أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمود الصباغ - جدل الصمت، الحضور الخفي وانكسار الإيمان















المزيد.....


جدل الصمت، الحضور الخفي وانكسار الإيمان


محمود الصباغ
كاتب ومترجم

(Mahmoud Al Sabbagh)


الحوار المتمدن-العدد: 8548 - 2025 / 12 / 6 - 06:31
المحور: الادب والفن
    


استهلال
في فيلم Silence (2016) لا يكتفي مارتن سكورسيزي بسرد معاناة الرهبان المسيحيين في اليابان الإقطاعية (القرن السابع عشر تحديدياً)؛ بل يغوص في سؤال وجودي عميق: ماذا لو صمت الإله حين نصرخ؟ ماذا لو كان هذا الصمت حضوراً ثقيلاً يُعيد تعريف الإيمان ذاته؟
هذا التوتر الجدلي بين الصمت كغياب، والصمت كامتلاء، هو ما يجمع بين الفيلم وبين ما يطرحه هيغل من طاقة كامنة في السكون، وبين ما يصوره كافكا من عبث بيروقراطي بلا صوت، ودوستويفسكي من ألم غير مبرر بانتظار الخلاصٍ الموعود. لكن سكورسيزي يضيف شيئاً مختلفاً حين يحوّل الصمت من اختبار لاهوتي إلى أزمة ضمير أخلاقي، حيث يجبر الإنسان على الاختيار بين الولاء للرمز الرأفة بالجسد.
في هذا السياق، يصبح الصمت لغة أخرى للوجود وللمعاناة ولتضحية، وللشك الذي لا يهزم أيضاً.
لنتأمل هذا المشهد؛ يدوس الراهب كريستوفاو فيريرا على صورة المسيح لينقذ آخرين من العذاب. في نظر الكنيسة، هذه خيانة. أما في نظر سكورسيزي، هذا فعل رحمة. وفي نظر التاريخ الياباني، هذا دليل استسلام. وفي نظر اللاهوت الوجودي، هذا امتحان للذات.
هنا يظهر الصراع الحقيقي:
هل الإيمان مرتبط بفعل الطاعة، أم بفعل الرحمة؟
وهذا لا يحلّه صمت الإله، ولا صمت السلطة، بل صمت الضمير.
الفيلم يحرّر الإيمان من العقيدة، ويعيده إلى الأخلاق. وهذا الانقلاب الهادئ أهم من كل الشحنة الهيغلية التي بنى عليها مقاله.
فإذا كان الصمت استعارة أو مساحة "اختبار روحي" فهذا يسمح لنا بالتحرك نحو أسئلة أكبر:
ماذا يبقى من الإيمان حين لا يبقى شيء؟ وهل يصبح الصمت لغة كونية للمعنى حين تنفد الكلمات؟
ماذا يفيد الإيمان حيث يفقد القدرة على مقاومة الفناء؟
نعم يا سادة (وهذه من عندياتي وليس من دوستويفسكي)
ها هنا الجحيم... بالضبط هنا، وليس في الآخرة.
هنا في دموع طفل صغير. ولكن [دائماً هناك "ولكن]ما قيمة أي "جحيم مؤجل" إذا كان البشر يعيشون جحيماً ملموساً يومياً
هنا "الجحيم الحقيقي" وليس ما بعد الموت... هنا، في عرق العمال، وجوع الفقراء، وقهر السجناء، ومهانة النساء.
هنا، في الجحيم... حين يبيعنا رجل الدين (والسياسي؟) وهماً، سيكشفه الشيطان عاجلاً أم آجلاً (بسهولة لمن يرغب حقاً، وبدافع الشماتة لمن يرفض، سيكشف الشيطان له الحقيقة بدافع التشفي دون رحمة).
.....
إذا كان الصمت -على ما يزعم الأخ هيغل-لحظة مشحونة بطاقة الانفجار... فهو في الوقت عينه أيضاً امتلاء خفي بالمعنى. فكرة جدلية تحيل إلى الطور الذي يسبق التحول. لحظة لا تقوم على السكون إذن، وإنما على اشتغال الحيز بما قبل التحول.
