عزالدين محمد ابوبكر
الحوار المتمدن-العدد: 8560 - 2025 / 12 / 18 - 18:51
المحور:
الادب والفن
”أنا لا أنسى أحدًا، فكيف أنساك أنت؟!“
- صـ ٦، الشحاذ؛ تأليف: نجيب محفوظ.
من أكثر الأشياء التي يمتاز بها أدب المصري نجيب محفوظ، هو قدرته الفريدة على -ما يمكن أن نقول عليه- "تأميم" الفلسفة الوجودية؛ حيث إنه في أعماله قد نزع عنها طابعها النخبوي الأروبي، وغرسها في تربة الواقع المصري بشكل لا يتنافى مع كينونتها وماهيتها، وبالنسبة إلى محفوظ إن قلق الإنسان الوجودي (سواء من الموت، أو فقدان المعنى، أو حتى مجرد الشعور بالخواء) لا ينفصل عن قلق الإنسان الإجتماعي (القلق من الفقر، الاستبداد، وهكذا...)، إذ ان العبث ليس مجرد مفهوم ذهني، بل هو العدالة الغائبة، والكرامة المهدرة، وهو الزمن الدائري الذي يطحن أجيالاً دون أن يحقق لها تقدمًا حقيقيًا*، لكن يعلمنا محفوظ في رواياته وأعماله ذات الطابع الوجودي-الإنساني، أن التحرر الوجودي يبدأ بالتحرر الإجتماعي والسياسي، وهذا ما نجد صداه في روايته، مثل بداية ونهاية، التي قد نتحسس فيها أن الحياة مجرد كذبة، ومن هذا المنطلق يتبين لنا وعي محفوظ الحاد بالهشاشة واللايقين الذين يمثلان جوهر الوجودية الفرنسية، لكن في بداية ونهاية نحن لا نقرأ فقط، بل نتخيل، ونتواجد ولو بالكلمة، لأن محفوظ ليس مجرد كاتب، بل هو ناقل صادق للحظة، وموثق جيد للوجود، ومن هنا نجده يربط بين هذه الهشاشة المباشرة، بالوضع الاجتماعي والاقتصادي لشخصياته، ونحن نقرأ عبثًا من نوع آخر في رواياته، وهو العبث الذي يمثل فشل المجتمع في توفير الحد الأدنى من الكرامة الإنسانية، ولكن على الإنسان أن يعيشها (المقصود: الحياة) بالرغم من عدم اكتراثها به، وهذا التحدي الوجودي يتمثل في فعل المقاومة، أو الإصرار بمعنى أصح على البقاء والمقاومة، رغم الإدراك الكامل من قبل الإنسان لكذب ويأس الموقف، وهذا الرفض للاستسلام هو ما يعادل تمرد سيزيف على مصيره، وهو ليس استسلامًا بل إصرار على الوجود، وفعل مقاومة يتحدى كل موقف، لكن نجيب محفوظ في أعماله مثل الثلاثية أو بداية ونهاية، يحول مفهوم الإغتراب الفلسفي إلى أداة لتحليل الواقع الشعبي؛ حيث تعاني بعض* شخصياته الروائية من ذلك الإغتراب الكلاسيكي، الذي سببه الفقر والظلم الطبقي؛ حيث يكون الفرد مغترب عن ثمرة عمله أو مجهوده وعن إنسانيته بسبب النظام الاقتصادي والاجتماعي، وهنا نجد سرد محفوظ يتقارب مع فكر ألبير كامو، تحديداً ما أبدعه في رائعته الغريب، لكن من تناول نجيب محفوظ لمفهوم الإغتراب، نجد أن كتابته تجبرنا على التساؤل ولو في نفسنا، عن كيف يمكن للفرد K أن يبحث عن "معناه"، وهو غير قادر على تلبية "حاجاته المادية"؟، وهذا ليس سؤال تافه، بل هو من أهم طبقات فهم فكر محفوظ الوجودي؛ حيث إن محفوظ بأسلوبه يخبرنا بأن الإغتراب الروحي هو نتيجة مباشرة للإغتراب المادي، وفي أعمال مثل السمان والخريف أو ثرثرة فوق النيل، نجد أن الإغتراب ينتقل إلى مستوى أعلى، حتى بعد الإعتقاد بتحقق الإستقرار المادي، لتظل الشخصية تشعر بالوحدة والفراغ الأخلاقي، وهذا هو القلق الوجودي الخالص؛ حيث الشعور بالانفصال عن "الحقيقة" و"القيم" بعد اكتشف الفرد زيف السرديات الكبرى، سواء في السياسة أو الثقافة أو حتى الدين، ومحفوظ يربط ببراعة بين الاغترابين، لأن فشل الثورات، أو فساد السلطة، وتدهور الأخلاق في الحارة، كل ذلك يؤدي إلى شعور عام بأن الجهد الإجتماعي لا ينتج معنى، أو بمعنى أثقل لا حمل له على هذا الأمر!، مما يدفع الأفراد إلى التساؤل عن جدوى وجودهم أصلاً.
