مكسيم العراقي
كاتب وباحث يؤمن بعراق واحد قوي مسالم ديمقراطي علماني بلا عفن ديني طائفي قومي
(Maxim Al-iraqi)
الحوار المتمدن-العدد: 8564 - 2025 / 12 / 22 - 14:55
المحور:
دراسات وابحاث قانونية
0. مقولات ماثورة
1. مفارقة القضاء التابع
2. استهداف القضاء في العراق بعد 2003...والعنف كأداة لإخضاع العدالة
3. القضاء المُكافأ لا المُستقل.... اقتصاد الامتيازات في العراق بعد 2003
4. التوظيف الجيوسياسي للمؤسسة القضائية في العراق
5. ارث مدحت المحمود وشرعنة الهيمنة السياسية
6. صعود فائق زيدان والسيطرة على مفاصل القوة في القضاء
7. الهندسة القضائية وخدمة الاجندة الايرانية
8. حصانة الميليشيات وقمع المعارضة
9. فضيحة الشهادات اللبنانية والشكوك الاكاديمية
10. المواجهة الدولية وتصنيف زيدان كأصل من اصول ايران
11. استنتاجات حول واقع القضاء العراقي
12. المصادر
(0)
مقولات ماثورة
-لا توجد حرية إذا لم تكن السلطة القضائية منفصلة عن السلطتين التشريعية والتنفيذية. — مونتسكيو
-سيادة القانون تعني أن الحكومة نفسها خاضعة للقانون. — هانس كلسن
-ضعف السلطة القضائية هو أول علامة على انحلال الحرية. — ألكسيس دو توكفيل
-حين يُستخدم القانون كأداة للسلطة، يفقد معناه الأخلاقي. — هانا آرندت
-الاستثناء هو التقنية التي تُفرّغ القانون من مضمونه. — جورجيو أغامبن
-السلطة لا تُمارَس فقط بالقمع، بل بإنتاج الحقيقة. — ميشيل فوكو
-لا ديمقراطية من دون ضمانات مؤسسية فعلية، وفي مقدمتها استقلال القضاء. — نوربرتو بوبيو
-الديمقراطية لا تُقاس بالانتخابات وحدها. — روبرت دال
-الأنظمة السلطوية الحديثة تحافظ على مؤسسات شكلية دون مضمون ديمقراطي. — خوان لينز
-القانون موجود، لكن الوصول إليه ليس متاحًا للجميع. — فرانز كافكا
-الدولة التي تفقد احتكار العنف تفقد معناها. — عزمي بشارة
-الدستور قد يتحول إلى أداة تبرير بدل أن يكون أداة تغيير. — عبد الله العروي
(1)
مفارقة القضاء التابع
1. مدخل إشكالي
يقوم التصور الكلاسيكي للدولة الحديثة على مبدأ الفصل بين السلطات بوصفه الضامن الجوهري للحرية السياسية وسيادة القانون. غير أن هذا المبدأ، في كثير من الدول التي تُصنَّف شكليًا كـديمقراطيات، يتحول إلى مجرد بنية خطابية، بينما تُفرَّغ مؤسساته من مضمونها الفعلي. وتبرز السلطة القضائية في قلب هذه المفارقة؛ إذ يفترض بها أن تكون سلطة مستقلة، لكنها تتحول عمليًا إلى أداة بيد السلطة التنفيذية، أو إلى جزء من شبكة المحاصصة والزبائنية السياسية.
هذه المقدمة التمهيدية تحاول تفكيك مفارقة القضاء التابع: كيف يمكن لنظام يعلن التزامه بالدستور، والانتخابات، والديمقراطية واستقلال القضاء، أن ينتج واقعًا قضائيًا خاضعًا، انتقائيًا، ووظيفيًا في خدمة السلطة لا القانون؟
2. الإطار الفلسفي – من دولة القانون إلى دولة الشكل
في الفلسفة السياسية، تمثل دولة القانون نقيض دولة الاستبداد، حيث تخضع السلطة للقانون لا العكس. لكن في الدولة الزبائنية، يحدث انقلاب فلسفي خطير:
القانون لا يعود معيارًا للسلطة، بل تتحول السلطة إلى معيار للقانون.
