مجدي جعفر
الحوار المتمدن-العدد: 8539 - 2025 / 11 / 27 - 00:41
المحور:
الادب والفن
{المُعلِّم الجوّال}
(الجزء الأول)
رواية: واقعية كاشفة، لم يلجأ فيها الكاتب لسردٍ موازٍ
يتوارى خلفه،كما يفعل البعض تجنّباً لعقاب أو خوفاً
من عواقب المكاشفة.
رواية: يمتد زمنها من حرب ١٩٤٨م كنقطة للبداية،
وحدّد المكان ب"ديرب نجم"إحدى مدن محافظة
الشرقية، وهو إيحاء بالمعايشة والواقعية المحلية
الحقيقية، باعتبار أنه بالفعل من سكان تلك المدينة.
رواية: لم يستخدم فيها الكاتب ضمير المتكلم/المُخاطِب
(المنفصل/المتصل)، وإنما استخدم فيها ضمير
المخاطَب (بفتح الطاء)،
ويسند إلي المخاطَب(صاحبه) كل قول وفعل مع إضافة
خلفية للأحداث المتزامنة خلف أقواله وأفعالِه.
وكأنه يوجه الخطاب للجميع، من خلال (انت/كاف
الخطاب)، وهي تقع على مستوى(انتم/..كُم)، وبالتالي
اختار المواراة خلف الضمير، وهو مايشعرك بأنك
مهما كانت لديك من جرأة وشجاعة، فلا يمكن للأديب
في بلاد القهر والاستبداد أن يكون له جموحه، وبالتالي
بحتال الأديب باستخدام الألفاظ، بالضبط كمن يريد
أن يصرّح بشيء من رأيه، فبدلاً من أن يقول: قلت،
يستبدلها ب(قالوا).
رواية : طاف فيها الكاتب بجُلّ المشكلات والقضايا والآفات
التي مرّت بها البلاد ،والتأثر بالتحوّلات العربية
والعالمية حتى في أدق الجزئيات،
التي رآها ورأيتها معه، ولم أجد في
إسهابه عالة على الرواية، بل إسهاباً
ضروريًًا بلا شك، لأن في هذه التفاصيل الدقيقة يكمن
الوجع الحقيقي.. فهو لم يلجأ لنقاط عريضة فحسب،
ولم يترك نقاطاً فارغة تشير اليها، بل ملأها بتلك
التفاصيل التي كانت ضرورية، لتجسيد المعنى والمعاناة
من ناحية، وتجنّب الرتابة، وإضفاء روح من الواقعية
المحلية التي صعَّدت من متعة الرواية.
رواية : تتّسم ببساطة الأسلوب رغم حجم القضايا واتساع
مدى ما فيها من موضوعات شتّى (سياسية/اقتصادية/
اجتماعية/…. "، إلا أنه وكأنه تعمّد اختيار هذا الأسلوب
_ليس عجزاً عما يليق بالنخبة الثقافية_ بل للتبسُّط في
مخاطبة كل المستويات الثقافية، خاصة الجمهور
العريض من الجمهور الذي يئن مما سردَه من
موضوعات لصيقة بحياته وذكرياته، والتي بالفعل
يعيشها في الوقت الحاضر والآني، فتلمس شغافَ
قلبه ومجريات واقعِه فينفعل بها كما انفعل بها الكاتب.
رواية : تؤدي رسالة عظيمة ، تؤكد أن الأديبَ لاينفصل
عن واقعه، ولا يغفل عن قضاياه، وأنه يشارك الجمهور
معاناته، كما يكشف ويفضح مساوئ هذا الواقع،
من أجل مطاردة مافيه من قوى الشرّ المتوارية خلف
الحجُب ،والتي تسبّبت في مرارة
هذا الواقع، والحدّ من هذا الجموح نحو التيه الذي
نعيشه. فهي رواية تكشف أن الأديب صاحب رسالة
عظيمة، يجب أن يُقدّر في مجتمعه ويُعظَّم دوره،
وعلى الجماهير أن تتابع أعماله الأدبية، ليستنيروا
بكتاباته، فالأدباء هم نقطة بداية كل تغيير.
