أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - القضية الفلسطينية - محمود الصباغ - عن الطوفان وأشياء أخرى(51)















المزيد.....

عن الطوفان وأشياء أخرى(51)


محمود الصباغ
كاتب ومترجم

(Mahmoud Al Sabbagh)


الحوار المتمدن-العدد: 8554 - 2025 / 12 / 12 - 20:15
المحور: القضية الفلسطينية
    


يمكن القول -ولكن ليس ياي نوع من الشطط- أن تجربة ميلغرام ترسم مساراً مهماً في سيرة الاستعمار الحديث، وفي كيفية تمدد السلطة "داخل" الفرد. ففي غزة اليوم، نرى الوجه الآخر للتجربة. الجندي الذي يقصف ويقتل وينسف البيوت ويحاصر ويجوع...إلخ والسياسي الذي يعطي "الضوء الأخضر" لفعل وسلوك الإبادة-هؤلاء جميعهم يتحركون داخل البنية المحددة التي وصفها ميلغرام، أي الشعور بتوزيع المسؤولية بالتساوي حتى تكاد تتلاشى، وأن القرار ليس قرار الفرد، بل قرار "المنظومة أو المستوى السياسي أو السلطات.. مثل إله من التعابير البيروقراطية الباردة". وبهذا المعنى ليست تجربة ميلغرام عن الشر بقدر ما هي تجربة توزيع المسؤولية، أي تحول الفعل الأخلاقي إلى عملية حسابية باردة.
وكلما تلاشت المسؤولية الفردية، أصبح العنف أكثر سهولة، وأكثر اتساقاً، وأكثر تكراراً. مما يعني أن الفرد لا يحتاج إلى حمولات إيديولوجية ثقيلة ليؤذي غيره، يكفيه الانتقال من موقع "الفاعل" إلى موقع "الأداة" أو "الوكيل". يكفيه الاقتناع أنه يؤدي "واجباً".... مجرد واجب. لعل هذا ما يربط بين تجربة ميلغرام وبين البنية الاستعمارية. فالاستعمار لا يحتل الأرض فقط ولكنه يعمل تدريجياً على تحويل الأفراد من الداخل إلى جهاز طاعة، وهندسة الامتثال عبر تشكيل الخيال الأخلاقي للفاعل. فيصبح المستعمِر والجندي والبيروقراطي والمستوطِن كتلة واحدة من الامتثال... جاهزون للتنفيذ والقول " نحن نتبع التعليمات". مع الأخذ في الاعتبار الفروق الجوهرية بين السلطة الاستعمارية والسلطة الشمولية التي درسها ميلغرام، وهو ما تكشفه الوقائع اليومية لما يجري في قطاع غزة... وفي الضفة الغربية أيضاً، إذ نرى كيف يتيح السياق الاستعماري للسلطات العمل داخل أفرادها وبيئتها، وأيضاً عبر بنية تفوق وتبرير وظيفي واضج يجعل العنف مبرراً إلى جانب كونه تنفيذ للأوامر، فالفرد الفاعل لا يمتثل فقط بل نراه يبرر ويفسر ويتباهى بسلوكه. فالاحتلال لا يصبح ممكناً بسبب قوته العسكرية، بل بسبب ما يصنعه في خيال أفراده، وبسبب قابلية المجتمعات إلى إعادة إنتاج الطاعة كواجب وطني.
في سياق الاحتلال الإسرائيلي، لا يقتصر العنف على القتل المباشر، بل يتعداه إلى ممارسات الأنواع المختلفة من نطاقات السلطة الحيوية (Biopower) التي شرحها ميشيل فوكو، حيث تتحكم القوى الاحتلالية في تفاصيل حياة الفلسطينيين اليومية، من مراقبة الحركة إلى التحكم في الخدمات الصحية والتعليمية، مروراً بالتصنيف الدقيق والرقابة المستمرة.
بهذا الشكل، لا يُنظر إلى الفلسطينيين فقط كأجساد قابلة للقتل، بل ككيانات تُدار وتُقنن بوسائل تعكس سيطرة شبه شاملة على حياتهم. ويرتبط هذا المفهوم بمصطلح "Homo Sacer" الذي يشير إلى الإنسان المستباح المسلوب من حقوقه كافة؛ القانونية والسياسية، ليصبح خارج إطار القانون لكنه معرض للقتل دون محاسبة. في الحالة الفلسطينية.
نعم... تقوم سياسية الاحتلال اليومية على تحويل الفلسطينيين إلى حالة استثناء دائم، من خلال تشديد الرقابة على أجسادهم وحياتهم، وفرض نمط عيش تحت وطأة قمع دائم لا تتيح لهم أي نوع من الحماية أو الحقوق تحت ظروف التكدس والتوتر النفسي والاكتظاظ والعلاقات الاجتماعية المتدهورة، ظهور سلوكيات غريبة وعزلة ولا مبالاة، إلى جانب الإهمال وعدم الاكتراث لأسباب الحياة ، والإنهاك النفسي وتفكك المعنى المجرد للحياة بحد ذاتها.
