سعد كموني
كاتب وباحث
(Saad Kammouni)
الحوار المتمدن-العدد: 8528 - 2025 / 11 / 16 - 15:28
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
صلاة الاستسقاء
نقد الفكر التقليدي ومسؤولية العقل
أ.د.سعد كموني
صلاة الاستسقاء، كما تُمارس في المجتمعات التقليدية، تُقدَّم طقسًا لطلب المطر، ويُبنى خطابها غالبًا على اعتقاد أن المطر بيد الله وحده، وأن الإنسان عاجز عن التدخل في حدوثه أو فهم أسبابه الطبيعية. في هذا الإطار، يُصوَّر الجفاف أو تأخر المطر علامةً على العقاب الإلهي أو خطيئة جماعية، ويُختزل دور الإنسان في التضرع والدعاء، متجاهلين القوانين الطبيعية والموضوعية التي تحكم دورة المياه والمناخ. هذا الخطاب، رغم قدسيته الرمزية، يُمثل إهانة للعقل، إذ يقلل من القدرة على التفكير النقدي ويخلق شعورًا بالعجز أمام ظواهر يمكن للعلم تفسيرها ووضع حلول عملية لها.
تتمثل أولى المشاكل في إلغاء السببية العقلية، الصلاة التقليدية تربط المطر مباشرة بالعبادة والطاعة، متجاهلة أن الظواهر المناخية ناتجة عن عوامل بيئية وجغرافية ومناخية مترابطة، والدراسات الحديثة تشير إلى أن الجفاف غالبًا ما يكون نتيجة تراكم هذه العوامل، منها تغير المناخ الذي يؤدي إلى ارتفاع درجات الحرارة وتقلب الأمطار، وتدهور الأراضي بفعل التصحر وفقدان خصوبة التربة، إلى جانب استنزاف الغطاء النباتي الذي يوازن دورة المياه، والاستخدام غير الرشيد للمياه بما يشمل الري المكثف واستنزاف المخزون المائي الطبيعي. تجاهل هذه الأسباب وتحويلها إلى مسألة قدرة إلهية مطلقة يُضعف الفهم العلمي ويحدّ من قدرة الإنسان على اتخاذ إجراءات وقائية.
إضافة إلى ذلك، تحمل الصلاة التقليدية إدانة ضمنية للإنسان. الجفاف يُصوَّر غالبًا أنّه عقوبة على الذنوب، ما يولّد شعورًا دائمًا بالذنب الفردي والجماعي. هذه الآلية تعزز التواكل النفسي وتقلل من شعور الإنسان بالمسؤولية تجاه الأرض، سلوكياته، واستهلاكه للموارد الطبيعية. بهذا المعنى، الصلاة التقليدية تصبح أداة سلطة اجتماعية ودينية أكثر من كونها ممارسة روحية بحتة، إذ تعيد إنتاج التبعية وتحرم الإنسان من استثمار قدراته على الفعل الواعي.
إهمال المسؤولية البيئية والاجتماعية يُعد جانبًا آخر من جوانب خطر هذا الطقس التقليدي. العلم الحديث يوفر أدوات لفهم أسباب الجفاف، ويتيح تطوير البنية التحتية لإدارة المياه، ووضع خطط زراعية ناجعة، وتنظيم الموارد بشكل عقلاني. ومع ذلك، يُستبدل بهذا الفهم الدعاء وحده، فيخفف عن الإنسان شعورًا بالمسؤولية تجاه الأرض والمجتمع، ويجعل مواجهته للتحديات البيئية في انتظار معجزات لن تحصل.
من منظور نقدي، الاستجابة الحقيقية للجفاف لا تقتصر على الطقس وحده، بل تشمل التفكير في التوازن البيئي، دراسة الأسباب الموضوعية، اتخاذ الإجراءات الوقائية، والمشاركة في العمل الجماعي والمؤسسي. هذه الخطوات العملية تمثل الصلاة الحقيقية: صلاة العقل والفعل، إذ تجمع بين الاعتراف بالعجز أمام الطبيعة واستخدام القدرات الإنسانية لتصحيح الاختلالات. فالإنسان المؤمن الحقيقي، في هذا الإطار، لا يختزل علاقته بالله في التضرع، بل يسعى لمعالجة الأسباب والنتائج بمسؤولية.
هذا التوجه النقدي يعيد تنزيه الله عن أن يكون ذريعة للكسل المعرفي، مؤكدًا أن دور الإنسان في التفكير والعمل لا يتناقض مع الإيمان. فالقدرة الإلهية تبقى مطلقة، لكنها لا تلغي دور الإنسان في فهم الواقع والعمل على تحسينه. بعبارة أخرى، علاقة الإنسان بالله تتحوّل من انتظار المعجزات إلى شراكة قائمة على الوعي والعمل، حيث يكون الفعل مسؤولاً، والنية متوازنة مع الحكمة.
الأمثلة الواقعية تؤكد جدوى هذا الفهم. ففي مناطق عديدة تعرضت للجفاف المتكرر، أدى اعتماد نظم الري الحديثة، وحصاد مياه الأمطار، والحفاظ على الغطاء النباتي، وإدارة الموارد المائية بوعي، إلى التخفيف من آثار الجفاف وتقليل الاعتماد على الطقس وحده. هذه الإجراءات هي صلاة عملية، تعكس التزام الإنسان بالمسؤولية أمام الطبيعة، مع إدراك أن علاقتنا بالمطر ينبغي أن تتجاوز انتظار المعجزة إلى إدارة متوازنة بين العلم والعمل والدعاء.
