أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - سعد كموني - الإهلاك الإلهي ناموس غير اعتباطي















المزيد.....



الإهلاك الإلهي ناموس غير اعتباطي


سعد كموني
كاتب وباحث

(Saad Kammouni)


الحوار المتمدن-العدد: 6855 - 2021 / 3 / 31 - 16:56
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


الإهلاك الإلهي
كتاب ليس اعتباطياً
إن الذي عرف الفرق بين "قدّ" و "قطّ"، أو بين "شرع" و"شعر"، إنما عرف ما تحيل عليه ‏‏"الألف" و"اللام" و"الراء" في مستهلّ سورة الحجر في القرآن الكريم. والذي دعانا إلى طرح هذه ‏المعادلة في بداية هذا العمل، ما تقتضيه الضرورةُ ونحن نعمَد إلى معاينة الآية الكريمة "وَمَا ‏أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ"‏ ، في سياقها الذي وردت فيه، بهدف الوقوف على معنى ‏‏"الإهلاك الإلهي" بوصفه عِلّةَ بحثنا. ولكون هذا السياق مستهَلّاً بالأحرف المقطعة؛ ينبغي أن ‏نرصد الدلالات التي تحيل عليها تلك الأحرف، وذلك أنها مختلفةٌ عن الأحرف التي استُهلت بها ‏سورٌ أخرى في القرآن الكريم؛ ما يحملنا على تقدير أنّ ما تحيل عليه، مختلفٌ عما تحيل عليه ‏تلك الأحرف في سياقٍ آخر؛ الأمر الذي أوجب علينا الاهتمام بها انسجاماً مع سؤالٍ بدهي، ما ‏الذي اقتضى "ألر" هنا و"ألم" هناك؟ وهل يحسن العربيّ تلقّيها كونها لم تكن شائعةً في مستهل ‏النصوص العربيّة التي وصلت إلينا من عصر التنزّل أو قبله بقليل؟
ونفترض بإزاء تلك الأحرف المقطعة أنها تكتنز المرجعيّةَ الفكريّةَ لما في السورة من ‏موضوعات تعني المتلقين في أزمنتهم وأمكنتهم،واجتماعهم، وتندرج في سياقاتِ ما تحيل عليه ‏تلك الأحرف من أطرٍ تعني الإنسان في كل زمانٍ ومكان واجتماع.‏
ولتحقيق أهدافنا في البحث نلجأ إلى القراءة المتأنية وفق رؤيةٍ خاصّةٍ لا تلزم أحداً.‏
استئناساً بمقولة ابن جني في معاينة الأصوات العربية "حذواً لمسموع الأصوات على ‏محسوس الأحداث"‏ ‏ يمكننا أنّ نبحث في هذه الأصوات عن المحسوسات التي استحالت أصواتا ‏إنسانيّةً موحية.‏
‏ يرى حسن عباس أنّ "صوت الهمزة في أول اللفظة يضاهي نتوءاً في الطبيعة.. وهو ‏يأخذ في هذا الموقع صورة البروز كمن يقف فوق مكان مرتفع "‏ ، وهو بذلك يقدّم لنا الهمزة ‏صورةً صوتية لمشهدٍ بصري، ما يعني أنه يوحي بالحضور والوضوح والعيانية، ويحرّض أيضاً ‏على مطّ الرقبة وحملقة العينين بغية التبصر في ما هو يحضر ويتضح للعيان. كما نعرف أن ‏الرمز الكتابي للهمزة في السريانية والكنعانية يأخذ شكل رأس ثور، لذلك يُنطق منفرداً بـ"ألف" من ‏الألفة والإيلاف، فالثور حيوانٌ أليف، وكأني بهذا الصوت في مستهل سورة الحِجر يكتنز التشوّف ‏إلى الرفعة والسموّ والتصاعد فوق شيء ما أو أمرٍ ما أو واقعٍ ما، لصالح الألفة والتآلف. ويعقبه ‏‏"اللام" الذي يوحي بالالتصاق والتماسك والليونة "بما يتوافق مع واقعة التصاق اللسان بأول سقف ‏الحنك قريباً من اللثة العليا"‏ ‏. وبما أنّ الرفعة والسموّ والألفة تحتاج التلاصق والتماسك والتّماسّ ‏والليونة لتمنحها بعداً اجتماعياً محموداً؛ كان صوت "اللام" تالياً بوظيفته الإيحائية "الذوقية ‏واللمسيّة"، ويليه حرف "الراء" الذي يفيد الترجيع والحركة والتكرار والمداومة، وينطوي على ‏إيحاءات بالحلاوة كأنه يشير في موقعه إلى ما يؤول إليه تعانق الألف واللام. ‏
‏"ألر" ليست مرسلةً صوتيّةً لا طائل تحتها، بل هي رسالةٌ إلى متلقٍ حمولتُها خطابٌ من ‏شأنه أن يُحدثَ أثراً في آلية النظر، وفي آليةِ التعامل مع المنظور إليه، أو من شأنه رفع مستوى ‏الأداء الذهني في اتخاذ الموقف بإزاء المكان والاجتماع والبداية والنهاية وسواها، وما لذلك من أثرٍ ‏أكيدٍ في تحديد موقع المتلقين في التاريخ والتأريخ. وبما أنّ سورة الحجر تنطوي على جملة ‏موضوعات تبيّن آيات الله في الكون وتعامل الإنسان على مرّ التاريخ معها، وتبيّن مصارع ‏الأقوام، والحق الكامن في خلق السماوات والأرض؛ نرى أن "ألر" تختص بالتنبيه إلى أهمية ذلك ‏كله لإعادة صياغة مجتمعٍ وأفكاره ومواقفه.‏
