أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - عزالدين محمد ابوبكر - الألم لا يُشوّه الجمال ، لكنه يكشف عنه














المزيد.....

الألم لا يُشوّه الجمال ، لكنه يكشف عنه


عزالدين محمد ابوبكر

الحوار المتمدن-العدد: 8459 - 2025 / 9 / 8 - 00:13
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


دائماً ما كنت أعتقد ولازلت حتى الآن ، و أرى أننا حين ننظر إلى المرآة ، فنحن لا نرى مجرد وجوهنا أو أجسادنا ، بل نرى معنى وجودنا منبثقًا كـ أسئلة ؛ حيث الذات تسأل لكي تصف نفسها ، من انا؟ ، هل أنا هذا الجسد؟ ، هل جسدي هو مجرد قيد ام أداة للتحرر؟ ، واليوم في عصر الصور والترندات والذكاء الاصطناعي ، نجد فن الجسد يعيد طرح هذه الأسئلة لا من خلال الكتب ، بل من خلال اللحم والدم ، ومن خلال التجربة العارية ، وعن طريق الجسد ؛ و إن فن الجسد ليس مجرد نوع من الفنون ، بل هو موقف وجودي-راديكالي ، يجعل من الجسد مركزاً للمعرفة وأساسًا للتساؤلات ، و مسرحاً للصراع ؛ حيث الفرد هو تلك العلامة التي لا تعرف حدوداً للمعنى ، وسطحًا يُكتب عليه المعنى.

والجسد في التقليد الفلسفي الغربي الكلاسيكي ظل مهملاً ، مثل سؤال الكينونة أو مجرد تابع للعقل ؛ حيث أننا نجد أن الجسد من أفلاطون إلى ديكارت قد ظل خارج معادلة الوجود ، حتى في اللاهوت المسيحي ظل الجسد رمزاً للسقوط وللمحرم ، لكن عندما بدأت بذور الفلسفة الوجودية في النمو ؛ تبين لنا في خطاب نيتشه ، وهايدجر ، و ميرلو-بونتي ، وسارتر الفلسفي ، أن الجسد يمكن أن يستعاد كـ الطريقة التي نوجد بها في العالم ، وهو أيضًا ذلك الوسط بين الذات والعالم ، لكن فن الجسد لم يكن مجرد نوع من الفن ظهر في ستينيات وسبعينيات القرن العشرين ، بل كان لحظة ثورة جمالية وميتافيزيقية على سمات الفن التقليدية ، والقيم البرجوازية ، و الجماليات النمطية.

ومن هنا أصبح الفنانون لم يعودوا يرسمون الجسد ، لأنهم أصبحوا يقومون بـ استخدامه كـ أداة ، و كـ مساحة للتعبير عن الرأي والذات ، و كـ قصيدة حية تتناول القيم الوجودية للفرد ، كـ مواضيع جمالية إنسانية. ومن المعلوم أن الفلسفة الوجودية ، هي فلسفة ترى في الألم صدى للكينونة ؛ لأن الألم في الجسد ليس عطبًا أو ضعفًا ، بل هو لغة ، وليس هدفًا لأنه بوابة نحو الوعي ، نحو ذلك الوعي الذي يقوم بنزع الجسد من صمته ، من أجل أن يُجبرك على الاصغاء إليه ، لا كـ مجرد مادة ، بل كـ كائن يشعر ويتذكر ويتحدى ، ونحن اليوم بحاجة إلى هذا الفن ، لأنه يوقظ الحواس ، و يُعيد إلينا ملكيتنا لأجسادنا ، و لأن أجسادنا في الشرق والغرب ، لم تعد ملكنا وحدنا ، فإن فن الجسد هو ذلك الخط الأخير بين الإنسان والآلة ، وبين الصدق والاستعراض ، بين تذكر الذات أو نسيانها ...