والشخصية المحفوظية لا تشعر بالوحدة في وجه الكون الصامت، أو حتى السماء الخاوية، بل تشعر بالوحدة في حشد من الجماهير الفاشلة أو المقموعة، وكما نعلم إن الفلسفة الوجودية تؤكد على الحرية المطلقة والمسؤولية الناجمة عنها، ومحفوظ يوسع هذه الدائرة، ويعلمنا أيضًا أن حرية الفرد في ”مصر“ لا تعني مجرد إختيار ذاته، بل تعني مسؤوليته الأخلاقية تجاه مصير مجتمعه، وكم تحمل نفسي همًا، عندما أرى من يحيا وهو يسب مجتمعه، الذي لا يعرف قيمته، لكنه في سبه هذا، لديه وجه حق!، وإن الشخصيات التي تختار الإنسحاب أو الفساد والتي تتجلى لنا في المرايا، لا تفشل وجوديًا فحسب، بل تساهم في تعميق قهر المجتمع، وإن الوجود الصادق هو المرادف للالتزام الوطني والأخلاقي، ونجيب محفوظ لم يهرب من آلام الشعب نحو التأملات المجردة، بل استغل الفلسفة الوجودية (أو البراكسيس الوجودي)* كعدسة لتكثيف وعرض هذه الآلام روائيًا، وإن القيمة الكبرى لأدب نجيب محفوظ تكمن في أنه جعل الحارة المصرية هي مسرح الفلسفة الوجودية الأكبر في اعماله، ولقد أثبتت أعماله أن التساؤل الوجودي لا يخص الفيلسوف الجالس في برجه العاجي، بل يخص كل إنسان، حتى الفقير المقهور الذي يتساءل: لماذا وُلدت، وما جدوى كل هذا العناء؟
ومحفوظ يؤسس لفكرة أن التحرر الوجودي هو الوجه الآخر للتحرر الاجتماعي، فعندما يكتشف الإنسان حريته ومسؤوليته، لا يكتشفها في فراغ، أو أثناء نومه في فترة العصر، بل يكتشفها كـ قوة دافعة لتغيير واقع يجعله مغتربًا ومعدمًا، والإلتزام هنا هو من أهم المبادئ الوجودية؛ حيث يصبح الإلتزام عند محفوظ هو الصوت المرتفع ضد الظلم الإجتماعي والسياسي، لكن وجب عليَّ أن أؤكد لك يا قارئي أن أدب محفوظ ليس هروب من الواقع، بل هو أدب مقاومة ثقافية وفلسفية، أو بمعنى أصح هو تمثيل نقي لفكرة الوجودية المصرية.
وإن نجيب محفوظ (١٩١١٢٠٠٦) ليس مجرد روائي واقعي، بل هو فيلسوف وجودي بالفطرة، حاول توطين لا ترجمة القلق الوجودي الأوروبي، في الحارة المصرية الأصيلة، وأعماله هي سجل لتجربة الإنسان في مواجهة العبث، والحرية كـ عبء، والبحث عن المعنى في عالم لا يعطي معنى، ولا يسعى إلى الراحة أو اليقين، لأنه لا يرانا ولا يشعر بنا، ومحفوظ يحب أن يضع شخصياته في مواجهة الزمن (الذي لا يرحم)، والسلطة (التي تقمع)، والموت (الذي ينتظر، ولا يأبه بنا)، كل هذا هو ما يجعل تجربته الروائية تجسيدًا ادبيًا لا مجرد أخذ، عن فلسفة كلاً من سارتر وكامو، وشخصياته غالبًا ما تعيش حالة الإغتراب عن مجتمعها أو ذاتها، وهي تسعى يائسة لإقامة جسر بين الحرية المطلقة والقدر المكتوب، ومن الجدير بالذكر الإشارة إلى أن نجيب محفوظ، يستخدم الحارة كـ نموذج مصغر للكون: حيث إنها عالم مغلق، ومحكوم بعادات وتقاليد قاسية، وتتكرر فيه ثنائية الحياة والموت بلا هدف واضح*، والعبث هنا هو الفجوة بين حاجة الإنسان الفطرية للمعنى وصمت الكون اللامبالي، وعلى غرار أسطورة سيزيف لكامو، نجد أن الكثير من شخصيات محفوظ، مثل سعيد أبو الباشا أو أبطال أولاد حارتنا، تستمر في دفع صخرة حياتها اليومية (الفقر، الحب الضائع، البحث عن المال)، مع علمها الضمني بعدم جدوى هذا الفعل، وهذه الاستمرارية هي تمرد العبث؛ إذ أن الوعي بالعبث هو الخطوة الأولى لتجاوزه أو تقبله بكل شجاعة، ومحفوظ خاصة في رواياته المتأخرة، يقدم الحتمية الاجتماعية والاقتصادية كـ قيد، لكنه يصر على أن الإرادة الفردية هي القوة الوحيدة القادرة على اختراق هذا القيد، فمثلاً بعض الشخصيات تختار الهروب...، وهو في حد ذاته فعل وجودي يرفض واقعًا مفروضًا، حتى لو كان هروبًا سلبيًا، ونجيب محفوظ ليس مجرد ناقل للأفكار الوجودية، بل هو مؤسس لنمط وجودي مصري ينبع من تفاصيل الحياة اليومية في القاهرة، وإن القيمة النهائية لفلسفة محفوظ ليست في إجابته على سؤال "ما معنى الحياة؟"، بل في إلحاحه الشجاع على طرح هذا السؤال في أوقات كان فيها اليقين السياسي والديني هو السائد، ولقد أرغم القارئ على الإنفصال عن -ما يمكن أن يقال عليه- الرواية الكبرى للأمة، ليلتفت إلى الرواية الصغرى والمؤلمة لـ الذات الفردية، وعلينا أن نتذكر أن الخلاص الوحيد من العبث يكمن في الوعي به، وفي خلق المعنى الشخصي (الذي قد يكون الحب، الفن، أو مجرد إستمرار الصراع)، وهذا هو الإنتصار الجمالي على العدم؛ حيث إن على الكاتب أن يكون شاهدًا أمينًا على قسوة الوجود، وأن يحول هذا الشاهد إلى عمل فني خالد، لكي يثبت أن الإنسان لا يصمد أمام الزمن بخلوده، بل بـ كفاحه من أجل المعنى في وجه زواله، وعلينا أن نتذكر أن الأصال الوجودية لا تأتي إلا بالمسؤولية.
