أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - مجدي جعفر - معاناة الكاتب وهمومه في المجموعة القصصية ( رؤوس تحترق ) للكاتب محمود أحمد علي.















المزيد.....

معاناة الكاتب وهمومه في المجموعة القصصية ( رؤوس تحترق ) للكاتب محمود أحمد علي.


مجدي جعفر

الحوار المتمدن-العدد: 8517 - 2025 / 11 / 5 - 15:20
المحور: الادب والفن
    


محمود أحمد علي واحد من الكُتّاب القلائل الذين أخلصوا لفن القصة القصيرة، واستطاع بفضل موهبته وإخلاصه لهذا الفن المخاتل والمراوغ الجميل أن يكون عازفا مبهرا ومتفردا، وكثيرا ما كان يعزف منفردا، بعد أن ترك الكثير من الأدباء كتابة القصة القصيرة، وذهبوا إلى كتابة الرواية، وخاصة بعد حصول كاتبنا الأكبر نجيب محفوظ على جائزة " نوبل "، فراح الكثير من النقاد يروجوا بأن الزمن هو زمن الرواية، وبأنها أصبحت ديوان العصر، وصاحب هذه المقولات، ضخ الأموال الخليجية الطائلة التي تم رصدها في مسابقات خاصة بالرواية، فانصرف المبدعين الحقيقيين عن القصة القصيرة وعن الشعر أيضا، وتوجهوا نحو الرواية، ولا ننكر أن هذا التوجه قد ساهم في إثراء الرواية العربية، وتنوعت في موضوعاتها وفي تشكيلاتها الفنية، وقفزت قفزات سريعة، وتوارت القصة القصيرة إلى الظل، ولولا القلة القليلة من الموهوبين وعشاق هذا الفن، ومنهم محمود أحمد علي، لتم تشييع القصة القصيرة إلى مثواها الأخير، فاخترق محرابها أرباع وأنصاف الموهوبين، ظنا منهم أنه فن سهل التناول، ومحمود أحمد علي العاشق لهذا الفن والمتيم به، استطاع أن يشق لنفسه طريقا، فمن خلال القصة القصيرة، استطاع أن يعبر عن همومه وأفراحه، يعبر عن أبناء جيله، وعن وطنه وتطلعاته وانكساراته، وعن الأمة بأسرها، وسأشير في هذه العجالة إلى موضوع واحد فقط، (معاناة الكاتب وهمومه ) وسوف نتناول الموضوعات البارزة الأخرى في مقالات مقبلة، ومن أهم الأفكار والرؤى البارزة التي طرحها الكاتب في قصصه، هي :
1 – هموم المثقف أديبا كان أو شاعرا أو مفكرا وعلاقته بالسلطة.
2 – الكاتب المثقف وهموم الوطن.
3 – الكاتب المثقف وهموم الأمة.
وسنتناول في هذه المقالة المحور الأول، وهو :
هموم الكاتب المثقف ومعاناته :
وسنكتفي في هذا المحور بمقاربة خمس قصص من المجموعة القصصية ( رؤوس تحترق ) وعناوينها : مسد كول لإمرأة مشعة، اغتراب، فشلت أن أصبح كاتبا، القصيدة والكراسي الخاوية، مشاوير.
والمجموعة صدرت عن نادي القصة في العام 2010م، وبالنظر إلى لوحة الغلاف، ووفقا للمنهج السيميولوجي نرى كاتبا يجلس في ظلام دامس، مُمتشقا قلمه، ومُمتطيا صهوة أوراقه، ومصباح كهربائي متدلي من سقف الغرفة، ينبعث منه ضوء خافت جدا، بالكاد يكشف عن الكاتب الذي يعصر ذهنه، وكأنه يجاهد ليزيح هذا الظلام الكثيف بالغرفة ( الوطن )، فهو يعي دوره في بيئته، ويعي حركته داخل محيطه الاجتماعي، فحسبه أن يشير إلى مواطن الداء ومكامن الخلل في المجتمع، وقبل أن نُفصل في هذه المسألة، نتوقف عند معاناة ومأساة الكاتب والمبدع والمثقف.