قوام هذه السورة هو العلاقة بين رؤوس المثلث الوجوديّ:" الإنسان، والكون، والمجتمع". ‏هذا المثلث هو الحق الذي يكون مرجعيّة العلاقة المستقيمة بين هذه الرؤوس، وفقدانه يؤدي إلى ‏خلل يفسد هذه العلاقة. وتحديد الحق لا يمكن أن يكون إلا خلاصة اجتهاد حثيث في كشف ‏الأسباب التي تبيّن ماهية الإنسان، وماهية المجتمع، وماهية الكون، ويكون مرجعية السلوك ‏الفرديّ والاجتماعيّ.‏

‏1.‏ سبل النجاة وسبل الهلاك
‏ كيف هي العلاقة التي أدت إلى انهيار وهلاك، وكيف هي العلاقة التي تؤدي إلى عمران ‏وبناء؟
بعد "ألر" تستكمل الآيةُ "تلك آياتُ الكتابِ وقرآنٍ مبين"، فإما أن تكون الإشارة بـ"تلك" إلى ‏‏"ألر" على أنها آيات الكتاب وقرآن مبين، وإما أن تكون الإشارة إلى آيات الكتاب وقرآن مبين ‏على أنها "ألر". وعندما يحتمل التركيب وجهين، يكون الوجهان مطلوبين.‏
إذا فهمنا "ألر" على أنها المرجعيّةُ الفكريّةُ لسورة الحِجر؛ فتكون الإشارة بـ"تلك" إليها، لبيان ‏منزلتها الرفيعة وبُعدها المعنويّ والوظيفيّ في مستهل السورة، ولبيان ما يؤدي إليها "آيات الكتاب ‏وقرآن مبين". وكذلك يمكن أن تكون الإشارة بـ"تلك" إلى "آيات الكتاب وقرآنٍ مبين" لبيان منزلة ‏آيات الكتاب ومنزلة قرآن مبين، في فضاء التبصرة التي تقدّمها "ألر".‏
إذن، "ألر" تحرضُ المتلقي النبيه ليؤطّر آيات الكتاب في مدلولاتها، ولا يستطيع أن يتعامل ‏مع القرآن المبين إلا وفق بيّناتها؛ فإذا تبيّن لنا أنها تتوخى ترسيم علاقة حقٍ بين الإنسان ‏ومجتمعه والكون؛ فهذا يعني أن العلامات التي سنكون عليها في هذه السورة إنما هي علاماتٌ ‏على العلاقات المستقيمة وما تؤدي إليه من عمران وتطوّر وازدهار، وعلاماتٌ على الخلل في ‏العلاقات وما يؤدي إليه من مهالك الجماعات ومواطنها.‏
‏2.‏ الكتاب والقرآن
كلتا المفردتين تحيلان على الجمع والتضام. فالأصل في الكَتْب "‏‎ ‎ضمّ أديم إلى أديم ‏بالخياطة، يقال‎: ‎كَتَبْتُ السّقاء، وكَتَبْتُ البغلة: جمعت بين شفريها بحلقة، وفي التّعارف ضمّ ‏الحروف بعضها إلى بعض بالخطّ، وقد يقال ذلك للمضموم بعضها إلى بعض باللّفظ، فالأصل ‏في الْكِتَابَةِ‎: ‎النّظم بالخطّ لكن يستعار كلّ واحد للآخر، ولهذا سمّي كلام الله- وإن لم يُكْتَبْ‎- ‎كِتَاباً"‏ ‏. نفهم من تعريف الراغب للـ"كتْب" أنه إجراء يمنع التسيب أو التفلّت أو الضياع، فهو ‏بمثابة قانون يمنع الداخل من الخارج ويدّخره للفائدة.‏
أما القَرء فـ " تعبر القاف عن تعقد في الجوف والراء عن استرسال، والفصل منهما يعبر ‏عن ثبات المسترسل في قاعٍ (جَوْفٍ) كالقرار مستقر الماء..... وفي (قرأ) تزيد الهمزة دَفْعًا يؤدي ‏إلى التعبير عن زيادة الجمع في العمق وضِخَمه كقَرء الجنين"‏ ‏. ونفهم من هذه المعاينة لمفردة ‏‏"قرأ" من خلال أصواتها، أنّ القرْء هو الاجتماع للدفع إلى العيان والوضوح، وهذا ما يؤديه صوت ‏الهمزة من البروز ‏. فالقرء إذن هو الإجراء الذي يبرز المجموع المضموم للفائدة.‏
إذن الكتاب هو الناموس الذي يحفظ، والقرآن هو الناموس الذي يبيّن المحفوظ.‏
إذا كانت "آيات الكتاب" هي ما تدل عليه "ألر"، أو تدلّ على "ألر"، فهذا يعني أننا أمام ‏كون له ناموس، وله آيات مشار إليها بـ"تلك" التي من أغراضها" تنزيل الأشياء المعقولة أو غير ‏المشاهدة، منزلة الأشياء المحسوسة المشاهدة"‏ ، وبهذا يكون الكتاب بوصفه ما هو محفوظٌ، ذلك ‏المصحف الذي يجمعُ آياتٍ تدل على الحق، أو ناموس العلاقات المفيدة بين الإنسان ومجتمعه ‏أو المجتمعات الإنسانية، والإنسان ونفسه، والإنسان والكون. وكذلك "القرآن"، آياتٌ تدل عليه ‏‏"ألر"، أو تدلّ على "ألر"، أشير إليها بـ"تلك" فيكون القرآن هو المجموع المبّرز بين دفتي ‏المصحف، وما حذف المضاف"آيات" هنا إلا للدلالة على أنّ آيات الكتاب هي هي آيات القرآن، ‏غير أنّ القرآن موصوف باسم الفاعل "مبين" بما يشكل من حاجةٍ تأكيدية لوظيفة القرآن الرسوليّة ‏في تعيين العلاقات الحقة والباطلة وأمثالٍ عليها من تجارب الشعوب أو من سنن مقترحة وممكنة ‏في أدائها. آيات هي نفسها الآيات، فهي مع القرآن باعتبار وظيفتها، و مع الكتاب باعتبار ‏ماهيتها.‏
