سعد كموني
كاتب وباحث
(Saad Kammouni)
الحوار المتمدن-العدد: 8523 - 2025 / 11 / 11 - 20:47
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
ــــــ 1 ــــــ
هل سبيل الله طريق نمشي إليه أم معنى نمشي به؟
من الطريق إلى المعنى إطار للوعي والسلوك
أ.د. سعد كموني
المقدمة
شكَّل مفهوم سبيل الله أحد المفاتيح المركزية في الوعي الإسلامي، نظرًا لوروده المتكرّر في القرآن وسياقاته المتنوّعة: من العقيدة إلى الأخلاق، ومن العدل إلى القتال. إلا أنّ هذا المفهوم كثيرًا ما حُصر في حقلٍ واحدٍ من الدلالات، وبخاصة الحقل الفقهي القتالي، رغم أن استعمالاته القرآنية تكشف عن نَفَسٍ أرحب يمتدّ ليشمل بناء الإنسان والعمران معًا.
ومن هنا، تسعى هذا العمل إلى استجلاء طبيعة "السبيل": هل هو مكان يُقصد، أم معنى يُقْتَفى؟ أي: هل هو جغرافيا حركية، أم قيميّة دلالية تؤطّر الفعل الإنساني في التاريخ؟
وتطمح هذه المعالجة إلى المساهمة في قراءة حضارية للمفهوم تُحرِّره من القراءات الاختزالية التي قيّدته بحدود الصراع المسلّح أو الطاعة السلطانية، لتستعيده بوصفه مشروعًا إنسانيًا متجدّدًا يُفعِّل الإيمان في الواقع عبر الحقّ والخير والجمال.
1. الجذر اللغوي وتحوّلات الدلالة
يُعدّ مفهوم السبيل من المصطلحات المركزية في البنية الدلالية للقرآن الكريم. إذ يرد اللفظ في نحو ستّين موضعًا بصيغ متنوعة، تتوزع بين المفرد والجمع والإضافة إلى الله أو إلى توصيفات أخرى. ويرجع أصل الكلمة إلى الجذر الثلاثي (س ب ل) الذي يحيل في معناه الأول على الطريق الواضح، أو المسلك الذي يهتدي به السائر للوصول إلى غاية معيّنة . وقد ربط ابن فارس بين مادة السبيل ودلالة الانكشاف والوضوح، بما يجعل الطريق سبيلًا لأنه مكشوف غير منقطع.
غير أنّ الدلالة اللغوية ـــــــ على أهميتها ـــــــ لا تُفسّر بمفردها ثراء الاستعمال القرآني؛ فالنصّ يتوسّع في حقل التعبير بحيث لا يُبقي المفهوم حبيس بعده الحسّي. فالسبيل ـــــــ في أكثر المواضع ـــــــ يُطرح بوصفه طريقًا للحق، أي منحىً معرفيًا–أخلاقيًا يلتزمه الإنسان في سيره الوجودي. ومن ثم، يحدث انتقالٌ من الحيّز الفضائي إلى الفضاء القيمي، وهو تحوّل تتأسس عليه القراءة التأويلية الحديثة.
يؤكّد الراغب الأصفهاني هذا الاتساع الدلالي حين يقول: "السبيل يُستعمل تارة للطريق، وتارةً للعقيدة، وأخرى للعمل" ؛ فالمفهوم يمتلك قابلية للتوسّع ليست مناطة باللفظ قدر ما هي متصلة بوظيفة النصّ الذي يحتضنه. فالنصّ القرآني ينزاح باللفظ من دلالته الأساسية ــــــ الطريق ــــــ إلى صيغته المعنوية التي تقتضي توجّهًا واعيًا نحو غاية أوسع من المكان.
من هنا، يتبيّن أن إضافة اللفظ إلى لفظ الجلالة ــــــ سبيل الله ــــــ تُحدث تطورًا نوعيًا في طبيعة الطريق؛ إذ تستبدل الترسيم الحركي بالغاية القيمية. فالسبيل لم يعد مسلكًا ماديًّا، بل صار طريقًا ينهض بقيم الحق والخير، ويُسهم في بناء الإنسان والعمران معًا.
2. السبيل في القرآن: نحو حقل دلالي مفتوح
يتميّز النصّ القرآني بتشريح دقيق لطبقات المعنى، بحيث تتسع الكلمة لتحتضن سلسلة من المفاهيم المتداخلة. ومفهوم السبيل أحد أوضح الأمثلة على هذا الاتساع؛ إذ يرد مقرونًا بالله ، وبالحق ، وبالإيمان ، والسلوك الأخلاقي في طيف دلالاته الواسع والمتنوع. هذا التنوع لا يلغي جوهر المفهوم، بل يُضيء حدوده ويكشف عن طبيعته المتجاوزة للمكان؛ فقوله تعالى: ﴿إِنَّ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ وَصَدُّوا۟ عَن سَبِیلِ ٱللَّهِ قَدۡ ضَلُّوا۟ ضَلَـٰلَۢا بَعِیدًا﴾(النساء 167) يؤكد أنّ السبيل لا يُحدّد بمكانٍ مادي، بل هو منحى قيمةٍ يُتّبع أو يُصدّ عنه. فالصدّ عنه يُنتج الضلال، ما يعكس ارتباط السبيل بالاختيار والإرادة..
