أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - حامد الضبياني - المسرح ككائن سيكولوجي: جدلية النصّ والفنّان والجمهور بين الخلق والفشل















المزيد.....

المسرح ككائن سيكولوجي: جدلية النصّ والفنّان والجمهور بين الخلق والفشل


حامد الضبياني

الحوار المتمدن-العدد: 8504 - 2025 / 10 / 23 - 11:41
المحور: قضايا ثقافية
    


يبدو المسرح، في جوهره العميق، أكثر من كونه فعلاً فنياً أو حدثاً ترفيهياً؛ إنّه مختبر نفسيّ تتفاعل فيه العناصر الثلاثة الكبرى: النصّ، والفنّان، والجمهور. وفي هذا التفاعل تتكوّن جدلية خفية بين الفكر والإحساس، بين المبدع والمتلقّي، بين ما يُقال وما يُستشعر، لتتجلّى أمامنا صورة الإنسان في لحظته الأكثر صدقاً وهشاشة. فالمسرح ليس خشبة مضاءة ولا جموعاً تصفق، بل تجربة وجودية تصهر الوعي الجمعي في لحظة من التقمص والمواجهة والاعتراف.
النصّ المسرحيّ هو البذرة الأولى التي تنبض في عمق النفس المبدعة، إنه الوعي المتجسد بلغةٍ رمزية تسعى إلى استنطاق الأسئلة الوجودية التي يعجز الواقع عن البوح بها. في سيكولوجية المسرح يُعد النصّ بمثابة العقل الباطن للعمل الفني، هو الفكرة الخام التي لم تزل تبحث عن شكلها، الصوت الداخلي الذي يهمس قبل أن يتحوّل إلى صراخٍ على الخشبة. إنّ الكاتب المسرحي الحقيقي لا يكتب ليروي حكاية فحسب، بل ليواجه ذاته وجماعته، ليضع يده على الجرح الإنساني العميق، ويقدّم لنا نسخته من الحقيقة لا كواقعٍ منتهٍ بل كاحتمالٍ مفتوح على التأويل.أما الفنّان، فهو الجسد الذي يمنح النصّ روحه وحرارته، الوسيط الذي يعبر به المعنى من العالم الذهني إلى العالم الحيّ. إنّ الممثل في التحليل النفسي المسرحي يعيش انفصاماً جميلاً بين أن يكون ذاته وأن يكون آخر. هو يذوب في الشخصية حتى حدود التلاشي، ليخلق من داخله كائناً جديداً. وهذا الفعل في ذاته تجربة نفسية معقّدة، تتطلّب توازناً بين الوعي واللاوعي، بين الانفعال والسيطرة. فالممثل الناجح ليس من يحفظ النصّ ويؤديه، بل من يعيد كتابته من خلال جسده ونَفَسه ونظراته. كلّ حركةٍ منه هي جملة غير منطوقة، وكلّ صمتٍ هو حوار آخر مع الروح. ومن هنا، تتجلّى عبقرية الأداء بوصفها لغة تتجاوز الكلمات، وتتحوّل إلى تجسيد للوعي في أسمى أشكاله الإنسانية.ثمّ يأتي الجمهور، الطرف الثالث في هذه المعادلة السيكولوجية، ذلك الكيان الغامض الذي لا يُختزل في عدد المقاعد الممتلئة. الجمهور في علم النفس المسرحي ليس مجموعة من الأفراد المتفرجين، بل هو الضمير الجمعي الذي يختبر ذاته عبر الآخر. كلّ عرض مسرحي هو استدعاء للذاكرة الجمعية، وكلّ انفعال من الجمهور هو استجابة غير واعية لرمزٍ ما في النصّ أو الأداء. فالجمهور يشارك في الفعل المسرحي بقدر ما يتلقّى، لأنه يعيد إنتاج المعنى داخله وفق تجاربه ومكبوتاته وتاريخه العاطفي. ولذلك قيل إن المسرح لا يكتمل إلّا حين يراه الناس، لأنّ الرؤية ليست مجرد فعل بصري بل عملية نفسية وإدراكية معقّدة يعيد فيها المتلقي بناء النصّ على ضوء خبراته الذاتية.