في قصة ( مشاوير ) نرى ذلك الشاب الموهوب والذي يكتب القصة القصيرة، ويحلم بمداعبة ماكينات الطباعة لحروف وكلمات قصة من قصصه المكدسة في درج مكتبه، وتٌنشر بإحدى الصحف السيارة، ويقرأ أهله وأهل قريته قصته ممهورة بإسمه، ويؤمنون بموهبته، ويكفون عن السخرية منه، والتهكم عليه، فهو ينفق أمواله في شراء الكتب والجرائد والمجلات، ويتهمونه بالسفه، لأنه يضيع أمواله فيما لا طائل من وراءه ولا نفع منه، ولم يكن أمامه غير طابع البريد، فهو يعيش بقرية نائية بالشرقية، فركب القطار المار بقريته، والمتجه إلى الزقازيق، لينزل بمحطة فاقوس، ويذهب إلى مكتب البريد، ويودع بداخله المظروف الذي ينام بداخله قصته، متمتما ببعض الأدعية الموروثة والمحفوظة، وصباح كل يوم سبت، موعد إصدار الصفحة الأدبية بالجريدة، يركب القطار، وينزل محطة فاقوس، وعند بائع الصحف، يمد يده بلهفة إلى الجريدة، ويفر في صفحاتها، وقلبه يعلو ويهبط، وعند وصوله إلى الصفحة الثقافية والأدبية، يبتئس، فلا يجد قصته منشورة، وتكررت المشاوير، وأخيرا يجد اسمه في باب بريد القراء، نشر المحرر اسمه الثلاثي، قائلا له انتظر نشر قصتك في الأعداد القادمة، رغم أنه كان يتمنى أن يقول له المحرر انتظر نشر قصتك العدد القادم، ولكنه فرح أيضا بنشر اسمه الثلاثي، وبالوعد بنشر قصته، فهي ستنشر حتى ولو بعد عام، وبنشرها يصبح كاتبا معترفا به، اشترى ثلاثة أعداد من البائع، فلأول مرة ينشر اسمه الثلاثي بصحيفة سيارة كبرى، ومشوار تلو مشوار، حتى تفاجأ بقصته منشورة، يذكر أنه قفز عاليا في السماء، ويذكر أنه سمع البائع يقول ( ربنا يشفي )، كل هذا لا يهم، المهم عنده ان قصته نُشرت، اشترى كل النسخ، وحملها تحت إبطه، وسار إلى محطة القطار يكلم نفسه في الشارع، وما أن استقر في القطار، ووضع على رجليه النسخ الكثيرة التي اشتراها، وأمسك بنسخة، وراح يقرأ قصته بصوت عال، ولكنه يكتشف أن قصته منشورة دون أن تحمل اسمه، فتساقط الدمع مدرارا على خديه، وتأتي المفارقة، فيتفاجأ بأحد الركاب، واقفا أمامه ويطلب منه جريدة، ويمد له يده بجنيه!
ومحمود أحمد علي استخدم المفارقة التصويرية في جُل قصصه، ولعبت دورا بنائيا هاما، وسنتحدث عنها في مقالات لاحقة عندما نتحدث عن الجوانب الفنية عند الكاتب.
تكشف القصة عن معاناة الأدباء في ثمانينات القرن الماضي، وخاصة الذين يعيشون في أقاليم مصر، فكانت الوسيلة الوحيدة بينهم وبين القاهرة هي طابع البريد، ولن نتحدث عن شللية النشر وغطرسة الاحتكار في ذلك التوقيت.
