أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - عادل محمود - فصل الشتاء .. حين يقول الجسد ما تخفيه السياسة















المزيد.....

فصل الشتاء .. حين يقول الجسد ما تخفيه السياسة


عادل محمود
محامِ مصري

(Adel Mahmoud)


الحوار المتمدن-العدد: 8564 - 2025 / 12 / 22 - 09:10
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


الشتاء لا يأتي كضيف لطيف يبتسم ثم يغادر. الشتاء يدخل كزائر لا يعرف الحدود، يمد أصابعه الباردة عبر الأبواب والشرفات، يتسلل إلى العظام قبل أن يصل إلى القلب. منذ صغري، كنت أستشعر هذا البرد مثل إشعاع خفي يفتش في أعماق الجسد، ينقر على العظام، يوقظ الحواس، ويجعل كل شيء حولك يتباطأ، وكأن المدينة كلها تأخذ نفسا عميقا قبل أن تئن من البرد.

في الخيال الشعبي، يصور الشتاء كفصل الهدوء والرومانسية، موسم البطاطين الثقيلة والأغاني الحزينة الجميلة. بالنسبة لي، هذا وهم يزينه الشعراء، بينما الواقع يقول شيئا آخر: الشتاء اختبار للجسد، تجربة للحواس، و كاشف للبنية الاجتماعية، يمتد ليظهر الفوارق الطبقية والصحية والاقتصادية بلا رتوش.

أذكر أياما كنت أجلس قرب النافذة، أراقب المطر وهو يطرق الزجاج، كل قطرة تصنع صوتا يشبه كتابا يقرأه الآخرون بصمت. أستشعر البرد ينزل في قدمي، يرتد صدى في خاصرتي، ثم يتحرك نحو العمود الفقري، وكأنه يختبر صلابة جسدي. كنت أشعر أن الشتاء ليس مجرد حالة جوية، بل حالة وجودية.

الشتاء يجعلني أستعيد أسئلة بسيطة ولكنها عميقة: كيف أتحرك في العالم؟ ما الذي أملكه ليحميني؟ وما الذي يفتقده الآخرون؟ أرى المباني القديمة التي لم تعزل حراريا، أرى البيوت الصغيرة التي تتسرب منها الرياح، أرى الأطفال المرتجفين، أرى الكبار الذين يصرخون ضد البرد بصمتهم. البرد هنا لا يحتاج إلى كلمات، فهو صامت أكثر من أي تقرير حكومي أو تصريح رسمي، لكنه أصدق بكثير.

في كل عام، تتكرر نفس المشاهد، لكنها لا تتكرر بنفس الإحساس. في المدينة، أرى الشوارع وهي تغرق بالمياه، المصارف التي تفشل في تصريف الأمطار، العواصف الصغيرة التي تحول الحياة اليومية إلى معركة من أجل الوصول إلى العمل أو المدرسة. كل هذا يجعل الشتاء اختبارا للمدينة نفسها: هل بنيت بما يكفي لتقاوم؟ هل فكرنا في الناس قبل الحجر؟

أحيانا، أشعر أن البرد يفضح الجميع: الأغنياء يظلون دافئين داخل منازلهم المزودة بكل وسائل التدفئة، بينما يعيش الفقراء في انتظار دفء قد لا يأتي إلا مع حلول الربيع. أسمع من حولي عن مشكلات أغطية غير كافية لتدفئة الفراش، عن سيارات ترفض العمل في الصقيع. أرى التفاوتات الاجتماعية أمام عيني، وكل موجة برد جديدة تشبه عدسة مكبرة تظهر هشاشة السياسة العامة وغياب العدالة الاجتماعية.

الشتاء رغم قسوته، له موسيقاه الخاصة. صوت المطر على النوافذ، صفير الريح في الأزقة، ارتعاشة اليدين حول كوب شاي، رائحة المطر العالقة في الهواء، كل هذا يشكل لحظة من التأمل. في بيت دافئ، تتحول هذه الأصوات إلى أنشودة حنين وطمأنينة، في بيت بارد تتحول إلى نشيد قلق، يعكس الحالة الاقتصادية والاجتماعية أكثر من الطقس نفسه.

أحيانا أكتب خواطري، وألاحظ أن الشتاء يجعلني أقرأ العالم ببطء، أرى التفاصيل الصغيرة التي تتوارى خلف سخونة الصيف أو ضجيج الحياة اليومية. إن البرد يجعلني متأملا في تفاصيل لا ألاحظها عادة: وجوه الجيران التي تتغير مع كل موجة صقيع، وحتى مشاعر العزلة التي يخلقها الشتاء في النفوس.