هنا يصبح القضاء جزءًا من تقنيات الحكم لا من منظومة العدالة. ويستعاض عن مفهوم العدالة الموضوعية بمفهوم العدالة الوظيفية: أي العدالة التي تؤدي وظيفة سياسية محددة (شرعنة السلطة، تصفية الخصوم، حماية الفساد).
بهذا المعنى، لا تكون المشكلة في غياب النصوص القانونية، بل في إفراغها من روحها، وتحويلها إلى أدوات ضبط لا أدوات إنصاف.
3. الإطار القانوني – استقلال القضاء كنص مقابل تبعيته كواقع
دستوريًا، تُنص معظم الدول شبه الديمقراطية على استقلال القضاء، وعدم جواز التدخل في شؤونه. لكن قانونيًا، يحدث الالتفاف عبر آليات ناعمة لا فجة، مثل:
• التحكم بالتعيينات والترقيات عبر السلطة التنفيذية أو المجالس المسيسة.
• الهيمنة المالية والإدارية على الجهاز القضائي.
• تسييس الادعاء العام وتحويله من حارس للمصلحة العامة إلى ذراع انتقائية.
• الانتقائية في تحريك الدعاوى: تفعيل القانون ضد الضعفاء، وتعطيله أمام المتنفذين.
• اصدار قرارات زبائنية تخالف الدستور والقانون والامثلة كثيرة.
في هذه الحالة، لا يُلغى استقلال القضاء رسميًا، بل يُخنق عمليًا. ويصبح القضاء مستقلًا على الورق، تابعًا في الممارسة.
4. الدولة الديكتاتورية المقنّعة – حين يخدم القضاء الاستبداد الناعم
الديكتاتورية المعاصرة لا تحتاج إلى قمع سافر دائم، بل تعتمد على ما يمكن تسميته الاستبداد الإجرائي:
• محاكمات بدل الاغتيال،
• قرارات قضائية بدل الأوامر العسكرية،
• نصوص قانونية بدل المراسيم الاستثنائية.
• تطبيق قانون غير عادل على جهات معينة والتغليس عن جهات اخرى
وهنا يؤدي القضاء وظيفة مزدوجة:
يمنح النظام شرعية داخلية وخارجية، ويُدار داخليًا كجهاز أمني مقنّع.
الخطورة أن هذا الشكل من الديكتاتورية أصعب كشفًا من الاستبداد التقليدي، مع انه واضح للمختصين, لأنه يعمل من داخل القانون لا خارجه.
5. القضاء في الدولة الزبائنية والمحاصصية
في الدولة المحاصصية، لا يُنظر إلى القضاء كسلطة، بل كـحصة.
قاضٍ محسوب على هذا التيار، محكمة تخضع لتوازن ذاك التحالف، ملفات تُفتح أو تُغلق حسب ميزان القوى لا ميزان الأدلة.
وهكذا، يتحول القضاء إلى ساحة تفاوض سياسي، لا ساحة عدالة.
الفساد وحتى الارهاب, لا يُحاكم لأنه جزء من العقد السياسي غير المعلن الذي يقوم عليه النظام.
6. المفارقة الكبرى – لماذا تحتاج السلطة الفاسدة إلى قضاء؟
قد يبدو للوهلة الأولى أن السلطة الفاسدة لا تحتاج إلى قضاء، لكن الحقيقة عكس ذلك تمامًا.
السلطة الفاسدة تحتاج قضاءً ضعيفًا لا غائبًا، لأن:
غياب القضاء يفضح الاستبداد، أما وجوده الشكلي فيغطيه.
القضاء التابع هو الأداة المثالية: يضفي طابعًا قانونيًا على الظلم، ويحوّل الجريمة السياسية إلى إجراء قانوني.
إن تحويل القضاء إلى تابع للجهاز التنفيذي ليس خللًا عرضيًا، بل هو بنية وظيفية في الدولة التي تجمع بين:
شكل ديمقراطي، وجوهر ديكتاتوري، ونظام زبائني محاصصي، واقتصاد فساد محمي سياسيًا.
