مكسيم العراقي
كاتب وباحث يؤمن بعراق واحد قوي مسالم ديمقراطي علماني بلا عفن ديني طائفي قومي
(Maxim Al-iraqi)
الحوار المتمدن-العدد: 8516 - 2025 / 11 / 4 - 22:41
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
(1)
مقدمة عن الإمبريالية الجديدة وتفتيت الهوية ...الصراع الطبقي والتحرري بين العدالة والانحراف الطائفي
منذ بزوغ الوعي السياسي الحديث في القرن التاسع عشر، كان الصراع الطبقي عنوانًا لنضال الإنسان ضد أنظمة الاستغلال الاجتماعي والاقتصادي، حيث وقف العمّال والفقراء والمهمّشون في مواجهة بنى السلطة والثروة التي راكمت الامتيازات على حساب الأغلبية. هذا الصراع لم يكن مجرد تنازع على الموارد، بل بحثًا عن الكرامة والمساواة والعدالة.
وفي القرن العشرين، تداخلت مع هذا المسار حركات التحرر الوطني التي واجهت الاستعمار الغربي في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية. كان التحرر من السيطرة الأجنبية امتدادًا طبيعيًا للتحرر من الاستغلال الداخلي؛ فالشعوب التي طالها الاحتلال كانت ترى أن الحرية الوطنية لا تنفصل عن العدالة الاجتماعية. بذلك، التقت فكرة الصراع الطبقي بفكرة الصراع التحريري في مشروع واحد: بناء مجتمع حرّ ومتقدّم ومستقلّ.
غير أنّ هذا المشروع التاريخي تعرّض لعملية تحريف منهجية مع تصاعد الحرب الباردة وتدخّل القوى الإمبريالية، التي عملت على تفكيك وحدة الصراع الاجتماعي عبر زرع الانقسامات الطائفية والدينية والقومية. فقد استُبدل السؤال عن العدالة والملكية والعمل، بأسئلة الهوية والمذهب والأصل. جرى تحويل الوعي الجمعي من وعي بالحقوق إلى وعي بالخطر المتخيَّل من الآخر, فاشتعلت الحروب الأهلية التي دمّرت إمكانات التقدّم وكرّست أنظمة القمع باسم الدين أو القومية أو حماية الهوية!
بهذا، تحوّل الصراع من مشروع تحرر إنساني إلى صراع هويّاتي مغلق يخدم القوى المسيطرة ذاتها التي كان يفترض أن يُناهضها. لم تعد العدالة الاجتماعية أو الاستقلال الوطني في مركز السياسة، بل الانتماءات الضيقة التي أعادت إنتاج الظلم باسم الدفاع عن الذات.
إنّ استعادة جوهر تلك الصراعات التاريخية — أي العدالة والمساواة والحرية — تتطلّب اليوم وعيًا جديدًا يتجاوز الطائفية والقومية المغلقة نحو تحالف إنساني تقدّمي يعيد السياسة إلى معناها الأصلي: تحرير الإنسان من كلّ أشكال الهيمنة، سواء كانت طبقية أو استعمارية أو أيديولوجية.
كان للاسلام السياسي المنتج خارجيا والمعد سلفا هو احد اخطر ادوات الاستعمار والامبريالية الجديدة!
يهدف هذا المقال إلى تفكيك وتحليل الاستراتيجيات التي اعتمدتها الإمبريالية الجديدة (Neo-Imperialism) والقوى الغربية لاستغلال الإسلام السياسي كأداة رئيسية في تحويل الصراع الأساسي في المنطقة، والمتمثل تاريخياً في الصراع الطبقي والاقتصادي على السلطة والموارد، والصراع من اجل التحرر والاستقلال والتطور والتنمية, إلى صراعات هوية مدمرة على أسس دينية وطائفية وعرقية. تعتمد هذه الاستراتيجية على تحديد واستغلال الثغرات في البنى الاجتماعية والسياسية للدول المستهدفة، ويهدف كذلك الى توثيق آليات التعاون السري بين القوى الغربية وكيانات الإسلام السياسي لخدمة أهداف جيوسياسية أوسع، غالبًا ما تكون مرتبطة بمحاربة الأنظمة العلمانية أو القومية المناهضة للغرب.