في الريف يصبح الشتاء موسما للعزلة. الطرق الطينية تتحول إلى مستنقعات، تقطع الصلة بالمدن، خدمات صحية بعيدة، وتدفئة بدائية تعتمد على الحطب أو المخلفات الزراعية، بما يحمله ذلك من مخاطر صحية. أستطيع أن أتخيل نفسي هناك، أسير في الطين، أتنقل بين البيوت، أشعر بكل لحظة برد وكأنها تنقش على جسدي. هذه تجربة شخصية في التخيل، لكنها واقعية في تقارير البنك الدولي وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، الذي يوضح أن ارتفاع أسعار الطاقة في مواسم البرد يضاعف أعباء الأسر منخفضة الدخل، ويحول التدفئة من حق إنساني إلى رفاهية طبقية.

في المدن الكبرى، المشهد لا يقل قسوة: أمطار تكشف هشاشة الصرف الصحي، الشوارع تغرق، حركة العمل تتوقف، بينما تظل الأحياء الثرية نظيفة، وكأن المدينة كلها مسرح لتجربة البرد على أوجاع محددة. أرى كل هذه المشاهد، وأشعر بغصة في الصدر، لأن الشتاء لا يرحم الهشاشة، ويكشف ما تجاهلناه طوال العام.

الشتاء يجعلنا ندرك أن السياسة ليست مجرد أرقام على ورق أو بيانات رسمية، بل قرارات تترجم فورا إلى إحساس بالبرد أو الدفء. رفع الدعم أو تسعير الطاقة أو تأجيل مشاريع الإسكان يصبح تجربة حسية، يتحسسها الجسم قبل العقل. الشتاء يضع القرارات الاقتصادية أمام اختبار أخلاقي: هل تراعي توقيتات التطبيق؟ هل تحمي الفئات الهشة في مواسم القسوة؟

أحيانا أستيقظ في الصباح على أصوات الرياح، وأفكر في: كم من طفل سيتأثر اليوم بالبرد؟ كم من أسرة ستجد نفسها بين دفء محدود وفاتورة مرتفعة؟ وأدرك أن الشتاء ليس فصلا طبيعيا فقط، لكنه اختبار لمستوى التضامن في المجتمع، ومدى جدية العقد الاجتماعي بين الدولة والمواطن.

أنا لا أحب الشتاء، ليس فقط بسبب المطر أو الريح أو الصقيع، بل لأنه يجعلني أواجه نفسي: ضعفي، قلق جسدي، مخاوفي. لكنه يجعلني أيضا أرى العالم من زاوية مختلفة، ألاحظ التفاصيل المهملة، أشعر بالارتباط مع الآخرين الذين يواجهون نفس البرد، سواء في حينا أو في قرى بعيدة. البرد يصبح تجربة فلسفية: كيف نصنع الدفء، وكيف نعيد ترتيب الأولويات، وكيف نحمي من لا صوت لهم؟

في كل مرة أواجه فيها الشتاء، ألاحظ فرقا غريبا بين البيوت: بعضها مليء بالدفء والضحك، وبعضها صامت، يرتجف. وأتساءل: هل نستحق الشتاء؟ هل صنعنا المجتمع الذي نريد أن نعيش فيه عندما تأتي العواصف؟

الشتاء يجعلني أكتب. يجعلني أضع في الكلمات تجربة حسية، خليطا من شعور جسدي وفكر متأمل. أكتب عن المطر والريح، عن الطرق الطينية والشوارع الغارقة، عن الأطفال المرتجفين، عن المدن والقرى، عن البنى الاجتماعية والسياسية التي تتكشف بلا رتوش. الكتابة تصبح طريقة لفهم البرد، لتحويل الألم الصامت إلى شئ يمكن التعبير عنه، للتركيز على ما يجب تغييره، وليس مجرد الشكوى من الطقس.

الشتاء ليس فصلا للصفاء والرومانسية وحدها. إنه اختبار متكرر للجسد والعقل والروح، ويضع ما أهملناه من حقوق وواجبات أمامنا دفعة واحدة، إذا فهمناه بهذه الطريقة، يمكننا الدخول إليه ونحن أكثر استعدادا، بعقل بارد وقلب دافئ مع استعداد أفضل، وربما القدرة على الاحتمال، وربما قليلا، القدرة على الاستمتاع به.

