أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - حسن مدبولى - عالم الآثار المغضوب عليه !!















المزيد.....

عالم الآثار المغضوب عليه !!


حسن مدبولى

الحوار المتمدن-العدد: 8516 - 2025 / 11 / 4 - 09:46
المحور: قضايا ثقافية
    


لم تكن مأساة الخامس من سبتمبر عام 2005، حين التهمت النيران مسرحًا تابعًا لوزارة الثقافة ببني سويف فحصدت أرواح أكثر من خمسين فنانًا ومثقفًا شابًا في عهد الوزير "فاروق حسني" لم تكن حادثًا معزولًا في سجل الحياة الثقافية المصرية، بل كانت وجهًا جديدًا لجرحٍ قديمٍ لم يندمل؛ فقبلها بسنوات، كانت هناك نارٌ من نوع أخر، وفى عهد الوزير نفسه، تلتهم عالِمًا جليلًا اسمه الدكتور أحمد قدري، الرئيس الأسبق لهيئة الآثار المصرية، الذي أُقصي من موقعه في واقعةٍ غامضةٍ وموجعةٍ، بدت يومها وكأنها عقوبة لمن أحب تراث وطنه أكثر مما ينبغي، ويمتلك ضميرًا علميًا نادرًا، ويرفض التملق والفساد ، وينحاز للصدق والاخلاص ، ولا يأبه للمناصب أو النفوذ أو الثروات،

لم يكن الدكتور أحمد قدري مجرد مسؤول في هيئة الآثار المصرية، بل كان حالةً فريدة من التكوين العقلي والوجداني؛ رجلًا جمع بين انضباط العسكريين ورهافة العلماء، بين صرامة الضابط ورقة المثقف، وبين الحياد القانوني والعشق العميق للتراث.
وُلد قدرى في قرية كفر الحمام بالزقازيق في 18 مارس 1931، وهو حفيد الشيخ الشرقاوي أحد أعلام ثورة 1919 وكبار علماء الأزهر الشريف. تخرّج في الكلية الحربية عام 1950، ثم حصل على بكالوريوس العلوم الجوية عام 1951، قبل أن يدرس الحقوق بجامعة القاهرة ويتخرج فيها عام 1964. بدأ حياته ضابطًا في السلاح الجوي، ثم انتقل إلى وزارة الثقافة، وأُعير إلى جامعة بغداد لتدريس علم الآثار.

لكن شغفه الحقيقي كان بالتاريخ والتراث المصري. فواصل دراسته الأكاديمية حتى نال دبلومي الآثار المصرية والإسلامية من كلية الآثار بجامعة القاهرة، ثم حصل على دكتوراه الفلسفة في الآثار المصرية من أكاديمية العلوم المجرية عام 1978.
وحين تولّى رئاسة هيئة الآثار المصرية عام 1978، كانت مصر على موعدٍ مع عقدٍ من العمل الجاد والإنجازات الباهرة. فقد رأى في الآثار روح الأمة وذاكرتها، وكان يؤمن أن المصريين هم الأقدر على حماية تراثهم، وبالتالى رفض العروض الأجنبية لترميم قلعة صلاح الدين الأيوبي، قائلاً عبارته الخالدة:

“شباب المصريين لا يقلّون كفاءة عن أي أجنبي، والمصري أحق بتراثه، وإن نقصنا العلم فلنتعلم.”

ثم قاد مشروعًا مصريًّا خالصًا لترميم القلعة، واستعان بشباب الجامعات، وحتى شباب الأحزاب المعارضة، للعمل متطوعين في تنظيف قباب مسجد محمد علي، والمشاركة في أعمال التطوير، في تجربة غير مسبوقة زرعت حب التراث والانتماء في نفوس هؤلاء الشباب،