ومن هنا، فإن أي حديث عن إصلاح سياسي أو مكافحة فساد دون تحرير القضاء فعليًا، لا نصيًا، يبقى مجرد خطاب أخلاقي مزيف بلا أثر بنيوي.
هذه المفارقة تمثل مدخلًا أساسيًا لأي بحث جاد في فهم الدولة الهجينة، حيث لا يُقاس الاستبداد بغياب الدستور، بل بطريقة استخدامه.
(2)
استهداف القضاء في العراق بعد 2003, العنف كأداة لإخضاع العدالة
منذ عام 2003، شكّل القضاء العراقي أحد أكثر المؤسسات استهدافًا بالعنف المنظم، في سياق إعادة تشكيل الدولة على أسس هشة، حيث تداخل الاحتلال، والصراع الطائفي، وصعود الجماعات المسلحة، وتفكك الاحتكار الشرعي للقوة. لم يكن استهداف القضاة حدثًا عرضيًا أو ناتجًا عن فوضى عابرة، بل كان جزءًا من استراتيجية ممنهجة هدفت إلى كسر استقلال القضاء، وإرغامه على الانكفاء أو التكيّف مع ميزان القوة الجديد.
1. القتل والتهديد كسياسة غير معلنة
تعرض عشرات القضاة وأعضاء الادعاء العام بعد 2003 إلى الاغتيال أو محاولات الاغتيال، فيما أُجبر كثيرون على ترك مناصبهم أو مغادرة البلاد تحت وطأة التهديد. وقد استُخدمت وسائل متعددة: سيارات مفخخة، كواتم صوت، رسائل تهديد، وابتزاز مباشر. هذا العنف لم يكن موجّهًا ضد أشخاص بقدر ما كان موجّهًا ضد فكرة العدالة المستقلة نفسها، خاصة في القضايا المرتبطة بالإرهاب، والميليشيات، والفساد السياسي.
2. الاعتراف الصريح بخطورة المرحلة
في سياق لاحق، جاءت تصريحات واعترافات علنية من قادة سياسيين نافذين لتؤكد ما كان يُقال همسًا. فقد أقرّ هادي العامري، في أكثر من مناسبة إعلامية، بأن القضاة في العراق بعد 2003 كانوا يتعرضون للقتل والتهديد وانه يهددهم، وأن بعضهم امتنع عن إصدار أحكام أو اضطر إلى مغادرة البلاد خوفًا على حياته. هذه التصريحات، بغضّ النظر عن سياقها السياسي، تُعد إقرارًا مباشرًا بأن البيئة التي عمل فيها القضاء لم تكن بيئة دولة قانون، بل بيئة قسر مسلح.
3. الأثر البنيوي على العدالة
أدى استهداف القضاة إلى نتائج عميقة وطويلة الأمد، أهمها:
• ترسيخ العدالة الانتقائية بدل العدالة المتساوية.
• شيوع الخوف داخل الجهاز القضائي، ما أضعف الجرأة على مواجهة القوى المسلحة أو السياسية.
• تحوّل بعض القضاة، قسرًا أو تكيّفًا، إلى جزء من معادلة السلامة مقابل الصمت.
وبذلك، لم يعد القضاء سلطة قائمة بذاتها، بل مؤسسة تعمل تحت سقف أمني وسياسي منخفض، تتحرك فيه العدالة بقدر ما يسمح به ميزان القوة، لا بقدر ما يفرضه القانون.
4. من القتل المباشر إلى الإخضاع الناعم
مع تراجع الاغتيالات الواسعة نسبيًا في السنوات اللاحقة، لم ينتهِ استهداف القضاء، بل تغيّر شكله. حلّت الضغوط السياسية، والتشهير، والتهديد غير المباشر، والتدخل في التعيينات محل الرصاص، ما أبقى جوهر المشكلة قائمًا: قضاء يعمل في ظل الخوف، لا في ظل الاستقلال.
إن استهداف القضاة في العراق بعد 2003، وما رافقه من اعترافات رسمية لاحقة، يكشف أن الأزمة لم تكن أمنية فقط، بل أزمة دولة. فحين يُقتل القاضي أو يُهدَّد، لا يُغتال شخص، بل تُغتال العدالة نفسها. وأي حديث عن سيادة القانون أو محاربة الفساد، دون مواجهة هذا الإرث العنيف وحماية القضاء حماية فعلية، يبقى خطابًا شكليًا في دولة لم تحسم بعد خيارها بين القانون والسلاح.