__________
" رواية لم أقرأها.. أدعوكم لقراءتها"
[ربما هو غريبٌ هذا العنوان، لكنه عنوان أريد به مافوق
القراءة وتجاوزاً لحدودها، وأعنى بها أنها لم تكن مجرد قراءة فحسب، بل "معايشة" حقيقية للرواية، وكأني كنت
ذلك المُتحدَّث عنه في الرواية.. في المرور بتلك الحقَبِ
الزمنية، وأحداثها، والتأثر بها، وأنني تحمّلت كل مافيها
من آلام، وشاهدت كل مافيها من مآسي الآخرين.]
"أدعوكم لقراءتِها"
_________
(الجزء الثاني)
بعد أن تحدثنا عن الملامح العامة للرواية في (الجزء الأول)
سنتحدث عن الموضوعات الرئيسية بها في هذا الجزء، وذلك
لأنه يعنينا تماماً ماتدور حوله الرواية.
الرواية حُبلى بكثرة الموضوعات المتنوعة، وطوافها المكاني
الذي يُعد أبرز عناصرها، فكثرة الترحال يعني عدم الاستقرار، وهو ما تشير إليه الرواية بقوة، والتيه الذي ابتلع
الباحثين عن مستقبل، والمُمثّلين في شخصية المُعلّم، والذي
اتخذت الرواية عنوانها منه (المعلم الجوال) ويقصد به "المعلم التائه في دروب المستقبل، الذي يذهب ويعود خالي الوفاض من رحلته.. ثم لماذا المعلّم، لأن المعلّم أساس مستقبل البلاد وأمل الأمة في النهوض، وعندما يستهان به
ويوضع في فيافي التيه، فقل على المستقبل والبناء والنهوض
السلام.. هذا ما نضحت به الرواية، او ماحملته في احشائها،
فهي حُبلى بمعلّم معاق.
إذن أمامنا عناصر ثلاثة تقوم على اساسها الرواية، ودلالة
هذه العناصر:
*الموضوعات ودلالاتها.
*دلالة المكان
*دلالة الزمان
وخلاصة ذلك مما طرحته الرواية في تلك العناصر.
_______
(أولاً)
الموضوعات
" "" "" "" "
*العدوان الإسرائيلي وماخلفه من معانٍ قاسية (لاجئ/مهجَّر)
ف"كلمة(لاجئ) مرتبطة بالفلسطيني"، وكلمة(مُهجّر) مرتبطة
بأبناء مدن القناة الذين هجروا الديار إثر الاجتياح الإسرائيلي
الغاشم"، "وكلا الكلمتين السبب المباشر في رواجهما هي إسرائيل"." ونحسب ان الكلمتين من الآثارِ السيئةِ والمقيتة والمميتة للاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية في فلسطين والأردن وسوريا ومصر ولبنان.. "[ص 15].
وهذه الجُمل تختزل مقدمات تاريخية من هشاشة الأمة العربية، فلولا تلك الهشاشة ماكانت تلك النتائج المأساوية.
هشاشة صنعناها بأنفسنا من مؤامرات وخيانات واستلقاء
في حجر الغرب لتمكين بعض الملوك والأمراء من عرش
السلطة، فنتج عنه تقسيم صنعناه بأنفسنا وتفتيت من أجل أن يحصل كل منهم على بقعة يحكمها، وتكون له دولة وعرش،
وأسرار أخرى فجّرها التاريخ، وألقاها بين أيدينا فيما بعد،
ومازالت هناك أسرار تحيط بأسباب تلك الهشاشة، لم تبدُ
لنا بعد، إلى جانب ماخلفه الاستعمار بعد سلب ونهب، فترك أمةً طريحةَ الفراشِ عاجزةًّ عن الزَّود عن نفسها، ثم ألقى
في حجر الأمة فأراً يتغذّى على مابقي منها، او يقرقض
بصفةٍ دائمة كل محاولة لرتق ثيابها الممزق، ترك لها هذا
الكيان الصهيوني ليواصل تمزيق ثيابها. لذا وضع الكاتب
هذا الكيان كبداية حقيقية للمأساة التي تغُذُّ السيرَ في ثقةٍ
ليتشكَّلَ الكِيان في صورٍ شتى بين فأرٍ وثعلب وذئب، ولاحول
ولاقوة بالوطن الخانع، الذي لم يقبل بالصراع العربي الإسرائيلي، فأضاف من عنده صراعاً عربياً عربياً ليضيف
إلى هشاشته وَهْناً على وَهْن وعجزاً ومرضاً، فلا يقوى على ان يهشَّ ذبابةً تمُرُّ بوجهه.