إن الإمبريالية الحديثة، خلافاً لسابقتها، لا تركز بالضرورة على الاستعمار التقليدي المباشر، بل تتجه نحو إضعاف الدولة المركزية وإعادة تشكيلها لتخدم مصالح الرأسمال العالمي. يتطلب هذا النموذج تحطيم الهوية الوطنية الجامعة وخلق بيئة من عدم الاستقرار المُدار، حيث يتحول الإنفاق الحكومي في الدول الغنية إلى تدفقات مالية ضخمة للشركات الغربية المصنعة للسلاح تحت ذريعة الصراع المذهبي.
وتجربة الاسلام السياسي في العراق بعد عام 2003 اوضح شاهد على تدمير البلاد والدولة والشعب وبيعهم بالجملة والمفرق من اجل بقاء طغم من الاوغاد الذين يعتاشون على الخرافات والفساد والارهاب والعمالة!
(2)
آليات تفتيت الصراع الطبقي واستغلال الهوية
1. الإمبريالية الجديدة والتحول من السيطرة المباشرة إلى الهيمنة الأيديولوجية
يمثل التحول في طبيعة الهيمنة الغربية انعكاساً لتغيرات هيكلية في الاقتصاد العالمي. في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وعلى الرغم من تفكيك الإمبراطوريات الاستعمارية القديمة، استمرت الإمبريالية في شكلها الجديد. يلاحظ أن الأهمية الاقتصادية للعالم الثالث تضاءلت نسبياً منذ عام 1945، حيث تركزت معظم تدفقات التجارة والاستثمار بين البلدان الرأسمالية المتقدمة ذاتها. هذا التحول يشير إلى أن الهدف الأساسي للتدخل الإمبريالي لم يعد بالضرورة هو الاستيلاء المباشر على الثروات كما كان في العهد القديم، بل تركز في خلق بيئة من "السيطرة الجيواستراتيجية" وعدم الاستقرار المُدار.
إن هذا التغيير الجذري أدى إلى تحول دور الدولة التابعة، حيث يتم تحطيم الدولة المركزية واللجوء إلى اللامركزية والفدرلة على أسس قومية أو دينية أو طائفية. في هذا السياق، يصبح دور الدولة المتبقي هو العمل كـلجنة عاملة للرأسماليين وأصحاب الشركات، مهمتها ضمان حرية حركة الرأسمال والسوق والفساد المتعاظم والارهاب. هذا التفكيك الهيكلي هو الخطوة الأولى لفتح المجال أمام استغلال الانقسامات الاجتماعية.
2. تحويل الصراع, من الرؤية الماركسية إلى استقطاب الهوية
يشكل الصراع الطبقي، وفقاً للإطار المادي التاريخي، القوة المحركة للتاريخ والتغيير الاجتماعي، حيث يدور حول المصالح المتضاربة بين الطبقات التي تملك وسائل الإنتاج (البرجوازية) والطبقات التي لا تملكها (البروليتاريا). إن وجود الصراعات الكامنة (Latent Conflicts) ذات الأساس الاقتصادي يمثل تهديداً حقيقياً للنظام الرأسمالي العالمي. ولإجهاض تحول هذه الصراعات الكامنة إلى صراعات واضحة، يتم استخدام استراتيجية أيديولوجية للتشتيت.
تُعد سياسات الهوية أداة أيديولوجية رئيسية للإمبريالية، حيث يتم استخدامها لاستراتيجية فرِّقْ تَسُدْ لتقسيم الشعوب العاملة والمضطهدة. هذه السياسة تهدف إلى صرف الانتباه عن الانفصال التام بين القضايا الرمزية للهوية والواقع المادي للصراعات الطبقية.
وهناك ايضا الصراع من اجل التحرر الوطني والاستقلال والتقدم مع القوى المحتلة والمعادية الذي تم تحويله الى صراع داخلي طائفي ديني عرقي مصنع بامتياز.
3. آلية تسييس الهوية (Identity Politicization):
• صناعة التنوع الزائف: تشجع هذه الآلية المشاركين على التماهي مع مجموعتهم المحددة لهم وتعزيز مصالحهم الفردية في إطار فئوي ضيق. هذا يخلق ما يسميه البعض صناعة التنوع التي تخدم طبقة برجوازية تهدف إلى السيطرة.