في فيلم الصمت، يُجبر الراهب رودريغو، في معرض الدفاع عن العقيدة، على مواجهة وحشية الاضطهاد، غير أن جوهر سؤاله- كما اختار لنا المخرج رؤيته- أعمق من هذا الدفاع لأنه يندفع نحو السؤال اللاهوتي من موقع الانكسار الشخصي: لماذا يصمت الإله أمام صرخات المؤمنين؟ لماذا لا يتدخل ليمنع الألم؟ ولماذا يبدو وكأنه يختبر إيمانهم بصمته لا برحمته؟[1]
ففي اللحظة التي يواجه فيها الإنسان هشاشته عارياً بلا حماية[2]، سوف يصاب بالعبث، وتتكشف فوضاه الداخلية. إذ سوف يختبر الصمت حدود الإيمان بغياب "الصوت" وهي تجربة وجودية هائلة لا شك، كأن الإله ينسحب ليترك الإنسان وحيداً أمام ضميره. هذا الفراغ السمعي الديالكتيكي ( أو الصمت الهيغلي) يتحول إلى مرآة تعكس منسوب العذاب، فكلما ازداد أكثر ظهر ما هو ثابت وما هو عابر، وما هو مبني على قناعة وهو تأسس على خوف.
وهذا ليس بعيداً عما يطرحه بعض أهل الاختصاص من تصورات، أو تأويلات، وجودية للصمت (بالأحرى لمعنى الصمت)، حين تجعل منه -بما يتعارض مع الموقف اللاهوتي- مساحة لغياب المعنى وليس لامتلائه[3]. ففي رواية "المحاكمة لفرانز كافكا، يكون الصمت معدوم الدلالة (غياباً تاماً للمعنى)، "حيزاً" ضمن العبث البيروقراطي، حيث يستيقظ "جوزيف ك" بطل الرواية دون أن يعرف جريمته، ليجد نفسه في قبضة جهاز قضائي غامض، لا يفحص عن شيء، ولا فكاك له منه. فلا جريمة واضحة، ولا محامٍ ينقذه، ولا قاضٍ يشرح له، ولا قانون صريح. كل شيء يتحرك وفق نظام غامض لا يبرر نفسه. باختصار، بيروقراطية باردة تطحنه في صمت "محايد". هنا، الصمت لا يقول شيئاً، لأنه أصلاً ليس لديه ما يقول ولا يملك ما يقول. هنا يغدو الصمت ليس سكوت الرب، بل غيابه، بالأحرى غياب المعنى من الأصل. حيز ممتلئ بخواء المعنى تحت وطأة وجود خالٍ من أي حكمة محتملة.
نحن، هنا، أمام إنسان منعزل في مواجهة آلة باردة تسحقه دونما سبب، فهل يعزيه انتظاره للفردوس -إن وجد- أو تكون الشهادة أو الفداء منفذاً؟.
ينفرد الصمت هنا بطابع الكوني وليس الديني، ويضيف بعداً جديداً (أخلاقياً في جوهره)- كما نراه عند دوستويفسكي في الأخوة كارامازوف- حين يتخذ طابعاً مأسوياً، حين يتساءل إيفان: كيف يمكن للرب أن يقبل معاناة طفل بريء؟[4]
لا شك أن الثمن -أي عذاب الأبرياء- باهظ وغير مبرر، حتى لو كان في النهاية سيمنح الخلاص للجميع. وهذا هو معنى تظهير مأزق الإيمان إزاء الألم غير المبرر. يقدم دوستويفسكي هذا السؤال بصفته رفضاً لهذه الصفقة الأخلاقية، أي خلاص العالم مقابل ألم البريء. هو لا ينكر وجود الرب وإنما يطعن في عدالة الصفقة، ويضع الإنسان أمام جحيمه الحقيقي.
يلتقط سكورسيزي كل هذا ويرميه داخل قلب الراهب رودريغو، مما يجعل الصمت عنده امتداداً لذلك الجدل، وليس تكراراً له. ولكن ما يميز الفيلم أن الصمت فيه لا يملك الإجابة. فالصمت هنا لا يعني الفراغ، بل يشبه على نحو ما مقوله هيغل حين يرفض السكون المطلق وحين يشبه الصمت باللحظة الممتلئة بالانفجار.
يتحول الصمت هنا إلى طريقة للقول. فحين ينهار الراهب رودريغو وينكر إيمانه -ظاهرياً- لإنقاذ الآخرين، يتناهى إلى سمعه تلك العبارة التي ستهز كل هذا البناء الدرامي: "الرب لم يكن صامتاً"، كان يتحدث من خلال معاناته. كأن الغياب هو حضور آخر (ودائما بمعنى الجدل الهيغلي، حضور لا يعتمد على الكلمة ولكن على التجربة).
