عزالدين محمد ابوبكر
الحوار المتمدن-العدد: 8397 - 2025 / 7 / 8 - 20:39
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
منذ أن انتصب الإنسان وخطى نحو المجهول ، ظل الإنسان موزعاً بين انتماءاته الأولية (البيت ، القبيلة) ، و انفتاحه نحو الكل الإنساني بوصفه كائناً عاقلاً مشتركاً في الطبيعة والوجود ، ومن هذا التوتر الوجودي بين المحلي والعالمي ، نشأت ثنائية التفكير القومي والتفكير الإنساني ، كـ قوتين متصارعتين ومتكاملتين في آن ، تهدفان إلى فهم الذات وتحديد علاقتها بـ الآخر ، و هذا المقال يحاول معالجة هذه الثنائية من منظور فلسفي ، و يناقش جدلية الهوية والكونية ، و يسعى إلى إعادة الصورة الحضارية السليمة ، إلى الإنسان المصري الذي حاول الإستعمار الثقافي ، بـ الإضافة إلى الأزمات العالمية تفكيك هويته ، و تدمير تاريخيته ، و هذا المقال هو محاولة من الكاتب ، لتنظيم آراء من يسمون أنفسهم بـ الكمتيين.
قبل أي شيء ، يجب التنويه بأن التفكير القومي ، هو تفكير مبني على افتراض وجود "أمة" تمتلك خصائص مشتركة من لغة ، تاريخ ، ثقافة ، و ربما عِرق ، و ينادي هذا التفكير بمنح الشعوب هوية جمعية ، و يوفر لها إطاراً معنوياً للمقاومة والتحرر من الإستعمار والهيمنة ، لكن قصور هذا النوع من التفكير تكمن في ، تحول ما هو قومي إلى ما هو إقصائي ؛ حيث أن القيم القومية قد تعلوا في بعض الأحيان ، على القيم الإنسانية ، مما قد يفضي أحياناً إلى الشيوفينية أو حتى الفاشية ، لذا وجب الحذر و الإنتباه عند استخدام مصطلحات ، من قبيل مصطلح قومي.
أما التفكير الإنساني ، فهو تيار فكري وأخلاقي يرى في الإنسان قيمة عليا بصرف النظر عن جنسه ، قوميته ، دينه ، أو حتى طبقته الإجتماعية ، و تعود جذور هذا التيار إلى التفكير السابق للفلسفة اليونانية ، الكامن و المتواجد في نصوص التراثيات الشرقية ، لكن تأسس هذا التفكير ، على أصول فلسفية يونانية ، ثم تطور في عصر التنوير مع فلاسفة عظماء ، مثل كانط الذي نادى بـ "الحرية" ، "الحق الكوني" ، و "الواجب الأخلاقي المطلق" ، و الفكر الإنساني يحاول إقامة أخلاق كونية لا تميز بين البشر ، لكن هذه النزعة قد تصطدم بالواقع السياسي و الاختلافات الثقافية ، مما يجعل بعض مفكري ما بعد الإستعمار (و على رأسهم العلامة إدوارد سعيد) يرون في الكونية ستارًا للهيمنة الغربية ، كل ما سبق جميل ، لكن المعضلة تكمن في الفكر الإنساني أنه قد يقع في نزعة تسطيح للفوارق الحضارية ، فيسعى لتوحيد التجربة البشرية على حساب خصوصية الشعوب ، فتصبح "الإنسانية" أحياناً مجازاً ثقافياً لقيم "المركزية الغربية"!
لكن هل هناك تناقض (ديالكتيكي) بين القومي والإنساني؟
الجواب فلسفيًا: ليس بالضرورة ، لأن الفكر القومي والإنساني ليسا خصمين ، بل مستويين مختلفين من الوعي ؛ حيث الفكر القومي يتعامل مع الهوية والتاريخ و الإنتماء ، بينما الفكر الإنساني يتعامل مع الأخلاق والكرامة والحرية ، و مقالنا هذا يسعى إلى إقامة تكامل ممكن بين القومي والإنساني ، حيث إن التفكير القومي الناضج لا يعادي القيم الإنسانية ، بل ينطلق منها ، لكي يؤكد على خصوصيته دون العدوان على الآخر ، وكذلك ، فإن الفكر الإنساني الحقيقي لا يذيب الخصوصيات ، بل يعترف بها كـ جزء من ثراء التجربة البشرية ، و كما قال مالك بن نبي: "لا يمكن أن نكون إنسانيين حقًا ، إن لم نكن وطنيين صادقين أولاً" ، و أقولها اليوم: "لن نكون إنسانيين ، إن لم نعرف هويتنا ونقول أننا مصريين".
