أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - سعد كموني - امتحان الأخلاق بعد تحقق القوة















المزيد.....

امتحان الأخلاق بعد تحقق القوة


سعد كموني
كاتب وباحث

(Saad Kammouni)


الحوار المتمدن-العدد: 8533 - 2025 / 11 / 21 - 11:44
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


امتحان الأخلاق بعد تحقّق القوة

أ. د. سعد كموني
في عالم تتسارع فيه التحوّلات وتشتدّ الأزمات الأخلاقية والسياسية والروحية، لم تعد قراءة النصّ الديني مجرّد ترفٍ معرفي أو تمرينٍ تعبّدي، بل صارت ضرورة ثقافية لفهم موقع الإنسان داخل واقع يتغيّر أسرع مما يُعاد تأويله. إنّ النصّ المؤسِّس، حين يُقرأ خارج ضغط اللحظة، يتحوّل إلى شعارٍ محفوظ أو حكمةٍ مؤجلة؛ أما حين يُقرأ تحت ضغط الواقع، فإنه يكشف عن طاقته الكامنة للتوجيه وإعادة بناء الوعي. من هنا تأتي أهمية إعادة النظر في المفاهيم القرآنية الكبرى بوصفها أدوات لفهم الحاضر، لا بوصفها آثارًا لغوية من الماضي.
فالقراءة الثقافية للنصّ ليست محاولة لتسييسه أو إخضاعه للظرف، بل هي استعادة لقدرته الأصلية: أن يكون مرجعًا يعيد ترتيب نظرتنا لأنفسنا وللقوة وللمعنى. في أزمنة الاضطراب يصبح النصّ الديني أشبه ببوصلة، لا لأنها تفرض اتجاهًا واحدًا، بل لأنها تمنح الإنسان القدرة على رؤية الكيفية التي تختبر بها الحياة معدن الأخلاق، وتكشف ما يتوارى خلف الواجهة اللامعة للنجاحات الحديثة.
وفي قلب هذا كلّه يأتي مفهوم النصر بوصفه أحد أبرز المفاتيح التي تحتاج إلى إعادة قراءة. فالعصر الذي تتضخّم فيه أدوات السيطرة والظهور، ويتحوّل النجاح فيه إلى معيار للوجود، يعيد طرح سؤال جوهري: كيف نقرأ النصر أخلاقيًا وثقافيًا؟ وكيف يمكن للنصّ القرآني — إذا فُهم في ضوء التحديات الراهنة — أن يقدّم تصورًا أعمق من النمط الاستعراضي للإنجاز والقوة؟
هذا التقديم يمهّد للدخول في قراءة تُبرز أنّ سورة النصر ليست خطابًا احتفاليًا، بل درسٌ في تهذيب القوة وضبط الأخلاق عند لحظة الامتحان الكبرى. هكذا يصبح النصّ الديني، حين يُقرأ تحت وطأة الأسئلة الراهنة، أداةً لبناء وعي جديد أكثر اتزانًا ومسؤولية، لا مجرد استعادة لتجربة تاريخية مضت.
حين يتحدّث القرآن الكريم عن النصر، لا يقدّمه بوصفه لحظة اعتزاز واستعلاء، ولا بوصفه نهاية الطريق، ولا تتويجًا يُفضي إلى الاسترخاء والانتشاء؛ بل يضعه في مقام الامتحان الأكبر: امتحان الأخلاق بعد تحقّق القوة؛ إذ تُختبر الأخلاق إبّان القوة والقدرة على البطش، فلا قيمة للأخلاق حين لا يكون المرء قادرًا، حيث لا توجد مساحة للميل إلى الغرور. أما حين يُمنح التمكين، فهنا تبدأ اللحظة التي تتجلّى فيها حقيقة الإنسان: أيكون قادرًا على حمل القوة بوعي ومسؤولية؟ أم ينقلب النصر إلى أداة استحواذ وتجاوز؟
تجسّدت هذه الحكمة بأعلى صورها في سورة النصر، التي جاءت لتعلن اكتمال المشروع: ﴿إذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا﴾. لكنّ المفارقة أنّ الخطاب الإلهي لا يدعو إلى الاحتفاء ولا إلى إعلان انتصار الذات، بل إلى التسبيح والاستغفار: ﴿فسبّح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا﴾. وكأنّ اكتمال القوة هو اللحظة التي يجب أن يشتدّ فيها وعي الإنسان بمحدوديته، فلا يستسلم لوهم القدرة.
هذه الحكمة القرآنية لا تكتفي بتفكيك مفهوم النصر، بل تمنحنا منهجًا لبناء أخلاق حديثة قادرة على الصمود في زمن تتضخّم فيه الأنا وتُختزل فيه القيمة في معايير القوة والظهور والإنجاز السريع. ففي عالم اليوم، حيث تُقاس النجاحات بعدد المتابعين أو حجم الأرباح أو سرعة الوصول، يصبح استدعاء هذه الرؤية ضرورة معرفية وأخلاقية، لا مجرد تأمّل روحي.