(3)
القضاء المُكافأ لا المُستقل...واقتصاد الامتيازات في العراق بعد 2003
بعد عام 2003، لم يقتصر إخضاع القضاء في العراق على العنف والتهديد، بل انتقل تدريجيًا إلى صيغة أكثر نعومة وأشد فاعلية: الاحتواء عبر الامتيازات. ففي دولة تعاني من فساد بنيوي، تحوّل جزء من الجهاز القضائي من سلطة يُفترض أن تراقب السلطة، إلى مؤسسة مُكافأة بسخاء مقابل الصمت، أو التكيّف، أو الانتقائية.
1. شراء القاضي بدل كسره
حين فشلت سياسة القتل والترهيب في إخضاع القضاء بالكامل، جرى الانتقال إلى سياسة أكثر براغماتية: شراء الولاء بدل كسره. لم يعد القاضي يُهدَّد بالاغتيال فقط، بل أُغري بسلسلة من الحوافز:
• مخصصات مالية استثنائية،
• امتيازات سكن وحماية خاصة،
• سفرات خارجية متكررة تحت عناوين التدريب والمؤتمرات،
• الانغماس في الفساد القضائي والمصالح الذاتية دون عقاب,
• حصانة غير معلنة من المساءلة.
بهذا التحول، لم يعد الخوف وحده أداة السيطرة، بل أصبح الامتياز شريكًا رئيسيًا في ضبط السلوك القضائي.
2. مخصصات خارج منطق العدالة
أُقرّت للقضاة في العراق مخصصات ورواتب تُعد من الأعلى في القطاع العام، في بلد يعاني فيه معظم الموظفين من ضعف الدخل وسوء الخدمات. المشكلة هنا ليست في تحسين أوضاع القضاة بحد ذاتها، بل في انفصال هذه الامتيازات عن معايير الشفافية والمساءلة.
تحولت المخصصات إلى أداة سياسية: كلما ازداد القاضي قربًا من مراكز النفوذ، ازداد نصيبه من الامتيازات، سواء بصورة مباشرة أو عبر المناصب والترقيات.
3. تخصيصات القضاء... استقلال شكلي وتبعية فعلية
رُوّج لارتفاع تخصيصات السلطة القضائية باعتباره دعمًا للاستقلال، لكن الواقع كشف مفارقة خطيرة:
• ميزانيات مرتفعة دون رقابة فعالة،
• صرف غير خاضع لتدقيق برلماني حقيقي،
• إدارة مالية مغلقة داخل المؤسسة القضائية نفسها.
وهكذا، أصبح استقلال القضاء ماليًا في كثير من الأحيان استقلالًا عن الرقابة لا عن السلطة، ما فتح الباب واسعًا للفساد الإداري، والمحسوبية، واستخدام المال العام كوسيلة تحصين سياسي.
4. السفرات والمؤتمرات ...من التطوير إلى الترف
كثرت سفرات القضاة بعد 2003، تحت عناوين التدريب الدولي وبناء القدرات. لكن هذه السفرات، في كثير من الحالات، تحولت إلى امتياز نخبوي لا يرتبط بالكفاءة أو الحاجة الفعلية.
• قضاة يُستدعون مرارًا،
• نفس الأسماء تتكرر،
• غياب أي أثر ملموس على جودة العدالة.
الأخطر أن هذه السفرات خلقت فجوة نفسية وأخلاقية بين القاضي والمجتمع، حيث بدا القاضي جزءًا من طبقة مرفّهة محمية، لا خادمًا للعدالة العامة.
5. الامتيازات الكارثية على العدالة
إن تضخم مخصصات القضاء وامتيازاته دون ربطها بمساءلة صارمة أدى إلى نتائج كارثية:
• تآكل ثقة المجتمع بالقضاء،
• شيوع الاعتقاد بأن العدالة تُشترى أو تُدار،
• تحوّل القاضي من رمز للإنصاف إلى جزء من منظومة الامتيازات.