إن الأزمة ليست في القومية ، ولا في الكونية ، بل في التفكير الأحادي الذي يفصل بينهما قسراً ، و المطلوب اليوم هو تجاوز الثنائية نحو رؤية أكثر تركيبًا ؛ حيث تفهم الهوية القومية كـ منصة نحو الإسهام في المشروع الإنساني الأوسع ، لا كـ حصن ضده ، وفي النهاية ، تظل كرامة الإنسان هي الأصل ، و الهوية وسيلة ، لا غاية ، و الفكر الفلسفي يدعونا دائماً لأن نوازن بين الخصوصية والتعدد ، و الذات والغير ، و الحق والحقيقة.
و السبب وراء قيامي بكتابة هذا المقال ، هو رؤيتي لعدد من المنشورات التي تناصر أو تناهض ما يُعرف بـ الكمتية ، لكن ما المقصود بـ الكمتية؟ ، هل هو مجرد انتماء الفرد إلى مصر ، وجوداً وفكراً و وجدانًا؟ ، هنا نجد كل الإجابات تنزح نحو الإيجاب ، لأن هذا السؤال به شيء من الحقيقة ، لكن منذ عدة سنوات ظهرت الكثير من التيارات الروحية المعاصرة ، التي تحاول إحياء العقائد المصرية القديمة ، مع ادعائهم بـ أنهم كمتيون ، لكن الكمتية من وجهة نظري لا تحاول إحياء المعتقدات الدينية ، بل هي تسعى لإحياء الأفكار المصرية ، التي تفيدنا في عالمنا المادي ؛ حيث تعلمنا الإصرار ، و حب العمل ، و احترام الأفكار.
لكن لاحظت ، أن القومية تاريخياً تبدأ كـ احتفاء بالذات ، لكنها تنتهي في بعض الأحيان بصورة متطرفة كـ نفي للآخر ، و القومية كثيراً ما تسحق الفرد بإسم "مصلحة الأمة" ؛ لكن قوميتنا نحن المصريين ، هي قومية-إنسانية تحترم الفرد و الجماعة ، و يجب أن يكون كل قومي مرحباً بالنقد محتضناً للخلاف ؛ حيث أن الفكر القومي قد يصبح مشاهداً لأي نقد ، كـ خيانة للجماعة ، لكن القومية الإنسانية ترى هذا النقد كـ محاولة لـ إعادة البناء من أجل التحسين ، أما الغاية هي: حب الوطن ، الاعتزاز بـ التاريخ ، إحترام الفرد والجماعة ، تقبل السرديات النقدية ، و الإهتمام بـ الهوية الحضارية لمصر ، و القومية-الإنسانية-المصرية ، هي فكر مؤمن بـ الهوية الوطنية دون أي إقصاء ، وهي منفتحة دائماً وأبدأ على الإنسانية.
و الفرد لا يكون أحادي الإنتماء ؛ حيث يمكن أن يكون: مصرياً ، عربياً ، إفريقياً ، إنسانياً ، مسلماً أو مسيحياً دون أن يتهم بـ ازدواجية الولاء* ، ويمكن أن يكون لا دينياً أو ملحداً ، و الهوية الحقيقية ليست جدارًا نفصل به أنفسنا عن الآخرين ، بل جسر نمده نحوهم ، و الاعتزاز الثقافي لا يتناقض مع الانفتاح الإنساني ، بل يحتاجه ، و تذكر دائماً أن كل أمة لها نورها وظلها ؛ حيث لا توجد أمة بلا مجد ، ولا توجد أمة بلا مآسي ، و إن الاعتزاز الصادق يبدأ من إقرارنا بهذا التوازن ، و لهذا علينا قراءة تاريخنا لنفهم من نحن ، و من يعتز بهويته بصدق ، لا يصرخ لكي يثبتها ، و لا يحتاج أن يهين الآخرين ليرفع نفسه ، و عليه أن يكون واثق بما يكفي ليصغي ، و يناقش ، و يحتفل بـ الاختلاف ، و تذكر أن كل حضارة أضافت شيئاً للعالم ، وكل أمة شاركت في بناء الإنسانية ، و اعتزازك بتاريخك لا يلغي اعترافك بتاريخ غيرك ، و نحن نعتز بهويتنا ، و نخدمها بالعلم ، و الإبداع ، و العدل ، و لقد ورثنا مجد أجدادنا ، لا لنتكبر ، بل لنواصل البناء.
