محيي الدين ابراهيم
الحوار المتمدن-العدد: 8545 - 2025 / 12 / 3 - 08:18
المحور:
الادب والفن
في البدء لم يكن الكونُ شيئًا يُرى … كان همسًا في فراغٍ لا يعرف اسمه، وكان سرًّا يبحث عمّن يفكّ ختمه. ومن ذلك الهمس تشكّلت العوالم، لا بوحيٍ من ضوءٍ ظاهر، بل بارتعاشةٍ خفيّة في قلب العدم—كأن الوجود نفسه قام يصلي أول ركعة له. نحن لسنا أبناء النجوم فقط؛ نحن أبناء سؤالٍ قديم، سؤالٍ يطرق جدران الروح كلما حاول العقل أن يستريح. نسير في هذا الكون كما يسير درويشٌ في ساحة الليل، لا يطلب الوصول بقدر ما يطلب انكشاف الحجاب، ولا يقصد الحقيقة بقدر ما يقصد مذاقها. وهكذا… قبل أن نفتح باب العلم، نطأ العتبة التي يتجاور فيها الغموضُ مع الشوق، ويتقاطع فيها العقلُ مع الدهشة الأولى. فالكون ليس معادلةً نحلّها، بل حضرةٌ ندخلها؛ وكل معرفةٍ فيه ليست اكتشافًا… بل كشفًا.
وهناك، ثمة لحظات في تاريخ الإنسان يشعر فيها بأنه واقفٌ على أطراف الكون، يمدّ يده نحو فراغٍ لا آخر له، ويسأل سؤالًا بسيطًا حدّ الفضيحة: ما الذي يحدث هنا؟ وكلّما بدا الجواب قريبًا، فتح الكون بابًا جديدًا، ودعانا إلى متاهة أشدّ عمقًا، وأشدّ جمالًا. هذا المقال ليس محاولة للفهم فقط، بل هو عبورٌ شغوف في الظلمات المضيئة لأسئلة: المادة المظلمة، الطاقة المظلمة، عدم تماثل المادة والمادة المضادة، نوبة الإبداع الأولى للكون، ورقصة هيغز التي منحت الأشياء وزنَها. سنمشي بخطى هادئة، لكن بفضولٍ جارح، عبر كل هذه الفصول التي يقدّمها لنا الملف. سنحاول أن نسمعُ فيه همسات الخلق الأول، رجفة اللامرئي، وهدير الاصطدامات التي جعلت الكون ممكنًا.
1. المادة المظلمة:
حين تختفي الكتلة لتظهر الحقيقة تخيّل كونًا لا نرى منه سوى ٤٪ فقط. نحن—بكل ذكائنا وعلومنا وتلسكوباتنا—محدودون إلى هذا الحدّ. البقية تختبئ. هناك مادة لا تصدر ضوءًا، لا تُرى، لا تُمسك؛ لكنها تمسك المجرات مثل يدٍ سرية تحفظ شكل الأشياء. عام 1933، وقف فريتز زويكي أمام عنقود "الذؤابة" Reminds the luminous fog of early myths—لكن حساباته حطّمت الأسطورة. المجرات كانت تدور بسرعة تكفي لتمزيق العنقود، لكن شيئًا ما—شيئًا لا يُرى—كان يشدّها إلى الداخل. ذلك الشيء أصبح يُدعى: المادة المظلمة. هي ليست "عدمًا". هي حضورٌ كثيف، كثافة بلا صورة. كأن الكون يضع قناعًا من الظلال ليخفي أغلب ملامحه، تاركًا لنا فُتات الضوء فقط. ولعلّ أروع ما في المجهول هو أنه… موجود.