‏3.‏ التأثير في المتلقين ‏
‏ بعد الإشارة إلى الآيات الدالّة على الإجراءات التي أثبتت الناموس، وعلى الإجراءات ‏المبيّنة له؛ نرى أنّ الإتيان بها في مستهلّ السورة من شأنه أن يحرّض المتلقّين باتجاه معرفة ‏أنفسهم وأسباب سلامتها في الاستقرار والتحولات الطبيعية والاجتماعية، ومعرفة اجتماعهم وأسباب ‏أمنهم الصحي والنفسي والماديّ وتحوّلاتها المستمرّة، ومعرفة الكون وقوانين سيرورته، للتعامل معها ‏وفق مناهج مجدية، في توفير الوسائل الذهنية والمادية التي تمكّن الناس من تحقيق البناء ‏الاجتماعيّ، والماديّ المرتبط به، على أسس وطيدة في السعي نحو تحوّلٍ مستدام. ومن الطبيعي ‏بإزاء هذا المشروع الذي يهدف إلى إعادة تأهيل الذهن بإجراءات جديدة، أن يكون الناس بين ‏مصدّقٍ لها وغير مصدّق. ‏
هناك دائما في الحياة من يكون في حرجٍ مع آليات التفكير السائدة، وهو في حيرةٍ من أمره ‏معها، فيشعر بالضيق من ضغطها على سلوكه الذهني والحركي، ولمّا يهتدِ إلى سبيل يفضي إلى ‏تحررٍ، حتى إذا تبدّت فكرةٌ تدعو إلى إعادةِ التفكير في آليات التفكير، وتحدد منهجاً جديداً، يسارع ‏إلى اعتماده باندفاعٍ شديد تلبيةً للحاجة.‏
وبالمقابل نجد الغالبيّةَ العظمى من الناس متصالحين مع السائد، يقبلون على ما يقبل ‏عليه الجميع، وينفرون مما ينفر منه الجميع، ولا يخطر في بالهم إن كانوا على صواب هم أم ‏على خطأ، فيصعب عليهم تقبّل أي دعوة تمس ما هو قارٌّ في قعور الأذهان، لاعتقادهم أن ذلك ‏سيدخلهم في ارتباك حياتي على كل المستويات، فيحرصون على طرائقهم المعتادة ويغالون في ‏ذلك.‏
ويكون بين هذين الطرفين من هو متردد، فلا هو مع الجديد بمكذب، ولا هو مع السائد ‏بمصدّق، أولئك متضررون من السائد إلا أنهم يخضعون له بحكم انتمائهم الطبقي أو الأسريّ، ‏ويشكون في جدوى الجديد لكونه قد يكون أتى على ألسنة من يعتقدونه دونهم في المرتبة الطبقيّة ‏فلا يعترفون لسواهم بالأهليّة لتلك المهمّة. يماحكون كثيراً وقد يواجهون الميل المنطقي إلى الجديد، ‏ولا يملكون الحجةَ في الدفاع عن تمسكهم بما هم عليه. ولا يفوتنا في هذا السياق أنّ بين ‏المترددين نخبةً لا تبالي بمواقف الآخرين منها بل تريد الحقيقةَ، لذلك تتريث في اتخاذ الموقف ‏ريثما تتشكّل قناعاتها بالإجراءات الذهنية الجديدة.‏
‏ تأتي الآية التالية﴿ رُّبَمَا یَوَدُّ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ لَوۡ كَانُوا۟ مُسۡلِمِینَ ﴾‏ ‏. ‏
تضعنا هذه الآية الكريمة أمام جملة من الإحالات مع تلقيها عقب "ألر" وما تثيره. فالظنيّةُ ‏التي يمنحها إياها حرف التقليل "ربّ" يتلقاها المصدّقون فيتعزز إيمانهم لدخول "ربّ" على فعل ‏مضارع مؤجل الحدوث، وذاك أنه تعبير عن أُمنية فالود يعني التمنّي ، وأنه لم يأتِ بفعل التمني ‏لفظاً لأنّه يحيل على استحالة التحقق، والود يجعل المودود مرجحاً؛ فهذا يثلجُ قلوب المؤمنين ‏ليزدادوا يقينا، إذْ إنّ المعرفةَ التي أتاحتها "ألر" تشكل وعداً بخلاص من متاعب الحياة وتهديداتها ‏المستمرة، وأنها وضعتهم بإزاء مناهج في التعامل مع الكون وأنفسهم ومجتمعاتهم، فهذا سيجعلهم ‏يفهمون الآيات الكونية أو القرآنيّة انطلاقاً من وثوقيّةٍ نفسيّةٍ لها فعاليتها المؤثرة في تعديل ‏سلوكهم الحياتي.‏