الكاتبُ بدأ اولى خطواته وتجواله من حيث بدأت المأساة وبرزت أظافرها لتنهش في جسد الأمة..
فأظهر معنيين (لاجئ ومُهجّر) لتجسيد تلك المأساة على
حقيقتها،وكأنه يقول: وهل هما إلاّ من هشاشة وتخاذل وتخلّي!
*يدخل بنا الكاتب إلى موضوع آخر، ومعنى إخر مغاير تماماً
.. إلى معنى كلمة "كوسة".. كلمة الِفناها ونعلم دلالتها، وهو
يقول:" وتعني الوساطة والمحسوبية ".." فكانت الوساطة
والمحسوبية قد بدأت تتفشّى في المجتمع المصري".[ص17[
والحقيقة انه ينبغي لنا أن ندرك في قراءتنا معنى الارتباط وكُنهَ العلاقةِ بين جُمل أو كلمات قد لاتبدو متشابهة تماماً، بينما علينا أن نستعيرٕ من التفكير الفلسفي بعض وسائل التأمل والفهم، فالتفكير الفلسفي دائماً ما يبحث عن العلل البعيدة،والغير مباشرة. فلنجرّب ذلك… هل هشاشة المجتمعات تحدث من علة قريبة أو غير مباشرة فحسب؟
كلاّ.. فهناك مقدمات قد تكون قريبة أوبعيدة تساهم إلى حدّ
كبيرٍ في صُنعها، وهناك ماقد يعتبره البعض عنصر، او عامل ثانوي لايضرُّ كثيراً، بينما الكاتب يؤمن أن"معظم النار من مستصغر الشرر" فلا تستهين بعود ثقاب، فلربما أحرق
قريةً بكاملها.. هذا ما يشير إليه الكاتب، بل ويؤكده في أكثر من موضع في روايته، لدرجة إنه يتخطاه، ثم يعود إليه مرة أخرى (وسنؤكد على ذلك فيما بعد).. ف"الكوسة"التي
هي تعني المحسوبية والواسطة، ربما في عينك عود ثقاب،
لكنها إحدى العوامل التي تفشَّت في المجتمع المصري، بل
العالم العربي كله (وهو ما يذكره الكاتب أكثر من مرة في جولته)، وذلك يشير إلى فقدان العدالة، فإذا كانت المحسوبية والوساطة في القاع، والعدالة في القمّة، فأي هزّة في القاع
تعمل على اختلال القمة، والعدل/العدالة هي الضمان الوحيد
لمجتمع مستقر، وعندما تختل العدالة، فلا استقرار ولا ثقة،
وعندما تنعدم الثقة تأتي النتائج أسوأ ماتكون، فتضعف بنية
المجتمع وتختل القيم الإنسانية ويخبو الانتماء، فهل في فقد ذلك نبحث عن بنيان مرصوص قوي يدافع عن أمة؟
*الإشاعة، ومصادرها: حيث يوضح الكاتب الأرض الخصبة
لنموّ الإشاعات، وأن مصدرها الأساسي هو الجهل، وكأنه يعود بنا _بذكرها_إلى أن قتل هذه الإفة، إنما يكون بالتعليم،
الذي يرقى بنا لمستويات تتجاوز هذا المرض المتفشّي، وتفشّيه، وأرضه الخصبة في القرى/العشوائيات/المناطق التي
لاتلقى اهتماماً بالتعليم، وخاصة في الوسط النسائي. فالتعليم هو الحل الأمثل لبناء مجتمعٍ راقٍ يدرك خطورة هذه الآفة ويتغلّب عليها، لأنها عنصر هدام في أي مجتمع يطمح في البناء والرقيّ.. وقد ساق مثالاً لتلك الأرملة التي تركت القرية وحملت أولادها إلى المدينة.