علاوة على ذلك، إن الخطاب التقليدي المصاحب لصلاة الاستسقاء لا يقتصر على كونه ممارسة دينية، بل يتحول إلى أداة للسلطة الاجتماعية والدينية، فهو ينسج العلاقة بين الفعل الفردي والجماعي وبين القوى الروحية بطريقة تخدم تثبيت السلطة. الجاهلون، أو من يمكن تسميتهم المفسرين التقليديين، يعتمدون على آلية مركّبة من الاتهام، التخويف، وتبسيط الظواهر المعقدة، ليصوغوا سردًا يجعل الجماعة في حالة توقع دائم للجزاء والعقاب. هذه الآلية النفسية والاجتماعية تمكّنهم من حشد الجماعة بسرعة وفعالية، لأن تفسيرهم للعالم يكون واضحًا وبسيطًا: كل شيء بيد الله، وكل نقص أو جفاف هو عقوبة على الذنوب الفردية أو الجماعية.
من منظور علم النفس الاجتماعي، هذا النوع من الخطاب يستثمر الغرائز الوجودية الأساسية لدى البشر، مثل الخوف من العقاب، الرغبة في الأمان، والحاجة إلى الانتماء للجماعة. فهو يعيد إنتاج شعور بالسيطرة الرمزية لدى القادة، بينما يُبقي أفراد الجماعة في حالة تبعية نفسية، إذ يتم تقييد فضولهم العقلي وتسويغ كسلهم المعرفي. العقل النقدي، على العكس، لا يملك هذه الجاذبية العاطفية الفورية، لأنه يطالب الأفراد بالتحليل، البحث، وتحمّل المسؤولية، وهي أعباء ثقيلة مقارنة بالراحة النفسية التي يوفرها التفسير المبسط للظواهر.
من زاوية علم الاجتماع المعرفي، يمكن القول إن هذا التباين يوضح تفوق الخطاب التقليدي في السيطرة على السلوك الجماعي مقارنة بالخطاب العقلاني العلمي. ففي حين يقدم الخطاب العقلاني تفسيرات دقيقة ومعقدة، فإنها تتطلب معرفة مسبقة وممارسة مستمرة للتفكير النقدي، بينما الخطاب الديني الشعبي يبسط التعقيدات، ويحوّل القوانين الطبيعية إلى رموز أخلاقية، فيختزل الفرد إلى حالة من الانتظار والتسليم، بدلاً من الفعل المسؤول. هذه الديناميكية تشرح لماذا كثير من المجتمعات التي تتعرض لكوارث بيئية مثل الجفاف لا تنتقل بسهولة من الطقس التقليدي إلى الحلول العلمية العملية، على الرغم من توفر المعرفة، إذ إن الخطاب التقليدي يمتلك أداة قوية للتماسك الاجتماعي والتحكم النفسي الجماعي، بينما العقل النقدي يحتاج إلى جهود تربوية وتعليمية وتثقيفية طويلة ليتمتع بالتأثير العاطفي والاجتماعي.
إعادة تعريف صلاة الاستسقاء بوصفها موقفًا معرفيًا وعمليًا يعني تجاوز هذا التأثير السطحي. فالعبادة التزام بالمسؤولية، واستثمار العقل والقدرة في مواجهة المشكلات الواقعية. بهذا يتحقق التوازن بين الدعاء والعمل، بين الاعتراف بالعجز أمام الطبيعة واستخدام القدرات لحل المشكلات، وبين الإيمان بقدرة الله وحقيقة الأسباب الطبيعية.
في هذا الإطار، يمكن القول إن الاستسقاء الحقيقي هو وعي الإنسان بالسبب والفاعلية في فهم الظواهر والتعامل معها. فالجفاف والتدهور البيئي يُعالَجان بالتعامل الواعي مع شروطهما: إدارة عادلة للموارد، تطوير بنى تحتية قادرة على الصمود، وتبنّي سياسات وقائية تعيد التوازن إلى علاقة الإنسان بالطبيعة. كما يشمل ذلك نشر الوعي المجتمعي وبناء ثقافة مسؤولة تدرك أن الطبيعة ليست خصمًا يعاقِب، بل نظامٌ يحكمه قانون السببية.
هذا النمط من الفعل هو في جوهره الصلاة الوسطى أو الفضلى، الصلاة التي تتحقّق في هيئة عملٍ واعٍ وإرادةٍ متجهة نحو الإصلاح. وبهذا يستعيد العقل وظيفته الطبيعية: أداة للتحليل والفعل والمسؤولية. ينفر من الخطابات المكرّسة للعجز، ويفكر في بناء الحلّ وتغيير الواقع.
باختصار، صلاة الاستسقاء التقليدية في شكلها السائد، تمثل مهانة للعقل، لأنها تلغي التفكير النقدي وتضع الإنسان في موقع التابع العاجز، بينما الواقع يتطلب أن يكون الإنسان فاعلًا واعيًا ومسؤولًا. أما الاستسقاء الحقيقي، فهو موقف حضاري ومعرفي وأخلاقي، يدمج بين الدعاء والعمل والوعي، ويحرر الإنسان من وهم العجز، مع إبقاء العلاقة بالله قائمة على فهم النظام الكوني والشراكة في المسؤولية.
الله لا يُستغل لتبرير الكسل، والعقل لا ينفي القدرة الإلهية، والإنسان لا يُحرم من دوره فاعلًا مسؤولًا في العالم. بهذه الطريقة، تتحول الصلاة من طقس شكلي إلى ممارسة وجودية حقيقية، تنسجم مع العصر، تحترم العلم، وتعزز المسؤولية الفردية والاجتماعية والبيئية، مع الحفاظ على البعد الروحي للعلاقة مع الله.
#سعد_كموني (هاشتاغ)
Saad_Kammouni#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