عزالدين محمد ابوبكر
الحوار المتمدن-العدد: 8475 - 2025 / 9 / 24 - 20:10
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
تحدثنا في تدوينة سابقة، عن أن لطفولة ونشأت مارينا أبراموڤيتش أثر كبير على حياتها، ولا سيما أن حياتها هذه قياسًا على حياة أي فرد من جيلها كانت حياةٍ غريبة، لكن إن مارينا أبراموڤيتش قد إتخذت من هذه الحياة ذات القيود، مدخلاً نحو تحررها وتحرر جسدها في هذا الوجود؛ حيث قامت باعتبار أن الفن والأداء الفني هو طقس يُعيد الإنسان إلى لحظة "الآن"، تلك اللحظة التي لا تخلو منها أي تجربة فردية، تلك اللحظة التي تحمل بذور الصفاء والتوتر معًا، لأننا نفكر في اللحظة التي نتنفس بها، وفي نفس الوقت نتذكر ما فات ونتخيل ما هو آت، وبهذا المعنى يبدو أن فن الأداء عند مارينا أبراموڤيتش هو طقس تفكيك الأنا، عندما تقوم بـ مقاربة الفراغ البوذي بـ الإنفتاح الصوفي، جاعلةً من الفن شيئًا لا يُرى بقدر ما يُعاش، ولا يُفهم بقدر ما يُشعر به، وهذا ما نجده ونشعر به في عملها الشهير "The Artist is Present (2010)"؛ حيث جلست مارينا في صمت لساعات طويلة، تقوم بـ النظر في كل عين اقتربت منها أو لامست جسدها بالرؤية، ومن هذه النقطة نجد أن لهذا العمل بُعد ميتافيزيقي؛ إذ يظهر لنا من خلال فن مارينا أن الحضور في الفن، ليس مجرد تمثيل بل هو نوع خاص من التجلي، لأن العين تصبح شكلاً من الوجود-المشترك؛ حيث ينظر الفرد إلى جسد مارينا ومارينا تنظر إلى عينه، وهذه تجربه مشهدية للصمت تحمل بُعدًا ميتافيزيقي خطير؛ حيث الجسد لا يفعل شيئًا، لكنه يحضر بكثافة، ويتحوّل إلى مرآة للآخر الموجود، وهنا نلاحظ أن أفعالاً قد تبدو عاديةً في الحياة اليومية، تبدأ في إستعادة قداستها والمعنى المسلوب منها، حين تؤدى فنياً، مثل فعل الجلوس والنظر والصمت.
- مارينا واحتضانها الجسد الفاني
في عملها الشهير والمحبب إلى قلبي "Nude with Skeletion"، نجد مارينا أبراموڤيتش تستلقي عارية الجسد على الأرض، وفي حضنها هيكل عظمي بشري، تقوم بـ احتضانه كما لو أنه جسدٌ حي، أو عشيق نائم بين يدي معشوقته، وهنا اتذكر فكرة الموت عند قدماء المصريين؛ حيث إن الموت حسب متون التوابيت هو الرسو، وها هو العاشق يرسو بين ضفتي صدر عشيقته، مثل القارب المتهالك، لكن هذا العمل الفني يتميز بأنه يتم في صمت تام، حيث لا صوت ولا صراخ لكن هناك آلام!، آلام من حقوق لم تطبق وحدود لم تعرف لها وجود!، ويمتاز أيضاً بأنه يقام في فترة زمنية طويلة، وينفَّذ في مساحة تعبير هادئة الجو وخالية من التشويش، عكس حاضرنا و وجودنا الملئ بالضجيج!، كأنه طقس بوذي تأملي، لكن إن ما يلفت نظري وعيني، ليس جسد مارينا أبراموڤيتش الأبيض الجميل، لكن ما تتجه نحوه عيناي هو فعل الاحتضان؛ حيث كم مرة فكرت امرأة أو فنان في احتضان هيكل عظمي؟، ليس الكثير على ما اعتقد. لكن إن الاحتضان هنا ليس حنانًا، على مجرد ما كان كائن حيّ، بل هو على ما تبقى من كائن حيّ، تداولته الأيام وغرق في همومها والأحزان، والهيكل العظمي يمثل نهاية الجسد وحتميته، بينما جسد مارينا -الحيّ العاري- يمثل الآن والزمان (=الصيرورة). وفعل المعانقة هذا، بين ما هو حيّ وما تبقى من حيّ، هو تجسد واضح لفكرة "الزمن المكشوف/العاري"؛ حيث أغلب ما هو ماضي (العظام) حاضرٌ في ومع الحيّ، والموت ساكنٌ في كل لحظة حياة، مما يذكرنا بفكرة الوجود-نحو-الموت التي ذكرها مارتن هايدجر في الوجود والزمان.
