رحيم فرحان صدام
الحوار المتمدن-العدد: 8509 - 2025 / 10 / 28 - 00:33
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
تعد سيرة ابن هشام أشهر مصنفات السيرة النبوية ، وقد بلغت درجة من التقديس ضاهت بها صحيح البخاري ، بل إن سيرة الرسول في أذهان كثير من المسلمين هي تلك السيرة التي كتبها ابن هشام! وعند مراجعة الكتب الحديثة في السيرة النبوية، وجدنا كتاب ابن هشام عمدة المؤلفين المحدثين .
والمصنف هو أبو محمد عبد الملك بن هشام الحميري كان مؤرخاً وعالماً ونحوياً، ولد في البصرة وعاش بعد ذلك في مصر، وتوفي في الفسطاط سنة (ت 218هـ / 833 م)(1).
ولابن هشام منزلة كبيرة في تاريخ السيرة رغم كونه لم يُؤلّف فيها مبتدئاً، بل (هذب) سيرة محمد ابن إسحق المطلبي مولاهم ، المتوفى سنة (151هـ/768م ) (2).
وقد اعتمد ابن هشام رواية زياد بن عبد الله بن الطفيل القيسي البكائي(ت183هـ /799 م) ، وأعرض عن رواية يونس بن بكير الشيباني بالولاء(ت 199هـ / 815 م)، رغم أن كليهما من تلامذة ابن إسحاق في الري(3) ، فهل هو مجرد اختيار؟
لم نجد اهتماماً من قبل اغلب المعاصرين بهذا السؤال على اهميته ؛ إذ يمكن أن يفسر جوانب من سيرة ابن هشام . فإذا نظرنا في تراجم الراويتين تبين أن اختياره الرواية البكائي اختيار مقصود، فالبكائي صاحب رواية السيرة عن ابن إسحاق، ويعده بعضهم أتقن من رواها عنه(4).
أما يونس بن بكير بن واصل الشيباني مولاهم الكوفي، الحافظ ، المؤرخ ، وهو صاحب المغازي والسير والمكثر بالرواية عن ابن إسحاق وأحد الطرق المعتمدة عند العلماء في معرفة المغازي والسيرة لابن إسحاق حتى وصف لأجل ذلك بأنه أحد أوعية العلم بالمغازي والسير. (5)
وقد ورد في ترجمته ما يفسر تجنب ابن هشام الرواية عنه؛ إذ رغم توثيقه إلا أنه اتهم بالأرجاء(6) والتشيع(7) ، مما يؤكد الظن بما ذكرنا من رغبة ابن هشام عن روايته بسبب ما رمي به من إرجاء وتشيع يقدحان في عدالته في نظره .
يجب على الباحثين يوجيه النظر إلى تلك الرواية المهملة، وأن يُبينوا ما بينها وبين رواية البكائي من فروق ذات مغزى ، فروق يؤيدها ما تعثر عليه في سيرة ابن هشام من قرائن تدل على تصرفه في سيرة سلفه ابن إسحق لقوله:" وتارك بعض ما ذكره ابن إسحق في هذا الكتاب ... وأشياء بعضها يشنع الحديث به، وبعض يسوء بعض الناس ذكره"(8). فكيف يقدس كثير من المحدثين كتاباً في السيرة يشهد صاحبه بأنه حذف ما يسوء بعض الناس ذكره؟
لقد كان الرصافي ذا عقلية نقدية جيدة ؛ إذ انفرد بين المحدثين بنقد قيم لابن هشام حيث قال ما نصه :
" وعندي أن ابن هشام أساء إلى العلم وإلى الحقيقة معاً، باختصاره سيرة ابن إسحق وحذفه منها أموراً كثيرة، لو ذكرت لكنا من سيرة محمد على بصيرة أكثر مما نحن عليه الآن، لا سيما حذفه كل ما جاء فيها من كلام الخصوم محمده ، ولا يمكننا الرجوع اليوم الى سيرة ابن اسحاق لأنها مفقودة غير موجودة فابن هشام لم يختصرها بل قتلها وأماتها " (9).
والحقيقة ان كلام الرصافي صحيح فيما يتعلق بقلة الامانة في النقل عند ابن هشام الا اننا لا نتفق معه بان هشام قضى على السيرة النبوية ؛ لانه يمكن الاطلاع على سيرة ابن اسحاق برواية سلمة بن الفضل الابرش المتوفى سنة (191هـ / 806 م) في تاريخ الطبري(10).
