أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - حقوق المراة ومساواتها الكاملة في كافة المجالات - عماد حسب الرسول الطيب - 9. شبكات المقاومة اليومية – من المطابخ الجماعية إلى المجالس الشعبية في المخيمات















المزيد.....

9. شبكات المقاومة اليومية – من المطابخ الجماعية إلى المجالس الشعبية في المخيمات


عماد حسب الرسول الطيب
(Imad H. El Tayeb)


الحوار المتمدن-العدد: 8562 - 2025 / 12 / 20 - 13:18
المحور: حقوق المراة ومساواتها الكاملة في كافة المجالات
    


تتحول الحياة اليومية في مخيمات النزوح السودانية من مجرد بقاء إلى حقل مقاومة طبقي، حيث تُعيد النساء بناء التضامن الاجتماعي وتنظيم الحياة الجماعية كرد فعل مباشر على اقتصاد الحرب. تتخذ هذه المقاومة شكل إعادة إنتاج العلاقات الاجتماعية خارج منطق السوق الأسود والعنف الميليشياوي. المطابخ الجماعية، وورش تعليم الأطفال، وشبكات جمع المياه، والتناوب على حراسة المخيم – كلها ممارسات يومية تحمل في طياتها بذور سلطة مضادة تنمو من تحت الأنقاض، وتُشكّل نواة لمجالس شعبية تدير شؤون الناس بعيداً عن هيمنة الميليشيات. يتناول هذا المقال تشكّل شبكات الصمود العضوية بوصفها استجابة طبقية مباشرة لانهيار الدولة وتحول الحرب إلى نمط إنتاج كامل، حيث لا تظهر هذه الشبكات كعمل خيري أو تضامن أخلاقي مجرد، بل كبنية اجتماعية ناشئة من قلب الضرورة المادية.

لا تنشأ هذه الشبكات من فراغ، بل هي استمرارية طبقية للمقاومة التي بدأت في الانتفاضة الشعبية 2018-2019. فكما نظّمت النساء في الأحياء الشعبية لجان مقاومة لإسقاط النظام الديكتاتوري، ينظمن اليوم في المخيمات شبكات إعالة وتضامن لمواجهة نظام الحرب الطفيلي. تنبثق المطابخ الجماعية، لجان المياه، شبكات الرعاية الصحية البديلة، وتنظيمات السكن المشترك داخل المخيمات والأحياء المحاصرة، بوصفها آليات لإعادة إنتاج الحياة خارج منطق السوق والدولة الميليشياوية. لا تبدأ هذه الشبكات من وعي أيديولوجي جاهز، بل من الحاجة اليومية للبقاء، لكنها سرعان ما تتحول إلى ممارسة سياسية لأن تنظيم البقاء ذاته يصبح فعلاً مضاداً لاقتصاد الحرب.

تتجلى هذه المقاومة أولاً في تحويل العمل المنزلي غير المأجور من أداة استغلال إلى أداة تحرر. فالمطبخ الجماعي، حيث تطبخ عدة عائلات معاً وتتقاسم الطعام، ليس مجرد حل لأزمة الغذاء، بل هو إضراب عملي ضد منطق السوق الأسود الذي يجعل الطعام سلعة للابتزاز. تعمل شبكات الصمود على تعطيل إحدى أهم وظائف الحرب، وهي تفكيك الروابط الاجتماعية وتحويل الأفراد إلى وحدات معزولة سهلة السيطرة. فاقتصاد الحرب لا يعيش فقط على السلاح، بل على العزلة، والخوف، وانهيار الثقة، وتحويل الجوع إلى علاقة فردية مع المانح أو التاجر. حين تنشئ النساء مطابخ جماعية، أو تنظّم الأسر توزيع الغذاء والمياه، فإنهن يكسرن منطق السوق الذي يريد تحويل الجوع إلى سلعة، ويعدن إنتاج التضامن كقوة مادية.