"حين حسمت أمرها وتركت القرية بقرارٍ جرئ..".." كيف
لأرملةٍ شابّة أن تعيش بمفردها في المدينة…. اكيد تدبّر وتخطّط لتتزوج هناك، او لتعيش على هواها بعيداً عن عيون الأهل".. " وكانت النساء أكثر مضغاً لسيرتها.. ".[24/23[
*أثر حرب أكتوبر في الإقبال على الكليات العسكرية:
فيعدّد مزايا الالتحاق بتلك الكليات، مقارنة بما عداها، في تبرُّم غير واضح مكتوم بداخله.." بعد انتصار حرب أكتوبر
أخذت أسهم الكليات العسكرية في الارتفاع. ".." أخذت…
تجتذب الشباب، وارتداء الزي العسكري أصبح حلماً يراود
الكثيرَ منهم". ويُرجع أسباب ذلك لأسبابٍ مادية,،وليس رغبة
داخلية موّارة في وضع حدّ لما يتربّص بنا من أخطار خارجية : ".. زيادة رواتب ضباط الجيش… المواصلات للضباط بالمجان، والعلاج بالمجان، ولديهم أفضل النوادي، افضل المستشفيات، البلاچات، شقق تمليك، سيارات بالتقسيط… والاستثناءات للضباط كثيرة.."، وكأنه يقصد بذلك التأكيد على مولد طبقة جديدة، لها ماليس للمجتمع كافّة، لدرجة أنه مباحٌ لها كسر أشارة المرور" ويتم التغاضي عن كسر أشارة المرور"، وهو نوع من التغاضي المتعمّد، ولكنه جاء بذكر تلك النِّعَم التي صاروا إليها تعويضاً عن التبرُّم الصريح.
[28/27/62]
*أثر حرب أكتوبر على ثراء دول الخليج والنتائج المترتبة على ذلك:" تكدّست الأموال في دول الخليج، وليبيا، والعراق وغيرها من الدول التي تعوم على بحارٍ من النفط، وهذه الدول تشهد اليوم نهضةً كبرى، وتنميةً عظمى في شتّى المجالات، وتنفق ببذخ على التعليم الذي حُرمَت منه طويلاً.." [ 30]وكانت النتائج: الإقبال على المعلّم المصري.. لماذا؟ لأنهم بعد حرب أكتوبر وما سقط عليهم من ثراء، دخلوا مرحلة البناء والتعمير والنهضة، والوسيلة ألى ذلك: التعليم، فكان المعلم المصري هو الساعد الرئيسي فيما يطمحون إليه،وبالفعل:"عادوا ليبنوا العمارات الشاهقة،ويركبوا السيارات الفارهة،…،.."، لكنهم بعد أن وصلت تلك البلاد للمرحلة التي يتمنونها، ومع طموح المعلمين ذوي المرتبات الهزيلة في مصر في السفر إلى دول الخليج التي فتحت أبوابها للمعلم المصري، زاد عددهم واضمحلّت الرغبة في تواجدهم، تخلّت عن التعاقد معهم وتركتهم للوكلاء والسماسرة والنصّابين حتى تجرّعوا مرارة السفر إلى هذه البلاد، وراحوا يبحثون عن بديل آخر ينتشلهم من اوضاعهم الرديئة في بلادهم.. أيّ طوق نجاة يعبر بهم إلى برّ الأمان وتحقيق بعض الطموحات.
ويذكّرنا بسنوات السفر للعراق، كبديل لدول الخليج، والتي بدات في وضع شروط قاسية لدخول المصريين إليها. ثم
وصف بعض التفاصيل الدقيقة حول العراق، ووضع المصريين بها في عهد صدام حسين.
*التحوّل من الأشتراكية للرأسمالية والانفتاح:"بدأنا نعارض
السادات الذي تخلّى عن الإشتراكية…، وبدأ في فتح الأبواب
للرأسمالية ".. "عرفت ياصاحبي الرأسمالية المستغلة"، ويعرّفها من خلال قوله: " رجلٌ اكرش نصف متعلّم، له ربع عقل، يستغل حاجتنا، وتحت ضغط الفقر والعوز يمصّ دماءنا
ويسرق جهدنا ووقتنا.. ".
فظهر المستورد، وتراجعت الصناعات المحلية، وظهرت الرشوة، وظهر التهريب، والفهلوة، ووُجِدَت البضاعة المغشوشة في بئر السلم، ونهم الأستهلاك، وظهور
الأنصاف في كل شئ.
حتى أساتذة الجامعات استفادوا، وظهر من بينهم طبقة من الأثرياء الجدد، فقد كان" انفتاح السداح مداح "بتعبير الكاتب
الصحفي احمد بهاء الدين.