والمعاناة أيضا في قصة ( القصيدة والكراسي الخاوية !! ): وأبطالها ثلاثة شبان، جمعهم حب الأدب والشعر، ومنهم من يقرض الشعر، ومن يكتب القصة، يتبادلون قراءة الكتب، ويلتقون يوميا في منزل أحدهم، ليسمع بعضهم بعضا، وكونوا فيما بينهم جماعة أدبية، أطلقوا عليها اسم ( إشراقة )، ويريدون أن تخرج إبداعاتهم من الغُرف المغلقة إلى فضاء الشارع الواسع، ويتمنون أن يتعرف عليهم أهل القرية كشعراء وكُتّاب، المهم أن يعلنوا عن أنفسهم، ويستقطبوا كل من لديه موهبة من أهل القرية، وسرعان ما تنامى الحلم بداخلهم بعد أن علموا أن وزارة الثقافة، قررت بناء قصرا للثقافة بالقرية، فتضخمت الأحلام أكثر وأكثر، وراحوا يحومون حول الأرض الفضاء التي قررت الوزارة البناء عليها، ويشيرون إلى الأرض الفضاء، هنا يتحقق الحلم، ولم يصدقوا أنفسهم وهم يروا العمال والمهندسين ومواد البناء، وأحلامهم ترتفع رويدا رويدا مع المبنى، وتعرفوا على مدير القصر الذي تم تعينه من الوزارة لمتابعة تجهيزات المبنى قبل افتتاحه، أعربوا له عن أحلامهم وأمنياتهم، احتفى بهم وبأفكارهم، ووعدهم بان أول شيء سيتم تجهيزه غرفة لنادي الأدب، وستكون أكثر الحجرات اتساعا، وأفضلها تجهيزا، فهو – أي المدير – يعشق الثقافة، ويحب الأدباء، ويجب رعايتهم، وهذا من أهم أدوار الوزارة، ويكتشف هؤلاء الشبان عند الانتهاء من بناء وتجهيزات القصر، لم يتم تخصيص غرفة لنادي الأدب، وذهبت الغرف لفرقة الموسيقى، ولفريق التمثيل، ولفريق الغناء، وللمكتبة، ولهواة الرسم، وغرف لتعليم التفصيل والحياكة، و .. و ..، وبعد شد وجذب مع المدير، اقترح عليهم أن يخصص مخزن القصر " بالبدروم " للنادي الأدبي، ووافقوا على مضض، بعد أن وعدهم المدير بأنه سيخاطب الوزارة في شأن النادي الأدبي، فهو في النهاية العبد المأمور، وقاموا بكنس " البدروم " وغسله بالماء، وراحوا يعلنون في القرية عن كل من لديه موهبة في الشعر أو القصة فليتوجه إلى قصر الثقافة يوم كذا الساعة كذا، وفي نفس الموعد رأوا الناس تتدافع على باب القصر، فابتهجوا، وسرعان ما زالت البهجة، فالناس تتجه إلى غرف الموسيقى والتمثيل والغناء، ولم يطرق باب ناديهم الأدبي الذي بالبدروم أحد!
والشباب لم يستسلموا، فالشعر عندهم هوية الأمة، ويجب أن يظل، فعكفوا في البدروم، كل يحاول أن يلقي نص من نصوصه، ولكن صوت الموسيقى يأتي أكثر صخبا، فخطر ببال أحدهم بأن يذهبوا إلى غرفة الموسيقى في فترة الراحة، فتكون الفرصة سانحة لهم ليلقوا بأشعارهم أمام الجماهير الغفيرة، التي تنتظرهم حتى يفرغوا من وقت الراحة، واستحسنوا الفكرة، وصعد أحدهم ليلقي بقصيدته، هاجت الناس وماجت، وراحوا يسخرون من الشاعر، ويهتفون : " انزل مش عاوزينك "
الكاتب يشير إلى تهميش الثقافة المتعمد، وتقديم الراقصة والمغني والموسيقي ولاعب الكرة على الأديب والشاعر والعالم والمفكر، وينهي قصته بمقطع من قصيدة للشاعر الكبير فاروق جويدة :
( مُت فوق هذه الأرض ولا ترحل
وإن صلبوك فيها كالمسيح
فغدا سينبت ألفُ صبح
في ثرى الوطن الذبيح
وغدا يطل الفجر نورا
من مآذننا يصيح
وغدا يكون الثأر
من كهان هذا العصر
والزمن القبيح
فانثر رفاتك فوق هذي الأرض تنفضُ حزنها
ويطل من أشلائها الحلم الجريح
أطلق نشيدك في الدروب لعله
يوما يُعيد النبض للجسد الكسيح )
وجاء توظيف النص الشعري توظيفا رائعا، وخاصة أنه جاء في نهاية القصة، فلم يبتر حركة السرد أو يوقف نموه، وهذا المقطع الشعري، جعل النهاية حاسمة وقوية، وتشع بالدلالات وتحمل رموزا شتى.