وفي هذا الثالوث المتشابك بين النصّ والفنّان والجمهور تكمن بوادر النجاح والفشل، إذ لا يمكن لأيّ ضلع من الأضلاع الثلاثة أن يستقلّ عن الآخر دون أن ينهار البنيان كله. الفشل المسرحي، في جوهره، ليس نتيجة ضعفٍ في الأداء أو النصّ أو الإخراج فحسب، بل هو انهيار في التوازن النفسي الذي يجمع العناصر الثلاثة. حين يكتب المؤلف بروحٍ منفصلة عن قلق عصره، يولد نصّ بلا نبض، وحين يتعامل الممثل مع الشخصية كقناع لا ككائن، يفقد الأداء صدقه، وحين يدخل الجمهور القاعة باحثاً عن التسلية لا عن المواجهة، يقتل في العمل معناه الأعمق. الفشل إذن ليس خطأً فردياً، بل خلل في المنظومة النفسية التي تربط المبدع بالمتلقي عبر وسيط الفنّ.
أما النجاح، فهو لحظة نادرة من التناغم الوجودي، حيث يتوحد النصّ والفنّان والجمهور في تجربة شعورية واحدة. النصّ يفتح الباب، والفنّان يعبُر، والجمهور يتنفّس المعنى. تلك اللحظة التي يختفي فيها الفاصل بين الخشبة والمقاعد، بين الداخل والخارج، بين الذات والآخر. المسرح حينها لا يُعرض فحسب، بل يُعاش. تصبح الخشبة مرآةً كونية يرى فيها الإنسان وجهه المتعدد، ويكتشف من خلالها حدود قدرته على الفهم، على الحب، على الحلم، وعلى الغفران.
إنّ العلاقة الثلاثية بين النصّ والفنّان والجمهور ليست علاقة وظيفية أو خطّية، بل علاقة تكوينية نفسية جمالية، تنبني على ما يسميه علماء النفس الجمالي بـ «الدورة الانفعالية للخلق الفني». فكلّ عمل مسرحي ناجح هو تفاعل معقّد بين الدافع الإبداعيّ في المؤلف، والانفعال التعبيريّ في الممثل، والاستجابة الإدراكية والعاطفية لدى الجمهور. هذه الدورة حين تنكسر في أحد أطرافها، يتفكك المعنى ويتحوّل الفعل المسرحي إلى تمثيل آليّ فاقد للروح.
من منظور التحليل النفسي الجمالي، النصّ هو اللاوعي الجمعيّ المرمّز في بنية لغوية، والفنان هو الوعي الفرديّ الذي يحاول ترجمة ذلك اللاوعي عبر الجسد والصوت والحركة، أما الجمهور فهو الحقل الإدراكيّ الذي يعيد إنتاج الرموز في ضوء خبراته الذاتية. وهكذا يغدو المسرح دائرة من الوعي المتبادل لا مركز لها ولا نهاية، لأنّ كلّ طرف يعيد ولادة الآخر باستمرار. فالنصّ لا يكتمل إلّا حين يُؤدّى، والأداء لا يعيش إلّا حين يُرى، والرؤية لا تكتسب معناها إلّا حين توقظ في المتلقي وعيه الخفيّ بالذات.
وإذا كان الفيلسوف الفرنسي بول ريكور قد قال إنّ «الرمز يهبنا الفكر»، فإنّ المسرح هو الفضاء الذي يمنحنا الرمز في حالته الحيّة؛ فالكلمة لا تُفكّك هنا فقط، بل تُجسّد. إنّ الممثل حين يؤدي شخصيةً ما، لا يعرضها فحسب، بل يعيشها كخبرة وجدانية، فيتحوّل الجسد إلى نصّ ثانٍ، والصوت إلى وعيٍ متجدّد. في المقابل، يتلقّى الجمهور هذا الجسد الرمزي بعينه الثالثة، أي بعين الوجدان لا بعين المشاهدة. وبهذا المعنى يصبح المسرح لحظة التقاءٍ بين ثلاث ذوات تبحث عن خلاصها في المرآة الواحدة: ذات المؤلف التي تكتب، وذات الممثل التي تحترق، وذات الجمهور التي تتطهّر بالتماهي والانفعال.