وهذا العمل الفني يهمس لنا سرًا، قائلاً أن مارينا لديها رغبة في أن تظل دائمًا على مماس مع زوالها، عن طريق أن تواجه الحتمية مثل الموت، كـ واقع لا كـ فكرة، واحتضانها الهيكل العظمي ليس فعلاً درامياً، ولا جزءًا من فصل مسرحية تراجيدية، بل هو تأمل ولحظة تفكير في "الآن"، وإن تعلمنا شيء من هذا العمل الفني، فلن يكون غير أن نصادق موتنا (وفكرته)، من أجل أن نبدأ حقًّا في معرفة أهمية وقتنا، وهكذا سوف نعرف كيف نحيا. ويعلمنا التحليل النفسي الفرويدي، أن الحب (=إيروس) والموت (=تاناتوس) هما قوتان متضادتان، ومارينا ترشدنا إلى أن هاتين القوتين (الحياة والفناء)، لا يجتمعان إلا في العلاقة الحميمة أو الفعل التعاطفي؛ حيث إن جسد مارينا أبراموڤيتش العاري يمثل الحياة والرغبة فيها كـ فكرة، أما الهيكل العظمي فيمثل الموت والغياب كـ فكرة، وهذا يجعلنا نتوصل إلى أنه لا يوجد صراع في الوجود، إن كان هناك عناق، لكن الحياة دون الوعي بالموت هي سطح، أما الموت دون الخبرة بالجسد فهو هوّة، يقع فيها أيضاً من لا يفهم الصمت ويحترمه، ويجهل قيمة الحضور في ذاته، عندما يكون الزمن بطيء (وهو جزء من الرسالة)، يجبرك على التحديق في كل ما هو حولك، وبالتالي يجبرك على التأمل، الذي هو أول فعل للتفلسف يليه الإندهاش، والجدير بالذكر أن عري مارينا في هذا العمل ليس عري من أجل الإثارة الجنسية، بل هو إنكشاف تام أمام مصير، ومقابلة جادة بين ما هو حيّ وما هو ميت.
الزمن ومارينا، مارينا والزمن؟
الزمن ليس مجرد بُعد للوجود بالنسبة إلى مارينا وفنها؛ حيث إنها لا تؤمن بأن الزمن مجرد خلفية محايدة، بل ترى أن الزمن يُخلّق ويُمتَلك عن طريق الحضور الجسدي الواعي، وهذا يلاحظ بوضوح لمن يملك حساسية الفنان بالزمان، في أعمالها، دائماً ما نجد أن كل ثانية تُشعر، وتُعاش، وتُراقب...، ونحن في حياتنا الوجودية-اليومية دائماً ما نهدر الزمن، لكن في فن الأداء الأمر مختلف، نحن نُبطئ الزمن حتى نصبحه!، وهذا شبيه بما عاشه الحلاج في تجربته الصوفية، ويلاحظ أن مارينا أبراموڤيتش تهتم بفكرة الإبطاء في عملها الفني؛ حيث إن الإبطاء في عالمنا المتسارع هو عمل راديكالي، وإن الفن الراديكالي دائماً ما يتحدى الإيقاع السريع للحياة المعاصرة، لنتذكر أن الفن هو موقف وجودي، ومن هذا المنطلق فإن الموقف الفني الوجودي هو موقف-راديكالي في حد ذاته، يحاول دائمًا أن يخلق زمنًا شعائريًا، إنه أشبه بزمان غير نفعي، وأنه لا يقاس بالدقائق، بل بالانتباه والوعي، والزمن في أداء مارينا أبراموڤيتش يتحول إلى عبادة/احترام للّحظة؛ حيث الفن ليس هو الذي نراه، بل هو الذي نقضيه في رؤيته، عبارة فلسفية أشبه بالعبارة النفرية، ومارينا في فنها تدعونا إلى أن نعيش، في "الآن"، جاعلة لنا من الماضي والمستقبل مجرد وهم، أما الحقيقة، فهي في اللحظة الحالية، وهكذا يتضح لنا أن إدراك الزمن هو إدراك الوجود نفسه، والزمن عند مارينا ليس زمن يقاس في ساعة، بل هو كائن معنا نتفاعل معه، حتى لو لم نراه أو نفكر فيه جيداً، نحاول دائمًا أن نقاومه، أو نبطئه، أو نُشفى به، و الزمن عندها ليس تقويمًا ...، بل كيان حيّ نُقابل فيه أنفسنا كما لم نراها من قبل.