لقد اختط ابن هشام نهجاً في التعامل مع السيرة أصابت عدواه أغلب كتابها من بعده، إذ عمدوا إلى التصرف في الروايات طبق رؤاهم المذهبية والسياسية.(11)
كان لابن هشام دورا كبيرا في تحريف الاحاديث النبوية ، وتزوير الاخبار التاريخية؛ لأسباب مذهبية بسبب نزعته العثمانية المتطرفة؛ لذلك يجدر بالباحثين الحذر من مروياته اذ انه يتميز بانعدام الامانة في النقل .
ومن تحريفاته روايته خطبة عمر بن الخطاب اذ قال ما نصه :" ثم إنه قد بلغني أن فلانا قال والله لو قد مات عمر بن الخطاب لقد بايعت فلانا". (12)
كما نلاحظ ان ابن هشام حرف الرواية فبدل قولا غير الذي قيل له؛ اذ حذف اسم (عليا) ووضع كلمة ( فُلَانًا) بدلا عنه ، فضلا عن حذفه اسم القائل وهو الصحابي الزبير بن العوام في رواية البلاذري الذي قال ما نصه: "حَدَّثَنِي بَكْرُ بْنُ الْهَيْثَمِ، عَنْ هِشَامِ بْنِ يُوسُفَ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّه بْنِ عَبْدِ اللَّه، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ: َلَغَنِي أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَرَادَ الْخُطْبَةَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَعَجَّلْتُ الرَّوَاحَ حِينَ صَارَتِ الشَّمْسُ صَكَّةَ عُمَيٍّ. فَلَمَّا سَكَتَ الْمُؤَذِّنُونَ، خَطَبَ فَقَالَ: إِنِّي قَائِلٌ مَقَالَةً لا أَدْرِي لَعَلَّهَا قُدَّامَ أَجَلِي. فَمَنْ وَعَاهَا، فَلْيَتَحَدَّثْ بِهَا حَيْثُ انْتَهَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ. ومن خشي أن لا يعقلها شيء، فَإِنِّي لا أُحِلُّ لأَحَدٍ أَنْ يَكْذِبَ عَلَيَّ. ثُمَّ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ الزُّبَيْرَ قَالَ: لَوْ قَدْ مَاتَ عُمَرُ، بَايَعْنا عَلِيًّا".(13) وهي الرواية الاصح على حد تعبير ابن حجر العسقلاني الذي قال ما نصه:" ثمَّ وجدته فِي الْأَنْسَاب للبلاذري بِإِسْنَاد قوي مِنْ رِوَايَةِ هِشَامِ بْنِ يُوسُفَ عَنْ مَعْمَرٍ عَنِ الزُّهْرِيّ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُور فِي الأَصْل وَلَفظه قَالَ عمر بَلغنِي أَن الزبير قَالَ لَو قد مَاتَ عمر بَايعنَا عليا الحَدِيث فَهَذَا أصح " (14) .
ان تحريف ابن هشام للرواية يؤكد انه عثماني الهوى ، اموي النفس ، منحرف عن الامام علي(15) واهل البيت عامة غير ثقة في أقواله واحكامه ونقله عنهم ، فلا يقبل روايته عنهم الا من فقد عقله او اعمت الطائفية بصره وبصيرته.
واخيرا نقول حيا الله الامانة في النقل عند لابن هشام ، قال تعالى: {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} (16) وقال تعالى : {وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ }(17) .
الهوامش
(1) للمزيد يراجع عنه ابن خلكان، شمس الدين أبو العباس أحمد بن محمد البرمكي (ت 681هـ/ 1287هـ)، وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، تحقيق: إحسان عباس، دار صادر، ط4، (بيروت ـ 2005).(3/ 177).
(2) الصفدي، صلاح الدين بن أيبك (ت 764هـ/1381م)، الوافي بالوفيات، اعتناء: س. ديدنيغ وآخرون، ط2، (بيروت ـ 1991).ج 19، ص 142 .
(3) ابن العماد، أبو الفلاح عبد الحي بن أحمد الحنبلي، (ت 1089هـ/1696م)، شذرات الذهب في أخبار من ذهب، إعداد: مصطفى عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية، (بيروت ـ 1998).ج 1، ص 257.
(4) ينظر: ابن خلكان ، وفيات الأعيان ، ج 2، ص338؛ الصفدي، الوافي بالوفيات ، ج 15، ص 10 .
