مازن صاحب
الحوار المتمدن-العدد: 8559 - 2025 / 12 / 17 - 13:37
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
قيل في الأثر إن الفكرة لا تأتي إلا بعد الصدمة، ولا يحق الحق إلا بعد نيل المراد في سلطة السيف ورنين دنانير الذهب والفضة. وفق هذا النموذج كانت أوروبا عام 1900 أكثر من نصف القوة الاقتصادية دوليا، بل كانت بريطانيا لوحدها تلك الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، عززت بنموذج آدم سمث القائل "دعه يعمل دعه يمر"، وما تبعه من اندماج للقوة الاقتصادية والعسكرية بين ضفتي الأطلسي، لكن في تحليل صادم لواقع القارة العجوز، حذرت وثيقة استراتيجية الأمن القومي الأمريكية من أن أوروبا قد تصبح "غير قابلة للتعرف عليها" خلال عقدين، محذرة من احتمال "محو حضاري"، هذا التشخيص ليس مبالغة بلاغية، بل قراءة استراتيجية لواقع تراكمي تظهره المؤشرات الكمية بوضوح، إذ إن العولمة والرأسمالية التقليدية في طريقها نحو الأفول. أحد أهم الأسباب التي سرعت أفول العولمة، التحولات الديمغرافية في العالم الغربي، إذ إن انخفاض معدلات الولادة وشيخوخة السكان في أوروبا وأميركا الشمالية يقللان من نسبة القوى العاملة النشطة، ويرفعان أعباء الرعاية الاجتماعية والصحية على الحكومات، في المقابل، تمتلك آسيا وأفريقيا أسواقاً شابة ومتنامية توفر يداً عاملة ضخمة وسوقا استهلاكيا متسعا، فقد اعتمدت العولمة التقليدية على تحقيق نمو مستدام من خلال التجارة المفتوحة ورؤوس الأموال الأجنبية. لكن التغيرات الأخيرة، بما في ذلك التوترات التجارية بين الولايات المتحدة والصين، والارتفاع في السياسات الحمائية الأوروبية، وتراجع النمو الصناعي في الغرب، تظهر أن النموذج القديم أصبح أقل قدرة على ضمان الاستقرار الاقتصادي العالمي، كما أظهرت التكنولوجيا الحديثة مثل الذكاء الصناعي والأتمتة أن الاعتماد على القوى العاملة الرخيصة في الدول النامية لم يعد ضرورة قصوى، ما يضعف أحد الأعمدة الرئيسية التي قامت عليها العولمة التقليدية، وهي إعادة توزيع الإنتاج عالميًا بأسعار منخفضة. يمكن للباحث التوقف عند هذا الواقع موضوعيا في نهاية نموذج الرفاهية الرأسمالية، فقد انخفضت حصة أوروبا من الاقتصاد العالمي من 26% عام 2000 إلى 18% نهاية 2024، ومن المتوقع أن تصل إلى 12% بحلول 2040، في المقارنة، نمو أوروبا 0.9% مقابل 5.2% للهند و4.6% للصين، يضاف إلى ذلك اعتماد أوروبا على الخارج في الرقائق الإلكترونية بنسبة 92%، والطاقة 60%، والأدوية الأساسية 80%، والتعامل اليومي مع أزمة الطاقة البنيوية، إذ إن تكاليف الطاقة في أوروبا أعلى بثلاث مرات من أمريكا ومرتين من الصين، مما يقضي على تنافسية الصناعة، مما أدى إلى العجز المالي الهيكلي، فمتوسط ديون دول الاتحاد الأوروبي وصل إلى 95% من الناتج، مع دول مثل اليونان وإيطاليا تتجاوز 150%. وتبدو الصورة قاتمة في العجز الأمني والعسكري لذلك الاعتماد المذل، إذ إن 85% من القدرات الاستخباراتية الأوروبية تعتمد على الولايات المتحدة، هذا محل اعتراض الحليف الأمريكي، إذ الميزانية الدفاعية لألمانيا بالكاد تصل إلى 1.4% من الناتج، فرنسا 1.8%، وإيطاليا 1.4%، جميعها دون حد الناتو البالغ 2%، مما أدى إلى نقص حاد في الذخائر، فكل مخزون أوروبا من الذخائر لن يكفي لأكثر من أسبوعين في حرب كبرى. ترجمة ذلك في الردع الجيوستراتيجي يجعل القارة العجوز مكشوفة أمام روسيا التي تزداد جرأة في اختبار الحدود الأوروبية بعد تصدع الناتو، مما جعل الشكوك الأمريكية تتزايد حول قدرة أوروبا على الدفاع عن نفسها. ما بين هذا وذاك، فقدان النفوذ الأوروبي التقليدي في مستعمراته السابقة، مقابل بروز متصاعد لتضارب المصالح داخل الاتحاد الأوروبي، إذ ترفض دول الشمال الغنية تحمل تكاليف ديون الجنوب، ودول مثل بولندا والمجر ترفض قيم ليبرالية أوروبا الغربية، فيما تسيطر فرنسا وألمانيا على القرار رغم معارضة 25 دولة أخرى، كل ذلك جعل أوروبا اليوم متعددة السرعات.