- الاستاطيقية الابراموفيتشية
إن النظرية الجمالية أو الاستاطيقية عند مارينا أبراموڤيتش، ليست مجرد تنظير لفكر جمالي، بل هي اقتراب من جوهر مشروع فني-فلسفي لفنانة فريدة من نوعها؛ حيث إنها أعادت تعريف الجمال ليس بوصفه ما يُرى، بل ما يُعاش ويُحتمل ويُصمد له وبه، والجمال عند مارينا أبراموڤيتش، ليس ما يكون جميلاً في الشكل، بل ما يكون في الحضور. وليس في المتعة فقط أو الإثارة، بل في الصدق وإيصال الرسالة، والجمال لا يكمن في مجرد الانسجام، بل في المواجهة، ومن هذه النقاط الملتقطة من فنها وجسدها، يتضح أنها ترفض الجماليات الكلاسيكية، مثل الهارموني والتوازن والإنسجام، كل تلك الأشياء التي تناولها هيجل بالحديث في أعماله عن الفن، والجدير بالاشارة هو أن مارينا تعيد الجمال إلى أصلٍ وجودي؛ حيث يكون الشيء موجوداً صادقاً، حقيقياً، ولا يخفي شيئاً، ويستبطن من أعمال مارينا أنها ترى أن الألم لا يُشوّه الجمال، بل يكشف عنه، لكن التمثيل بألم لا يصدق، أما الشعور بالألم والانكسارات النفسية، هو شيء أكثر قوة من الناحية التعبيرية أكثر من أي لوحة فنية، والفن لا يرضي النفس عند مارينا أبراموڤيتش، بل يقوم بـ تربيتها وصقلها من أجل الوجود، وهي بذلك تعيدنا إلى التقاليد اليونانية (التي اعجبت بالمناسبة نيتشة وألبير كامو)، التي تعلمنا أن الفن ليس ترفًا، بل أداة لتشكيل النفس، أو محاولة إعدادها بمعنى أصح، والجمال عندها كما يظهر في فنها، ليس ما يُبهج العين، بل هو ما يهزّ الضمير، ويجعل العقل محاطاً بالأنين والاهتزاز من ألم الوجود، وألم الشعور ...، وهذا ما يجعل استاطيقيتها أقرب إلى الاستاطيقا الأخلاقية عند الجميل تولستوي، أو التنويري النقدي كانط، منها إلى نظريات اللذة الجمالية.
والجمال في عمل مارينا أبراموڤيتش الفنيّ، لا يُختزل في لحظة، بل هو دائماً ثمرة بطء، صبر، تأمل. يحتاج الفرد إلى أن يبقى معها، وأن لا يهرب منها أو يضجر، حتى يرى المعنى يظهر، وأعمال مارينا الطويلة كلها ليست استعراضية، بل تدريجية، لأنها لا تسكب المعنى مرةً واحدة، بل تقوم بـ سكبه ببطئ مثلما تعطينا الحياة الفرص، والعدم كل الإمكانات، وكل دقيقة يقضيها الفرد مشاهداً فنها، هي عملية إضافة طبقة رقيقة من الوعي إلى التجربة الجمالية-الوجودية القلقة الهشة!، وفي أعمالها، العمل ليس الفن، بل الفنان هو الفن وهو العمل الفني، لأن مارينا لا تخلق "شيئًا" جميلاً - لا من حيث الجسد، بل من حيث الصدق والتجربة- وهذا ما يجعل استاطيقيتها وجودية الطابع، إنسانية التكوين والوجود؛ حيث الجمال هو أن تكون حاضراً بالكامل، بدون قناع، وهكذا نتعلم أن الدموع، الألم، التعب، كلها مواد خام للجمال الصادق، والتجربة الوجودية، وعلينا أن نتذكر أنه... أحياناً، أجمل شيء يمكن فعله... هو أن نصمت ونبقى... وأن نتدرب على التذكر والتأمل...
#عزالدين_محمد_ابوبكر (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