• الفراغ الأيديولوجي: تترسخ هذه الاستراتيجية في بيئة حيث فشلت الأيديولوجيات الإصلاحية السابقة (الاشتراكية الإسلامية، القومية العربية، الماركسية) في تحقيق السلام والاستقرار وتوزيع الثروة. هذا الفشل يخلق أرضية خصبة للتطرف الإسلامي خاصة بين الشباب (حيث أن نصف السكان تقريباً تحت سن 20 في معظم الدول)، الذي يجد في الشعارات الإسلامية الراديكالية بديلاً لمواجهة الفساد والفشل في تحقيق العدالة الاجتماعية.
عندما تصبح سياسات الهوية خالية من التحليل الطبقي، فإنها تتحول إلى أداة لخدمة الإمبريالية، مقدمة غطاءً رقيقاً لتدخلها. يتمثل جوهر المقاومة في كشف هذه الحقائق وإعادة إنتاج معرفة قادرة على إعادة التعددية للتاريخ ورفض اختزال هوية الشعوب في طائفة أو مذهب.
4. تحويل الصراع من المنظور المادي إلى منظور الهوية:
اعتمد الاستغلال الإمبريالي على تحويل مؤشرات الصراع الأساسية على النحو التالي:
• سبب الفقر والبطالة: يتم تحويل الرؤية من أن السبب هو استغلال الرأسمال وسوء توزيع الثروة والتبعية الاقتصادية والفساد والارهاب إلى اعتبار السبب إهمال طائفة معينة أو فساد شخصي لقادة من عرق أو مذهب مختلف. وتكمن وظيفة الاستغلال الإمبريالي هنا في تفتيت الشعوب العاملة وصرف انتباهها عن الطبقة الحاكمة.
• قاعدة الشرعية والولاء: يتم تحويل الولاء من الانتماء للطبقة المنتجة أو للدولة القومية المركزية إلى الانتماء الديني أو المذهبي أو العرقي (الهويات الجزئية). وتهدف هذه الوظيفة إلى إضعاف الدولة القومية لصالح الفدرلة أو الميليشيات.
• هدف التغيير: يتم تحويل هدف التغيير من ثورة طبقية أو إصلاح اقتصادي جذري إلى تحرير المظلومين باسم الهوية أو استعادة نقاء ديني. وهذا يوفر غطاءً للإمبريالية ويبرر التدخل العسكري.
5. دور الإسلام السياسي, الحليف التكتيكي ضد العلمانية والقومية
في سياق الحرب الباردة وما بعدها، لم يكن الإسلام السياسي مجرد ظاهرة محلية، بل كان ورقة جيوسياسية استغلتها القوى الغربية ببراعة. لاحظت وكالة الاستخبارات الأمريكية أن الأنظمة العلمانية (مثل نظام البعث الاشتراكي في سوريا والعراق سابقا) وأنظمة اليسار الماركسي في المنطقة تواجه تهديداً مباشراً من الإسلام السياسي الذي يعمل على تقويض شرعيتها.
مثلت هذه الأنظمة العلمانية أو القومية تحدياً لسيطرة الغرب، لذا، كان دعم القوى التي تقف على النقيض منها (الإسلام السياسي) يُنظر إليه كاستراتيجية لـعدو عدوي. هذه الاستراتيجية التكتيكية، الهادفة إلى تفتيت الأنظمة المركزية المعادية، أصبحت فيما بعد بؤرة عدم الاستقرار والتطرف التي ارتدت على المنطقة والعالم.
(3)
التوثيق السري والتعاون الإمبريالي مع القوى الدينية
إن تحليل الوثائق السرية الأمريكية والغربية التي رُفعت عنها السرية يثبت وجود تعاون عميق وتفاهمات استراتيجية مع كيانات الإسلام السياسي، بهدف مشترك هو محاربة الأنظمة العلمانية وتقسيم الشعوب لخدمة المصالح الإمبريالية.
1. دراسة حالة 1: أفغانستان وعملية الإعصار (Operation Cyclone)
تُعد عملية الإعصار (Operation Cyclone) المثال الأبرز على التعاون المباشر بين القوى الغربية والإسلام السياسي لتدمير نظام علماني (الحكومة المدعومة سوفييتياً في كابل). كانت العملية، التي بدأت في يوليو 1979 واستمرت حتى عام 1992، تهدف إلى إضعاف وهزيمة الاتحاد السوفيتي في أفغانستان.