تتجلّى في هذه الآية دقة القرآن في صياغة المعاني وتراكب الطبقات الدلالية. فلفظ "سبيل الله" لا يشير إلى طريق مادي، بل إلى منحى قيمِي وأخلاقي وحضاري، يُحدد طبيعة العلاقة بين الإنسان والحقّ. الجمع بين "الكفر" و"الصد عن السبيل" يبرز أن الانحراف سلوك عملي له أثر واضح على الفرد والمجتمع، وأن الضلال نتيجة اختيار وإرادة حرة. التكرار في "ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا" يشدّد على شدة الضلال وبعده عن الهداية، سواء على المستوى الأخلاقي أو الحضاري، ويجعل المعنى أكثر وقعًا في الذهن. إن الآية إذًا لا تكتفي بالإشارة إلى الانحراف الفردي، بل تلمّح إلى أثره الاجتماعي والأخلاقي، مؤكدة أن السبيل هو إطار قيم يمكن للإنسان اتباعه لتحقيق الحق والخير، وأن الصد عنه يؤدي إلى الضلال الكامل والابتعاد عن مرجعية الحياة الصحيحة.
وعند مقارنة مختلف مواضع السبيل في القرآن، يمكن تمييز ثلاثة مستويات رئيسة للدلالة، تعكس تنوعه بين سبيل الهداية، سبيل الضلال، والسبيل الأخلاقي العام، وهو ما يجعل دراسة هذا المفهوم نافذة لفهم المسارات الحضارية والأخلاقية للإنسانية في النص القرآني:
1. السبيل طريقًا معرفيّة:
يشمل البحث عن الحقيقة، وإقامة الحجة، والميل إلى الحق؛
فيأمر الداعيةَ صراحة :﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ (يوسف: 108)؛ فالسبيل مرتبط بالبصيرة، ما يعني أنه ليس سبيلا في الجغرافيا إنما هو سبيل في الحياة على نحو مخصوص.
السبيل في هذه الآية يمثل نموذجًا واضحًا للبعد المعرفي للسبيل باستبعاد مكانيته بوصفها احتمالا ، وتؤكده مسارًا قائمًا على إدراك واعٍ وبصيرة واضحة، يرتبط بالبحث عن الحق وإقامة الحجة؛ فهو يتمحور حول الفهم العقلي والنية الأخلاقية، ويعبر عن التزام معرفي جماعي يشمل الداعية ومن يتبعه، ما يمنحه بعدًا حضاريًا يمتد تأثيره إلى المجتمع. كما يوضح السياق أن الالتزام بالسبيل يتطلب التفرّد بالحق الإلهي والتمييز بين الصواب والخطأ، ما يجعل السبيل مسارًا متكاملاً بين المعرفة والفعل والقيم.
2. السبيل مشروعًا أخلاقيًا:
يرتبط بإقامة العدل، وإيتاء الحقوق، ونصرة المستضعفين: ﴿وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا﴾ (النساء، 75) وهنا تتجاوز الدلالة فكرة القتال ذاته لتصير نُصرة للمظلوم ومقاومةً للظلم.
وحذف " في" قبل كلمة " المستضعفين" يحمل قيمة أسلوبية دقيقة. فهو يحوّل المستضعفين من مجال للقتال إلى الغاية الأخلاقية نفسها: حماية المستضعفين. بهذا يصبح المستضعفون جزءًا لا يتجزأ من السبيل، وليس ظرفًا للفعل، ما يخلق وحدة معنوية بين سبيل الله والهدف الإنساني. كما يعزز التوازي البلاغي بين الهدف الكلي (سبيل الله) والهدف الملموس (المستضعفين)، ويضفي على النص بعدًا وجدانيًا يحفّز الالتزام الأخلاقي والنصرة الحقيقية للضعفاء.
باختصار، هذا الحذف يجعل النص أكثر تركيزًا وتماسكًا، ويحوّل الفعل إلى واجب أخلاقي–حضاري يتجاوز البعد المادي للقتال.
3. السبيل بناءً حضاريًا :
تقدّم الآية ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾ (العنكبوت: 69) نموذجًا واضحًا لمعنى سبيل الله في البعد الحضاري والقيمي. فالـ"جهاد" المشار إليه لا يقتصر على القتال، بل يشمل كل مسار جهادي في طلب الحق والعمل الصالح، بما يجعل السبيل إطارًا متكاملًا للسلوك والمعرفة والخلق. وفي قوله تعالى "لنهدينّهم سبلنا" يتحقق البعد الحضاري للسبيل، فالهدي يتجاوز في دلالته المسلك المادي إلى مشروع قيم متكامل يربط الفرد بالمجتمع، ويؤسس لعلاقة متناغمة بين الإرادة الإنسانية وبناء مجتمع يقوم على الفضيلة والعدل. بهذا، يتحول السبيل من طريق يُسلَك إلى معنى يُعاش، يجمع بين النية والعمل والهدف الأخلاقي في مسار حضاري شامل.
بهذه المستويات الثلاثة، يتحوّل السبيل إلى مشروعٍ للإنسان والعالم في آن.
خلاصة:
يتضح من دراسة مفهوم سبيل الله أن معناه يتجاوز البُعد المادي للطريق إلى بعد قيمي ومعرفي وحضاري، يربط بين الإرادة الفردية والالتزام الأخلاقي والاجتماعي. السبيل ليس لحركة مكانية، بل مسار واعٍ يسلكه الإنسان طلبًا للحق والخير، ويعكس اختيارًا حرًا ومسؤولية تجاه القيم. كما يمتد ليشمل مشروعًا حضاريًا متكاملاً، يربط الفرد بالمجتمع من خلال الفعل الصالح والمعرفة والخلق، ويؤسس لفضيلة العدالة وحماية المستضعفين. بهذا، يصبح السبيل إطارًا شاملًا للسلوك الإنساني يربط بين الفهم والمعرفة والعمل والغاية الحضارية، ويؤكد الطبيعة الإنسانية المتجددة للمسار القرآني.
#سعد_كموني (هاشتاغ)
Saad_Kammouni#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