ويستمر الكاتب في رصد معاناة الأدباء والشعراء، ففي قصة ( فشلت أن أصبح كاتبا ) المحاسب الموهوب وعضو اتحاد كُتّاب مصر، وكاتب القصة والرواية والمقالة النقدية، يفشل في تغيير المهنة في البطاقة من محاسب إلى كاتب! ويرصد ما لاقاه هذا الكاتب من تهكم وسخرية الموظفين بالسجل المدني، ووصموه بالجنون، ورغم أنه أتى بورقة مختومة من اتحادد الكتاب تبين أنه كاتب، ولكنهم رفضوا رفضا قاطعا لأن هذه المهنة غير معترف بها، رغم أن اتحاد الكُتّاب المصري ووفقا للدستور المصري، نقابة للكُتّاب شأنه شأن نقابة الأطباء والمهندسين والصحفيين والمحامين والمُعلمين وغيرها من النقابات، ولا يتوقف الأمر عند عدم الاعتراف بالكُتّاب على المستوى الرسمي وتهميشهم، بل تبلغ المأساة ذروتها بعزل الكاتب والمفكر والأديب والشاعر عزلة إجبارية، كما في قصة ( اغتراب ) وبطلها الكاتب والمفكر الذي جاوزت إصداراته التسعين كتابا، وتجاوزته الدولة وكرمت من هم دونه من أرباع وأنصاف الموهوبين، وليت الأمر توقف عند إهمال الدولة له، بل امتد إلى أهله وعشيرته وكل أهل قريته، التي أطلق عليها الكاتب قرية ( الجحش )، وهذا المُسمى للقرية يحمل رمزية ذات دلالة وتعبر عن واقع مأساوي يعيشه المثقف والشاعر والأديب، هذا الواقع المهترأ هو ما أدى بمحمد محمود الكاتب والمفكر إلى العزلة، داخل منزلة بتلك القرية، والإحساس المهين بالغربة داخل القرية وداخل الوطن الأكبر، وما أقسى الإحساس بالغربة داخل الوطن، وفي رحلة أحد الصحفيين إلى قرية ( الجحش ) لمقابلة الكاتب والمفكر الكبير محمد محمود، وإجراء حوار معه، ومحاولة إخراجه من عزلته، يصدم هذا الصحفي، فكل من يسأله عن الكاتب محمد محمود، يجيبه بأنه لم يسمع بهذا الإسم من قبل، ولا يعرفه، ويُدهش الصحفي وهو يرى الأطفال يحملون كتبا كثيرة، بل رأى الكتب تملأ الشارع أكواما أكواما، فالتقط كتابا، وقرأ عنوانه ( اغتراب ) للكاتب محمد محمود، وحزن حزنا شديدا عندما علم أن النعش الذي قابله في مدخل القرية، ويحمله أربعة رجال فقط، ويدخنون السجائر، ويتبارون في إلقاء النكات البذيئة، وعلى غير عادة أهل القرى، لم يسر أحد في الجنازة، جنازة بلا مشيعين! ويكتشف الصحفي بأن شقيقه الأكبر أجر الأربعة رجال لحمل نعشه إلى المقابر خارج القرية، وبقى هو وأخوته يتقاسمون تركته، بعد أن تخلصوا من كتبه بإلقائها في الشارع!