(5) وللمزيد يراجع عنه: ابن سعد، محمد بن سعد بن منيع الزهري مولاهم (ت 230هـ/837 م)، الطبقات الكبرى، تحقيق : إحسان عباس، دار صادر، (بيروت ـ د.ت).6/ 399 ؛ الذهبي، شمس الدين: محمد بن أحمد بن عثمان التركماني (ت 748هـ/1357م)، سير أعلام النبلاء، أشرف على تحقيق وخرّج أحاديثه: شعيب الأرناؤوط، ، دار الرسالة ، ط9، (بيروت ـ 1993). 9/ 245، تذكرة الحفاظ، دار إحياء التراث العربي، (بيروت-1376هـ/1956م). 1/ 320 .
(6) المرجئة هم فرقة كلامية تنتسب إلى الإسلام، خالفوا رأي الخوارج في مرتكب الكبيرة وغيرها من الأمور العقدية، وقالوا بأن كل من آمن بوحدانية الله لا يمكن الحكم عليه بالكفر، لأن الحكم عليه موكول إلى الله وحده يوم القيامة، مهما كانت الذنوب التي اقترفها. وهم يستندون في اعتقادهم إلى قوله تعالى (وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)الآية 106 سورة التوبة والعقيدة الأساسية عندهم عدم تكفير أي إنسان، أيا كان، ما دام قد اعتنق الإسلام ونطق بالشهادتين، مهما ارتكب من المعاصي، تاركين الفصل في أمره إلى الله تعالى وحده، لذلك كانوا يقولون: لا تضر مع الإيمان معصية، كما لا ينفع مع الكفر طاعة. وقد نشأ هذا المذهب في أعقاب الخلاف السياسي الذي نشب بعد مقتل عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب، وعنه نشأ الاختلاف في مرتكب الكبيرة. فالخوارج يقولون بكفره والمرجئة يقولون برد أمره إلى الله تعالى إذا كان مؤمنا، وعلى هذا لا يمكن الحكم على أحد من المسلمين بالكفر مهما عظم ذنبه، لأن الذنب مهما عظم لا يمكن أن يذهب بالإيمان، والأمر يرجأ إلى يوم القيامة وإلى الله مرجعه. ويذهب الخوارج، خلافا للمرجئة، إلى أن مرتكب الكبيرة مخلد في النار. ينظر: الشهرستاني، أبو الفتح محمد بن عبد الكريم، (ت 548هـ/1154م) ، الملل والنحل، صححه وعلّق عليه، أحمد فهمي محمد ، دار الكتب العلمية، ط8، (بيروت ـ 2009).1/139.
(7) الصفدي، الوافي بالوفيات، ج 29، ص 177؛ الحنبلي : شذرات الذهب ، ج 1، ص 257.
(8) ابن هشام، عبد الملك بن هشام المعافري، (ت 218هـ/ 819 م)، السيرة النبوية، تحقيق: مصطفى السقا، إبراهيم الأبياري، عبد الحفيظ شلبي، دار الكتب العلمية، ط6، (بيروت ـ 2011). (1/ 4).
(9) معروف الرصافي : كتاب الشخصية المحمدية أو حل اللغز المقدس، ط ا (ألمانيا : منشورات الجمل، 2002)، ص 130.
(10) ينظر: الطبري، أبو جعفر محمد بن جرير بن يزيد (ت 310هـ/ 922م)، تاريخ الرسل والملوك ، الناشر: دار التراث ، الطبعة: الثانية ، بيروت- 1387ه.(1/ 34) ، (1/ 44)، (2/ 460) ،(2/ 463).
(11) عبد العزيز الدوري ( ت 2011م) ، نشأة علم التاريخ عند العرب , مركز زايد للتراث والتاريخ , الامارات – 2000 م . ص 25، 32.
(12) ابن هشام : السيرة النبوية (2/ 657).
(13) ينظر: البلاذري، أحمد بن جابر بن يحيى، (ت 279هـ/885 م): أنساب الأشراف ، تحقيق: سهيل زكار ورياض الزركلي، الناشر: دار الفكر - بيروت، الطبعة: الأولى، 1417هـ/ 1996م. (1/ 581).
(14) ينظر: العسقلاني، أحمد بن علي بن حجر، (ت 852هـ/1459م)، فتح الباري شرح صحيح البخاري، دار المعرفة، (بيروت - 1379ه ).(1/ 338).
(15) قال الذهبي:" أَنَّهُم عُثْمَانِيَّةٌ، فِيْهِمُ انْحِرَافٌ عَلَى عَلِيٍّ". ينظر : الذهبي، سير أعلام النبلاء. (11/ 47).
(16) [النساء: 46].
(17) [المائدة: 13].
#رحيم_فرحان_صدام (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