التوثيق والدعم اللوجستي:
• نفذت العملية بالاشتراك بين وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية (CIA)، والمخابرات الباكستانية (ISI)، والمخابرات السعودية.
• تضمن الدعم تدريب عشرات الآلاف من المجاهدين وتزويدهم بآلاف الأطنان من الأسلحة التي بلغت قيمتها عدة مليارات من دولارات الولايات المتحدة.
• شمل التسليح تكنولوجيا متقدمة، أبرزها صواريخ FIM-92 Stinger أرض-جو، حيث شُحن حوالي 2,300 صاروخ منها.
• كان الدعم الغربي أوسع من الولايات المتحدة؛ إذ قدمت بريطانيا (MI6) أيضاً دعماً كبيراً، بما في ذلك إرسال مدربين عسكريين وتوريد أسلحة، وتدريب قوات خاصة (SAS) للمجاهدين. حتى أن الرئيس رونالد ريغان استقبل قادة المجاهدين الأفغان في المكتب البيضاوي في فبراير 1983.
كان الهدف الجيوسياسي القريب للغرب هو تحقيق الانسحاب السوفيتي في فبراير 1989. لكن النجاح التكتيكي حمل في طياته بذرة تدمير ذاتي. إن ضخ مليارات الدولارات والتدريب الغربي لمجموعات إسلامية متطرفة خارج نطاق سيطرة الدولة خلق شبكات جهاد عالمي، وهو ما مثل ارتداداً كارثياً أدى إلى صراعات طويلة الأمد ضد المصالح الغربية نفسها في مرحلة لاحقة. إن استغلال الإسلام السياسي كان قراراً قصير النظر بتبعات إنسانية وجيوسياسية هائلة.
2. دراسة حالة 2: صعود الخميني في إيران 1979 والتفاهمات السرية
على الرغم من العداء العلني الذي نشأ بين الولايات المتحدة والجمهورية الإسلامية بعد أزمة الرهائن في نوفمبر 1979، إلا أن الوثائق المرفوع عنها السرية تكشف عن تفاهمات وتوافقات غربية أسهمت بشكل كبير في وصول آية الله الخميني للسلطة وإسقاط نظام الشاه العلماني الحليف للغرب.
التوافق الغربي على التمكين:
كشف الرئيس الفرنسي الأسبق جاك شيراك في مذكراته أن قرار استقبال آية الله الخميني في فرنسا في أكتوبر 1978، بعد إبعاده من العراق، حظي بـتوافق غربي وأمريكي بالطبع. وقد تحول مقر إقامته في نوفل لو شاتو إلى خلية لإدارة الانتفاضة، معتمداً على أشرطة التسجيل التي كان لها صدى دولي مدوّ في الداخل الإيراني. هذا الدعم اللوجستي والسياسي مكن الخميني من قيادة الثورة بفعالية من قلب أوروبا.
التوثيق السري لعلاقات الخميني بالإدارة الأمريكية:
تشير وثائق وكالة الاستخبارات الأمريكية (CIA) التي رُفعت عنها السرية إلى أن الخميني كان على صلة بالحكومة الأمريكية منذ الستينيات:
1. رسالة نوفمبر 1963 (لكينيدي): أرسل الخميني رسالة سرية إلى إدارة الرئيس جون كينيدي بعد الإفراج عنه من السجن. أوضح فيها أنه يحمي المصالح الأمريكية في إيران وطالب بألا يفسر هجومه العلني على الشاه بطريقة خاطئة. كما أكد الخميني أن الوجود الأمريكي كان ضرورياً لإحداث توازن ضد الاتحاد السوفييتي والنفوذ البريطاني المحتمل. هذا يوضح كيف كان الغرب ينظر إلى الحركات الدينية المحافظة كحليف محتمل لموازنة المد الشيوعي.
2. رسالة يناير 1979 (لكارتر): قبل أسابيع من انتصار الثورة، أرسل الخميني رسالة لإدارة الرئيس جيمي كارتر وعد فيها بعدم قطع إيران للنفط عن الغرب، وعدم تصدير الثورة، وإقامة علاقات ودية مع الولايات المتحدة. وعد الخميني بأن الجمهورية الإسلامية ستكون حكومة إنسانية، تسعى للسلام ومساعدة البشرية.