ضمن هذه المقاربة، شكلت نظرية صراع الحضارات التي طرحها صموئيل هنتنغتون في تسعينيات القرن الماضي إطارا تحليليا شائعاً لفهم النزاعات الدولية، افترضت النظرية أن الصراعات المستقبلية ستندلع أساسا بين حضارات كبرى مثل الغرب والإسلام والكونفوشيوسية، وأن هذه الانقسامات الثقافية والحضارية هي المحدد الأساسي لسياسات الدول وسلوكياتها على الساحة الدولية. ومع ذلك، تشير التحولات الاقتصادية والسياسية والديمغرافية الحديثة إلى أن هذا الإطار لم يعد كافيا لتفسير مجمل التحولات الدولية، بل أصبح تداخل القوى والمصالح الواقعية هو الحاكم الفعلي للعلاقات الدولية في القرن الحادي والعشرين. في الواقع، العوامل الاقتصادية والتكنولوجية والسياسية أصبحت غالبية المحددات الاستراتيجية الدولية تفوق تأثير الاختلافات الحضارية، فالصراع اليوم ليس مقتصرا على اختلافات دينية أو ثقافية، بل يشمل تنافسا على القوة الاقتصادية، فالصين والهند أصبحتا محركين رئيسيين للنمو العالمي، مع ناتج محلي إجمالي يتجاوز ترليوني دولار للصين ونحو 3.7 ترليون للهند، ما يعزز مركزهما في النظام العالمي. كذلك التحولات الديمغرافية في أوروبا وأميركا الشمالية مقابل الأسواق الشابة في آسيا وأفريقيا تعيد تشكيل مراكز القوة العالمية، كما أشارت استراتيجية الأمن القومي الأمريكية 2025، فإن القارة الأوروبية تواجه تحديات ديمغرافية واقتصادية قد تجعلها "غير قابلة للتعرف عليها خلال عشرين عاماً أو أقل"، وقد تفتقر بعض الدول الأوروبية إلى القدرات الاقتصادية والعسكرية اللازمة للحفاظ على مكانتها التقليدية، مما يضعف فرضية أن الثقافة الغربية وحدها تشكل أساس التوجهات الدولية. بهذا المعنى، لم يعد صراع الحضارات إطارا مطلقا، بل أصبح جزءا من مجموعة عوامل متعددة تحدد السياسات الدولية، أبرز مثال على ذلك الصين والهند، على الرغم من اختلاف حضاري وثقافي، فقد شكلت هذه الدول محركات اقتصادية عالمية تتنافس وتتعاون في آن واحد، حيث تسيطر الصين على نصف صادرات التكنولوجيا في آسيا، بينما توفر الهند خدمات رقمية متقدمة للعالم الغربي والشرقي على حد سواء. ثمة عدة عوامل دفعت إلى انتقال النظام الدولي من التركيز على الحضارات إلى التركيز على المصالح الواقعية، لعل أبرزها أزمة كوفيد-19 التي أظهرت أن الأسواق العالمية متشابكة ومعرضة للصدمات، وأن الاعتماد على العوامل الحضارية وحدها لا يحمي الاستقرار الاقتصادي. نتيجة هذه العوامل، يشهد العالم تحولاً نحو تعدد الأقطاب وبروز الصعود الاقتصادي والسياسي للصين والهند وأفريقيا، ما يقلل من الهيمنة الغربية المطلقة، مقابل تراجع أوروبا نسبيا، هذا يؤكد تزايد دور الدولة القومية التي تركز على السيادة الاقتصادية والأمن الداخلي، وهو عكس ما كان متوقعا في نموذج العولمة الكلاسيكي، مما يدعو إلى إعادة هيكلة المؤسسات الدولية، لاسيما تعديل قواعد منظمة التجارة العالمية وصناديق النقد والبنك الدولي لتتسع لمشاركة الدول الصاعدة. وفق كل ما تقدم، يمكن ترجيح أربعة مسارات لأوروبا في المستقبل المنظور :
السيناريو الأول: التفكك والانهيار بعد خروج دول أوروبية من الاتحاد مثل إيطاليا والمجر وبولندا، انهيار "اليورو" وعودة العملات الوطنية وربما حروب تجارية داخل أوروبا، مع تصاعد اليمين المتشدد الذي يوصف في استراتيجية الأمن القومي الأمريكية بـ "الوطنية الأوروبية" مثل حزب البديل المتطرف في ألمانيا.
السيناريو الثاني: أوروبا "القلعة" التي تحاكي نموذج ترامب في أمريكا، حدود مغلقة وهجرة محدودة جدا واقتصاد حمائي وانكماشي، والعمل على نفوذ عالمي بشكل متكامل من جديد.
السيناريو الثالث: التحول تحت القيادة الألمانية الفرنسية البريطانية، وإنشاء نواة أوروبية قوية، وربما استبدال الناتو بجيش أوروبي موحد وقدرات نووية متصاعدة من خلال نظام مالي وضريبي موحد.
السيناريو الرابع: الاندماج الكامل والتحول الكونفدرالي بعنوان الولايات المتحدة الأوروبية، يواجه ثلاثة تحديات متزامنة في إنقاذ النموذج الاجتماعي من الانهيار المالي وحماية القارة من التهديدات الخارجية المتزايدة والحفاظ على الوحدة الداخلية في ظل انقسامات عميقة.
المفارقة التاريخية، الغرب الذي اخترع العولمة هل اضحى أول ضحاياها، لأن العولمة كسرت احتكاره للقوة والمعرفة، السؤال المصيري: هل تنتهي هذه المرحلة الانتقالية بنظام عالمي مستقر، أم بحرب باردة جديدة، أم بحروب ساخنة متعددة؟
#مازن_صاحب (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