يتوسع هذا النموذج ليشمل مجالات أخرى. ففي مخيمات دارفور، تنظم النساء مدارس ظل للأطفال بعد تدمير المدارس الرسمية، حيث تعلّم بعضهن البعض القراءة والكتابة بمبادرات ذاتية. في مخيمات شرق السودان، تُنشأ عيادات شعبية تعتمد على الخبرات المحلية والأعشاب الطبية بعد انهيار النظام الصحي. في الخرطوم، تُنظم شبكات إنذار مبكر للتحذير من هجمات الميليشيات. كل هذه المبادرات هي أشكال للحكم الذاتي تنمو في الفراغ الذي تركه انهيار الدولة، وتثبت أن المجتمع قادر على تنظيم نفسه دون حاجة إلى أجهزة القمع الرسمية. يرتبط هذا مباشرة بما جرى تحليله في المقال الثاني حول المخيمات كمعسكرات عمل. فالمخيم، الذي صُمم ليكون فضاءً لإدارة الفقر وإعادة إنتاج قوة عمل مطيعة، يصبح عبر شبكات الصمود فضاءً لإعادة تعريف العلاقات الاجتماعية.

تتحول هذه الشبكات تدريجياً إلى مجالس شعبية تُقرر شؤون المخيم بشكل جماعي. ففي مخيم "السلام" في كسلا، تجتمع النساء أسبوعياً لتوزيع المساعدات (إن وجدت) وتنظيم النظافة وفض النزاعات المحلية. تمثل هذه المجالس سلطات موازية تنبثق من القاعدة، وتتحدى شرعية الميليشيات والحكومة على حد سواء. قراراتها تُتخذ عبر التشاور، وتنفذ عبر التطوع، وتُفرض عبر الضغط الاجتماعي لا عبر القوة المسلحة. هذا النموذج يُعيد إنتاج تقليد "الجمعيات الأهلية" السودانية لكن في سياق ثوري، حيث تصبح الديمقراطية المباشرة وسيلة بقاء وليس مجرد مطلب سياسي. تتجاوز هذه الشبكات الطابع العفوي لتأخذ شكلاً تنظيمياً متدرجاً. ففي كثير من المخيمات، تتحول لجان الغذاء إلى لجان إدارة، ثم إلى نوى مجالس شعبية مصغّرة تُنظم السكن، تحل النزاعات، وتدير العلاقة مع المنظمات الإنسانية.

ترتبط هذه المقاومة اليومية عضوياً بالمقاومة السياسية الأوسع. فكثير من المنظمات في هذه المجالس هن نفس اللواتي كنّ ناشطات في لجان المقاومة خلال الثورة، أو قريبات من تجمعات شهداء ومفقودي الثورة. خبرتهن في التنظيم الحضري تنتقل إلى المخيمات، ووعيهن الطبقي يتعمق عبر المعاناة اليومية. وهكذا تتحول المخيمات من مناطق طرد سياسي (حيث يُفترض أن ينشغل الناس بالبقاء فقط) إلى مراكز إعادة تنظيم سياسي، حيث تُبنى القوى الثورية من جديد في ظروف أكثر صعوبة لكن أيضاً أكثر وضوحاً للصراع الطبقي. تظهر الأهمية الطبقية لهذه الشبكات في كونها تُنتج وعياً جديداً من داخل الممارسة. فالنساء اللواتي ينظمن الغذاء والدواء والتعليم الطوعي، يكتشفن عملياً أن غياب الخدمات ليس قدراً، وأن الدولة ليست غائبة بل منسحبة لصالح اقتصاد النهب.