تكشف هذه التفاهمات عن رهان استراتيجي غربي فاشل. لقد كانت الإدارة الأمريكية تسعى لاستغلال قوة الخميني لتقويض سلطة الشاه، ربما معتقدة أنه يمكن التحكم به أو أنه سيعود إلى نظام إسلامي تقليدي محافظ يمكن التعايش معه، خاصة لضمان استمرار إمدادات النفط. هذا التقدير الخاطئ، القائم على التفاهمات السرية التي انتهت بكارثة الرهائن، يمثل ثغرة كبرى استغلها الغرب لفتح الباب أمام نظام ديني راديكالي أسهم في تعقيد المشهد الجيوسياسي لعقود.
3. دراسة حالة 3: الإسلام السياسي في العراق وغض الطرف عن حزب الله
بعد غزو العراق عام 2003 وإسقاط نظام صدام حسين العلماني، تبين بوضوح كيف تخدم سياسة تفكيك الدول المركزية أجندة الإمبريالية الجديدة. أدى الفراغ الأمني والسلطوي الذي خلفه الغزو إلى صعود كيانات إسلامية سياسية شيعية وسنية، مما حول الصراع في العراق إلى حرب أهلية طائفية وعرقية بامتياز. هذا التفكيك خدم الهدف الاستراتيجي المتمثل في خلق دولة ضعيفة أو مقسمة فدرالياً على أسس طائفية، وهو ما يتفق مع آلية الإمبريالية الجديدة لإضعاف الدولة المركزية وضمان التحكم عن بعد.
وظيفة التهديد المُدار (حزب الله):
في حين أن النظام الإيراني وأدواته الإقليمية (مثل حزب الله) يُنظر إليهم في الخطاب الغربي على أنهم تهديد، إلا أن سياسة الغرب وإسرائيل تجاه هذه الكيانات تتسم بتناقض استراتيجي معقد. إن الإبقاء على كيانات مسلحة قوية إقليمياً، ورغم تصنيفها كإرهابية، يخدم غرضاً جوهرياً للإمبريالية الجديدة: تأبيد حالة الخوف والتهديد المذهبي.
يُعد وجود العدو المذهبي المدعوم إيرانياً (كابوس الهلال الشيعي) الذريعة الرئيسية لـ:
• تبرير الوجود العسكري الأجنبي واستمرار التدخل في الشؤون الداخلية.
• تأمين صفقات السلاح الهائلة لدول الخليج التي تخشى هذا المد.
• الحفاظ على إسرائيل كحليف استراتيجي لا يمكن الاستغناء عنه في وجه التهديد الإقليمي المزعوم.والسماح بالتوسع الاسرائيلي بفعل الاعمال المدبرة ايرانيا وذيله حزب اهأس واخرها عملية 7 اكتوبر 2023 التي مسحت غزة وجنوب لبنان واستبدلت النظام السوري بالارهاب المدعوم تركيا ودوليا وخليجيا!
• التهديد المُدار (Managed Threat) في هذه الحالة هو أكثر فائدة اقتصادياً وجيوسياسياً من تحقيق السلام والاستقرار الكامل.
(4)
الاستغلال المالي, حلب دول الخليج واقتصاد الخوف
يُعد استغلال دول الخليج مالياً عبر صفقات السلاح، تحت ذريعة الصراع المذهبي (السني-الشيعي)، حجر الزاوية في النموذج الاقتصادي للإمبريالية الجديدة في المنطقة. تتحول المليارات النفطية إلى تدفقات مالية ضخمة لـالمجمع الصناعي العسكري الغربي.
1. آلية تضخيم الإنفاق عبر تسييس التهديد
الدافعان الرئيسيان اللذان أسهما في التحول نحو الإنفاق العسكري الهائل في دول الخليج هما الثورة الإسلامية الإيرانية عام 1979 وسقوط نظام صدام حسين في 2003.
1. المرحلة الأولى (1979): بعد سقوط الشاه وقيام نظام الملالي في إيران، ضاعفت المملكة العربية السعودية ميزانيتها العسكرية بشكل كبير، لتصل إلى 27 مليار دولار بين عامي 1978 و1982. وقد عززت واشنطن علاقاتها مع الرياض لتعويض خسارة حليفها الإيراني وضمان التفوق العسكري السعودي.
