سعد كموني
كاتب وباحث
(Saad Kammouni)
الحوار المتمدن-العدد: 8502 - 2025 / 10 / 21 - 18:11
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
أ.د.سعد كموني
مدخل
في أفق الفكر العربي، يلوح سؤال النهضة أفقًا بعيدًا لكنه حاضر في كل لحظة وعي: كيف نقرأ تراثنا بلا استلاب، وكيف نحتضن الحداثة بلا تبعية؟ فالنهضة حركة داخل العقل والروح، تتجاوز الجذور لتصل إلى الأفق، وتحوّل الذكريات إلى أجنحة، والحقائق المستقرة إلى إمكانات للإبداع.
في هذا الفضاء، يلتقي الجابري والعروي، الأول يغوص في أعماق التراث ليحرّر العقل، والثاني ينظر إلى الزمن العالمي ليحرّر الفكر من قيوده. بين جذور الماضي وأفق المستقبل، هناك مساحة حرّة للإبداع والوعي، حيث يصبح التراث موردًا للفكر، والحداثة أداة للفعل، والإنسان العربي فاعلًا يكتب مصيره بمعرفته وشجاعته.
هذا المقال دعوة للانطلاق من هذه المساحة، للتفكير في النهضة الممكنة بوصفها تجربة متجددة، تجربة تجعل العقل حاضرًا، والوعي متيقظًا، والإبداع مفتوحًا لكل ما يمكن أن يكون.
متى سؤال النهضة؟
يولد سؤال النهضة كلّما شعرنا أنّ الزمن العربي يدور في حلقة الوعي نفسه: وعي يحنّ إلى الماضي، ويخاف من المستقبل؛ لكنّ النهضة لا تأتي من الحنين، ولا من القطيعة، بل من وعيٍ متصالحٍ مع ذاته، يرى في الماضي جذورًا للحياة، وفي الحاضر فرصةً لبناء إنسانٍ جديد، وفي المستقبل وعدًا يمكن أن يتحقق بالفعل والمعرفة.
التراث في هذا الوعي ليس ركامًا من النصوص، بل ذاكرة حية تختزن طاقة الإبداع الأولى، تلك اللحظة التي التقت فيها الروح بالعقل، والكلمة بالفعل. وحين نقرأ التراث بعيونٍ نقدية، يصبح موردًا لا مرجعًا، أفقًا لا قيدًا. نستعيد منه ما يجعلنا نبدع، لا ما يجعلنا نكرر. هنا تتأسس فكرة النهضة الممكنة: أن نحيا تراثنا دون أن نُحبس فيه، وأن نحيا حداثتنا دون أن نذوب فيها.
بين الجابري والعروي: جدل العقل والزمان
من بين المفكرين العرب الذين حملوا هذا السؤال بعمقٍ ومسؤولية، يبرز اسمان كبيران: محمد عابد الجابري وعبد الله العروي. كلاهما حاول أن يفكّر في النهضة لا بوصفها مشروعًا للوعي. غير أنّ طريق كلٍّ منهما إلى النهوض كان مختلفًا في الاتجاه، متشابهًا في الغاية.
رأى الجابري أنّ الطريق إلى المستقبل يمرّ من داخل الذات. فالعقل العربي لا ينهض إلا إذا استعاد قدرته على النقد والتحليل من داخل تراثه. فالتراث عنده بنيةٌ معرفية يمكن أن تُعاد قراءتها بعينٍ عقلانية. في "نقد العقل العربي" أراد أن يحرّر الفكر من سلطته الداخلية.
بهذا المعنى، كان الجابري يؤمن بأنّ العقل العربي يحمل في ذاته إمكانات التجديد، شرط أن يُقرأ بجرأةٍ وصدق، بعيداً من التقديس.
أما العروي، فاختار طريقًا آخر: طريق الوعي التاريخي الذي يرى أنّ الأمم لا تتجدّد إلا حين تدخل الحداثة من بابها الكامل، وتعيشها بوصفها خبرةً إنسانية تنفر من الاستعارة الثقافية. الحداثة، في نظره، ليست تقليدًا للغرب، بل وعيٌ بالزمن بوصفه حركةً مستمرة نحو الإمكان.
من هنا كانت "القطيعة" عنده فعلَ تحرّر؛ دعوةً إلى أن نفكر في ذواتنا كما يفكر العالم في نفسه، بلا خوف من التغيير، ولا تردّد في العبور من الذاكرة إلى التاريخ.
بين الأرض والأفق
في المسافة بين الجابري والعروي تتكوّن النهضة الممكنة. الأول يغرس جذوره في الأرض، والثاني يمدّ نظره إلى الأفق، وكلاهما يذكّرنا بأن الفكر لا يثمر إلا حين يتغذّى من التربة وينفتح على الهواء في آنٍ واحد.
إنّ الأمم التي تستمر هي تلك التي تحسِن إدارة التوتر بين الأصالة والتجديد، بين الوفاء للجذور والجرأة على القفز في المجهول، والنهضة الممكنة ليست شعارًا سياسيًا ولا حنينًا ثقافيًا، بل هي حالة وعيٍ تاريخي. إنها أن نقرأ القرآن والفلسفة، الشعر والعلم، بعقل واحد هو عقلٌ دائبٌ في البحث عن المعنى. أن نرى في الماضي خبرةً قابلةً للتوليد، وفي الحاضر مختبرًا للتجريب، وفي المستقبل ساحةً للابتكار.