كما يتلقى هذه الظنيّةَ أولئك المترددون على اختلاف مستويات التردد عندهم، فتتضاءل ‏مساحة التردد من جراء ما تحمله "ربما يود" من وعود، فيغالبون مواطن السلبيّة في نفوسهم، أو ‏أنها تمنحهم تلك الفرصةَ في تحقيق انتصار تدريجيّ على النفس الأمّارة بالكبْر، أو على النفس ‏المضطربة بإزاء أسئلةٍ ضمنيّةٍ لا تجد جواباً عنها في السائد من آليات إعمال الذهن، ولمّا تتشكلُ ‏عندهم قناعةٌ في المعروض عليهم من آليات جديدة. إنّ هذا المتردد عندما يسمع أن المشروع ‏المعروض على الناس سيحقق نجاحاً باهراً، سيسارع إلى إعادة النظر بطرائق تفكيره بغية تعديلها.‏
أما الذين كفروا عندما يتلقون هذه الآية الكريمة بأسلوبها الظنيّ، سيعرفون حتماً أنّ "ربما" ‏لا تفيد تقليلاً ولا تكثيرا، إنما هي لإتاحة فرص الودّ؛ فيكون تفاعلهم معها تحت تأثير تفكك ‏الضدّية الصلبة في نفوسهم، فالآية ليست تهديداً أو وعيداً، إنما دعوةٌ آنيّةٌ للتأمل والتفكير، ‏فالتعثر الحضاريّ لا يمكن التملّص منه بقرارٍ شخصيّ فقط، بل يحتاج ــــــ إضافةً إلى هذا القرار ‏ــــــ دربةً وخبرةً تراكميّةً في معاينة الكون وسلوكه، والاجتماع وسلوكه. ويبدو ذلك مستحيلاً من ‏دون منهج في الفهم مرنٍ قابلٍ للتعديل. وأنَّ الفهومَ السائدة لم تمكنهم من التحوّل نحو الحياة ‏المستقيمة، وأنهم لا يشعرون بأنّ الحياة المستقيمةَ ممكنة؛ فإنّ هذه الآية الكريمة تتيح أمامهم ‏فرصةَ التحوّل إلى منهجٍ آخر بدت ملامحه مع "ألر....".‏
ثم لماذا يودون أن يكونوا مسلمين وليس مؤمنين؟
الإسلام لغةً هو "الطّاعة والِانْقياد والتَّسليم"‏ ،﴿وَمَن یُسۡلِمۡ وَجۡهَهُۥۤ إِلَى ٱللَّهِ وَهُوَ مُحۡسِنࣱ فَقَدِ ‏ٱسۡتَمۡسَكَ بِٱلۡعُرۡوَةِ ٱلۡوُثۡقَىٰۗ وَإِلَى ٱللَّهِ عَـٰقِبَةُ ٱلۡأُمُورِ﴾‏ ، وهو في الشرع يعني دين محمّد(ص)، إلا أنه ‏في القرآن الكريم يشمل ـــــ أيضاًــــــ دينَ جميع الأنبياء وهو الدين عند الله لا دين غيره ﴿إِنَّ ٱلدِّینَ ‏عِندَ ٱللَّهِ ٱلۡإِسۡلَـٰمُۗ﴾‏ ‏. ‏
أمّا الإيمان فهو لغةً التصديق، وله في الشرع الإسلاميّ أركان، أما التصديق الذي كان ‏يُطالب به الناس إنما هو تصديق بنبوة محمّد، وبأن القرآن من عند الله. أما التصديق بوجود الله ‏وسننه في الكون؛ فهو مشترك بين كلّ من امتلَّ ملّة نبيّ بعد إبراهيم.‏
لذا، لم يرد لفظ "مؤمنين" هنا لأنه لو قيل بدلاً من "مسلمين" لانصرف الذهن إلى الذين لم ‏يؤمنوا بمحمد نبياً وبالقرآن الكريم كتاباً من عند الله، وهذا ليس مقصود الآية. الذين أسلموا مع ‏موسى ومع عيسى هم في حياةٍ مستقيمة من حيث المبدأ، والذين كفروا بالله وبالنبيين ورسالاتهم ‏هؤلاء يودون لو كانوا مسلمين. ما يؤكّد أن الكتاب أو الناموس إنما ينبغي أن يفهمه كلّ الخلق، ‏والذين كفروا أيضاً معنيون بهذا الفهم من كونهم بشراً، وإذ توسلوا الجهل الإرادي فإنهم يتحمّلون ‏مسؤوليةَ سلوكهم المخالف لما يقتضيه الناموس الكوني والناموس الاجتماعي، والناموس الفرديّ.‏
المشروع الذي تنطوي عليه الآية السابقة، إنما يعني الانتقال بالبشرية من الخضوع ‏للناموس إلى فهم الناموس وتعديل السلوك الذهنيّ والحياتي تأسيساً على فهمٍ مرنٍ قابل للتحول ‏والتعديل مع التطورات. وفي ذلك أمن الناس كل الناس بمواجهة التحديات المهلِكة، سواء كانت ‏طبيعيةً أو بما كسبت أيديهم. ‏
‏4.‏ أسلوب التعامل مع أسلوب الذين كفروا ‏
‏﴿ ذَرۡهُمۡ یَأۡكُلُوا۟ وَیَتَمَتَّعُوا۟ وَیُلۡهِهِمُ ٱلۡأَمَلُۖ فَسَوۡفَ یَعۡلَمُونَ﴾‏ ‏.‏
‏ "فلان يذر الشيءَ أي يقذفه لقلة اعتداده به"‏ ،... وهي أخصّ من "يدع"، و"يترك"‏ ‏. ‏نلحظُ في دلالةِ السياق أنه سياق عدم اعتداد الذين كفروا بما يُلقى عليهم من آيات وقرآنٍ مبين ‏بوصفها علاماتٍ على سبل التعامل القويم مع الناموس. فهم يكتفون من هذه الحياة بالأكل ‏والتمتع ؛ لذلك جيء بفعل "الوذر" بصيغةِ الطلب لكونهم يذرون الوعيَ والإدراك، فيكون الطلب ‏إلى محمّد(ص) بألّا يشغل بالَه بهم، وهذا لا يعني قلة الحرص على استقامتهم، إنما قلة الإلحاح ‏على ذلك. وكونهم يذرون الاهتمام بآيات الكتاب/الناموس، وما جُمع لهم من البينات، ويعزفون ‏عنها إلى الاكتفاء بالمأكل والمشرب كالأنعام؛ يكون الأمر بصيغةِ المضارع المجزوم بلام الأمر ‏المحذوفة "يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل" وليس بصيغة الفعل "كلوا وتمتعوا"، دلالةً على مواصلتهم ‏الفعل أصلاً ومداومتهم عليه، ما يعني أن الأمر بالمضارع المجزوم فيه شيء من التوبيخ ‏والسخرية، أما حذف لام الأمر وإبقاء عملها، فإنما هو إلماحٌ إلى تعطيل الإباحة التي قد توحي ‏بها، كما أنّ حذفها فيه من اللطف ما يفي بغرض الآيات، وذلك أن اللام فيها تنصيص على ‏الأمر، بينما حذفها ألطف حتى لا يُفهم أن الأمر بأنْ "يذرهم" فيه كراهيةٌ لهم وإهمالٌ يستثنيهم من ‏ضرورة معرفة النواميس سبيلاً إلى النجاة من المهالك. التوبيخ بالمضارع المجزوم تحريض على ‏خلع أسبابه وليس إقراراً لهم بذلك. ‏
ويلههم الأمل، اللهو"ما يشغل الإنسان عمّا يعنيه ويهمّه"‏‎.‎ ‏ والأمل "ظن البقاء، والطمع ‏في زيادته"‏ ‏ وهذا مظهر "الوذر" في سلوكهم، يهملون ما يعنيهم ويهمهم، ويرجّحون دوام حياتهم ‏كما لو أن إنسانية الإنسان يؤمِّن خلودَها الأكلُ والشرب، وليس السلوك المنتِجُ بما يقتضيه العقل ‏والفكر والفهم.‏
أن يكون الإنسان جاهلاً ويجهل أنه جاهل، فهو معذور، أما أن يأتيه من ينتشله من ‏جهله فيأبى، ويدير ظهره، ويضع حائلاً بينه وبين المعرفةِ أو إمكانها؛ فلا يمكن أن يكون ‏معذوراً؛ لذلك، فالوعيد هنا تحريض المعنيّ ضد التمادي في إدارة الظهر، أو معاندة المشروع ‏الذي انطوت عليه "ألر" في مستهل السورة. وطمأنةٌ لمتلقّي الخطاب الذي أُسند إليه فعل "الوذر" ‏أنهم "سوف يعلمون".‏
إذن، يقوم أسلوب هذه الآية الكريمة، بالإنشاء الطلبيّ لتعيين الإجراء الذهنيّ الملائم ‏لسلوك الذين كفروا، فسلوكهم أحداث لا ترقى بهم إلى ما تتطلبه الإنسانية، بل يكتفون بالأكل ‏والتمتع والتلهي بالظن أن المراد سيأتيهم سواء أَسَعوا إليه أم لم يسعوا، وإنْ لم يحصلوا عليه ‏فيصرّون أنه ليس من حظهم؛ ما يقتضي الوعيد بأسلوب التسويف، إذْ إنّ الضائقة عندما ‏تستحكم يتأكدون أنّ سلوكهم السابق لم يكن ملائما. وعندها ربما لا ينفع العلم. ولازم التسويف هنا ‏إثارة القلوب بالوعيد المؤجل ما يدفعهم إلى التفكير بما يجب أن يقوموا به الآن، بأنْ يتخلصوا من ‏عدم الاعتداد بما يجب أن يهتموا به. ‏
‏5.‏ الإهلاك وفق كتاب
‏﴿وَمَاۤ أَهۡلَكۡنَا مِن قَرۡیَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابࣱ مَّعۡلُومࣱ ﴾.‏
اللافت في هذه الآية الكريمة أنها تثبت أمراً ما عن طريق الحصر بالنفي و"إلا"، ويكون ‏هذا الأسلوب في العادة القولية عند العرب لردّ إنكار، إذ إنّ المعنيّ بهذه الآية إنما هو منكرٌ لكون ‏الإهلاك وفق كتاب معلوم، وهذا بدا واضحاً إذ سوّف النصُّ حدوث العلم عندهم، ما يعني أنهم ‏في حال إنكار معقّدة، وقد تبين من الآيات السابقة أنهم متعايشون مع جهلهم وسعداء به ‏ويحسبونه الصراط المستقيم؛ لأنهم لا يعرفون رسوليّة الإنسان في هذا الكوكب.‏
وما لا شك فيه هو أنهم لا ينكرون الإهلاك بوصفه مصيراً محتّما، فهو مشهودٌ ولا يحتاج ‏إلى برهان، إنما ينكرون إهلاك القرى وفق ناموس يُدعون إلى معرفته، فالمطلوب أن يمتثلوا إلى ‏الدعوة التي تحضّهم على التفكّر والاعتراف بهذا الناموس.‏
ما هي نواميس القرى غير عقد اجتماعيّ يتنازل بموجبه الفرد عن جزء من حقه بمقابل أن ‏يحفظ له المجتمع ما يبقى؟ وحقوقُ الناس تكون في الحرص على الحق العام في الماء والكلأ ‏والنار، وتقديم درء المفاسد على جلب المصالح، وفي حفظ ما يطلق عليه فقهاء المقاصد الأفذاذ ‏‏"مصالح العباد"‏ ، و في الحرص على الحق العام في بيئة نظيفة متوازنة، وأي إخلال بهذا العقد ‏سيؤدي حتما إلى انهيار المجتمع وهلاكه معنوياً ومادياً. ‏
الإخلال بالعقد المؤسَّس على معرفة القرى وحقوقها ومصالحها، ومعرفة النفس وما سوّاها، ‏ومعرفة العلاقات كما ينبغي أن تكون، والنضال في سبيل استقامتها. إنما هو إخلال بالكتاب ‏المعلوم، أي بالنظام الحافظ . والمعلوم تعني الموسوم بعلاماتٍ دالاتٍ عليه، فآيات الكتاب هي ‏العلامات التي بموجب فهمها تتحدد السيرورة الوجودية لأي قرية/ مجتمع، والقرآن المبين هو ‏المناهج التي ينبغي اعتمادها في معاينة تلك العلامات، والتعامل مع مدلولاتها.‏