2. المرحلة الثانية (2003 وما بعدها): بعد وصول حكومة شيعية! للسلطة في العراق وتعزيز النفوذ الإيراني في المنطقة، تزايدت المخاوف السعودية بشكل كبير من تحقق سيناريو الهلال الشيعي الممتد من طهران إلى البحر المتوسط. وبناءً على هذه المخاوف، ضاعفت الرياض ميزانيتها العسكرية بنحو أربع مرات خلال الفترة الممتدة بين 2003 و2015، لتبلغ 87 مليار دولار في 2015.
إن هذه الزيادة الجنونية في الإنفاق العسكري، حتى مع انخفاض أسعار النفط بعد 2008، تؤكد أن السياسة المالية مدفوعة بـ اقتصاد الخوف الذي غذته الصراعات الطائفية. اللافت للنظر هو التفاوت الهائل في الإنفاق؛ حيث كانت الميزانية العسكرية للعدو المفترض (إيران) خلال تلك الفترة لا تتجاوز 13 مليار دولار، في حين أنفقت السعودية والإمارات مبالغ طائلة. هذا يؤكد أن الهدف ليس فقط التوازن العسكري، بل هو تأمين الطلب المالي الضخم والحيوي للمصنعين الغربيين.
2.تحليل اقتصاد صفقات السلاح وبرامج الأوفست
تضمن القوى الإمبريالية استمرار الاعتمادية حتى ضمن برامج توطين الصناعة العسكرية لدول الخليج (برامج الأوفست أو العمليات المتقابلة). تُلزم هذه البرامج شركات السلاح الغربية بإعادة استثمار جزء من قيمة العقود داخل الخليج لإنشاء مجمعات صناعية عسكرية محلية.
على الرغم من أن هذا التوطين الظاهري قد يسمح لدول الخليج بإنتاج أسلحة خفيفة ومتوسطة، إلا أن القطاعات الأكثر تعقيداً تظل تحت السيطرة الغربية. يتم تجميع وتطوير الدبابات والطائرات بالتعاون المباشر مع شركات أمريكية وألمانية. هذا يضمن الحفاظ على درجة من الاعتمادية التكنولوجية واللوجستية على الغرب، خاصة فيما يتعلق بقطع الغيار والصيانة والذخائر. وبما أن الذخائر تستنفذ بكميات ضخمة حتى في تمارين السلم، فإن هذا يضمن استمرار التدفق المالي المستقبلي للشركات الغربية.
إن الاستغلال المالي ليس مجرد بيع لمنتج، بل هو عملية إدارية مستدامة لـ الاعتمادية التكنولوجية تخدم الطبقة الحاكمة الغربية بشكل مباشر.
(5)
التكاليف التراكمية, الخسائر البشرية والاقتصادية لتدمير الشعوب
إن تحويل الصراع الطبقي إلى نزاع ديني وعرقي لم يؤدِ فقط إلى تفكيك الدول، بل فرض تكاليف بشرية واقتصادية هائلة وطويلة الأجل، تعمل على تأبيد حالة الضعف والفشل في المجتمعات المستهدفة.
1. الكلفة البشرية والاجتماعية المباشرة
أدت الصراعات المسلحة والحروب بالوكالة في المنطقة إلى ارتفاع مستويات العنف وتدمير شامل للبنية التحتية والخدمات الأساسية. تتجاوز التكاليف الخسائر البشرية المباشرة لتشمل الأثر التراكمي للنزوح الداخلي وأزمة اللاجئين.
إن تدمير النسيج الاجتماعي والتحول نحو العنف الطائفي يعني تراجع الوعي القادر على التحرر من قبضات الإيديولوجيا الطائفية، مما يعيق أي محاولات لإعادة بناء سرديات وطنية جامعة.
2. التكاليف الهيكلية طويلة الأجل (الرأسمالية الفاشلة)
تتفاعل سنوات الصراع الطائفي والعنيف مع مشاكل هيكلية قائمة، مما يخلق دوامة من الفشل التنموي:
1. أزمة الحكم والفساد: تعاني المنطقة من عقود من سوء الإدارة، حيث تقوم الأنظمة الأمنية على الاستبداد والقمع بدلاً من معالجة أسباب التطرف. يسود الفساد الحاد (crony capitalism) وتدهور مستمر في المساواة في توزيع الدخل.