في هذا السياق، لم يعد الفساد القضائي استثناءً، بل أصبح احتمالًا بنيويًا يولده النظام نفسه.
إن مشكلة القضاء في العراق ليست فقط في تهديد القضاة أو تسييس أحكامهم، بل في إعادة تعريف القاضي كموظف مميز داخل نظام زبائني. فالقاضي الذي تُغدق عليه الامتيازات دون رقابة، يُطلب منه ضمنًا ألا يرى، أو ألا يسمع، أو ألا يحكم.
وفي دولة مثل العراق، لا يمكن الحديث عن استقلال القضاء ما دام هذا الاستقلال يُشترى بالرواتب والسفرات والحصانات غير المعلنة. فالعدالة التي تُكافَأ أكثر مما تُحاسَب، تفقد معناها، حتى لو ارتدت كامل زيّها الدستوري.
(4)
التوظيف الجيوسياسي للمؤسسة القضائية في العراق
يمثل مسار القضاء العراقي بعد عام 2003 نموذجا لكيفية تحول المؤسسات الدستورية الى منصات لادارة الصراعات الجيوسياسية وتامين مصالح القوى الاقليمية وعلى راسها ايران. ان المؤسسة القضائية التي كان من المفترض ان تكون حجر زاوية في بناء نظام ديمقراطي شهدت عمليات تحول متدرجة ادت الى مركزة القوة بيد شخصيات وازنت بين النصوص القانونية والضرورات السياسية لمحور المقاومة. هذا التحول لم يبدا مع تولي القاضي فائق زيدان بل تعود جذوره الى الحقبة التي ارساها القاضي مدحت المحمود المهندس الفعلي للنظام القضائي العراقي الجديد. لقد نجح المحمود في تاسيس هيكلية سمحت بتداخل عضوي بين القضاء والسلطة التنفيذية خاصة في فترات حكم نوري المالكي مما وفر الغطاء القانوني لتثبيت دعائم القوى التابعة لطهران.
ومع صعود فائق زيدان انتقلت هذه الممارسة من التدخل غير المباشر الى الانخراط العلني في الازمات السياسية حيث اصبح القضاء هو الطرف الذي يمنح الشرعية للانسداد السياسي او ينهيه وفقا لما تقتضيه مصلحة الفصائل المسلحة والاطار التنسيقي. تشير التقارير الدولية الى ان القضاء في عهد زيدان انتقل من كونه مؤسسة مستقلة نظريا الى اداة نفوذ تستخدمها ايران لتحويل العراق الى دولة تابعة وهو ما يتجلى في القرارات القضائية المفصلية التي عطلت مشاريع وطنية كانت تهدف لتقليص نفوذ الميليشيات مثلا.
(5)
ارث مدحت المحمود وشرعنة الهيمنة السياسية
شغل القاضي مدحت المحمود دورا محوريا في صياغة المشهد القضائي حيث تولى رئاسة مجلس القضاء الاعلى ورئاسة المحكمة الاتحادية العليا في ان واحد لسنوات طويلة مما منحه قدرة غير مسبوقة على تشكيل القضاء وفق رؤية تخدم الاستقرار السياسي للنظام الصاعد المعتمد على الرضا الايراني. ابرز محطات المحمود كانت في عام 2010 عقب الانتخابات البرلمانية حين اصدرت المحكمة الاتحادية تفسيرا للمادة 76 من الدستور اعتبرت فيه ان الكتلة الاكبر هي التي تتشكل داخل البرلمان بعد الانتخابات وليس القائمة الفائزة. هذا القرار سلب الحق الدستوري من القائمة الفائزة ومنحه لتحالف تقوده القوى الموالية لايران مما مكن نوري المالكي من البقاء في السلطة لولاية ثانية. لم يقتصر دور المحمود على تفسير النصوص بل امتد ليشمل استخدام ملفات المساءلة والعدالة كاداة لابتزاز او اقصاء الخصوم السياسيين. ورغم مواجهته لاتهامات بالانتماء لحزب البعث وصدور قرار باجتثاثه في عام 2013 الا ان التدخلات السياسية حالت دون تنفيذ القرار مما يوضح حجم التداخل بين الحماية السياسية والوظيفة القضائية في تلك الحقبة التي وضعت الاسس النظرية لخدمة السلطة التنفيذية.