إن فقدان الغاية وتقنين مقومات الحياة هو أحد أكثر النماذج تطرفاً في تصنيع مجتمع ممتثل مقيد بسيطرة حيوية وهيمنة وتدمير بطيء للذات وهو ما يمكن تسميته بالموت السلوكي(behavioral sink). فأي مجتمع بخضع للمراقبة ومنع الحركة الحرة، حتى لو توفرت له مقومات البقاء، سينهار حتماً. ليس لأن الحياة مستحيلة، بل لأن الكرامة والخيال والمعنى سحقت بالكامل.
أرّخت حنّة آرنت لمشهد محاكمة أيخمان في القدس (1961) لتظهر كيف يمكن لسلوك الفرد أن يصبح "عادياً" ومعتاداً في ارتكاب شرور عظيمة، إذا اتبع قواعد النظام والامتثال للقوانين أو للتعليمات دون تفكير أخلاقي مستقل. وكان أهم ما ركزت عليه هو أن العنف المنظم على يد الدولة لا يكتسب شرعية إلا إذا نال موافقة جماعية أو امتثال مجتمعي طوعي*، وأن أي اختراق للأخلاق (مثل تصرف أيخمان على سبيل المثال) يصبح ممكناً حين يقضي الامتثال البشري على معنى المساءلة الأخلاقية.
ما يخرج عن تجربة ميلغرام أمر على غاية من الأهمية أيضاً وهو فعل المقاومة. فالمقاومة هنا ليست نقيضاً للاحتلال فقط، وإنما نقيض لفعل الطاعة أيضاً. فعل المقاومة هو خروج من تراتبية ميلغرام، ومن آلية الانصياع التي تحتاجها السلطة لتستمر**. لنتذكر كيف كانت الانتفاضة الفلسطينية قبل نحو أربعين عاماً الأولى "تمريناً جماعياً عمل على كسر هذه التراتبية للخروج من "طقوس" الطاعة، ليس فقط لجهة العدو، وإنما العصيان ضد المنظومة أو المنظومات التي تحاول تقييد الفرد داخل دائرة العنف . وغزة اليوم، رغم حجم الرعب والدمار والقتل ، تدفع بالعالم كله إلى اختبار سؤال ميلغرام بطريقة معكوسة: من يطيع؟ ومن يجرؤ على الاعتراض؟ ومن يكتفي بأن "ينفذ الأوامر"؟
إن ما يحدث في فلسطين اليوم يجب أن يكون دافعاً لفضح النفاق الدولي (الأوروبي والأمريكي على وجه الخصوص) حين يغضون نظرهم عن السياسات الإسرائيلية الإبادية ضد الفلسطينيين وتجريدهم من إنسانيتهم بل أكثر من ذلك، نراهم كيف يوظفون الدعم العسكري والمالي للحفاظ على استمرارية هذا القمع. بينما تُغلق أبواب الحلول السياسية تحت وطأة مصالح استعمارية تسعى لتثبيت الهيمنة.
....
* انتقدت أرنت بعض جوانب الدولة الإسرائيلية، خصوصاً توظيف المحاكمة لترسيخ شرعية سياسية وإخفاء المسؤوليات المؤسسية، وهذا ما يجعل النظام يبدو أخلاقياً أكثر مما هو عليه فعلياً. في الواقع اهتمت أرنت في سياق تغطيتها للمحاكمة بتحليل الطبيعة الأخلاقية لمقولات الشر والطاعة -طبعاً إلى جانب اهتمامها بالتفاصيل الجنائية- فهي لم تكن ترى في ايخمان شخص عبقري شرير، بل مجرد رجل عادي امتثل للقوانين واللوائح التي وضعها النظام السياسي من دون أن يقوم لمحاكمة عقلية أخلاقية مستقلة لها، أي للقوانين. لتستنتج أن العنف الذي مارسته الدولة، أجهزة الأمن والمحاكم، كان واضحاً، لكنه لم يكن مصدر القوة الحقيقية. فالقوة تنشأ، كما رأت آرنت، من امتثال الناس وشرعية النظام، ومن قدرة المجتمع على وضع حدود على نفسه. فأي نظام يعتمد على العنف وحده يصبح هشاً، وأي امتثال آلي من دون وعي أخلاقي يمكن أن ينتج "شراً عادياً".
** نفهم هذا عندما نحدد "عتبة انهيار الامتثال" بوصفها اللحظة التي يتصدّع فيها جهاز الطاعة داخل الفرد. وهي ليست نقطة واحدة بل مسار تراكمي يبدأ حين يرى الشخص فعله بلا وساطة بيروقراطية، ثم يواجه التناقض بين السردية التي تبرّر العنف والواقع العاري، قبل أن يشعر بوجود آخرين يترددون أو يرفضون. عند هذه اللحظة تنكسر الغلالة النفسية التي تجعل الطاعة ممكنة، ويظهر الوعي الأخلاقي باعتباره قوة مضادة للسلطة. ومع أن الأنظمة الاستعمارية تبذل جهدها لمنع الوصول إلى هذه العتبة، فإن حدوثها المفاجئ يحوّل الفرد من "أداة" إلى ذات متسائلة ومعارضة، لتنهار معها شرعية العنف التي كانت تعتمد على الامتثال الصامت.