2. أزمة الشباب والهجرة: تعاني المجتمعات من نمو سكاني هائل وظاهرة تضخم الشباب (Youth Bulges). يؤدي فشل الأنظمة في توفير الوظائف، الإسكان، والخدمات، إلى أزمة مهنية واجتماعية حادة. هذه الظروف تدفع أعداداً متزايدة من المواطنين إلى التفكير في الهجرة، خاصة الشباب المتعلم. على سبيل المثال، أظهر استطلاع أن 46% من التونسيين و42% من الأردنيين يفكرون في الهجرة. هذا نزيف العقول (Brain Drain) يعيق النمو الاقتصادي المستدام والتنمية البشرية.
3. تأبيد الصراع: إن استمرار الصراع، الذي يشمل التطرف والصراع السني مقابل الشيعي والأقليات الإسلامية الأخرى، سيستمر بغض النظر عن نتائج أي حرب معينة ضد جماعات مثل تنظيم الدولة والقاعدة. هذا يشير إلى أن الصراع أصبح هيكلياً، وليس ظرفياً.
تؤكد هذه التكاليف التراكمية أن تدمير الشعوب ليس كلفة عرضية، بل هو نتيجة متوقعة ومنطقية لآلية تهدف إلى تأبيد الضعف والاعتمادية. إن الفشل في تحقيق التنمية والعدالة الاجتماعية يغذي الانقسامات الطائفية، مما يضمن استمرار الحاجة إلى التدخل الخارجي والميليشيات كأداة حكم بديلة.
(6)
الاستنتاجات الإستراتيجية وسبل المقاومة المعرفية
1. استخلاص الثغرات الاستغلالية للإمبريالية الجديدة
أظهر التحليل أن الإمبريالية الجديدة لا تعتمد على القوة العسكرية فقط، بل تعتمد بشكل أساسي على استغلال ثغرات معرفية وسياسية ومالية لضمان الهيمنة غير المباشرة:
• الثغرات المعرفية والأيديولوجية: استغلال فشل الأنظمة العلمانية والقومية سابقا في تحقيق العدالة والشرعية. هذا الفراغ فتح الباب أمام أيديولوجيات الهوية التي استطاعت مصادرة المجتمع وإعادته إلى أطر ماضوية.
مع ان قادة تلك التجارب هم ايضا فتحوا المجال واسعا لتلك الجماعات مثل الحملة الايمانية لصدام وتحالف السادات مع الاخوان ضد اليسار وتحالف نميري مع الاسلام السياسي الذي تمكن اخيرا من الوصول للسلطة بعد ثورة سوار الذهب بانقلاب البشير وتشكيله مليشيات الدعم السريع التي حطمت السودان الان وقد تتكرر تلك التحربة في العراق بعد ان اسس مختار العصار الحشد الشعبي قبل سقوط الموصل!
• الثغرات الجيوسياسية والتكتيكية: استخدام الجماعات الدينية كـ حليف تكتيكي فعال لتفكيك القوى المنافسة (كما في أفغانستان ضد السوفييت أو العراق ضد البعث). كما أن سياسة التهديد المُدار (كغض الطرف عن كيانات مثل حزب الله في سياقات معينة) تضمن تأبيد التوتر الإقليمي.
• الثغرات المالية والاقتصادية: تحويل الصراع المذهبي إلى مبرر مالي لـحلب الدول الغنية، وضمان تدفق رؤوس الأموال إلى المجمع الصناعي العسكري الغربي، مع إدارة دقيقة للاعتمادية التكنولوجية عبر برامج الأوفست.
2. المقاومة المعرفية والطبقية كخط دفاع
إن الرد الاستراتيجي على آليات التفتيت الإمبريالية لا يجب أن يعتمد على الرفض الأعمى، بل على المقاومة المعرفية (Intellectual Resistance) التي تهدف إلى النقد، والتحليل، والتفكيك، وإعادة البناء.
• إعادة تسييد التحليل الطبقي: يجب إدراك أن الصراعات الدينية والعرقية المُغذّاة ما هي إلا في نهاية المطاف سياسة طبقية: سياسة الطبقة الحاكمة. إن استعادة الوعي بالصراعات الكامنة ذات الأساس المادي هو مفتاح فضح الغطاء الأيديولوجي للإمبريالية. إن فصل سياسات الهوية عن التحليل الطبقي يجعلها قابلة تماماً للتخادم مع قوى اليمين أو الفاشية.