فقد بدا اساتذة الجامعات ببيع المذكرات للطلبة، وهي التي يأتي منها الامتحان، وتنافس الأساتذة على طبع تلك المذكرات، وأقبل الطلاب على شرائها، وانتفع الأساتذة من دخلها، حتى كانت بداية ثرائهم. إشارة من الكاتب إلى بدء مرحلة الخلل في العملية التعليمية، أذ أصبح التعليم مجالاً
للتجارة والكسب، وانتفت عنه صفة الفرض والالتزام بأداء
الرسالة. ناهيك _مع الانفتاح_على فتح باب الرشاوي، والفساد الذي زحف بقوة إلى القرية والمدينة.." وبدأنا نرى
فساداً أوسع بكثير.. "[48]..." الفساد ينخر في البلد ياصاحبي، في ك ركن، وفي كل مصلحة، وفي كل وزارة، لاتوجد قطعة في مصر ألا والفساد يشغي فيها، ويتغلغل في
كلّ ذرّاتِها.. "[ص144].
و" لم يعد التعليم هو المعيار، أصبح المال هو المعيار، وقيمة
الإنسان انحصرت فيما يملك من اموال وعقارات وأطيان…
تراجع العلماء والأدباء والمفكّرون أمام لاعبي الكرة والراقصين والراقصات والممثلين والممثلات.. "[ص158]
*استفحال الفساد مع ظهور الحزب الوطني: وهو حزب
الرئيس السادات، وتمثيلية تكوين الأحزاب الكارتونية، والاتفاق على دور كل حزب:" وهي لعبة في يد الرئيس، وشكلاً وديكوراً يباهي به العالم ويغازل الدول الغربية وخاصةً امريكا،… اختار الرئيس الحزب الوطني ليكون
رئيساً له، ولأنه حزب الرئيس فهو لابد ان يكون حزب
الأغلبية، وهو الذي يشكّل الحكومة، وسيطر الحزب الوطني
على المجالس النيابية والمحلية، وتمكّن من كل مفاصل الدولة".[49] رصد الكاتب للمشهد السياسي كان دقيقاً بلاشك،
وقد اختزله في تلك السطور، ليطلعنا على ما وراء المظهر
البرّاق للشكل السياسي الذي يعمل على خداع الجماهير.
*إنهيار التعليم : تحدثنا من قبل عن المرحلة التي بدأ فيها
انهيار التعليم، عقب مرحلة الانفتاح، وكانت البداية من الجامعات بطباعة المذكرات للطلاب وبيعها، وأغرى ذلك
بقية اساتذة الجامعات بأن يجعلوها"سبّوبة"يجنون من ورائها
الأموال، ومادخلت نيّة الثراء والكسب في ساحة التعليم إلا
ونقضت بنيانه. وتفشّي الدروس الخصوصية الناتج عن قصور في الدور التعليمي للمدرسة، فأصبحت كما ذكر
الكاتب: "والدروس الخصوصية كانت هي الباب الخلفي
الوحيد للمدرّس ليُحسّن دخلَه، والدولة تغُضُّ الطرف…"
[ص 144]. وأرجع أسباب غضّ طرف الدولة عن الدروس الخصوصية، حتى لا تشغل نفسها برواتب المدرسين الهزيلة
ومطالبتهم بأي زيادة، طالما وجد لنفسه بديلاً آخر يتلهّى به
بعيداً عنها، ليس ذلك فحسب، وإنما هناك سبب آخر هو كما يقول: "وبعض السّذّج يظنون أن الدولة تغض الطرف عن الدروس الخصوصية لأن راتب المعلّم هزيل.. ولكن الدولة
أمكر وأخبث من هذا، فهي تريد إفشال التعليم برُمّته، كما أفشلت القطاع العام" [ص 146]. وفي ذات الوقت: "يتم التوسّع في فتح المعاهد والمدارس الخاصة، والجامعات الخاصة".." إذن كان لابد من إفشال التعليم تمهيداً لخصخصته، شأنه شأن القطاع العام"[ص 148]. ناهيك
عن تفشّي الغش بصورة فجّة، وهو ما يساعد على ظهور
جيل يحمل شهادات ولا يعلم شيئاً، ولاقيمة له.
ارتباط نقابة المعلمين بالسلطة والنظام، وبالتالي تتبنى سياساته، ولا تبالي بحقوق المعلمين.
المحسوبية والوساطة، وتجاوز المتفوقين في الجامعات
لصالح أبناء أساتذة الجامعات وذوي السلطة.
*البطالة، وماترتّب عليه وآثارها النفسية والاجتماعية والاقتصادية.