(6)
صعود فائق زيدان والسيطرة على مفاصل القوة
ولد فائق زيدان في بغداد عام 1967 وبدا مسيرته القضائية في ظروف استثنائية حيث تخرج من كلية القانون عام 1991 وعمل محاميا قبل الانتقال للسلك القضائي اواخر التسعينيات. برز زيدان كوجه حظي بدعم مباشر من مدحت المحمود وعين قاضيا في محكمة التحقيق المركزية المختصة بالقضايا الامنية والسياسية الكبرى. يوصف صعود زيدان بانه قفزة غير مسبوقة حيث نال الصنف الاول عام 2011 ليعين بعد تسعة اشهر فقط عضوا في محكمة التمييز وهو امر يتطلب عادة سنوات طويلة من الخدمة. يعزو مراقبون هذا الصعود الى قدرته على بناء شبكة علاقات مع القيادات السياسية والامنية الموالية لطهران. في عام 2017 اصبح زيدان رئيسا لمحكمة التمييز ورئيسا لمجلس القضاء الاعلى لتبدا مرحلة مركزة السلطة القضائية بالكامل. وتحت قيادته تم تمرير تعديلات قانونية عام 2021 ادت الى احالة منافسه مدحت المحمود للتقاعد الاجباري عبر تحديد سن 72 عاما كحد اقصى مما مكن زيدان من الانفراد بالمشهد والسيطرة على ترشيح اعضاء المحكمة الاتحادية العليا وضمان ولائهم التام.
(7)
الهندسة القضائية وخدمة الاجندة الايرانية
تتجلى خدمة الاجندة الايرانية في ممارسات زيدان من خلال استخدام المنصة القضائية لاجهاض اي مشروع يهدف لتقليص نفوذ طهران. بعد انتخابات 2021 اصدرت المحكمة الاتحادية قرارا يقضي بوجوب حضور ثلثي اعضاء البرلمان لانتخاب رئيس الجمهورية وهو ما منح الاطار التنسيقي ما عرف بالثلث المعطل مما سمح له بابتزاز الاغلبية الوطنية واجبارها على الانسحاب. كما اصدرت المحكمة حكما بعدم دستورية قانون النفط والغاز لاقليم كردستان في ذروة الصراع السياسي كاداة ضغط اقتصادية لفك تحالف القوى الكردية مع التيار الصدري. وامتدت القرارات لتشمل ابطال اتفاقية خور عبدالله مع الكويت لخدمة المصالح الايرانية (وليس لخدمة مصالح العراق, وقد قام زيدان بالاستهانة بقرار المحكمة الاتحادية واعتبره لغو قضائي!- وهو لامسؤولية له على المحكمة الاتحادية, وقد جرى احالة رئيس المحكمة العميري الى التقاعد! وتم تنفيذ الامر بسرعة) في نزاعات الطاقة البحرية واصدار قرار بانهاء عضوية رئيس البرلمان محمد الحلبوسي لاعادة ترتيب البيت السياسي السني تحت مظلة القوى الموالية لطهران, وقد عاد الحلبوسي الان للبرلمان!. ان هذه الهندسة القضائية حولت المؤسسة الى مصد استراتيجي يحمي النفوذ الايراني من اي متغيرات انتخابية او سياسية وطنية.
(8)
حصانة الميليشيات وقمع المعارضة
ترتبط رئاسة زيدان بعلاقة عضوية مع قيادات الحشد الشعبي حيث صرح علنا بان قاسم سليماني وابو مهدي المهندس هما من حميا القضاء من المتظاهرين. وان المهندس هو اخ له لم تلده امه, هذا الاعتراف انعكس في سلسلة اجراءات ضمنت الافلات من العقاب لعناصر الفصائل المتهمة بجرائم كبرى مثل قضية اغتيال الباحث هشام الهاشمي. فرغم اعتقال المنفذ احمد الكناني وبث اعترافاته قامت محكمة التمييز برئاسة زيدان بنقض حكم الاعدام بحق الكناني عام 2024 وتبرئته لاحقا بدعوى عدم شرعية اللجنة التحقيقية ليتم تهريبه خارج العراق بحماية امنية. وبالمقابل يظهر القضاء حزما مفرطا تجاه الناشطين والمتظاهرين السلميين حيث رفض توجيه اتهامات لقيادات فصائلية بخصوص مقتل وجرح وتعويق عشرات الاف المتظاهرين في ثورة اكتوبر 2019 بدعوى عدم كفاية الادلة بينما استخدمت قوانين الاهانة والنشر لملاحقة كل من انتقد نفوذ زيدان او الميليشيات او شياع السوداني.