وتأتي قصة ( " مسد كول " لإمرأة مشعة ) من أجمل القصص، والقصة مُهداه إلى الكاتبة ( نعمات البحيري ) رحمها الله رحمة واسعة، وجاء في إهدائه لها :
( إلى " نغمات " نعمات البحيري في مرضها .. وما أجمل أن تختلط الكلمات وتتوحد )
تماهى الكاتب تماما مع نعمات البحيري، وقدم لنا بنبل وشفافية معاناة الكاتبة، من خلال مجموعة من الصور، الكاتب يدخل في الحدث مباشرة، وهي سمة في معظم قصصه، فالقصة الجيدة هي القصة المنزوعة المقدمة، كما يقول ( أنطون تيشكوف )، والقصة تبدأ بضمير المتكلم، وتاتي على لسان ( زهرة عبدالرحمن )، و ( زهرة عبدالرحمن ) تشابه من قريب أو من بعيد الكاتبة المعروفة ( نعمات البحيري )
( ها أنذا أدخل المستشفى لأخذ الجرعة .. )
يدخلنا الكاتب من أول جملة في الحدث مباشرة، ونتعرف من خللها على أزمة البطلة ومعاناتها، ويسرد الكاتب مأساتها منذ دخولها حجرة الاستقبال وقيد اسمها في القائمة الطويلة أمام الموظفة، وانتهاء بنزع ملابسها ووضع صدرها في فتحة الجهاز، مرورا بالأداءات الروتينية للعامل والموظف والتومرجي والممرضة .. إلخ، ومحاولة البعض استنزاف المرضى في المستشفى، وكيف فقدت من تعرفت زهرة عبدالرحمن عليهن وهن ينتظرن أدوارهن.
( - أمال فين عزيزة .. ودوسة .. وتحية .. ما عدتش با شوفهم .. همه غيروا مواعيد الجرعة؟
-تعيشي انتي )
وكأن سهم الموت مسلط على عنق كل من يدخل هذا المستشفى، مصابا بهذا المرض اللعين، وكأن الداخل مفقود والخارج مولود!
هل هو صراع مع المرض أم مع الموت؟
كيف تقاوم زهرة عبدالرحمن ألم الجرعة؟
( وكعادتي مثل المرات السابقات .. كان لزاما علىّ أن افتح البوم الذكريات اللامرئي، أتصفح صوره حتى أتناسى من خلاله ألم الإشعاع )
وألبوم الذكريات اللامرئي – حيلة فنية بديعة لجأ إليها الكاتب، ليستطيع من خلال انتقاء عددا من صور الألبوم اللامرئي، أو الصور المدفونة في قاع نفس بطلته، فمن خلال هذه الصور يسرد على لسانها الكثير عن حياتها، وهذه الحيلة الفنية أنقذت القصة من الوقوع في المباشرة والسرد التقليدي، وجعلت زمن القصة قصيرا جدا، فزمن القصة الخارجي هو زمن أخذ زهرة عبدالرحمن لجرعة الإشعاع، أما زمن القصة الداخلي فيمثل حياة البطلة كاملة أو على الأقل المحطات المهمة والمؤثرة في مسيرتها الأسرية والتعليمية والوظيفية والأدبية والنفسية، فصور الألبوم اللامرئي تعكس كل هذا وأكثر، ولا يقف الكاتب بهذه الصور عند السطح، ولكنه يبلغ طوايا وأعماق بطلته، مظهرا للآثار النفسية وللأبعاد الإنسانية.
أول صور الألبوم :
خطاب مرسل لها من أحد الشباب، دبجه بعبارات الغزل وجُمل الهيام، تستعيد هذا الموقف وتقول :
( لقد عرفني الكثير، القريب والبعيد عزوفي التام عن الزواج، فمن هو ذلك الرجل المجنون الذي يتزوج بإمرأة وهبت حياتها كلها للقراءة، وكتابة القصص .. إمرأة تنام وفي حضنها القلم والورق .. )
-صورتها مع بعض النقاد بأحد المؤتمرات، وتعريتها لهم :
( فقد كتب عني أغلبهم، إن لم يكونوا كلهم .. كل هذا طمعا في بعض اللمسات من يدي، والتخبط بجسدي، ومطاردتي ليل نهار من خلال تليفون المنزل )
-صورتها مع والديها :
ونعرف من خلالها أنها بكر والديها، وورثت عن أمها الطيبة، والحنان، والجمال الاخاذ، وما أن ماتت الأم حتى راح الأب يبحث عن أية إمرأة لتشبع رغباته، فهو محب للنساء، وتحكي عن ضبطها في طفولتها لوالدها في موقف شائن ومشين مع ابنة خالتها المطلقة!
-صورة : تمتد فيها يد الأب على خدها لتحفر فيه إخدودا، لأنها رفضت أن تاخذ معه هو وزوجته الجديدة صورة في ليلة زفافهما، ظلت هذه الزوجة تكرهها دون أخواتها، وظلت هي الأخرى تبادلها الكره والبغض بكره وبغض أشد.