أما عن كيف نكون معتزيين بلا شوفينية؟
فيمكننا فعل هذا ، بواسطة هذه القواعد الخمسة:
1- نحب هويتنا دون كراهية أحد.
2- نحتفل بتاريخنا دون أن نقدسه.
3- نروي أمجادنا دون إنكار إخفاقاتنا.
4- نكون وطنيين دون أن نصبح عنصريين.
5- نفتح أبواب الهوية ، بدلاً من أن نغلقها.
و تذكر أن اعتزازك بتاريخك لا يلغي اعترافك بتاريخ غيرك.
- البيان الكمتي: من أجل نهضة إنسانية قومية مصرية.
"الماعت لا تموت ، طالما في الأرض ضمير"
نحن الموقعين على هذا البيان : .... ، .... ، ....
ندعو إلى بعث مشروع قومي-إنساني متجذر في أرض مصر ، يستلهم روحها العميقة ، لا كـ أثر في المتاحف ، بل كـ قيمة حية تهدف إلى تحرير الإنسان ، و تحقيق العدالة ، و إعادة بناء الذات المصرية على أسس فكرية ، أخلاقية ، و كونية.
نعلن أن مصر ليست جغرافياً فحسب ، ولا جنسية بالمعنى الإداري ، بل هي:
• وعي حضاري ممتد من وادي النيل إلى ضمير كل إنسان مصري.
• مشروع أخلاقي ينهض على قيم الماعت (العدالة ، الحق ، النظام ، التوازن).
• تجربة روحية وثقافية جمعت تعدداً فريداً عبر القرون: الكمتية (مچرية/مصرية) ، متوسطية ، قبطية ، إسلامية ، إنسانية.
- نسعى إلى العودة إلى "ماعت" : منظومة القيم المصرية القديمة ؛ من أجل استعادة "ماعت" لا كـ طقس ماضٍ ، بل كـ فلسفة إنسانية حية ، تقوم على:
• الحق ضد الظلم.
• النظام ضد الفوضى.
• التواضع ضد الغطرسة.
• احترام الآخر لا استبعاده.
• المركزية للإنسانية ، لا المركزية لـ اللا-إنسانية.
- ونحن نحترم الأديان ، و نرى أنها جوهر مدنيتنا.
ونؤمن بـ أن:
• الدين خيار روحي مقدس لا مجال للتسلط فيه.
• الفكر حرية أصيلة لا يصادرها حكم أو طائفة.
• الاختلاف مصدر قوة ، لا فتنة.
نستلهم من أجدادنا الذين عاشوا قروناً ، و هم يبنون المعابد ، التي بنيت بداخلها الكنائس في وقتٍ لاحق ، و الكنائس إلى جانب المساجد ، دون أي صراع وجودي.
- الإنسان هو الغاية
حيث أننا نضع الإنسان المصري ، كرامته ، صحته ، تعليمه ، و حريته ، في صلب كل مشروع قومي.
فلا قيمة لوطن لا يحرر مواطنيه من الجهل والفقر والقمع.
ولا معنى لهوية تبنى على سحق الأفراد باسم الجماعة.
- مشروعنا القومي: الوعي ، لا الهيمنة.
ليست دعوتنا إلى القومية المصرية دعوة للإنعزال أو التفاخر ، بل:
• وعي بالذات في وجه التبعية.
• بعث للقيم الأخلاقية القديمة في مجتمع حديث.
• تجديد للهوية دون إنكار الدين أو الحداثة.
- المبادئ الأساسية للبيان الكمتي:
1- مصر هي الغاية والمراد ، والإنسان فوق الشعارات.
2- الكرامة لا تُجزأ ، والعدل لا يؤجل.
3- الهوية تتجدد ، ولا تتكلس.
4- لا وطن دون حرية ، ولا نهضة دون معرفة.
5- نحترم الأديان ونرفض تسييسها.
6- ندافع عن كل مصري ، أياً كان دينه ، أو فكره ، او لونه ، أو طبقة انتمائه.
ندعو كل من يؤمن بمصر كـ "رسالة حضارية" لا كـ حدود فقط ، وكل من يرى في الإنسان القيمة الأعلى ، وكل من يطمح إلى وطن حر وعادل ومستقل ، إلى أن ينضم إلى هذا المشروع القومي الإنساني الكمتي.
"لن نعود إلى الماضي ، بل سنجعل الماضي يعود إلينا بروحه وعدله ونوره"
#عزالدين_محمد_ابوبكر (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