(9)
فضيحة الشهادات اللبنانية والشكوك الاكاديمية
طالت فائق زيدان انتقادات بشان مؤهلاته العلمية حيث حصل على الماجستير والدكتوراه من الجامعة الاسلامية في لبنان التابعة لمحور ايران. ارتبط اسم هذه الجامعة بفضيحة كبرى عام 2021 تتعلق ببيع نحو 27 الف شهادة عليا لعراقيين معظمهم من المسؤولين والسياسيين التابعين للقوى الموالية لايران. تشير التقارير الى ان الحصول على هذه الشهادات كان يتم عبر مكاتب وساطة دون حضور فعلي او رصانة اكاديمية. ورغم محاولات الدفاع عن اطروحة زيدان الا ان تزامن حصوله عليها مع صعوده السياسي السريع وانتماء الجامعة لمحور سياسي محدد عزز الانطباع بان هذه الدرجات كانت جزءا من عملية تلميع اكاديمي لشخصية قادمة لقيادة القضاء وتامين المصالح المشتركة للمحور.
(10)
المواجهة الدولية وتصنيف زيدان كأصل ايراني
في حزيران 2024 تقدم عضو الكونغرس الامريكي مايك والتز بتعديل تشريعي لتصنيف مجلس القضاء الاعلى ورئيسه فائق زيدان كاصول خاضعة للسيطرة الايرانية. استند هذا التحرك الى قناعة بان زيدان هو العقل القانوني الذي يشرعن الوجود الايراني ويحمي الفصائل المصنفة ارهابيا. كشفت ردود الفعل المحلية عن عمق التحالف حيث اصدرت فصائل كتائب حزب الله وعصائب اهل الحق بيانات تدافع عن زيدان وتعتبر المساس به خطا احمر. كما ادانت وزارة الخارجية والبرلمان العراقي المقترح الامريكي مما يؤكد ان زيدان يتمتع بحصانة سياسية مطلقة توفرها له القوى التي يخدمها بقراراته القضائية التي حولت العراق الى ما يشبه الدولة التابعة للاجندة الايرانية.
(11)
استنتاجات حول واقع القضاء العراقي:
1 القضاء العراقي تحول الى اداة فعالة لتنفيذ الاستراتيجيات الايرانية تحت غطاء الدستور وتفسيراته.
2 غياب مبدأ الفصل بين السلطات نتيجة سيطرة شخص واحد على مفاصل الادارة والرقابة القضائية.
3 تكريس ثقافة الافلات من العقاب للعناصر المسلحة الموالية للخارج مقابل قمع الاصوات المعارضة.
4 تعرض العراق لمخاطر العزلة الدولية نتيجة تصنيف اعلى سلطة قضائية كاداة نفوذ لدولة اجنبية.
ان المنظومة القضائية تحتاج الى اصلاح جذري يبدا من فك الارتباط بين التعيينات القضائية والولاءات السياسية الاجنبية.