كسل الوثوقية وخطر الطمأنينة الزائفة
في قلب كل أزمة فكرية تنبت وثوقية جديدة. هي تلك الطمأنينة التي تمنحنا شعورًا زائفًا باليقين، فنكفّ عن السؤال، ونستبدل البحث بالإيمان الأعمى، وبالجواب الجاهز.
الوثوقية ليست فقط خاصيةً دينية أو أيديولوجية؛ إنها حالة وعي تُصيب الفكر حين يتخلى عن جرأته النقدية ويستعيض عنها براحة الانتماء إلى "المعلوم".
لقد عطّلت الوثوقيةُ مسارَ النهضة العربية حين جعلت الإنسان العربي أسيرَ معجمٍ واحدٍ للحقيقة، لا يرى في تعدّد المعاني إلا تهديدًا للهوية، إنها العدو الخفيّ للعقل، لأنها تُغلق الأفق باسم الدفاع عن الهوية، وتُجمّد الفكر باسم حماية الثوابت. وباسمها انكمش سؤال المعنى حتى صار سؤال الطاعة، وغابت الحرية التي هي الشرط الأول لأي تجديد.
حين نتمسك بالحقيقة كما لو أنها شيءٌ نمتلكه، نفقد قدرتنا على أن نكون شركاء في إنتاجها. الوثوقية تجعل الفكر سكونًا، والنقد حركة. والنهضة في جوهرها، انتصار للحركة على السكون، وللسؤال على الجواب. ليس المقصود هنا أن نُقيم الشكّ مقام الإيمان، بل أن نجعل الإيمان نفسه مجالًا للتفكر الحرّ، وأن نحمي المقدّس من تحجّره في الوعي المغلق.
إنّ الأمة التي لا تشكّ في طرائق تفكيرها، لن تستطيع أن تغيّر مصيرها. فاليقين، حين يُستعبد العقل، يتحوّل إلى كسلٍ روحي يقتل الخيال، ويطفئ جذوة التساؤل التي هي أصل الفلسفة والإبداع. وما النهضة الممكنة إلا تلك التي تُحرّر الإنسان من سطوة الوثوقية، وتمنحه شجاعة أن يقول: ربما الحقيقة أكبر مما نعرف، وربما الطريق إلى الإنسان يبدأ من سؤالٍ آخر لم نسأله بعد.
نحو وعيٍ تأويلي بالتراث والحداثة
إنّ التفاعل بين الأصالة والتجديد حركة تأويلية تعيد تعريف كلّ منهما بالآخر؛ فالتراث يصبح حاضرًا حين يُقرأ بعيون المستقبل، والحداثة تصبح خصبة حين تتدخل الذاكرة في تعزيز خصوبتها. في هذا المعنى، تتجسد النهضة الممكنة وعيًا مركَّبًا، يرى في الجذور إمكاناتٍ، وفي الحداثة شريكًا في الصيرورة. العقل الذي يحيا في هذه الثنائية الإيجابية يسعى إلى توليد معرفةٍ جديدةٍ تُسهم في إثراء الفكر الإنساني من موقع الذات الواعية بموروثها وبزمنها.
الوعي شرط للوجود الحضاري
كلّ نهضة تبدأ من الوعي، والوعي يبدأ من القدرة على النظر إلى الذات والعالم في آنٍ واحد. حين يدرك الإنسان العربي أن التراث لغته الأولى، وأن الحداثة مرآته، يصبح الفكر العربي مؤهّلًا للانتقال من الدفاع إلى الإبداع، ومن الانفعال إلى الفعل.
الوعي هو الفجر الذي يولد في أعماق الظلام، لا في ضوء النهار. حين نصغي إلى تراثنا بإنصاتٍ خاشع للعقل، وننظر إلى العالم بعيونٍ مفتوحة على الحوار، نغدو أكثر قدرة على الإبداع والمشاركة في كتابة التاريخ. وحتى في صناعته.
النهضة الممكنة ليست وعدًا غامضًا في كتب الفلاسفة، بل مسؤولية الحاضر: أن نعيش وعينا بوصفه قوةً خلاقة، وأن نجعل من الفكر فعلاً ومن الفعل فكرًا، هي أن نحمل من الجابري عقلَه النقدي، ومن العروي بصيرتَه التاريخية، لنؤسّس وعيًا عربيًا جديدًا يزاوج بين العمق والاتساع، بين الثبات والحركة، بين الجذور والأجنحة.
حين نبلغ هذا الوعي، يصبح التراث موردا يسعفنا في مغالبة الظمأ، وتصبح الحداثة بيتًا يؤوينا في مواجهة الغربة التي تهدد ضآلتنا في زحمة الوفرة المعرفية؛ وهكذا فقط يمكن للعقل العربي أن يخرج من زمن التردّد إلى زمن المبادرة، وأن يخطّ على صفحة التاريخ سطرًا جديدًا يبدأ من ذاته وينفتح على العالم، لا تابعًا ولا غريبًا؛ بل فاعلٌ يخلق المعنى ويمنح العالم صوته الإنساني الخاص.
#سعد_كموني (هاشتاغ)
Saad_Kammouni#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