نستطيع هنا القبض على الفكرة، الإله لا يغيب، فهو حاضر من خلال صمته الثقيل، تماماً كما هو الأب فيريرا حاضر بعد تخليه عن إيمانه، ليرشد الراهب نحو فهم جديد للصمت كشكل صوفي من أشكال القول الأعظم، حيث يختبر الإنسان عمق إيمانه دونما اتكاء على شيئ ليجرب ألم الخيانة كضرورة[5]. هنا يلتقي الفيلم مع الميتافيزيقا: حيث تحل التجربة محل الكلمة. الصمت ليس انقطاعاً بل انتقالاً من الوحي إلى الخبرة، من الطاعة الخارجية إلى التكليف الروحي.
في الحقيقة لا بد من الحذر عند قراءة هيغل وكافكا ودوستويفسكي وسكورسيزي معاً خشية الانزياح أو التعثر غير المحسوب أثناء الحفر في طبقات إنتاج هؤلاء جميعاً.
ثمة مخاطر من هذا التأرجح بين قراءة لاهوتية، وأخرى فلسفية وجودية، وثالثة تستدعي هيغل. مخاطر تجعل بنية النص تتماوج بين عمق حقيقي حيناً ومبالغة خطابية أحياناً أخرى.
لا يجعل سكورسيزي من الصمت كياناً مستقلاً، كما يبدو من الوهلة الأولى يقول ولا يقول، أو يحضر ويغيب، كأنه بؤرة ميتافيزيقيّة مطلقة. إذ يبدو الفيلم أكثر تواضعاً من هذه الناحية، لكنه أكثر التزاماً بالشرط الإنساني، ولا داعي لدفعه نحو فضاء أكبر مما يحتمل.
يقدم الفيلم الصمت كأزمة ضمير ملموسة أكثر مما يقدمه كاستعارة شاملة (وهذه أحد مخاطر السهو في قراءته). فيربطه سكورسيزي بوجه المصلوب تحت التعذيب، وبشخصية كيروتشيرو التي تُجبر رودريغو على التنازل. في الحقيقة الفيلم ليس بحثاً في غياب «الكلمة الإلهية»، وإنما في هشاشة الإنسان حين يفقد القدرة على صناعة المعنى من التجربة، ولا يجب لهذه الدقة البسيطة أن تضيع في خضم قراءات وتأويلات ذات صياغات متضخّمة. فالفيلم في جوهره أكثر مادية ووجودية، هناك إنسان يُجبر على أن يدوس رمز المسيح لينقذ آخرين. هذا القرار وحده يكفي لإشعال ألف سؤال، دون عناء كل تلك الأحمال النظرية.
من ناحية أخرى يتعامل كافكا مع صمت بلا معنى، وبيروقراطية بلا مركز. ويتعامل دوستويفسكي مع معنىٍ مخيف، وعدالة إلهية ملغّزة. أما سكورسيزي فهو مشغول بسؤال الإيمان تحت التعذيب. ويشترك الثلاثة في مواجهة «غموضٍ قاسٍ» لكن طبيعة هذا الغموض مختلفة. ولا يمكن المساواة بينهم إطلاقاً بطريقة توفيقية قسرية.
اليابان في تلك المرحلة كانت تحكمها منظومة ضابطة للفضاء العام، تعتمد عقيدتين: السيطرة على الأرض، والسيطرة على الصوت. المنع لم يكن دينياً فحسب، بل سياسياً. فالمسيحية لم تُحارب لأنها “عقيدة أجنبية” فقط، بل لأنها تهدد توازنات القوة التي بنتها العشائر. الصمت هنا يصبح سياسة، لا اختباراً لاهوتياً. الممنوع ليس الإيمان بل إقامة خطابٍ منافس لخطاب السلطة. وقد مرر سكورسيزي هذا تحت السطح. رجال السلطة اليابانيون لا يسألون عن اللاهوت، يسألون عن “النظام” و“الانسجام” و“الاستقرار”. يبدو الإيمان هنا خطراً لأنه يسمح للفرد أن يكون مطيعاً لقوة لا سلطان لها في اليابان. هذا يضع الراهب رودريغو داخل صراع مزدوج: بين إله لا يرد على صرخته، وسلطة لا تسمح له بأن يصرخ أصلاً.