(12)
المصادر
1. - المجلة - فائق زيدان ودوره في مجلس القضاء العراقي - 1 تموز 2023
فائق زيدان ودوره في مجلس القضاء العراقي | مجلة المجلة
https://www.majalla.com/node/320196/%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D8%A9/%D9%81%D8%A7%D8%A6%D9%82-%D8%B2%D9%8A%D8%AF%D8%A7%D9%86-%D9%88%D8%AF%D9%88%D8%B1%D9%87-%D9%81%D9%8A-%D9%85%D8%AC%D9%84%D8%B3-%D8%A7%D9%84%D9%82%D8%B6%D8%A7%D8%A1-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%A7%D9%82%D9%8A
2. كامل منشد - القضاء العراقي.. سيرة محاكم تغرق أقدامها في وحل السياسة
https://jummar.media/8091
3. امير الكعبي - معهد واشنطن - اربع جماعات ارهابية مصنفة من قبل الولايات المتحدة تهرع لدعم القاضي فائق زيدان - 1 تموز 2024
https://www.washingtoninstitute.org/policy-analysis/four-us-designated-terrorist-groups-rush-support-judge-faeq-zaidan
4. معهد واشنطن - قاتل هشام الهاشمي يفلت من العدالة - 22 اذار 2024
https://www.washingtoninstitute.org/ar/policy-analysis/qatl-hsham-alhashmy-yflt-mn-aldalt
5. الجزيرة نت - محكمة التمييز العراقية تلغي حكم الاعدام بحق قاتل الباحث هشام الهاشمي - 10 اب 2023
https://www.aljazeera.net/news/2023/8/10/%D9%85%D8%AD%D9%83%D9%85%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D9%85%D9%8A%D9%8A%D8%B2-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%A7%D9%82%D9%8A%D8%A9-%D8%AA%D9%84%D8%BA%D9%8A-%D8%AD%D9%83%D9%85
6. بي بي سي مونيترينج - العراق يدين التحرك الامريكي لتصنيف رئيس القضاء كعميل ايراني - 30 حزيران 2024
https://monitoring.bbc.co.uk/product/b0001x3i
7. كوردستان 24 - القاضي فائق زيدان اتفاقية خور عبدالله شرعية وملزمة - 2024
https://www.kurdistan24.net/ar/story/853460
8. 964 ميديا - سياسي عراقي يقلل من اهمية الجهود الامريكية ضد القضاء - 1 تموز 2024
https://en.964media.com/21674//?amp=1
9. نيريج - القضاء العراقي سيرة محاكم تغرق اقدامها - 4 نيسان 2025
https://nirij.org/2025/04/04/%D8%A7%D9%84%D9%82%D8%B6%D8%A7%D8%A1-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%A7%D9%82%D9%8A-%D8%B3%D9%8A%D8%B1%D8%A9-%D9%85%D8%AD%D8%A7%D9%83%D9%85-%D8%AA%D8%BA%D8%B1%D9%82-%D8%A3%D9%82%D8%AF%D8%A7%D9%85%D9%87
10. المالكي أمام القضاء في قضية التسجيل المسرب: "ربع ساعة تحقيق وكفالة شخصية!"- 13 تشرين الثاني 2022
https://jummar.media/2405
11. الشرق الاوسط - القضاء العراقي يتحدث عن صدور احكام ضد قتلة المتظاهرين - 9 تموز 2021
https://aawsat.com/home/article/3070301/%D8%A7%D9%84%D9%82%D8%B6%D8%A7%D8%A1-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%A7%D9%82%D9%8A-%D9%8A%D8%AA%D8%AD%D8%AF%D8%AB-%D8%B9%D9%86-%D8%B5%D8%AF%D9%88%D8%B1-%D8%A3%D8%AD%D9%83%D8%A7%D9%85-%D8%B6%D8%AF-%C2%AB%D9%82%D8%AA%D9%84%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AA%D8%B8%D8%A7%D9%87%D8%B1%D9%8A%D9%86%C2%BB-%D8%AA%D8%B4%D9%85%D9%84-%D8%B6%D8%A8%D8%A7%D8%B7%D8%A7%D9%8B
12. ويكيبيديا - فائق زيدان - 2024
https://ar.wikipedia.org/wiki/%D9%81%D8%A7%D8%A6%D9%82_%D8%B2%D9%8A%D8%AF%D8%A7%D9%86
13. معهد واشنطن - فهم قرارات المحكمة العليا المسيسة في العراق - 2024
https://www.washingtoninstitute.org/policy-analysis/making-sense-iraqs-politicized-supreme-court-rulings
14. القضاء العراقي يدرس إقالة 73 نائباً معارضاً للصدر لإقناعه بالتهدئة ووقف الاعتصامات- 7 اب 2022
https://www.aljarida.com/articles/1659896063793155400
#مكسيم_العراقي (هاشتاغ)
Maxim_Al-iraqi#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