ولا أستطيع أن أذكر فن الجسد ، بدون ذكر الفنانة مارينا أبراموڤيتش التي وُلدت في صربيا عام ١٩٤٦ ، ونشأت في بيئة صعبة ؛ حيث نشأت في ظل الصرامة والانضباط ، حتى أن والدتها قد فرضت عليها نظام حياة متزمت ، ومنعتها من الخروج ليلاً حتى سن التاسعة والعشرون ، وهكذا نرى أن جسد مارينا أبراموڤيتش لم يُصنع عن طريق الحب ، بل صنع عن طريق القسوة ، وقد ظهر هذا الأمر على أعمالها بشكل واضح ؛ حيث نجد الشعور بالعزلة والوحدة متغلغلاً في كل أعمالها ، لكنها قاومت طفولتها ونشأتها هذه ، عن طريق الفن ؛ حيث قد جعلت من الفن وسيلة للبحث عن الحميمية والاحتواء ، بدلاً من الانتظار السلبي لهما!

ومثلما بدأت قضايا الفلسفة الوجودية في التشكل في مناخ ما بعد الحرب ، فإن مارينا أبراموڤيتش قد بدأت تكتشف فن الأداء ، في مناخ فني ما بعد الحرب ؛ حيث أصبحت اللوحة والكلمة غير كافيتين في هذه الفترة ، و قد مارست أبراموڤيتش العديد من الأعمال الصادمة بالنسبة إلى الجمهور ، مثل عملها الفني (Rhythm 0) ؛ حيث وضعت جسدها تحت تصرف الجمهور! ، وعند النظر في فكرة عملها هذا ، يبدو أنها تحاول إستعادة السيطرة التي فقدتها في نشأتها ، عن طريق فقدانها الطوعي لها ... ، وبهذا فهي تخلص نفسها من كل خوف عبر الموقف الوجودي.

ومن ما سبق ، يمكننا القول بأن فن مارينا أبراموڤيتش هو حياتها ، وفلسفتها هي ما تعبر عنه عن طريق جسدها ، ومارينا لم تصنع "أعمالاً" ، بل قامت بصنع صيرورة وجودية حية ؛ حيث إنها جعلت من آلام طفولتها فناً ، ومن حبها طقسًا أدائيًا ، ومن وحدتها تأملاً جماليًا ، وهكذا وضحت كيف أن حياتها دائماً ما كانت بالنسبة إليها دوماً ، تلك المادة الخام لفن الأداء وفن الجسد الذين تمارسهما.

• الجسد أداة فلسفية

مارينا أبراموڤيتش لا ترى الجسد بوصفه مادةً فسيولوجية فحسب ، بل تراه كـ موقع للوجود الإنساني ، و مجالٍ تُجرى فيه اختبارات الفرد للوعي والحدود ؛ حيث إن الفن الحقيقي من وجهة نظر مارينا ، هو ذلك الفن الذي يبدأ حين تجهد الجسد إلى ما وراء قدرته المعتادة. وهنا يبدو أن مارينا عندما تقوم باستدعاء فعل الأداء ، فهي بذلك تستخدم المعنى الهايدجري للكينونة ؛ حيث يكون الجسد "هُنا" بالكامل ، مُلقى في العالم ، غير قابل للفصل عن زمانه ومكانه ، ومارينا بوعيها بـ جسدها فهي تقوم بـ تحويل جسدها إلى لغة ما قبل اللغة ، أو إلى هذه الصرخة من الوجود الإنساني العاري أمام مرآة الجماعة.

وهذا ما يتضح في عملها (Rhythm 0) ؛ حيث وضعت جسدها تحت تصرّف الجمهور مع عدة أدوات (من الريشة إلى المسدس) ، و أصبح جسدها موقعاً لتجلي العنف الرمزي والمادي ، وليس عملها هذا مجرد صدمة بصرية للحضور ، بل هو اختبار فلسفي للعلاقة بين الأخلاق والجمال ، وبين السلطة والرغبة ، وهنا يتضح فعل مارينا أبراموڤيتش الفلسفي ؛ حيث إنها تقترب من التقاليد الصوفية ، بسبب أنها تقوم بـ جعل جسدها مستهلكًا لـيُطهَّر ، وتقوم أيضاً بجعل الألم حدثًا ابتسمولوجيًا ؛ حيث تجعل الجمهور يُسائل نفسه أكثر مما يُسائل الفنانة ؛ لأنه يقوم بـ مراجعة أجندته الأخلاقية معيدًا للنظر فيها ، وهكذا عرفنا أن مرينا ترى أن الألم لا يُشوّه الجمال ، لكنه يكشف عنه ، و لأن الأداء الجسدي المؤلم ليس عرضاً للمعاناة أو عنها ، بل هو إعلان عن الصدق ، وعن أهمية التجربة الوجودية.