-صورة وهي بين الأصدقاء والصديقات بالشركة التي تعمل بها، وهي تتسلم كأس التفوق كأفضل موظفة، وعندما داهمها المرض اللعين تناسى المدير كلماته لها بأنها أقضل موظفة في قسم التسويق، فالمكاسب زادت على يديها خمسة أضعاف.
( أنا آسف يا أستاذة، أنا مضطر أحولك ع التأمينات الاجتماعية .. )
-صورة مع الأدباء والأديبات بنادي القصة، وقد هيأوا أنفسهم تماما واستعدوا بالمقالات، وقصائد المدح والرثاء، إنهم منتظرون لحظة موتها لينشروا المقالات في رثائها ويجنوا مكافآت النشر!
( علىّ أن أطوي هذه الصورة بسرعة )
-صورة بين أصدقائها وأحبابها الحقيقيين، داخل حجرتها، مكتبتها، الأقلام التي فرغت من أحبارها، مسودات لقصص قصيرة، كمبيوتر، تسجيل صغير، شرائط كاسيت لمطربين ومطربات قدامى ... إلخ.
-صورة مع أخواتها البنات في حفلة عيد ميلاد إحداهن، وكيف كن يرتمين في أحضانها، ويقلن والدموع ملء أعينهم : أنت أمنا
وبمرور الأيام، وتعاقب السنوات، انشغلن بأولادهن وأزواجهن، ومكالمتهن عبر الهاتف صباحا ومساء تحولت إلى ( مزد كول )، الكل أصبح ينتظر موتي، حتى صاحب العمارة، يحاول أن يغريني بقرشين ليأخذ الشقة، ....
( إنهم ينتظرون إجراء الغسل والدفن وإعلان الوراثة حتى ينقضوا على ما شقيت وادخرته طيلة عمري ..
سيارتي البيضاء الصغيرة " فلة بنت خوخة اللي جت بعد دوخة " بيعها لمن يدفع أكثر ..
سوف يلعب أولادهم " جيمز " وأتاري على الكمبيوتر الذي كان ذاكرتي وعقلي وخزانة أفكاري .. )
( سوف يبيعون مكتبتي إلى أقرب تاجر روبابيكيا، وسوف يتخلصون من شقتي ببيعها بأي ثمن إلى صاحب العمارة الذي يطاردني ليل نهار منذ أن علم بمرضي اللعين الذي ليس له من شفاء .. )
( توقفت مكالمتهم التليفونية، وتبدلت إلى " مزد كول "، والمطلوب أن أرد عليهم بالمثل حتى يعرفوا أنني مازلت على قيد الحياة )
( علىّ أن أشعرهم بأن جرعة الإشعاع لم تنل مني بل تزيدني قوة فوق قوتي، وان الموت لم يهزمني بعد .. صفر الجهاز إيذانا بانتهاء الجلسة، طويت الألبوم اللامرئي .. فتحت عيني .. سحبت صدري من قم الجهاز .. )
والعنوان الذي اختاره الكاتب ( رؤوس تحترق ) هو دال على حال الكُتّاب، وجاءت لوحة الغلاف معبرة تماما عن العنوان والذي دارت في فلكه القصص الخمس التي تم تناولها، وكل قصة أخذت من العنوان نصيب، ويأتي المفتتح، وهو مقطع شعري للشاعر الكبير ( محمد الماغوط ) ليكون عتبة مهمة للقارئ للولوج إلى قصص المجموعة، وفيه يزداد تكشف القارئ لهموم الكاتب ومعاناته، وعلاقته بالسلطة، وعلاقة المثقف بالسلطة في قصص محمود أحمد علي تحتاج إلى مبحث خاص، يقول الماغوط :
( عندي كل شيء أيها السادة
نور، أعقاب سجائر، نشارة خشب
صفائح فارغة ...