فالنصر، بحسب هذا الميزان، لا يُعادل السيطرة أو التفوّق، بل هو اختبارٌ لطبيعة الذات بعد تحقّق القوة: هل تتوازن أم تنفلت؟ هل تتواضع أم تستكبر؟ هل تزداد وعيًا بحدودها، أم تنسى أنها كانت في لحظة من اللحظات عاجزة تستمدّ العون من خارجها؟ هنا يتقدّم مبدأ التسبيح بوصفه آلية نقد ذاتي تمنع الإنسان العصري من تأليه إنجازاته. فالتسبيح، في جوهره، ليس حركة لسان، بل حركة وعي تعيد ترتيب العلاقة بين الفعل وفاعله، بين النجاح ومن تُنسب إليه ملكيته. إنّه تذكير بأن الإنسان، مهما بلغ، ليس مركز الكون، ولا مصدر كلّ قوته، وأن تضخّم الأنا هو أول علامة على سقوط أخلاقي ناعم يبدأ من الداخل قبل أن يظهر في الخارج.
أما الاستغفار، فيؤسّس لمنطق بالغ الأهمية في الأخلاق الحديثة: الاعتراف بالنقص في ذروة النجاح. فالعصر الرقمي يدفع إلى تجميل الذات، إخفاء الأخطاء، وإظهار صورة مكتملة لا تشوبها شائبة. لكن الاستغفار ينسف هذا الوهم من جذوره؛ إذ يجعل الاعتراف بالتقصير فضيلة لا نقيصة، ويحوّل الخطأ من مصدر خجل إلى فرصة للتنقية وإعادة البناء. وهذا المبدأ، لو استعادته الثقافة المعاصرة، لقلّ التضليل الإعلامي، وتراجعت نزعة الكمال الزائف التي تُغرق الأجيال الجديدة في القلق والاكتئاب والشعور بالفشل.
بهذا المعنى، يغدو النصر في المنظور القرآني درسًا في تهذيب القوة ، وفي صيانة الإنسان من ذاته قبل صونه من الآخرين. وهذه الرؤية هي ما يفتقر إليه العالم المعاصر الذي يتقدّم تقنيًا وينحطّ أخلاقيًا: عالم يملك أدوات هائلة، لكنه يفتقر إلى بوصلة تُعيد للنجاح معناه الإنساني، وتمنع القوة من التحوّل إلى طغيان.
إنّ إعادة إحياء هذه الحكمة اليوم ليست ترفًا فكريًا، بل شرطٌ لبناء أخلاق حديثة متوازنة، تجعل النجاح بداية للمسؤولية الفردية والجمعية، فلا يدّعي إنهاء التاريخ، وتجعل الإنسان قادرًا على أن ينتصر دون أن يتحوّل نصره إلى هزيمة داخله.
إنّ أخطر ما في النصر أنه يفتح أبواب الخيارات. فالمنتصر قادر على أن يعدل أو يظلم، أن يرحم أو يقسو، أن يرى في الفوز مسؤولية أو يرى فيه امتيازًا. لذلك كانت الآيات تربّي الإنسان على أن أخلاق القوة أهم من القوة نفسها. التاريخ نفسه يثبت أن الأمم لا تنهزم بهزيمة الجيوش، بل حين تفقد البوصلة الأخلاقية لحظة تفوّقها. فالقوة التي لا تتطهّر من نوازع الاستعلاء تهدم نفسها بنفسها، بينما القوة التي تُدار وعيًا وتواضعًا تتحوّل إلى طاقة بناء.
ولعلّ معنى ﴿إنه كان توّابا﴾ يفتح بابًا آخر للفهم؛ فالله يطلب من الإنسان بعد النصر أن يثبت أهليته للتمكين بالعودة الدائمة. كأن السورة تؤكّد أن كل نجاحٍ يحتاج إلى تجديد للعهد، وأن التمكين لا يُعطى مرة واحدة، بل يُختبر في كل مرحلة. بهذا يكون النصر بداية مسؤولية لا نهاية صراع.
من هنا يتضح أن الامتحان الأخلاقي بعد تحقّق القوة ليس قضية تاريخية مرتبطة بمرحلة معينة، بل هو قاعدة حضارية مستمرة. كل فرد، وكل مؤسسة، وكل أمة، إنما تكشف معدنها في اللحظة التي تمتلك فيها القدرة على التأثير. إنّ الضعف ستارٌ للأخطاء، بينما القوة كاشفةٌ لها ومتعددة النتائج. لذلك يُصبح الانتصار — paradoxically — أشبه بمرآة: تعكس ما خفي، وتعلن ما كان مستورًا.
إنّ بناء وعي جديد حول معنى النصر ضرورة لكل مشروع حضاري معاصر، خاصة في سياق عالم تتزايد فيه أدوات التحكم والقوة والتأثير. فالسؤال الأخلاقي اليوم لا يقل أهمية عمّا كان لحظة نزول السورة: ماذا نفعل حين نقدر؟ وكيف نحمل مسؤولية النجاح دون أن نصبح أسرى نجاحنا؟ وما الذي يجعل القوة سلمًا للارتقاء بدل أن تكون سببًا للفساد؟
في النهاية، الأخلاق ليست زينة للضعفاء، بل ميزان الأقوياء. والرسالة القرآنية العميقة تقول: النصر ليس نهاية الطريق، بل بدايته الأخلاقية. إذا صلح القلب في لحظة القوة، صلح التاريخ. وإذا فسد القلب عند التمكين، صار النصر نفسه مقدمة للهزيمة.