2. الطاقة المظلمة:
القوّة التي تدفع السماء إلى الهروب إذا كانت المادة المظلمة تشدّ المجرات معًا، فإن الطاقة المظلمة تفعل العكس تمامًا. تدفع النسيج الكوني كله نحو التمدد، بل وتسارع في ذلك التمدد كأنها ريحٌ لا تهدأ. ٧٠٪ من الكون ليس مادة ولا ضوءًا، بل قوة تُسَرّع هروب المجرات وكأن الكون يهرب من نفسه. أليست هذه فكرة مذهلة؟ كونٌ في حالة فرار دائمة. يظنّ بعض الفيزيائيين أن هذه الطاقة ليست سوى خاصية للفراغ نفسه. الفراغ… ذلك الذي كنا نظنه "لا شيء". لكنه في الحقيقة معبأُ ببحر من الاهتزازات الكمومية، بالزخم، بالمجالات، بالاحتمالات التي تظهر وتختفي. بل إنّ قيم الطاقة المتوقعة من ميكانيكا الكمّ لو كانت صحيحة حرفيًا، لكان الكون قد انفجر إلى شظايا منذ الدقائق الأولى. لكن الكون توازنَ بطريقة ما—توازنٌ هشّ، شعريّ، يشبه مواكبة راقصة على حافة انهيار. كأن الكون يكتب بيده قانونًا جديدًا كلّ لحظة.
3. المادة المضادة:
شبحٌ يشبهنا … لكنه نقيضنا منذ الانفجار العظيم، وُلدت المادة والمادة المضادة توأمين. كل جسيم من المادة العادية له شقيق مضاد مطابق في كل شيء—إلا أنّ شحنته معكوسة. ولو كان التوأمان متساويين تمامًا، لما كنت تقرأ هذه السطور الآن. لما كانت هناك نجوم ولا مجرّات ولا غبار ولا ماء ولا بشر. كان الكون سيُباد بنفسه سريعًا ويتحوّل إلى ضوء صرف. لكن، حدث شيء ما. شيء صغير. خطأٌ جميل في نسيج القوانين. مقابل كل مليار زوج من الجسيمات التي أُبيدت، نجا جسيم واحد فقط. جسيم واحد من المادة… هو كل ما تبقّى ليصبح كونًا. من هذا الجسيم وُلدت المجرّات والنجوم والسديم والحياة وكل لحظة حب وكل قصيدة. كم هو رقيق هذا الفرق! كم هو شاعرٍ أن يكون وجودُنا نتيجة لا تناظر صغير في قلب الزمن.
4. خدعة التناظر:
حين تكسر الطبيعة مرآتها كان العلماء يظنون أن الكون يحترم تناظراته: الشحنة، التكافؤ، الزمن. لكن في منتصف القرن الماضي، بدأ هذا الاعتقاد ينهار. تجارب "وو" الشهيرة ضربت المرآة الأولى: التكافؤ ليس مقدسًا. وبعد ذلك، ظهر أن التفاعل الضعيف يتجاهل تناظر الشحنة أيضًا. ثم جاء انهيار تناظر CP، ذلك الذي يجمع بين الشحنات والصور المرآتية. ومع كل مرآة تنكسر، يظهر فراغٌ آخر أكثر غموضًا. كأن الكون يقول لنا: "لستُ متماثلًا، ولستُ بسيطًا، ولستُ كما تظنون…" وهذا الانهيار في التناظر هو المفتاح الذي سمح بأن يبقى ذلك الجسيم الواحد الذي صار بذرة الكون المرئي. الكون لا يحبّ البساطة. يحبّ الاختلالات الصغيرة التي تُشعل الشرارة.
5. رقصة ساخاروف:
ثلاث شروط لتولّد عالم وضع الفيزيائي الروسي أندريه ساخاروف ثلاثة شروط ليفهم كيف غلبت المادةُ توأمَها المضاد. ثلاثة شروط صارمة، تشبه قواعد كتابة رواية كونية: أن لا يكون عدد الباريونات محفوظًا أي أن الكون في لحظة ما سمح بخلق مادة أكثر من المضادة. أن تُكسر تناظرات الشحنة والتكافؤ معًا لتمييز المادة عن أختها المضادة. أن يكون الكون في حالة لا توازن حراري فالخلق لا يحدث في السكون، بل في الاضطراب. هذه الشروط الثلاثة تحققت أثناء انتقال طورٍ كوني هائل بعد الانفجار العظيم، حين كان الكون يغلي بغبار الجسيمات وسماءٍ من البلازما. تخيّله: فقاعاتٌ من "الكون المكسور التناظر" تتشكل مثل بخار فوق ماء يغلي، وتتمدّد حتى تبتلع الكون كله. داخلها تُمحى أخطاء الوطن الأول، وتظهر انحيازات صغيرة تفضّل المادة على أختها المضادة. ومع كل فقاعة، كان الكون يعيد كتابة قانونه.