وهنا تكمن الفجوة: الصمت ليس فقط صمت الإله، بل الصمت المفروض على الجسد، وعلى اللغة، وعلى مجرد الحق في أن تحمل معنى. لقد منح "اليسوعيون"، تاريخياً، “الصمت” وظيفة تربوية: لحظة تأمل وعري داخلي، بل أكثر من ذلك؛ هي ببساطة لحظة كشف للضمير. لكنه، أي الصمت، كان دائماً داخل علاقة هرمية. فالمؤمن يصمت أمام المعلم، والراهب يصمت أمام الرب، والرسول يصمت أمام مهمة أكبر منه.
في الفيلم، يقلب سكورسيزي يقلب كل هذا: فيصمت الراهب لينقذ الآخرين (وفي هذا عصيان، أو عدم طاعة للرب) فيتحول الصمت من طاعة إلى تضحية دنيوية، ومن عبادة إلى أخلاق. وهذه محض خطوة وجودية لا تتقاطع مع التصور الهيغلي، إلا في ما تعنيه فعلاً في بنية التدين المسيحي.
لنتأمل هذا المشهد؛ يدوس الراهب كريستوفاو فيريرا على الفومي[6] لينقذ آخرين من العذاب. في نظر الكنيسة، هذه خيانة. أما في نظر سكورسيزي، هذا فعل رحمة. وفي نظر التاريخ الياباني، هذا دليل استسلام. وفي نظر اللاهوت الوجودي، هذا امتحان للذات[7].
هنا يظهر الصراع الحقيقي:
هل الإيمان مرتبط بفعل الطاعة، أم بفعل الرحمة؟
وهذا لا يحلّه صمت الإله، ولا صمت السلطة، بل صمت الضمير.
الفيلم يحرّر الإيمان من العقيدة، ويعيده إلى الأخلاق. وهذا الانقلاب الهادئ أهم من كل الشحنة الهيغلية التي بنى عليها مقاله.
فإذا كان الصمت استعارة أو مساحة "اختبار روحي" فهذا يسمح لنا بالتحرك نحو أسئلة أكبر:
ماذا يبقى من الإيمان حين لا يبقى شيء؟ وهل يصبح الصمت لغة كونية للمعنى حين تنفد الكلمات؟
ماذا يفيد الإيمان حيث يفقد القدرة على مقاومة الفناء؟[8]
...........
[1]فيلم Silence (2016)، سيناريو وإخراج / مارتن سكورسيزي. مقتبس من رواية شوساكو إندو (1966) بذات العنوان( سبق أن اقتُبست الرواية في اليابان في العام 1971 على يد ماساهيرو شينودا)، يتحدث العمل عن اضطهاد ومحنة المبشّرين المسيحيين في اليابان- إبان حكم توكوغاوا في القرن السابع عشر- ورهبة الصمت الإلهي في مواجهة الألم والتعذيب، وهو المحور الفكري الذي بنى عليه سكورسيزي فيلمه لاحقاً. يتتبع الفيلم رحلة كاهنين برتغاليين يبحثان عن معلمهما اليسوعي «كريستوفاو فيريرا»، وهو شخصية تاريخية عاشت بين 1580 و1650، وكان قد تخلى عن إيمانه بعد تعرضه للتعذيب. شخصية «سيباستياو رودريغز» مستلهمة بدورها من اليسوعي الإيطالي «جيوسيبي كيارا». يقال إن سكورسيزي ظل لنحو ربع قرن وهو يطارد مشروع هذا العمل قبل إنجازه. وتعد الرواية من أهم أعمال الأدب الياباني في القرن العشرين
[2]كان يمكن القول حين "يتعادل" مع هشاشته، ولكن باعتبار ضفة التعادل تحمل معنى "هندسياً" نوعاً ما أكثر كمن المعنى الوجودي، فقد مضينا نحو "المواجهة". ويمكن للقارىء استخدام أي منهما حتى يستقيم له المعنى المقصود.