لكن، هل أدب محفوظ محفوظ؟
إن الوجود الأنطولوجي لعمل فني يعني قدرته على البقاء كـ قيمة حقيقية ومرجع جوهري لفهم الوجود الإنساني، بغض النظر عن السياق التاريخي له، لكن هذا لا يعني عدم أهمية تاريخيته، وأدب محفوظ ليس مجرد قصة حدثت في زمن مضى؛ بل إنه تسجيل لـ "كيف يكون -الإنسان-" عندما يواجه مواقف أنطولوجية مثل القهر، والعبث، والسلطة، وإن بقاء أدب محفوظ يعتمد على تحويله للتجارب الخاصة إلى حقائق كونية عن الوجود، وهذا ما نجده واضحًا في الحب فوق هضبة الهرم، مما يجعله بمثابة أرشيف للماهية الإنسانية في لحظات التحول الكبرى، وأدب محفوظ يطرح لنا عدة أفكار خطيرة مثل، البقاء الأنطولوجي حيث طالما أن الإنسان يواجه الخيبة التاريخية وفشل الأيديولوجيات في تحقيق العدل المطلق، فإن نموذج محفوظ الزمني سيبقى صالحًا، لأنه يقدم لنا صيغة أنطولوجية روائية مانوية للزمن هي: "الزمن هو حركة ديالكتيكيّة بين النور والظلام"، وهذه الحركة أو هذا الديالكتيك لا يزال جاريًا في كل المجتمعات، ونأتي هنا إلى الحارة نجمة رواية محفوظ؛ حيث قد حول محفوظ "الحارة" من مجرد موقع/مكان جغرافي إلى كون مصغر تتجسد فيه كل الصراعات البشرية من السلطة، الدين، العلم، الاقتصاد، لنصل إلى الإنسان، لنعلم من هذا أن الحارة هي الكيان الأنطولوجي الذي استطاع أن يحوي أهم أفكار الوجود وتجاربه، وطالما أن الإنسان يعيش في إطار إجتماعي محكوم بالصراع الطبقي وتوزيع القوة، فإن "الحارة" المحفوظية ستظل هي المرجع الأنطولوجي لفهم آليات القهر والتمرد في أي مجتمع مغلق، أو أي مجتمع محاط بأسوار التقاليد والعادات، وأدب محفوظ هو دراسة أنطولوجية لـ " كيف يُنشئ الإنسان ذاته" في بيئة قاهرة، بها العادات والتقاليد مثل أسوار القاهرة، وإن شخصياته الروائية سواء كمال عبد الجواد الباحث عن المعنى، أو عمر الحمزاوي الهارب منه، تمثل محاولات مختلفة لتحقيق الوجود الصادق، في ظل الوجود الزائف، ومما سبق يتبين أن أدب محفوظ سيظل محفوظ، لأنه يتجاوز مجرد فكرة انتمائه لأدب فلسفي وجودي إلى كونه أدب أنطولوجي، وليس مجرد تأثر بأدب أو وجودية سارتر وكامو، بل هو تأسيس لوجودية مصرية خالصة، تنبع من الأرض وتعود إليها لتضيء وجودها، وإن أعمال محفوظ ليست مجرد قصص تحكى، بل هي برهان على أن التجربة الإنسانية المصرية، بكل تناقضاتها، وقلقها، هي جزء لا يتجزأ من سجل الوجود الكوني، ومادامت الروح البشرية تتألم وتبحث عن العدل والمعنى، فإن محفوظ سيظل المرجع الأنطولوجي للغوص في هذا الألم، وهذا المبحث...
#عزالدين_محمد_ابوبكر (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