وعندي شعوب، شعوب هادئة وساكنة
كالأدغال، يمكن استخداها، في
المقاهي والحروب وأزمات البشر )
وسنحاول في مقالات قادمة، الوقوف على الملامح الأبرز في مشروع محمود أحمد علي القصصي، وكل الود والإعزاز والتقدير لكاتبنا الحبيب الذي أثرى فن القصة العربية، اطال الله لنا في عمره ومتعه بالصحة والعافية.






ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الإبداع الشعري للشاعر حسين علي محمد في ضوء الفكر المقاصدي.
- مناقشة رسالة الدكتوراه للباحثة إيناس أحمد عبدالسلام السيد
- مقاربة نقدية في رواية - المزاحمية - للشاعر والكاتب سمير الأم ...
- ليلة استثنائية في محبة أحمد فضل شبلول باتحاد الكُتّاب – فرع ...
- مقاربة نقدية في رواية ( الماء العاشق) للشاعر والكاتب أحمد فض ...
- رواية (من جراب الكونغر) للكاتب أحمد عبده على طاولة النقد بقص ...
- شهر زاد ( دكتورة هيام عبدالهادي صالح ) وحكاياتها على طاولة ا ...
- مقاربة نقدية في رواية ( طار فوق عش الخفاش ) للكاتبة هيام عبد ...
- أدباء وشعراء ونقاد الشرقية يتحلقون حول ديوان ( حكاية سريالية ...
- المجموعة القصصية ( السقوط من البندول ) للكاتب أحمد عثمان على ...
- التجربة الإبداعية لفكري داود بمنتدى السرديات باتحاد الكُتّاب ...
- سردٌ يلامس الروح.. قراءة في رواية -زمن نجوى وهدان- لمجدي جعف ...
- ( السرد الحاوي ) لفرج مجاهد على طاولة النقد بالمركز الدولي ل ...
- نظرات في شعر حسين علي محمد ( طائر الشعر المسافر )
- مقاربة نقدية في الرواية الشعرية ( آخر أخبار الجنة ) لحزين عم ...
- مقاربة نقدية
- وداعا لآلام مرضى كسور الضلوع


المزيد.....




- يتناول ثورة 1936.. -فلسطين 36- يحصد الجائزة الكبرى في مهرجان ...
- -صهر الشام- والعربية والراب.. ملامح سيرة ثقافية للعمدة ممدان ...
- انطلاق أعمال المؤتمر الوطني الأول للصناعات الثقافية في بيت ل ...
- رأي.. فيلم -السادة الأفاضل-.. حدوتة -الكوميديا الأنيقة-
- -المتلقي المذعن- لزياد الزعبي.. تحرير عقل القارئ من سطوة الن ...
- موفينييه يفوز بجائزة غونكور الأدبية وباتت الفرحة تملأ رواية ...
- السودان.. 4 حروب دموية تجسد إدمان الإخوان -ثقافة العنف-
- مخاطرة الظهور في -عيد الأموات-
- ليبيا تعلن اكتشاف موقع أثري جديد في مدينة شحات شمال شرق البل ...
- الاستماع أو العزف المنتظم للموسيقى يحافظ على ذاكرة كبار السن ...


المزيد.....

- الذين باركوا القتل رواية ... / رانية مرجية
- المسرواية عند توفيق الحكيم والسيد حافظ. دراسة في نقاء الفنون ... / د. محمود محمد حمزة
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة. الطبعة الثانية / د. أمل درويش
- مشروع مسرحيات مونودراما للسيد حافظ. اكسبريو.الخادمة والعجوز. ... / السيد حافظ
- إخترنالك:مقال (الثقافة والاشتراكية) ليون تروتسكي. مجلة دفاعا ... / عبدالرؤوف بطيخ
- المرجان في سلة خوص كتاب كامل / كاظم حسن سعيد
- بيبي أمّ الجواريب الطويلة / استريد ليندجرين- ترجمة حميد كشكولي
- قصائد الشاعرة السويدية كارين بوي / كارين بوي
- ترجعين نرجسة تخسرين أندلسا / د. خالد زغريت
- الممالك السبع / محمد عبد المرضي منصور


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - مجدي جعفر - معاناة الكاتب وهمومه في المجموعة القصصية ( رؤوس تحترق ) للكاتب محمود أحمد علي.