6. حقل هيغز:
اليد التي تلمس كل شيء المادة كما نعرفها—بوزنها، بصلابتها، بكثافتها—لم تكن موجودة في اللحظات الأولى. الجسيمات كانت تتحرك بسرعة الضوء، لا كتلة لها ولا ثِقل. ثم… ظهر شيء يشبه السكون البارد في قلب العاصفة: حقل ممتد في كل نقطة من الكون. حقل هيغز. كل جسيم يمرّ في هذا الحقل يتفاعل معه بدرجة معيّنة، وبقدر قوة ذلك التفاعل يكتسب كتلة. وإلا، كان الكون سيبقى ضوءًا بلا شكل. إنّه الحقل الذي أعطى الكون إمكانية التشكّل. أعطاه القدرة على تثبيت الجزيئات، على تكوين الذرات، على بناء العناصر، على توليد الكواكب، ثم الحياة. حين اكتُشف بوزون هيغز في مصادم الهادرونات الكبير عام 2012، كان العلم كمن وجد أثر القدم الأولى للإله الذي رسم المادة. ولهذا نصبت الهند تمثال ناتاراجا – شيفا الراقص – أمام سيرن؛ فهيغز هو رقصة الخلق، رقصة التوازن بين الوجود والعدم، رقصة يدور فيها الكون حول نفسه محاولًا حفظ شكلٍ ما في فوضىٍ لا تنتهي.
7. الانفجار العظيم:
لم يكن ضوءًا فقط… بل قصيدة في الثانية 10^-12 بعد الانفجار العظيم، كانت الجسيمات تُخلق وتفنى بلا توقف. كان الفراغ نفسه يغلي. وبين تقلبات الكمّ، ولدت بوزونات الهيغز، ثم تماهيت مع الحقل الذي غمر الفضاء. وببطءٍ، اكتسبت الأشياء كتلتها. ثم برد الكون بما يكفي لتتحد الكواركات إلى بروتونات ونيوترونات. ثم بعد ذلك بيسير من الزمن، تشكّلت النوى. ثم الذرات. ثم النجوم الأولى التي أشعلت المصابيح الأولى في ليل الكون. تخيّل تلك اللحظة: الظلام الكوني الممتد بلا نور… ثم فجأة نقاط مشتعلة، تكاد تسمع خفقها كمصابيح فوانيس معلّقة في فراغٍ لا يصدق. كان الكون شابًا، لكنه كان يعرف ما يريد أن يكون.
8. الكون كرقصة:
بين الخلق والفناء والفراغ على مدخل سيرن، يقف تمثال ناتاراجا: الإله الراقص على دائرة النار. يدور حول نفسه ويحمل في يده الكون وفي الأخرى الفناء، وفي الثالثة الإيقاع، وفي الرابعة العفو. إنه ليس مجرّد تمثال. إنه تمثيلٌ سريّ لحقيقة أن الكون ليس معادلة فقط، بل رقصة. رقصة بين المادة والمادة المضادة. بين الجسيم والمجال. بين التفاعل الضعيف وتكسير التناظر. بين التمدد والتبريد. بين الانفجار والرتق. بين الوجود والعدم. وفي هذه الرقصة، نحن لسنا متفرجين. نحن إحدى خطواتها.