#محمود_الصباغ (هاشتاغ)       Mahmoud_Al_Sabbagh#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- انتفاضة الحجارة في زمن الإبادة والتطبيع والتنسيق
- قراءة في كتاب ستانلي ميلغرام. الطاعة للسلطة: وجهة نظر تجريبي ...
- انتفاضة الحجارة :بين العفوية و القصدية
- سوريا اليوم... نحو لغة سياسية جديدة
- زمن الضفادع: مجازات الطغيان في التجربة السورية
- جدل الصمت، الحضور الخفي وانكسار الإيمان
- دونالد ترامب وعصر ما بعد الحقيقة في الخطاب السياسي
- عن الطوفان وأشياء أخرى (50)
- عن الطوفان وأشياء أخرى (48)
- عن الطوفان وأشياء أخرى (49)
- قراءات في كتاب عصور الرأسمالية الأمريكية : تاريخ الولايات ال ...
- في معنى أن تكون فلسطينياً: -باراديم- الفعل السياسي والمعنى
- كيف يصبح الخوف مصنعاً لحكايات -الغولة-
- أنطولوجيا الخوف في ظل الدولة الأسدية
- من -الكيانية- إلى -الفلسطينيزم-: تحولات الوعي الفلسطيني بين ...
- المثقف السمسار والمستعمِر: التبعية والهيمنة
- ما بعد إيران: صعود نموذج -القوة الوظيفية- وانحسار استراتيجية ...
- رائحة الحياة الأولى: حكاية الجيوسمين
- إيران في عمق التداعيات والتحولات الجيوسياسية: هامش تحليلي
- حدود السلطة على النص


المزيد.....




- محتجون يقاطعون شهادة وزيرة الأمن الداخلي الأمريكية أمام مجلس ...
- أمريكا.. نشر صور جديدة لترامب وكلينتون وبيل غيتس تظهر علاقته ...
- سيدة تلد داخل سيارة أجرة -وايمو- ذاتية القيادة وتصل مولودها ...
- معاناة سكان غزة من الفيضانات في انتظار المرحلة الثانية من خط ...
- اكتشاف لوحة جدارية نادرة تصور يسوع الراعي الصالح في مقبرة تر ...
- دعوى ضد -تشات جي بي تي- بتهمة المساهمة في جريمة قتل
- بريطانيا تفرض عقوبات على أربعة من قادة قوات الدعم السريع بين ...
- تركيا: لا تعديل على منظومة إس-400 ومحادثات إف-35 مستمرة
- موجة إنفلونزا غير مسبوقة تضرب بريطانيا
- لن تقاتل حماس.. مسؤولون أميركيون يتحدثون عن -قوة الاستقرار- ...


المزيد.....

- قراءة في وثائق وقف الحرب في قطاع غزة / معتصم حمادة
- مقتطفات من تاريخ نضال الشعب الفلسطيني / غازي الصوراني
- الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين والموقف الصريح من الحق التاريخي ... / غازي الصوراني
- بصدد دولة إسرائيل الكبرى / سعيد مضيه
- إسرائيل الكبرى أسطورة توراتية -2 / سعيد مضيه
- إسرائيل الكبرى من جملة الأساطير المتعلقة بإسرائيل / سعيد مضيه
- البحث مستمرفي خضم الصراع في ميدان البحوث الأثرية الفلسطينية / سعيد مضيه
- فلسطين لم تكسب فائض قوة يؤهل للتوسع / سعيد مضيه
- جبرا نيقولا وتوجه اليسار الراديكالي(التروتسكى) فى فلسطين[2]. ... / عبدالرؤوف بطيخ
- جبرا نيقولا وتوجه اليسار الراديكالي(التروتسكى) فى فلسطين[2]. ... / عبدالرؤوف بطيخ


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - القضية الفلسطينية - محمود الصباغ - عن الطوفان وأشياء أخرى(51)