#سعد_كموني (هاشتاغ)       Saad_Kammouni#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- صلاة الاستسقاء نقد الفكر التقليدي ومسؤولية العقل
- هل سبيل الله طريق نمشي إليه أم معنى نمشي به/ إطار مفاهيمي لل ...
- هل سبيل الله طريق نمشي إليه أم معنى نمشي به؟ من الطريق إلى ا ...
- البنية الدلالية للقدرة والابتلاء
- المنبر بين التلقين والتنوير
- النهضة الممكنة
- دينٌ بلا وصاية ، وعي بلا خوف
- أزمة الوعظ في المجتمعات العربية المعاصرة
- الرحمة مبدأ كوني شامل /قراءة أسلوبية دلالية ومقاصدية في الآي ...
- طمأنينة التفكيك الكاذبة
- الإهلاك الإلهي ناموس غير اعتباطي
- ذنوب الذين كفروا وإهلاكهم
- آللهُ يهلكنا!؟
- الأسلوب ما يجب أن يتغير راهناً
- لا شيء يستدعي الثقة
- نحن فاعل هلاكنا
- لن نستفيد من عزلتنا
- لن نأسف على شيء
- يتوقعون ما يرغبون به
- الإيمان ليس مرادفاً للجهل


المزيد.....




- لعدم اعتناقها المسيحية.. ديانة زوجة نائب الرئيس الأمريكي وتص ...
- الاحتلال يقتحم بلدة الزاوية غرب سلفيت وينفذ حملة مداهمات واس ...
- العاب التضامن الاسلامي: ايران تحصد 4 ميداليات ذهبية وفضية وا ...
- واشنطن تدرس معاقبة نيجيريا ومشاركة البنتاغون بخطة لحماية الم ...
- مطالب بتصنيف -الإخوان- في السودان -تنظيما إرهابيا-
- مصرع مواطنين بحادث سير في سلفيت
- يهود أميركيون زاروا سوريا.. وهذا ما خرجوا به
- صحف عالمية: الوضع في غزة كارثي والضفة تشهد إرهابا يهوديا
- صحف عالمية: الوضع في غزة كارثي والضفة تشهد إرهابا يهوديا
- الاحتلال يقتحم قرية سرطة غرب سلفيت ويداهم المجلس القروي


المزيد.....

- رسالة السلوان لمواطن سعودي مجهول (من وحي رسالة الغفران لأبي ... / سامي الذيب
- الفقه الوعظى : الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- نشوء الظاهرة الإسلاموية / فارس إيغو
- كتاب تقويم نقدي للفكر الجمهوري في السودان / تاج السر عثمان
- القرآن عمل جماعي مِن كلام العرب ... وجذوره في تراث الشرق الق ... / مُؤْمِن عقلاني حر مستقل
- علي قتل فاطمة الزهراء , جريمة في يترب / حسين العراقي
- المثقف العربي بين النظام و بنية النظام / أحمد التاوتي
- السلطة والاستغلال السياسى للدين / سعيد العليمى
- نشأة الديانات الابراهيمية -قراءة عقلانية / د. لبيب سلطان
- شهداء الحرف والكلمة في الإسلام / المستنير الحازمي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - سعد كموني - امتحان الأخلاق بعد تحقق القوة