كما أنشأ مركز إحياء الفن والحرف الأثرية عام 1982، وأطلق مشروع “سلسلة المائة كتاب” لنشر الوعي الأثري بأسعار رمزية.
و قاد مشروعات ترميم ضخمة شملت إنقاذ معابد النوبة ومعابد فيلة بالتعاون مع اليونسكو، وترميم معابد إدفو وإسنا والدير البحري ومقابر وادي الملوك، وتطوير قلعة صلاح الدين وتحويل سجنها إلى متحف مفتوح، فضلًا عن ترميم المتحف الإسلامي والمتحف القبطي،
وإزالة الطريق الذي كان يفصل بين جامعي السلطان حسن والرفاعي لتحويل المنطقة إلى مزار أثري متكامل، وإحياء دير مارجرجس بأرمنت، ودير الشهداء بإسنا، ومسجد أحمد بن طولون، ومنطقة الغورية، وسور مجرى العيون، وقلعة قايتباي وغيرها.

كما أشرف على مشروعات إنقاذ آثار صنعاء وفاس بالتعاون مع اليونسكو، في إنجازات تجاوزت حدود مصر إلى العالم العربي كله. ونال أوسمة من ألمانيا وفرنسا والنمسا والبرتغال والنيجر، ووسام الفنون والآداب من الطبقة الأولى، كما انضم إلى مجلس المتاحف العالمي والمعهد الأثري الألماني، ليصبح أحد أبرز رموز حماية التراث في العالم.

لم يكن قدري من رجال المكاتب ولا من أصحاب الألسنة الملساء، بل كان صريحًا صلبًا خاصة في مواجهة الفساد، ومؤمنًا إيمانا خالصا بأن الآثار ليست سلعة تُستثمر، بل ضمير أمة لا يجوز المتاجرة به،
لذلك رفض سياسات فاروق حسني، وزير الثقافة الذي تولّى منصبه في أواخر الثمانينيات، وتصدى لتوجهاته القائمة على الخصخصة والاستعانة المطلقة بالأجانب في مشروعات الآثار،
ورغم احترامه للتعاون العلمي الدولي، كان يصرّ على أن تكون الكلمة الأولى للمصريين في كل ما يخص تراثهم. وكانت تلك النزاهة المستقلة كافية لكى تضعه في مرمى الاستهداف.

وفي عام 1988، سقطت قطعة حجرية من كتف تمثال أبي الهول. كان حادثًا طبيعيًا تسببت فيه التعرية والمياه الجوفية، لكنه تحوّل فجأة إلى قضية كبرى وذريعة جاهزة لإقصاء الرجل. فانطلقت حملة إعلامية شرسة، تكرّر الخبر فيها على نحوٍ مريب محليًا ودوليًا، وكأنّ الهدف لم يكن البحث عن الحقيقة، بل كسر الرجل وتدمير سمعته.
رُويت شهادات عديدة تؤكد أن الحادث كان مدبّرًا. ففي حوار نُشر بجريدة دنيا المسرح في 24 نوفمبر 2005، قال شيخ الأثريين المهندس عبد الرحمن عبد التواب:

“أقسم بالله، إن ما حدث كان مؤامرة. لقد أُحضر العمال لإسقاط الحجر عمدًا كي يُدان الدكتور أحمد قدري.”

ورغم وضوح الملابسات، تشكّلت لجان تحقيق وُصفت بأنها “موجّهة”، وانتهت إلى إقالته من رئاسة هيئة الآثار، وتعيين الدكتور عبد الحليم نور الدين خلفًا له. ثم نُقل إلى وظيفة هامشية بوزارة الحكم المحلي، في إهانةٍ صريحة لعالمٍ أفنى عمره في خدمة تراث وطنه.