تواجه هذه الشبكات تحديات جسيمة: قمع الميليشيات الذي يستهدف أي شكل من التنظيم المستقل، نقص الموارد الذي يجعل المشاريع الجماعية هشة، الانقسامات العرقية والإقليمية التي تحاول الميليشيات تعميقها. هذه التحولات لا تحدث دون صراع، لأن المنظمات الدولية والدولة الميليشياوية معاً تفضل التعامل مع أفراد لا مع تنظيمات جماعية. لذلك تُحارب هذه الشبكات عبر التجفيف المالي، أو عبر استيعابها في مشاريع قصيرة الأمد، أو عبر تخويف قياداتها، خصوصاً النساء، باتهامات “التسييس” و“الإخلال بالأمن”. تكتسب شبكات الصمود طابعاً نسوياً طبقياً لأن النساء يشكّلن عمودها الفقري. ليس لأن النساء “أكثر تضحية”، بل لأن النظام الرأسمالي العسكري حمّلهن تاريخياً عبء إعادة الإنتاج الاجتماعي. ما تفعله النساء في هذه الشبكات هو تحويل هذا العبء إلى قوة.

لكن استمرارها رغم كل هذا هو دليل على حيوية الطبقة العاملة والفلاحين حتى في أحلك الظروف. تصطدم هذه الشبكات مباشرة باقتصاد الحرب لأنها تقلل من اعتمادية الفقراء على السوق الأسود وعلى الإغاثة المشروطة. كل وجبة جماعية تُنتج خارج السوق، وكل تعاونية صغيرة تُدار ذاتياً، هي اقتطاع مباشر من فائض القيمة الذي تعيش عليه الميليشيات والسماسرة. لهذا تُستهدف هذه المبادرات بالقمع أو الاحتواء، لأنها تكشف إمكانية العيش والتنظيم خارج منطق النهب، وتفتح أفقاً مادياً لفكرة السلطة الشعبية. كما كتبت روزا لوكسمبورغ: "في اللحظة التي تنهار فيها المؤسسات القديمة، تظهر قدرة الجماهير على الإبداع الاجتماعي". في مخيمات السودان، تُترجم هذه القدرة إلى مطابخ جماعية ومدارس شعبية ومجالس قرار – كلها خطوات أولى نحو سلطة بديلة تنمو من الأسفل.

شبكات الصمود ليست مرحلة مؤقتة في زمن الكارثة، بل هي نواة بديلة لمجتمع جديد. فهي تُعيد تعريف السياسة من الأسفل، وتربط البقاء بالمقاومة، وتحوّل الجسد المنهك إلى فاعل جماعي. المهمة الآن هي ربط هذه الشبكات المتناثرة، وتعميم تجاربها، وتحويلها من مبادرات بقاء إلى برنامج تحرري واضح. فكما تبدأ المقاومة من المطبخ الجماعي، يجب أن تنتهي إلى إسقاط اقتصاد الحرب وإعادة بناء الدولة على أساس السلطة الشعبية. الثورة لا تنتظر انتهاء الحرب، بل تُبنى في قلبها، وجبة تلو الأخرى، درساً تلو الآخر، قراراً شعبياً تلو الآخر. كما كتب أنطونيو غرامشي: «الأزمة تكمن في أن القديم يحتضر، والجديد لا يستطيع أن يولد، وفي هذا الفراغ تظهر أشكال مرضية كثيرة». شبكات المقاومة اليومية هي محاولة ولادة الجديد من تحت الأنقاض، من قلب الجوع والخوف، ومن عمل النساء اليومي الذي يتحول إلى سياسة.