* لعبة الانتخابات.
*أثر الغربة على المغتربين وزوجاتهم وذويهم. "فكانت حاجة
كل منهم إلى زوجته حاجةً مُلِحّة، وضرورية.." [ص 237]
*اثر محاولة اغتيال مبارك على فك الأرتباط بأفريقيا، وانتهاز القذافي الفرصة لتوطيد علاقاته معهم.
*حرب المياه التي كانت أحد أسباب اتجاه إسرائيل لإفريقيا..
*اسباب نزوح الأفارقة لليبيا.
*الغزو العراقي للكويت، وأثره في الانقسام العربي، وآثاره
الاقتصادية على العاملين بالكويت.
*الغزو الأمريكي للعراق.
*عجز مجلس الأمن والأمم المتحدة عن القيام بأي دور
إيجابي بخصوص مشكلات الوطن العربي، كما حدث في
الغزو الأمريكي للعراق، وقضية فلسطين.
.. وموضوعات أخرى كثيرة متفرقة ومتنوعة داخل الرواية.
*المكان والزمان في الرواية
____________
عنوان الرواية : "المُعلّم الجوّال".. وهو معنى يرتبط
بالحركة دائماً والتنقل المستمر، والحركة مرتبطة بالمكان
والزمان ارتباطاً لصيقاً.
أولاً : عنصر الزمان ودلالته:
الزمان، وإن كان يعود لسنة 1948 في ذكر ميلاد
المأساة العربية، بالتمكين الصهيوني من أرض فلسطين،
وإن كان يعود به إلى أبعد من ذلك بكثير عند المصريين القدماء مروراً بمحمد علي لتعرّف على منابع مياه نهر النيل وحراستها، فقد كان زماناً يُحكى قبل أن يتعرّف على صاحبه في السبعينيات. وهذا الزمان القديم لم يكن حشواً في الرواية،
بل كانت له دلالاته التي تنعكس على التفريط الحالي فيما
حرص عليه القدماء لحراسة مستقبل أبنائهم.
إذ يقف الكاتب عند محطات زمنية هامة، مرتبطة بأحداث عالقة في الأذهان، مطويّة في كتب التاريخ تفيض بالمأساة
التي تعيشها الأمة الأسلامية وتلعق مرارتها الأمة العربية على وجه الخصوص، ف(1948)مرتبط ببدء الحسرة
العربية، ثم (1952) للتحرر من الاستعمار والقصر والإقطاع ومساندة الدول العربية لنيل استقلالها والبدء في
بناء دولة مصرية ناهضة، وعالم عربي جديد، ثم(1967)
المرتبط بالهزيمة وآثارها من احتلال إسرائيل لسيناء والضفة
والجولان، في دول ثلاث هي مصر وفلسطين وسوريا، وحرب أكتوبر (1973)لاسترداد جزء من الأراضي المحتلة، والكرامة العربية. والفترة التي تلت ذلك من معاهدات واتفاقيات سلام، ثم كارثة الانفتاح في عهد السادات
وما جلبته من مفاسد شتّى.
مرحلة جديدة بعد ذلك، تلك التي يبدأها "المعلّم الجوال" الذي
هو ناصر البحراوي، الذي هو الكاتب نفسه،والبدء في رحلة
شاقة، متأثراً بما خلفته أزمنة مأساوية متلاحقة عليه حتي
عاد إلى بلاده، لم يبق منه إلّا هيكل إنسان يحكي ذكرياته
الأليمة.
عام 2003 المرتبط بالغزو الأمريكي للعراق.
يركز الكاتب، مازال، على الزمن، فيعدّد القوانين المؤثرة
سلباً على قطاعات شتى في المجتمع، فيذكر القانون رقم
82 لسنة 2006 المعروف ب(إنشاء هيئة ضمان الجودة
والاعتماد).. لاتضم في تشكيلها أي خبير تعليمي أو أي أستاذ
في كلية التربية أو ممثّل عن نقابة المعلمين، وبإنشاء هذه الهيئة تفقد النقابة دورها.
تلك أهم المحطات الزمنية، على سبيل المثال لا الحصر، التي أوردها الكاتب في روايته، والتي كان لها عظيم الأثر
على المستوى المحلي والعربي.