[3]للمزيد حول هذه الفكرة وغيرها ضمن هذا الموضوع، انظر، Rysten , Felix Simon Anton. (1968) False Prophets in the Fiction of Camus, Dostoevsky, Melville, and Others. University of Southern California. إن رسالة سكورسيزي في الفيلم تقول- حسبما أرى- أن الصمت ليس عدماً، وإنما وجه الحياة العاكس لكل شيء. كما أن الرب الغائب ليس خصماً. وحين تنكسر جميع أشكال التدخل الخارجي لضبط الإيمان يتحول الرب إلى حضور "مؤلم". عندها فقط، يطلب منا سكورسيزي الانتباه إلى رودريغو وهو يستمع إلى الصوت داخل الصمت، ويقول ما يشبه الصلاة الأخيرة: "لم أكن صامتاً، كنتَ أنتَ صوتي".
[4]في أحد فصول "الإخوة كارامازوف" (النسخة العربية 1988 ترجمة سامي الدروبي عن دار رادوغا)، يظهر "الشيطان" في حوار طويل مع إيفان كارامازوف. يضع دوستويفسكي في اعتباره ما سوف يراه القارىء من أن حضور الشيطان وحواره مع إيفان ليس بهدف الغواية (بالمعنى المباشر والبسيط للغواية) وإنما ليكشف التناقضات الداخلية في شخصية إيفان. أو بمعنى أكثر عمومية، إسقاط القناع - الأقنعة عن الإنسان، وتعرية "الأفكار العليا" التي يرفعها رجال الدين أو الفلاسفة. يجعل دوستويفسكي من خلال الحوار "الشيطان" يبدو مثل مرآة عاكسة، أكثر من كونه خصماً للإنسان، كما يظهره متجسداً على هيئة سخرية فاضحة حين يعري إيفان من أوهامه وحين يقول ما لا يجرؤ أحد على قوله.
[5]حسب التصورات المسيحية في "الحضارة الغربية" يتحول الإيمان إلى امتحان للعلاقة بين الإنسان وما يعتقد أنه مطلق، فهو، أي الإيمان، إذن ليس مسألة عقائدية، وحين يتعرض المؤمن للتعذيب، يصبح السؤال الحقيقي: هل ينهار الإيمان مع الجسد، أم يكتسب شكلاً جديداً وجوهراً روحياً أعمق؟ يضع سكورسيزي الشخصية في منطقة غامضة تتلاشى فيها الحدود بين البطولة والخيانة، أو الإخلاص للذات والإخلاص لفكرة تتجاوز الذات. وفي لحظة الاضطرار إلى إنكار الإيمان، لا يعود السؤال حول العقوبة أو النجاة، بل حول معنى الإيمان ذاته، إن كان فعل مقاومة حتى الفناء، أم قدرة على حفظ الحياة ولو بدا ذلك خيانة للرمز؟
تلك من أهم المواجهات التي تضعها الرواية، وكذلك الفيلم، أمام القارىء أو المشاهد بعيداً عن الإجابات الجاهزة. وحين ينتقل الصمت من الخارج إلى الداخل، فخا لا يعني انقطاعاً للخطاب الإلهي، وإنما رحلة من الكلمة إلى التجربة. بما يعطي قيمة عالية وشاملة للإيمان تحت التعذيب، ويصبح الصمت مساحة يتقشر فيها كل ادعاء، لتبدو الحقيقة كما هي، عارية، ومربكة، لكنها أكثر صدقاً.
[6]لوح خشبي أو معدني ترسم عليه صورة المسيح أو مريم، وكان اليابانيون في فترة حكم توكوغاوا يستخدمونه كأداة اختبار لإجبار المسيحيين على إنكار إيمانهم، كـ “فعل رمزي” تعتبره السلطات دليلاً على التخلي عن المسيحية. يمثل دوس الراهب فيريرا على الفومي ذروة الصراع الداخلي والدرامي للفيلم، فالراهب مضطر تحت التعذيب والتهديد بالقتل المستمر ليعلن الولاء للقوة السياسية اليابانية ويتخلى عن الإيمان العلني. وفعل الدوس هنا ليس مجرد خيانة جسدية، بل خيانة ظاهرية للإيمان أمام العالم، بينما يظل داخلياً متألماً ومعارضاً لما يحدث. يستخدم سكورسيزي هذا المجاز -الفعل-ليعرض مأزق الإيمان في مواجهة العنف والاضطهاد: فيبدو الإله صامتاً، والراهب مُجبر على اختيار الحياة الجسدية على حساب المبدأ الظاهر، وهو ما يختبر عمق الإيمان والصدق الروحي. وهكذا تنقلنا السردية البصرية إلى صورة "الفومي" باعتبارها أداة درامية (أكثر من كونها رمز ديني) لطرح أسئلة وجودية عن الإيمان والصمت الإلهي والمعاناة الإنسانية، بما يتوافق مع فكرة أن الصمت ليس غياباً، بل حضور معقد يظهر في الاختبارات الكبرى للإيمان. فعندما يدوس فيريرا على الفومي، فهو يجسد الانكسار الظاهري، لكنه -في ذات الوقت- انتصار داخلي للوعي الروحي، لا ينسى فيريرا إيمانه، لكنه يعترف بأن البقاء يتطلب، أحياناً، اختيار الصمت الظاهر، فالصمت هنا ليس فراغاً وإنما "امتداد للجدل"، أي تصبح التجربة وسيلة للقول والاعتراف بالإيمان، رغم التخلي "الظاهري".