النضال مستمر،،



#عماد_حسب_الرسول_الطيب (هاشتاغ)       Imad_H._El_Tayeb#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- 8. الإعلام الدولي والصور النمطية – تحويل المعاناة إلى سلعة إ ...
- 7. الدين كأفيون جديد – توظيف الخطاب الديني لتبرير اقتصاد الح ...
- 6. النسوية البرجوازية – تمثيل الزائفات ونسيان الطبقة في خطاب ...
- 5. ايديولوجيا النيوليبرالية والجسد: تبرير القمع البنيوي في س ...
- 4. فائض القيمة القذر – اقتصاد الجسد ومعسكرات العمل في منظومة ...
- 3. النسيان كإعادة إنتاج: الأسرة بوصفها موقع استغلال طبقي وال ...
- 2. المخيمات كآلة طبقية: إعادة تشكيل البروليتاريا المقهورة في ...
- خرائط القهر: العنف البنيوي ضد المرأة في الاقتصاد السياسي للح ...
- 10. الآفاق الطبقية ومعنى الانتصار — من الإصلاح إلى التغيير ا ...
- 9. دينامية الشارع كرافعة تاريخية — صناعة الزمن الثوري
- ٨. معارك السياسات الملموسة: اختبار الصراع الطبقي في ال ...
- 7. التناقض داخل التحالف التقدمي: بين إدارة النظام وتفكيكه
- 6. الشارع العمالي مقابل برجوازية العقار - معركة الحيازة والو ...
- ٥. السلطة المحلية كجهاز طبقي – تشريح دولة البلدية
- 4. الزمن السياسي: ساعة الرمل الانتخابية
- 3. حدود الانتصار الرمزي: فوز ممداني بين احتواء الدولة وإمكان ...
- 2. دكتاتورية المؤسسات: عمدة نيويورك في خدمة رأس المال
- ممداني وعوائق التحوّل في نيويورك: جدل الممكن والمستحيل
- 6. إمكانيات وتحديات نموذج المقاطعة الشاملة في مشروع التغيير
- 5. الديالكتيك الثوري: التفاعل الجدلي بين تفكيك القديم وبناء ...


المزيد.....




- -لا أتشبّه بالكفار-.. فيديو لطالبات قاصرات حول الاحتفال بعي ...
- أين انتهى المطاف بسليل الأسرة العثمانية، وكيف يُنظر إليه في ...
- صحافي روسي يطلب الزواج من صديقته خلال المؤتمر الصحافي لبوتين ...
- محاكمة هزت ألمانيا.. رجل يُدان بتخدير واغتصاب زوجته وتصويرها ...
- عمل النساء من المنزل راحة أم عزلة؟
- الرجال أم النساء.. من يواجه صعوبة أكبر في التعافي بعد السكتة ...
- سوريا: وزارة العدل تمنع وصاية الأم على أبنائها/بناتها!
- القبض على زوج اعتدى على زوجته بآلة حادة في الفيوم
- هيفاء وهبي.. إطلالة المرأة الخارقة باللون الأحمر في كليبها ا ...
- الأمم المتحدة: مقتل 1000مدني/ة في مخيم “زمزم” على يد”الدعم ا ...


المزيد.....

- الحقو ق و المساواة و تمكين النساء و الفتيات في العرا ق / نادية محمود
- المرأة والفلسفة.. هل منعت المجتمعات الذكورية عبر تاريخها الن ... / رسلان جادالله عامر
- كتاب تطور المرأة السودانية وخصوصيتها / تاج السر عثمان
- كراهية النساء من الجذور إلى المواجهة: استكشاف شامل للسياقات، ... / خليل إبراهيم كاظم الحمداني
- الطابع الطبقي لمسألة المرأة وتطورها. مسؤولية الاحزاب الشيوعي ... / الحزب الشيوعي اليوناني
- الحركة النسوية الإسلامية: المناهج والتحديات / ريتا فرج
- واقع المرأة في إفريقيا جنوب الصحراء / ابراهيم محمد جبريل
- الساحرات، القابلات والممرضات: تاريخ المعالِجات / بربارة أيرينريش
- المرأة الإفريقية والآسيوية وتحديات العصر الرقمي / ابراهيم محمد جبريل
- بعد عقدين من التغيير.. المرأة أسيرة السلطة ألذكورية / حنان سالم


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - حقوق المراة ومساواتها الكاملة في كافة المجالات - عماد حسب الرسول الطيب - 9. شبكات المقاومة اليومية – من المطابخ الجماعية إلى المجالس الشعبية في المخيمات