ثانيا : دلالة الأماكن
تعدُّد ذكر الأماكن المختلفة والمتفرقة، والتي تنتمي إلى
مصر والعالم العربي، وهو ما يدل على كثرة الترحال، وكثرة الترحال ترتبط بكل تأكيد بعنوان الرواية، كما تشير بقوة
إلى تنوّع المآسي وتراكمها، فنجد من امثلة ذلك داخلياً:
(مصر) في إحدى قرى ديرب نجم، والمدينة/منيا القمح /الزقازيق/الرطبة على الحدود الأردنية العراقية /الكويت/العراق/طبرق على الحدودالليبية/بنغازي/ طرابلس/
سرت/مصراته/غريان/العزيزية/(مصر).
فنجد ان الرحلة ابتدأت من مصر وانتهت بمصر. ومابين الرحيل والعودة عبث، ومأساة، وأحلام موءودة.. لاشئ.
خلاصة ماقيل أن الكاتب يتحدث عن ذاته من خلال صاحبه
(ناصر البحراوي) ليتحرر من بعض القيود التي تفرضها
ضمائر المتكلم، وليجد متّسعاً وحرية أكبر من خلال الآخر
المخاطَب، او الغائب.
الرواية قريبة جداّ من السيرة الذاتية، ولكن بمعالجة فنية ممتعة، ودليل ذلك أنها تضمّنت تواريخ حقيقية، ووقائع تنتمي للحقيقة أكثر منها في الخيال.. فالخيال فيها لامساحة له، ولكن الواقع بحذافيره، لكن الرواية رغماً عن ذلك حملت تأثيراً واقعياً قويًّا إلى المتلقّى المتأثر بهذا الواقع، فكان لمصداقيتها تأثير واضح، وهي _أيضاً _إضافة تاريخية في شكل سردي
حلّقت مع حقب زمنية متتالية، إلى جانب ماقدمته من إضافة
معرفية.
تجربة جديدة ومغايرة لما سبق من كتابات الأديب / مجدي جعفر، كنت قارئاً لها، معايشاً لما فيها، بحكم معايشتي الحقيقية لفترة زمنية طويلة لما كان في الرواية، وكانت لي تجارب عشتها مما كان في الرواية، فلم تكن قراءة لها بقدر ما كانت معايشة حقيقية.
……..
تحياتي وتقديري للأديب المبدع/مجدي جعفر
متمنياً له دوام التوفيق.
(•)(•)(•)(•)(•)
ملاحظات على الرواية
•مما كان لايجب أن يقع فيه الكاتب، وهو ممن صدر له
العديد من الروايات ويعلم مايجب ومالايجب فيها، إلى جانب كونه أحد النقاد البارعين، هو ذلك الإسهاب التجاوزي الفائق
عن الحد، عندما ينقل أغنية مثل"اللهم لا اعتراض"كاملةً للأبنودي بكامل التكرار الذي جاء به مغنّيها، المطرب الكويتي(عبد الله الرويشد) ونحن نعلم ان المطرب يكرر الأبيات كثيراً: "اللهم لا اعتراض..، ياألله……" واغنية اخرى أعقبتها، وقعتا في( 7صفحات كاملة)،من ص 180_186". وأنه كان يكفيه التذكِرة بسطر أو فقرة
غنائية واحدة على الأكثر، أو اختصار لها، وليس نقلها
جميعها.
•ما أسنده لنقابة المعلمين، والملامح الجديدة لها في(23 صفحة) كاملة من خُطَب ومواد دستورية، من ص208_
ص 230.
والكاتب يعلم أن مثل توثيق مثل هذه النصوص الدستورية
ليس محلها الإبداع الأدبي في أي صورة من صوره، وأنه
كان يكفيه إشاريات من تلك القوانين من خلال نص دستوري
أ وثلاثة على الأقل يدلّل به على موضوعه.
•تكرار الموضوع الواحد أكثر من مرة خلال صفحات الرواية، وفي فترات زمنية مختلفة، كالفساد، وانهيار التعليم، وأثرحرب الكويت، وغيره(وإن كنا قد نجد لذلك من مخرج
تأويلي يشير إلى أن الآفات التي نعانيها آفات قائمة وداءات
مزمنة في مجتمعاتنا لم تعفُ بمرور الزمن، ولاتنمحي آثارها
فينا).
فكان من الممكن حذف الكثير من الصفحات بشأن الملاحظتين السابقتين، بما لايخلّ في أحداث الرواية على
الإطلاق.
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