وما الذي يعنيه هذا كلّه لنا؟ أن الكون لم يخلقنا لأننا مهمون. لكنّه خلقنا لأن خطأً كونيًا صغيرًا جعل المادة تغلب أختها المضادة. لأنّ حقلًا خفيًا منح الجسيمات كتلتها. لأنّ فراغًا لا نهائيًا نبض بالاضطراب. لأنّ التناظر ليس قاعدة، بل استثناءٌ يُكسر في اللحظة المناسبة. وهذا يمنح وجودنا معنى من نوعٍ مختلف: لسنا أبناء الضرورة… نحن أبناء الصدفة. لكنّ الصدفة هنا ليست فوضى، بل إبداع. نظام يتشكل من اللا توازن. كون يكتب نفسه لحظة بلحظة، ونحن جملة صغيرة من نصّه. أجمل ما في العلم أنه لا يقتل الروح. بل يفتح الباب لتساؤلات روحية أعلى. فعندما نعرف أن الكون ليس كما يبدو، يصبح علينا أن نعيد تعريف أنفسنا أيضًا.
ومن ثم، فالكون ليس كرة نار. ولا فضاءًا فارغًا. ولا معادلة على ورقة. الكون حكاية، وبداية الحكاية أعمق من أن تُقال، ونهايتها أبعد من أن تُرى. وما بين البداية والنهاية، نحن المشّاؤون في الدهشة. نكشف ستارة… فنجد ستارة. نسأل سؤالًا … فتولد أسئلة. نفتح الباب… فنجد بابًا آخر مواربًا ينتظر خطوة. وربما هذا هو سرّ الشغف: أن يظلّ الكونُ أكبر من معرفتنا، وأقرب من نبض القلب.
خاتمة:
حين يصبح السؤالُ وطنًا في النهاية، لا أحد يستطيع أن يقول إنه فهم الكون. نحن لا نقف على قمته، بل على عتبته. ننظر في داخله كما ينظر طفلٌ في جوف محارةٍ وجدها على الشاطئ، يسمع فيها هديرًا عظيمًا ويظنّ أنه صوت البحر كله. لكن الحقيقة أعمق من أن تُحتوى في محارة، وأوسع من أن تُقال في معادلة. لقد تعلّمنا من المادة المظلمة أن أكثر ما يصنع العالم هو ما لا نراه. وتعلّمنا من الطاقة المظلمة أن الكون لا يتمدّد فقط، بل يحاول أن يبتعد عن تفسيره. ومن عدم تماثل المادة والمضادة أنّ الحياة كلّها قد تكون انحيازًا صغيرًا في نصّ الوجود، خطأً جميلاً لا يريد الكون إصلاحه. ومن هيغز تعلّمنا أنّ الأشياء ليست موجودة لأنها "صُلبه"، بل لأنها تتفاعل؛ كأن الوجود نفسه علاقة، لا مادّة. ربما الفلسفة العميقة ليست في فهم الكون، بل في فهم ما يفعله هذا الكون بنا: كيف يجعلنا نبحث؟ كيف يدفعنا إلى إشعال نارٍ صغيرة في ليلٍ واسع؟ كيف يجعل منّا كائناتٍ تشعر بأن وراء هذا الليل رسالة ما، لم نقرأها بعد؟ في قلب كلّ هذا الغموض، يلوح درسٌ بسيط: لسنا مطالبين بأن نفكّ شفرة الكون… بل بأن نصغي إليه. أن نمشي في العتمة بطمأنينة السائر لا بخوف الضائع. أن نقبل أنّ المعرفة ليست محطة، بل حركة—تمامًا كما أن الزمن نفسه ليس خطًا، بل سهمًا يشقّ طريقه عبر فوضى تتّجه نحو المعنى. لعلّ أجمل ما في الكون أنّه لا يمنحنا إجابات نهائية، بل يمنحنا قدرة لا تنتهي على التساؤل. وما دام السؤال حيًا… فنحن أحياء. وما دمنا نندهش… فالكون يكتبنا كما نكتبه. وهكذا—في ليلٍ لا سقف له—نترك المقال مفتوحًا، كما ترك الكون ذاته مفتوحًا: بابٌ موارب، خطوةٌ نحو مجهول أجمل، وصوتٌ خافت يقول: “تقدّم… فالرحلة هي الحقيقة.”
#محيي_الدين_ابراهيم (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