#عزالدين_محمد_ابوبكر (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الشعر الرومانسي والشعر الوجودي: أيّهما أكثر تعبيرًا عن واقعن ...
- لماذا نسأل: لماذا؟ ، محاولة لبناء مدخل فلسفي موجز إلى أعمق ا ...
- قصيدة النرجس: قراءة وجودية و هرمنيوطيقية-أنطولوجية
- البيان القومي الوجودي الإنساني: رؤية فلسفية في جدلية الهوية ...
- وليم وردزورث: بين السمات الرومانسية والقراءة الوجودية
- التفكير القمري والتفكير الشمسي: قراءة في جدلية الإدراك والتك ...
- قراءة ديالكتيكيّة للأحلام ، ونظرات أخرى
- الوعي والتفكير القمري: نحو فهم الوجود من خلال أنماط الإدراك ...
- القمر ، والتفكير القمري على الطريقة المصرية القديمة: بين الد ...
- ديالكتيكيّة تفسير الأحلام عند ابن سيرين
- هل يمكن قراءة الأعمال الكرتونيّة وجوديًا؟
- المنطق الوجوديّ ... -المنطق الذي لا يسعى للتوصل إلى قوانين ث ...
- المنطق الوجودي ... منطق الإنسان الملقى به في الوجود
- مقالة غير ختاميّة عن فلسفة الشوارع المصريّة
- مقالات أدبيّة: الشذرّة الرهاويّة ... من الأدب الرؤيويّ الأپو ...
- مقالات وجودية: نظريّة المراحل الكيركجوريّة
- مقالات وجودية: فلسفة الشوارع المصرية ، الجزء الثاني
- مقالات وجودية: نظريّة المراحل عند كيركجور
- فلسفة الشوارع المصريّة : فلسفة مواقف ، وتفكر إنسانيّ.
- مقالات وجوديّة: أبو الدرداء ، حياته ، ومذهبه ، ومواقفه الوجو ...


المزيد.....




- ختام دراما جريمة شغلت أستراليا.. شاهد لحظة النطق بالحكم في ق ...
- بعد تلويحه بعقوبات جديدة.. ترامب: سأتحدث إلى بوتين خلال يومي ...
- ما بدائل سكان الفاشر للحصول على الغذاء في ظل الحصار؟
- -خيمة السلام- احتجاج ضد التسلح النووي استمر عقودا أمام البيت ...
- من كردستان إلى القدس.. حكاية مهنة متوارثة منذ الفتح الصلاحي ...
- -قد يكون قريبا جدا-.. ترامب يعلق على إمكانية قرب التوصل لاتف ...
- حادثة اعتداء جماعي على سيدة حامل في جنوب أفريقيا تشعل الجدل. ...
- وحش قزوين.. هل تعود السفينة الطائرة إلى الحياة مجددًا؟
- الاحتلال يقتحم بلدات ومخيمات بالضفة ويهدم محال تجارية جنوب ن ...
- حزام البلاتين بجنوب أفريقيا.. كنز الأرض المُحفِّز للصراعات و ...


المزيد.....

- الصورة النمطية لخصائص العنف في الشخصية العراقية: دراسة تتبعي ... / فارس كمال نظمي
- الآثار العامة للبطالة / حيدر جواد السهلاني
- سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي / محمود محمد رياض عبدالعال
- -تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو ... / ياسين احمادون وفاطمة البكاري
- المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة / حسنين آل دايخ
- حوار مع صديقي الشات (ج ب ت) / أحمد التاوتي
- قتل الأب عند دوستويفسكي / محمود الصباغ
- العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا ... / محمد احمد الغريب عبدربه
- تداولية المسؤولية الأخلاقية / زهير الخويلدي
- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - عزالدين محمد ابوبكر - الألم لا يُشوّه الجمال ، لكنه يكشف عنه