توما الأكويني ، الذي عَرَف المنطق «بأنه الفن الذي يقودنا بـ نظام و سهولة بدون خطأ في عمليات العقل الإستدلاليّة» ، وقد ساد هذا التعريف في فترة العصور الوسطى.
• هل المنطق علم ام فن؟
هذا التساؤل الجيد طرحه لأول مرة كسيودورس (المتوفى سنة ٥٧٠ .م) ، و من ثم أصبح هذا التساؤل من المشاكل التي يُعنى بها دارس المنطق في مستهل دراسته ، و إن كنا سنجد أن لا داعي لوجود هذه المشكلة (وها نحن نمشي على خطى بدوي) ، و لكي نفهم الحوادث ، علينا أن نعرف عللّها (أسبابها) ، و قد جعل أرسطو الصفة الأولى للعلم أنه نزيه ، بمعنى أنه يبحث في الحقيقية بغض النظر عن التطبيق ، و يظل في دائرة النظر المجرد (والمنطق الوجوديّ عكسٌ ذلك) ، لكن الفن/الصناعة هو إمكانيّة تطبيق الحقائق النظريّة بواسطة مناهج للعمل ، و يرى الدكتور عبد الرحمن بدوي أن المنطق ليس فنًا (أي: علمًا) ، كما أنه ليس علمًا معياريًا ، بمعنى علم يبحث في قيمة الغايات نفسها ، و إنما المنطق هو علم بكل ما تحمله الكلمة من معنى ، لأنه علم التفكير الصحيح مثلما أشرت سابقًا عند التعرض لتعريف ابن سينا و توما الأكويني.
• المنطق الوجودي أمام الأنواع الأُخرى
المنطق الصوري (أو الكلاسيكي) ، هو النظام الذي يعتمد على القواعد الصارمة ، التي تحكم العمليات العقليّة مثل الاستنتاجات المنطقيّة ، و قانون الهويّة ، و عدم التناقض ... وهلم جرًا ، و هذا المنطق يعتمد على المفاهيم الثابتة ، و يُستخدم بشكل واسع في الرياضيات ، و العلوم ، و البرمجة.
و المنطق الصوري يفرض وجود قوانين ثابتة تعمل بموجبها الأشياء ، و يتناقض هذا الأمر ، مع المنطق الوجودي الذي يتعامل مع المشاعر الإنسانيّة مثل القلق ، و الحريّة ، و التفرد ، و المنطق الصوري يسعى وراء اليقين العقليّ ، في حين أن المنطق الوجودي ينظر إلى الوجود الإنسانيّ ، كـ شيء غير يقيني ، و غير قابل للحصر ، لأن الفرد الوجودي هو فرد يبحث عن الحريّة ، و يعيش في الزمانيّة ، من أجل قيام فردانيته ، تلك الفردانيّة التي لن تقوم إلا على الإيمان بوجود أصالة في تجربته ، عن طريق الوحدة التي يشعر بها الفرد الذي يرتقي فوق القطيع.
و من أبرز الفروق بين المنطق الصوري و المنطق الوجودي ؛ هو أن المنطق الصوري يُستخدم في العلوم و الرياضيات ، لأنه يهتم بـ المفاهيم العامة و الثابتة ، و على العكس من ذلك نجد المنطق الوجودي يُستخدم في الفلسفة ، و الأدب الوجودي ، و اللاهوت (الوجودي أيضًا!) ؛ و يرى كيركجور أن الحقيقة لا تُدرك بالعقل وحده ، بل بـ الإيمان و الإلتزام الذاتي ، و من هنا فالمنطق الكلاسيكي ، لا يستطيع فهم التناقضات الوجوديّة ، مثل الإيمان بـ اللامعقول ، و يجب أن نرى أن الوجود لا يُفهم كـ مفهوم منطقي ، بل كـ تجربة مُعاشة مثلما يقول هايدجر ، و عندما أتفكر في فكر سارتر أجد أن الحريّة ، غير قابلة الصياغة في منطق رياضي ، لأن المنطق الوجودي عنده يعني ، ان اتحمل نتائج اختياراتي ، لا أن أبحث عن يقين منطقي خارجي.