• بناء الهوية الجامعة: يجب على الوعي الحديث أن يتحرر من قبضات الإيديولوجيا وأن يفتح ثغرة في جدار الطائفية. الرهان الحقيقي يكمن في إنتاج معرفة قادرة على إعادة التعددية التاريخية، وتعزيز الهوية الوطنية كإطار جامع يرفض أن تُختزل هوية الشعوب في طائفة أو مرجعية واحدة.
• التركيز على المعركة الاساسية وهي معركة الاستقلال والتحرر والتقدم ضد قوى الاحتلال الاقليمي والدولي الجديدة!
3. طبيعة النظام العالمي الجديد قيد التشكّل
إن دراسة آليات استغلال الإسلام السياسي لتقسيم الشعوب تُظهر أن الصراعات الراهنة هي جزء من مرحلة جيواستراتيجية حرجة تتسم بـبداية انهيار الهيمنة الغربية وعودة التعددية القطبية.
لقد أثبتت التجربة التاريخية الموثقة (أفغانستان، إيران) أن استخدام الإسلام السياسي كأداة تكتيكية لتحقيق مكاسب جيوسياسية قصيرة المدى يؤدي حتماً إلى نتائج عكسية كارثية على المدى الطويل، ليس فقط على الشعوب المستهدفة ولكن على استقرار النظام العالمي بأكمله. إن فهم هذه الآليات المعقدة، والتحول من التركيز على الآثار الآنية إلى معالجة الأسباب الهيكلية (الفساد، سوء الإدارة، التبعية)، هو السبيل الوحيد نحو تحقيق السيادة واستكمال حلقات الاستقلال الكامل وحرية الاختيار الاستراتيجي.
يجب أن يتحول التركيز من الاستجابة للاحتياجات الإنسانية قصيرة الأجل الناتجة عن الصراع، إلى التخطيط لمعالجة القضايا الأساسية للحكم والتنمية، لكسر الدائرة الخبيثة التي تؤبّد عدم الاستقرار وتستمر في خدمة أجندة الإمبريالية الجديدة.
(7)
المصادر
1. Apa-Inter. التحوّلات الجيو-استراتيجية في إفريقيا ومقاومة الاستعمار والعنصريّة والصهيونية: المهام والآليات.
https//apa-inter.com/post.php?id=6389
2. Alhewar. دور الإمبريالية الجديدة في إضعاف الدول المركزية وتقسيم المجتمعات. الليبرالية الجديدة، من الفكرة الى عولمة الرأسمالية!
https//www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=678103
3. Revsoc. الإمبريالية والعالم الثالث.
https//revsoc.me/theory/lmbryly-wllm-lthlth/
4. Iracicp. مثقفو اليسار الغربي والدعاية الإمبريالية.. سياسات الهوية والتعددية الثقافية
https//www.iraqicp.com/index.php/sections/afkar/66720-2024-03-02-18-09-38
5. Apa-Inter. التحوّلات الجيو-استراتيجية في إفريقيا ومقاومة الاستعمار والعنصريّة والصهيونية المهام والآليات.
https//apa-inter.com/post.php?id=6389
6. Araa. تحليل اقتصادي لعملية حلب دول الخليج ماليًا بصفقات السلاح. مثقفو اليسار الغربي والدعاية الإمبريالية.. سياسات الهوية والتعددية الثقافية
https//araa.sa/index.php?option=com_content&view=article&id=4090&catid=2817&Itemid=172
7. Wikipedia. Operation Cyclone.
https//en.wikipedia.org/wiki/Operation_Cyclone
8. CIA. New Realities in the Middle East.
https//www.cia.gov/readingroom/docs/CIA-RDP84S00927R000300110003-7.pdf
9. CSIS. The Human Cost of War in the Middle East A Graphic Overview.
https//www.csis.org/analysis/human-cost-war-middle-east-graphic-overview
10. History.State.Gov. Executive Summary New Realities in the Middle East.
https//history.state.gov/historicaldocuments/frus1977-80v18/d35
11. PMC. Sociological mechanisms sectarianization of class conflict.
https//pmc.ncbi.nlm.nih.gov/articles/PMC8390067/
12. Hawaii. Marx and Class Conflict.
https//www.hawaii.edu/powerkills/CIP.CHAP5.HTM)
#مكسيم_العراقي (هاشتاغ)
Maxim_Al-iraqi#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