القرى لها كتاب معلوم، هل هو واحد لكل القرى؟ أم أن كل قرية ولها كتاب؟
النفي هو تعطيل لفعل الإهلاك مسنداً إلى "نا" وواقعاً على "قرية"، إلا أنّ مفردة "قرية" ‏مسبوقة بـ "من" الزائدة لاستغراق الجنس، لتشمل جنس القرى، وتنكير القرية أيضاً يدخلها في ‏الشيوع ، فلو كان التعبير من دون "من" ــــــ وهو جائز في اللغة ــــــ لاختلفت الدلالة، وصارت ‏تعني "ما أهلكنا قريةً"، أي "ما أهلكنا أي قرية"، أو تعني "أهلكنا قريتين أو أكثر". وعندما يعطل ‏الإسناد بين الفعل وفاعله، إنما ليحصر حدوث الفعل في حال معينة خاصة بالمفعول به "قرية"، ‏والحال " لها كتاب معلوم".‏
تقديم الخبر "لها" على المبتدأ "كتابٌ معلوم"، إنما يولي الخبر أهميةً نفهمها من كون اللام ‏للاختصاص، ومن كون هذه الجملة الحالية مؤكّدة بواو الحال، لإفادة تأكيد لصوق ‏ الصفة "لها ‏كتاب معلوم" بالموصوف "قرية"، وللدلالة على أنّ اتصافه بها أمر ثابت مستقرّ.‏
إذن، ينتفي الإهلاك للقرى من دون أن يكون لها كتاب معلوم. ليس لها كتاب فقط، إنما ‏كتاب معلوم، أي موسومٌ بعلامات، " آيات الكتاب" وهي التي أشير إليها بعد "ألر"؛ فكل تجمع ‏بشري في مكان ما، له كتاب يحدد ما ينبغي توافره لاستمراره، ما يحمّل المتلقي مسؤولية فقه ‏العلامات وتدبير شؤونه معها، أو معالجة مدلولاتها، والتصدي لمخاطرها، وفق أصول ينبغي ‏الاجتهاد الحثيث في تعيينها واعتمادها. وأي إهمال أو جهلٍ إرادي أو تجاهلٍ لهذا الواجب، إنما ‏ينحط بالمجتمع وأفراده ومكانه معنوياً ومادياً. ‏
‏6.‏ تصحيح ظنّ
‏ ﴿مَّا تَسۡبِقُ مِنۡ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا یَسۡتَـٔۡخِرُونَ﴾.‏
عندما يكون النفي بـ"ما" رداً على قول أو تصحيح ظن ، ويؤتى بها في مستهل هذه ‏الآية، إنما يكون ذلك للإحالة على المواقف التي استدعت هذا البيان، فهم يظنون بالبقاء والفناء ‏غير ما يلقى عليهم ، ربما كانوا ــــــ وهذا المرجح ــــــ لا يربطون الهلاك بأسبابه ولا يربطون البقاء ‏بأسبابه، لأنهم لا يعترفون بالناموس ولم يبذلوا جهوداً حقيقيّةً لفهمه، إنهم يأكلون ويتمتعون، ‏يتلهون بالأمل؛ ما يعني أنهم أداروا ظهورهم تماماً للكتاب المعلوم، بقصدٍ أو بغير قصد.‏
نفي الفعلين "تسبق" و"يستأخرون" بوصفهما مسندين إلى الجماعة الإنسانية، من شأنه ‏تعطيل هذه العلاقة بينهما وبين المسند إليه، في كونهما واقعين على "الأجل" بوصفه علامة ‏زمنية تحيل على حدث إهلاكيّ حتميّ هو"الموت". ‏
أجلُ الموت له علامات في سلوك الجماعة مع أنفسهم وبيئتهم الطبيعية والحيوانية. وفَهمُ ‏هذه العلامات يحتّم تعديلاً مستمراً في السلوك. واعتماد منهجٍ علمي في قراءة هذه العلامات ‏المكتوبة في الكون والإنسان والجماعة، هو المنجاة، وأنهم لم يبلغوا المدى المطلوب في الأداء ‏المنهجي، فلا يمكن أن يخضع الحتميُّ لاعتباطية الحركة الخاضعة للأمزجة والرغبات.‏
إذا كان المكان يرسلُ إشاراتٍ تدلّ على بداية تصحرٍ ــــ مثلاً ـــــ ولم يُكترث لهذه ‏الإشارات، أو لم تُفهم، وجاء من يدلّ أنّ القادم من السنين سيشهد جفافاً يقضي على الزرع ‏والضرع، وطالب بتعديل السلوك؛ فاستمرَّ السلوك المعتاد، ولم يتمّ التفكير بالتصدي لهذا الجفاف، ‏لا باستثمار الماء المتوافر إلى حينه، ولا باعتماد الحمى الوقفية للمواشي وفق نظام جديد، ولم ‏تنشأ أحواض لجمع المياه، ولم يتم البحث عن مزروعات تحتاج كميةً أقل من المياه، أو.......؛ ‏فإنّ أجَل الهلاك حتميّ "ما تسبقُ من أمّة أجلها وما يستأخرون". ‏