كانت تلك الضربة قاسية على العالم الكبير. فقد أدرك أن ما جرى لم يكن عقوبة على تقصير، بل انتقامًا من مبدأ، وأن الصدق في هذا الوطن قد يصبح تهمة، وانه يدفع ثمن عدم ترحيبه بتولى فاروق حسنى لوزارة الثقافة قادما او مفروضا من الخارج،

غادر قدرى مصر إلى اليابان في بعثة علمية قصيرة، محاولًا أن يلملم ما تبقّى من نفسه، لكن المرض سبق الزمن. فأصيب بالسرطان، ورحل هناك في 5 أكتوبر 1990، عن عمرٍ لم يتجاوز التاسعة والخمسين.
مات بصمت، كما عاش، دون ضجيج أو جنازة رسمية أو كلمة إنصاف. لم يكرّمه الذين سعوا لعزله، بل تركوه يذوب في الغربة كغريبٍ عن وطنٍ كان يحبه حتى الفناء.

المفارقة الموجعة أن الذين أقصوه ونكّلوا به، والذين احترق في عهدهم المسرح والمثقفون، عادوا اليوم ببجاحة ليُحتفى بهم في الإعلام الرسمي كـ“روّاد للنهضة الثقافية” وكـ“صناع للمتحف الكبير”، وكأن ذاكرة الوطن تُصاب كل مرة بعمى صادم ، لا يرى إلا الضجيج المصطنع .
#حسن_مدبولى



#حسن_مدبولى (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ذكرى الإحتفال الذى أغرق البلاد،،
- ذكرى الإحتفال الذى أغرق مصر،،
- من التاريخ المصرى ،،
- التاريخ والاستثناء
- روسيا والصين، قطبان بلا روح
- التطرف بمحافظة المنيا ،،
- كرامة المصريين فى الخليج !!
- المجالس العرفية !!
- مع من نتعاطف فى السودان!؟
- الخلل فى التعاطف الطائفى !!
- مش قوى كده!
- ساركوزى ونتانياهو،والإسطورة المصرية !؟
- رأس الذئب الطائر !!
- العقد الماضى، قراءة شديدة الحياد،والتحسب،،
- ذكرى الإطاحة بالقذافى !!
- يومكم قادم لامحالة ،،
- عقيدة القتل والارهاب !!
- رسالة أحمد حسن الزيات
- مصر تكتب الوصية ،،
- عماد الدين أديب ،وأفرايم الزيات


المزيد.....




- دفعوا متظاهرا سلميا أرضًا والتموا فوقه.. أدلة فيديو تستخدم ض ...
- مجلة بيبول: جوناثان بيلي -الرجل الأكثر جاذبية على قيد الحياة ...
- الخدمات المالية الرقمية: سبل الموازنة بين النمو السريع وضمان ...
- المتحف المصري الكبير يفتح أبوابه للزوار.. كيف كان الإقبال في ...
- عشرات القتلى ومئات الجرحى جراء زلزال ضرب شمال أفغانستان
- الهجرة إلى إسبانيا.. ترحيب بالوافدين الجدد مع برامج متعددة ل ...
- بين البخار والعطر... الحمّام المغربي يحتفظ بسحره رغم تغيّر ا ...
- قلق يصيب ملايين الأمريكيين من توقف برنامج المساعدات الغذائية ...
- أين الجثث؟ مصير مجهول لضحايا مجزرة المستشفى السعودي بالفاشر ...
- اللوفر.. من قلعة لملوك فرنسا إلى أحد أشهر متاحف العالم


المزيد.....

- الثقافة العربية الصفراء / د. خالد زغريت
- الأنساق الثقافية للأسطورة في القصة النسوية / د. خالد زغريت
- الثقافة العربية الصفراء / د. خالد زغريت
- الفاكهة الرجيمة في شعر أدونيس / د. خالد زغريت
- المفاعلة الجزمية لتحرير العقل العربي المعاق / اسم المبادرتين ... / أمين أحمد ثابت
- في مدى نظريات علم الجمال دراسات تطبيقية في الأدب العربي / د. خالد زغريت
- الحفر على أمواج العاصي / د. خالد زغريت
- التجربة الجمالية / د. خالد زغريت
- الكتابة بالياسمين الشامي دراسات في شعر غادة السمان / د. خالد زغريت
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الساد ... / منذر خدام


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - حسن مدبولى - عالم الآثار المغضوب عليه !!