هل تنتهي اللحظة الدرامية عند هذه الذروة؟
لا أبداً... في الواقع لا يقفل الفيلم على معنى محدد. فيبقى الصمت الإلهي حاضراً، لكنه يأخذ شكل التجربة بدل الكلام. ويتحول الألم والخيانة الظاهرية إلى ما يشبه مرآة للاختبار الروحي. بمعنى: هل يستطيع الإنسان الحفاظ على جوهر إيمانه رغم الانكسار؟
باختصار، تجسد هذه الذروة الدرامية الصمت الإلهي بالمعنى الهيغلي، أي بالنظر إلى الصمت بصفته حضوراً (ليس فراغاً أو انقطاعاً على كل حال). إنه حضور مرئي يختبر الإنسان داخلياً، مما يجعل الإيمان مسألة تجربة وجودية عميقة أكثر من كونه مجرد عقيدة ظاهرية.
[7]يمكن قراءة الصمت في الفيلم كاستعارة سياسية وتشريح لسلطة قمعية تحطم معاني الناس عبر إجبارهم على “المشاركة في خيانة ذواتهم”. التعذيب في الفيلم لا يهدف إلى قتل الراهب بل “توريطه في الفعل الذي يكره نفسه من أجله”. هذا بالضبط أسلوب الأنظمة الأمنية الحديثة: ليس الهدف أن تعترف، بل أن تفقد القدرة على احترام نفسك. هنا يصبح الصمت ليس مجرد اختبار للإيمان بالله، بل اختبار للإيمان بالذات. وهذا امتداد يضيف بعداً خطيراً لتجربة رودريغو: الرجل ينجو، لكنه يعيش بقية حياته في منطقة رمادية، يعرّف فيها نفسه بوصفه خائناً ومنقذاً في الوقت نفسه. وبهذا يكون الصمت لغة من نوع آخر، حين يقول الفيلم إن “الرب لم يكن صامتاً”، فالمقصود أن الصوت ليس دائماً صوتاً. أحياناً يكون الصوت حدثاً، قراراً، فعلاً أخلاقياً. وهذه الفكرة أقرب إلى روح التصوف منها إلى الجدل الهيغلي. الذي يمكنه أن يقرأ الصمت كجدل لاهوتي–ميتافيزيقي. بينما هو في الفيلم شيء أكثر هشاشة، أي تجربة إنسانية فيها ألم شديد، وشك، وخوف، وحب، وذنب. شيء يخص اللحم والعظم قبل أن يخص الفكرة. وهذا كافٍ في السينما ليكون معنى. ويمكن دفع السؤال أبعد:
هل الصمت دائماً نقص كلام، أم نقص حماية؟
وهل يمكن للإنسان أن يحتمل الصمت إذا كان الظلم أعلى من قدرته على التحمّل؟
هنا تلتقي اليابان الإقطاعية مع واقعنا مباشرة، حيث يتحول الصمت إلى بنية كاملة للسلطة، لا إلى سؤال لاهوتي.
[8]عند هذه العتبة يتوقف الفيلم عن تقديم إجابات. إذ يتحول الصمت إلى اللغة الأخيرة. لغة لا تحتاج إلى صوت. لغة تضع الإنسان أمام ذاته، وأمام ذلك الحضور الغامض الذي لا يتكلم… لكنه يترك أثراً لا يمكن إنكاره. أما عند دوستويفسكي، سوف ينهار إيفان حين يواجه فكرة عذاب الأطفال الأبرياء على الأرض، ويتساءل: أي عدل إلهي يسمح بهذا؟
نعم يا سادة (وهذه من عندياتي وليس من دوستويفسكي)
ها هنا الجحيم... بالضبط هنا، وليس في الآخرة.