النفي كما أسلفنا تعطيل لاعتباطية الناموس؛ فما كانوا يقولون وما كانوا يظنون إنما هو ‏مهلكة حتميةٌ لا يمكن لأي أمة أن تسبقها أو تستأخرها. فالأجل يكون حقيقةً قد تحدد بسلوكهم ‏الذهنيّ والحركيّ. وهذه الآيةُ الكريمة هنا في سياق الحض على التعامل مع آيات الكتاب الكوني، ‏ومع ما جُمع من بيناتٍ في نص كريم، تنطوي على إشعار بضرورة الفهم والامتثال لما يقتضيه؛ ‏فنوعيّة الحياة الاجتماعية والحضاريّة هي التي تحدد الأجل وليس أي شيء آخر.‏
زيادةُ "من" بعد النفي بين الفعل "تسبق" والفاعل "أمة"، لتنصيص النفي، وإفادة الاستغراق ‏في الجنس، ما يعني أن الحكم الذي يلحق أمةَ زمن التنزل يلحق آخر أمّة في الوجود، فاستباق ‏الأجل مستحيل لكون أجل الأمّة مرتبطاً بأسبابٍ تؤدي إليه، وكذلك "يستأخرون" ما يعني صرامة ‏الناموس وحتميته "وصِيغَةُ الِاسْتِفْعالِ لِلْإشْعارِ بِعَجْزِهِمْ عَنْ ذَلِكَ مَعَ طَلَبِهِمْ لَهُ"‏ ‏. فالسبق لا ‏يُطلب، وما من أمةٍ تطلب فناءها، إلا أنه جيء به هنا كناية عن ثبوت الموعد الذي حددته ‏الأسبابُ المفتعلةُ المؤديةُ إليه، فلا يكون قبل الموعد ولا بعده. أما علامة التذكير مع المسند مرةً ‏وعلامةُ التأنيث في أخرى ، فمردّه إلى أنّ اقتران فعل السبق بعلامة التأنيث لكون المسند إليه ‏‏"أمة" مؤنثا لفظاً، فيكون التأنيث مراعاةً للفظ، وإذْ أَسند إلى "أمّة" فعل الاستئخار لم يؤنث مراعاةً ‏للمعنى مع التغليب. غير أن السؤال الأهم لماذا مع السبق راعى اللفظ ومع الاستئخار راعى ‏المعنى مع التغليب؟
حال النفس عندما ينصرف الذهن إلى التفكير في سبق الأجل، إنما هي حال وهنٍ ولين، ‏لذا، ناسب إلحاق تاء التأنيث بفعل السبق مسنداً إلى أمة، لما في الأنوثة من الوهن واللين (وهذا ‏ليس ذمّاً). بينما تكون حال النفس إذْ تنصرف الأذهان إلى التفكير باستئخار الأجل، إنما هي ‏حال جهادٍ ومقاومة، لذا؛ ناسب إلحاق علامة التذكير بفعل الاستئخار لما في الذكورة من خشونة ‏وقوة ونشاط. سبْق الأجل لا يتطلب جهوداً كثيرة أو كبيرة، فقط يتطلب ضعفاً في النفس، بينما ‏الاستئخار يتطلب حشد جهودٍ نفسيةٍ وفكريّة، وكلا المطلبين مستحيل التحقق لدقة ‏الناموس/الكتاب، وما الإشارة إلى الاستباق والاستئخار سوى إشارةٍ إلى مظاهر الوهم والظنون ‏يعززهما الجهل الإرادي والإهمال.‏
‏7.‏ الخلاصة
عندما يقف القلم، لا بدّ من مراجعةٍ لما تناولنا، لنقف على ما يمكن استخلاصه من هذه ‏القراءة، فكنّا على ما يأتي: ‏
‏1.‏ العلاقة بين الإنسان، والكون، والمجتمع، ينبغي أن تكون علاقةً مستقيمة ، مرجعيتها ‏الحقّ الذي يؤدي فقدانُه إلى خلل مهلك. وتحديد الحق لا يمكن أن يكون إلا خلاصة ‏اجتهاد حثيث في كشف الأسباب التي تبيّن ماهية الإنسان، وماهية المجتمع، وماهية ‏الكون، ويكون مرجعية السلوك الفرديّ والاجتماعيّ.‏
‏2.‏ الحروف المقطّعة في أوّل السورة "ألر"، تحرضُ المتلقي ليتبيّن ترسيم علاقة حقٍ بين ‏الإنسان ومجتمعه والكون.‏
‏3.‏ العلامات التي قرأناها بالاستناد إلى "ألر" إنما هي علاماتٌ على العلاقات المستقيمة ‏وما تؤدي إليه من عمران وتطوّر وازدهار، وعلاماتٌ على الخلل في العلاقات وما ‏يؤدي إليه من مهالك الجماعات ومواطنها.‏
‏4.‏ آيات هي نفسها الآيات، فهي مع القرآن باعتبار وظيفتها، و مع الكتاب باعتبار ‏ماهيتها.‏
‏5.‏ المشروع الذي تنطوي عليه سورة الحجر، إنما يعني الانتقال بالبشرية من الخضوع ‏للناموس إلى فهم الناموس وتعديل السلوك الذهنيّ والحياتي تأسيساً على فهمٍ مرنٍ قابل ‏للتحول والتعديل مع التطورات. وفي ذلك أمن الناس كل الناس بمواجهة التحديات ‏المهلِكة، سواء كانت طبيعيةً أو بما كسبت أيديهم. ‏
‏6.‏ يقوم أسلوب الإنشاء الطلبيّ لتعيين الإجراء الذهنيّ الملائم وليس مجرّد وعيد.‏
‏7.‏ ولازم التسويف إثارة القلوب بالوعيد المؤجل ما يدفعهم إلى التفكير بما يجب أن يقوموا ‏به الآن، بأنْ يتخلصوا من عدم الاعتداد بما يجب أن يهتموا به.‏
‏8.‏ ينتفي الإهلاك للقرى من دون أن يكون لها كتاب معلوم. ليس لها كتاب فقط، إنما ‏كتاب معلوم، أي موسومٌ بعلامات، " آيات الكتاب" وهي التي أشير إليها بعد "ألر"؛ ‏فكل تجمع بشري في مكان ما، له كتاب/ناموس يحدد ما ينبغي توافره لاستمراره.‏