الشتاء يجعلني أتأمل في الأثر الجماعي للحرمان والدفء، ويجعلني أعيد تعريف العلاقة بين الإنسان والمدينة والسياسة والمجتمع. إنه فصل للمواجهة، فصل للتأمل، فصل لتسجيل ما يمر به الجسد، وما يختبره القلب. وهكذا يصبح البرد ليس مجرد حالة جوية، بل تجربة حياة كاملة، تجعلنا نعيد النظر في أنفسنا وفي العالم من حولنا.






ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- دراما رمضان … محظورات تكتب السيناريو قبل المبدعين
- فيلم -الست- … علي صفيح ساخن
- جورجيا ميلوني .. امرأة هزت عرش أوروبا
- -مستقبل الثقافة في مصر- ..بين أسطورة التنوير وأزمة النهضة ال ...
- متى تشعر الأنظمة الديكتاتورية بالقلق؟ .. الصراع الداخلي على ...
- التأشيرة والثورة .. جوستافو بيترو يهز عرش الإمبراطورية
- -ورقة جمعية- ...الأمهات اللواتي يصنعن العالم ثم يغيبن في صمت
- -ولاد الشمس- ... محمود حميدة وموسيقى الشر السيمفوني
- -قهوة المحطة- .. تراجيديا معاصرة في فضاء القهوة المظلم
- -6 أيام- .. سينما العاشق المتأخر
- عروستي .. حين يتوه الإبداع في متاهات الترفيه السهل
- فوز ممداني .. انعطافة سياسية في عاصمة المال الأمريكي
- مؤتمرا شرم الشيخ : سلام حقيقي أم حلقة مفرغة ؟ قراءة في استمر ...
- ن أجل زيكو : حين يضحكك الفقر وتخفى الحقيقة
- الأسرة في مرآة الشاشة ... من حلم جماعي إلى عزلة وجودية ، قرا ...
- العبودية المختارة .. الكتاب الذي هز عرش الطغاة
- قراءة في كتاب -الثورة المضادة في مصر
- العلاقة الاردنية السورية والقلق المشترك
- حوار مع الشاعر والكاتب المسرحي مهدى بندق
- الحضارة الشرقية غنية بأشكال ما قبل المسرح


المزيد.....




- قفزة قياسية بتحويلات المصريين بالخارج -لكنها وحدها لا تكفي- ...
- مقتل مراهق بالضفة الغربية برصاص إسرائيلي من مسافة قريبة.. هذ ...
- أم مصرية تعرض أطفالها الأربعة للبيع .. ما القصة؟
- قبل موعد الحسم.. غارة إسرائيلية تشعل التوتر في الجنوب اللبنا ...
- غزة: عمليات الجيش الإسرائيلي مستمرة وسط أوضاع انسانية صعبة و ...
- العراق: انقسامات حادة بين فصائل الحشد الشعبي بشأن حصر السلاح ...
- ما سبب الخلافات بين فصائل الحشد الشعبي حول تسليم السلاح من ع ...
- الدانمارك تقرر استدعاء السفير الأمريكي في كوبنهاغن بعد تعيين ...
- خلال زيارته إلى الإمارات.. ماكرون يعلن موافقته على بناء حامل ...
- بطريرك القدس يترأس قداس عيد الميلاد في غزة


المزيد.....

- العقل العربي بين النهضة والردة قراءة ابستمولوجية في مأزق الو ... / حسام الدين فياض
- قصة الإنسان العراقي.. محاولة لفهم الشخصية العراقية في ضوء مف ... / محمد اسماعيل السراي
- تقديم وتلخيص كتاب " نقد العقل الجدلي" تأليف المفكر الماركسي ... / غازي الصوراني
- من تاريخ الفلسفة العربية - الإسلامية / غازي الصوراني
- الصورة النمطية لخصائص العنف في الشخصية العراقية: دراسة تتبعي ... / فارس كمال نظمي
- الآثار العامة للبطالة / حيدر جواد السهلاني
- سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي / محمود محمد رياض عبدالعال
- -تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو ... / ياسين احمادون وفاطمة البكاري
- المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة / حسنين آل دايخ
- حوار مع صديقي الشات (ج ب ت) / أحمد التاوتي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - عادل محمود - فصل الشتاء .. حين يقول الجسد ما تخفيه السياسة