و إن كان لـ المنطق الوجودي بداية ، فسوف تكون من الفرد المُلقى في العالم ، و ليس من المبادئ العامة المحكمة ، بل من الفكر الوجودي ، و على عكس المنطق الكلاسيكي الذي يبحث عن اليقين ، نجد أن المنطق الوجودي يعترف بأن العالم لا يمنح ضمانات ، و أن الإنسان مسؤول رغم غياب اليقين.
• تجليات المنطق الوجودي
يتجلى المنطق الوجودي ، في عدة معارف إنسانيّة ، مثل الأدب الوجودي ، ذلك الأدب الذي بدأ من أولى النصوص الدينية في مصر القديمة ، حتى انتهى إلى ما كتبه كافكا ، و دوستويفسكي ، و هيرمان هيسه ، و ألبير كامو ، و سهيل إدريس ، و يتحدث هذا الأدب عن الإنسان و مواقفه الإنسانيّة ، و هناك الشعر العالمي الذي استقى منه الفلاسفة الوجوديين ، العديد من المبادئ و المعارف الوجوديّة ، و خير مثال على ذلك نجده عند مارتن هايدجر عندما درس هولدرلين ، و عبد الرحمن بدوي عندما تحدث عن عمر الخيام و أبي العلاء المعري ؛ ولا نستطيع أن ننكر وجود مفاهيم وجوديّة ذات أهمية ، في الشعر الجاهلي ، وهناك علم النفس الوجودي الذي نهل من الفلسفة الوجوديّة ، و قدمها بصورة مثالية أقرب للإنسان ، و اكثر تمثيلاً لمشاكله ونجاحاته اليوميّة ، و اللاهوت الوجودي الذي بدأ مع الأب الروحي لـ الوجوديّة كيركجور ؛ و كل هذه هي معارف الفلسفة الوجوديّة ، لكن أين هي بلد الوجوديّة؟
- ألمانيا ، لا. - فرنسا ، لا. - مصر ، لا. - الإنسانيّة ، نعم. - الإنسان ، أجل.
و الهدف الأساسي ، من المنطق الوجودي ، هو التعامل مع الوجود البشري بما هو كائن حي ، يتأمل في نفسه وفي العالم ، بدلاً من تطبيق منطق رياضي أو صوري بارد ، و ينطلق المنطق الوجودي من التجربة الذاتيّة ، التي تشمل الشعور بالقلق ، و السعي وراء المعنى ، في عالم بلا معنى... يتبع...
المصادر :
- صـ ٢١٢٢ ، الوجودية : مقدمة قصيرة جداً ؛ تأليف توماس آر فلين ، ترجمة مروة عبد السلام ، مراجعة محمد فتحي خضر ، نسخة رقمية صادرة عن مؤسسة هنداوي عام-٢٠١٣.
- صـ ١١١٢ ، مبادئ المنطق الرمزي ؛ تأليف حسين علي ، دار الجوهرة للنشر والتوزيع ، الطبعة الأولى-٢٠١٤ ، القاهرة.
- صـ ٣ ، ١٧ ، ٣٢ ، المنطق الصوري والرياضي ؛ تأليف عبد الرحمن بدوي ، مكتبة النهضة المصرية ، الطبعة الثانية-١٩٦٣ ، القاهرة.
- صـ ٥٨ ، ٣٢ ، المنطق الصوري : منذ أرسطو حتى عصورنا الحاضرة ؛ تأليف علي سامي النشار ، دار المعارف بمصر ، الطبعة الرابعة-١٩٦٦ ، الإسكندرية.
#عزالدين_محمد_ابوبكر (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