‏9.‏ يتحمّل المتلقي مسؤولية فقه العلامات وتدبير شؤونه معها، أو معالجة مدلولاتها، ‏والتصدي لمخاطرها، وفق أصول ينبغي الاجتهاد الحثيث في تعيينها واعتمادها. وأي ‏إهمال أو جهلٍ إرادي أو تجاهلٍ لهذا الواجب، إنما ينحط بالمجتمع وأفراده ومكانه ‏معنوياً ومادياً. ‏
‏10.‏ مواعيد آجال القرى يحددها أهل القرى بسلوكهم مع العقد الاجتماعي ومكانه، ولا ‏يعني أنه مهما فعل الناس سيأتيهم الهلاك.‏
مرّةً أخرى يتبيّن لنا أن الإهلاك الإلهي لا يكون إلا بسلوكٍ لا يستفيد من التجارب ‏والمنجزات العلمية على طريق المعرفة، من خلال الفهم الدقيق لعلامات الناموس الوجودي.‏
سعد كموني
المصادر والمراجع
القرآن الكريم
‏1)‏ ابن جني،(أبو الفتح عثمان)، الخصائص، تح: محمد علي النجار،الهيئة المصرية العامة للكتاب، ‏ط3، القاهرة، 1986.‏
‏2)‏ ابن منظور، محمد بن مكرم، لسان العرب، تح: عبد الله علي الكبير، محمد أحمد حسب الله، هاشم ‏محمد الشاذلي، دار المعارف ، القاهرة 1998.‏
‏3)‏ الألوسي، محمود شكري، روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني، دار إحياء التراث ‏العربي،بيروت،1994.‏
‏4)‏ حسن جبل، محمد حسن، المعجم الاشتقاقي المؤصل، مكتبة الآداب ، القاهرة، 2010.‏
‏5)‏ حسن عباس، خصائص الحروف العربية ومعانيها، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 1998.‏
‏6)‏ الحسين بن محمد( الراغب الأصفهاني)، مفردات ألفاظ القرآن، تحقيق:صفوان داوودي، دار القلم، ‏دمشق، الدار الشامية بيروت،ط4، 2009‏
‏7)‏ الزركشي، بدر الدين محمد بن عبد الله، البرهان في علوم القرآن، تح. محمّد أبو الفضل إبراهيم، دار ‏التراث، القاهرة، ط3، 1984.‏
‏8)‏ السامرائي، فاضل صالح، معاني النحو، دار الفكر، عمان، 2000.‏
‏9)‏ السمين الحلبي،أحمد بن يوسف بن عبد الدائم، عمدة الحفاظ في تفسير أشرف الألفاظ، تح:محمد ‏باسل عيون السود، دار الكتب العلمية، بيروت، 1996.‏
‏10)‏ الشاطبي، إبراهيم بن موسى، الموافقات، تحقيق مشهور بن حسن آل سلمان، دار ابن عفان، ‏السعودية، الخبر،1997.‏
‏11)‏ الفيروز آبادي، مجد الدين أبو طاهر محمد بن يعقوب، القاموس المحيط، دار الفكر، بيروت، ‏‏1978 .‏
‏12)‏ المبرّد، محمد بن يزيد، المقتضب، تح: محمد عبد الخالق عضيمة، وزارة الأوقاف، لجنة إحياء ‏التراث الإسلامي، القاهرة، ط2، 1979.‏



#سعد_كموني (هاشتاغ)       Saad_Kammouni#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ذنوب الذين كفروا وإهلاكهم
- آللهُ يهلكنا!؟
- الأسلوب ما يجب أن يتغير راهناً
- لا شيء يستدعي الثقة
- نحن فاعل هلاكنا
- لن نستفيد من عزلتنا
- لن نأسف على شيء
- يتوقعون ما يرغبون به
- الإيمان ليس مرادفاً للجهل
- ليس الإنسان ضعيفا
- لا بد من ثورة تقدمية
- الوحش ليس شكلاً بل مضمون
- كورونا والثورة
- أنت المسؤول
- تهافت التأويل العلمي عند زغلول نجار وآخرين


المزيد.....




- الفصح اليهودي.. جنود احتياط ونازحون ينضمون لقوائم المحتاجين ...
- مستوطنون يقتحمون مدنا بالضفة في عيد الفصح اليهودي بحماية الج ...
- حكومة نتنياهو تطلب تمديدا جديدا لمهلة تجنيد اليهود المتشددين ...
- قطر.. استمرار ضجة تصريحات عيسى النصر عن اليهود و-قتل الأنبيا ...
- العجل الذهبي و-سفر الخروج- من الصهيونية.. هل تكتب نعومي كلاي ...
- مجلس الأوقاف بالقدس يحذر من تعاظم المخاوف تجاه المسجد الأقصى ...
- مصلون يهود عند حائط البراق في ثالث أيام عيد الفصح
- الإحتلال يغلق الحرم الابراهيمي بوجه الفلسطينيين بمناسبة عيد ...
- لبنان: المقاومة الإسلامية تستهدف ثكنة ‏زبدين في مزارع شبعا ...
- تزامنًا مع اقتحامات باحات المسجد الأقصى.. آلاف اليهود يؤدون ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - سعد كموني - الإهلاك الإلهي ناموس غير اعتباطي