هنا في دموع طفل صغير. ولكن [دائماً هناك "ولكن]ما قيمة أي "جحيم مؤجل" إذا كان البشر يعيشون جحيماً ملموساً يومياً
هنا "الجحيم الحقيقي" وليس ما بعد الموت... هنا، في عرق العمال، وجوع الفقراء، وقهر السجناء، ومهانة النساء.
هنا، في الجحيم... حين يبيعنا رجل الدين (والسياسي؟) وهماً، سيكشفه الشيطان عاجلاً أم آجلاً (بسهولة لمن يرغب حقاً، وبدافع الشماتة لمن يرفض، سيكشف الشيطان له الحقيقة بدافع التشفي دون رحمة).



#محمود_الصباغ (هاشتاغ)       Mahmoud_Al_Sabbagh#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- دونالد ترامب وعصر ما بعد الحقيقة في الخطاب السياسي
- عن الطوفان وأشياء أخرى (50)
- عن الطوفان وأشياء أخرى (48)
- عن الطوفان وأشياء أخرى (49)
- قراءات في كتاب عصور الرأسمالية الأمريكية : تاريخ الولايات ال ...
- في معنى أن تكون فلسطينياً: -باراديم- الفعل السياسي والمعنى
- كيف يصبح الخوف مصنعاً لحكايات -الغولة-
- أنطولوجيا الخوف في ظل الدولة الأسدية
- من -الكيانية- إلى -الفلسطينيزم-: تحولات الوعي الفلسطيني بين ...
- المثقف السمسار والمستعمِر: التبعية والهيمنة
- ما بعد إيران: صعود نموذج -القوة الوظيفية- وانحسار استراتيجية ...
- رائحة الحياة الأولى: حكاية الجيوسمين
- إيران في عمق التداعيات والتحولات الجيوسياسية: هامش تحليلي
- حدود السلطة على النص
- العقوبات الاقتصادية على إيران: هندسة جديدة للشرق الأوسط
- ما بعد الطوفان : تفكك -الهلال الشيعي- والنظام الإقليمي الجدي ...
- من بلفور إلى ترامب: الدلائل الجوهرية
- الحصار الأخلاقي: عن عسكرة التفوق اليهودي في إسرائيل
- عن الطوفان وأشياء أخرى (47)
- عن الطوفان وأشياء أخرى (46)


المزيد.....




- نتفليكس تستحوذ على أعمال -وارنر براذرز- السينمائية ومنصات ال ...
- لورنس فيشبورن وحديث في مراكش عن روح السينما و-ماتريكس-
- انطلاق مهرجان البحر الأحمر السينمائي تحت شعار -في حب السينما ...
- رواية -مقعد أخير في الحافلة- لأسامة زيد: هشاشة الإنسان أمام ...
- الخناجر الفضية في عُمان.. هوية السلطنة الثقافية
- السعودية.. مهرجان -البحر الأحمر السينمائي- يكرم مايكل كين وج ...
- المخرج الأمريكي شون بيكر: السعودية ستكون -الأسرع نموًا في شب ...
- فيلم -الست-: تصريحات أحمد مراد تثير جدلا وآراء متباينة حول ا ...
- مناقشة رواية للقطط نصيب معلوم
- أبرز إطلالات مشاهير الموضة والسينما في حفل مهرجان البحر الأح ...


المزيد.....

- زعموا أن / كمال التاغوتي
- خرائط العراقيين الغريبة / ملهم الملائكة
- مقال (حياة غويا وعصره ) بقلم آلان وودز.مجلةدفاعاعن الماركسية ... / عبدالرؤوف بطيخ
- يوميات رجل لا ينكسر رواية شعرية مكثفة. السيد حافظ- الجزء ال ... / السيد حافظ
- ركن هادئ للبنفسج / د. خالد زغريت
- حــوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الثاني / السيد حافظ
- رواية "سفر الأمهات الثلاث" / رانية مرجية
- الذين باركوا القتل رواية ... / رانية مرجية
- المسرواية عند توفيق الحكيم والسيد حافظ. دراسة في نقاء الفنون ... / د. محمود محمد حمزة
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة. الطبعة الثانية / د. أمل درويش


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمود الصباغ - جدل الصمت، الحضور الخفي وانكسار الإيمان