وحين ننظر إلى النجاح والفشل من منظور سيكولوجيّ، نكتشف أنّ كليهما حالة ذهنية مشتركة لا تنسب إلى أحدٍ بعينه. النجاح ليس ثمرة العبقرية وحدها، بل ثمرة الانسجام النفسي والجمالي بين أطراف الفعل المسرحي، والفشل ليس سقوطاً فنياً فحسب، بل هو انقطاع في التواصل الوجداني بين الفكرة والروح والمتلقي. قد يكون النصّ بديعاً، لكن الممثل يخطئ في استبطان روحه، أو قد يكون الأداء متقناً، لكن الجمهور لم يتهيأ لتلقيه. وهكذا يبقى المسرح رهين التفاعل اللحظيّ بين العقول والأنفس لا بين النصوص فقط.إنّ سيكولوجية المسرح، من حيث العمق، هي دراسة للإنسان حين يواجه ذاته متقمصاً وجوهاً أخرى. فالممثل يختبر لا وعيه من خلال شخصياتٍ ليست شخصه، والمؤلف يكتب ليحرر ذاته من ثقل العالم، والجمهور يشارك ليجد ما يفتقده في حياته اليومية من صدقٍ وجمالٍ وتطهيرٍ وجداني. المسرح في النهاية تجربة علاجية جمالية تمزج بين التحليل النفسي والخلق الفنيّ، حيث يصبح الفعل الجماليّ وسيلة للفهم والشفاء والتطهير الجمعيّ، تماماً كما رآه أرسطو حين قال إنّ التراجيديا تُطهّر النفس من الانفعالات.وهكذا فإنّ المسؤولية عن الفشل أو النجاح في المسرح لا تُقاس بالمقاييس التقنية أو التجارية، بل بالمقاييس الوجودية والإنسانية. فحين يفقد المسرح صدقه النفسي يتحول إلى عرضٍ ميكانيكيّ، وحين يستعيد صدقه يتحوّل إلى طقسٍ معرفيّ، إلى صلاةٍ فكريةٍ تؤدى على الخشبة. كلّ لحظة صدق فيه هي ولادة جديدة للإنسان، وكلّ لحظة زيفٍ هي موته المؤقت.
إنّ المسرح، في أعمق جوهره، ليس فناً عن الآخرين، بل فناً عن الذات في مرايا الآخرين. هو الوعي الجمالي الذي يجعل الإنسان يرى نفسه كما لم يرها من قبل، يضحك من وجعه، ويبكي من نجاته، ويكتشف أنّ النصّ والممثل والجمهور ما هم إلّا تجلياتٌ ثلاث لروحٍ واحدة تبحث عن المعنى في عالمٍ فقد معناه. تلك هي سيكولوجية المسرح في معناها الأسمى: بحثٌ دائم عن الحقيقة عبر الوهم، وعن الإنسان عبر الدور، وعن الخلاص عبر الفنّ.



#حامد_الضبياني (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- العراق… مأساةٌ في هيئةِ انتخابات
- تخوم النفس والخيال: تأملات في السيكولوجيا الأدبية الفلسفية
- مارك سافايا… المبعوث الذي يوقظ جراح العراق بين الشك واليقين
- أمراء الظلال... وتجار النسب في سوق الوهم
- تُناجي الأطلالُ غريبَها
- الضعف المضيء
- العاشق الخائف من الرنين
- حديث الظلال.. في فلسفة الفتنة ومكر السلطان
- الآلة التي بكت في صمت الوجود
- لبنان.. مرآة الوجع العربي وسؤال الدولة الغائبة
- الذيولُ والبندقية: مهرجانُ الطوائف في بلادٍ لا تبرح أن تكون ...
- يا امرأةً تمشي على حرير الغواية
- الغيرة الشريفة... فلسفة النقاء في زمن الابتذال
- الشرق الأوسط بين إعادة التوازن وتفكيك النفوذ الإيراني
- في ذكرى المجزرة..مدرسة بلاط الشهداء وجريمة إيران
- العراق.. حلم اللقاء المتحقق في مرايا النفط والسياسة
- عطرُ حضوركِ
- ريما… الجنون الذي أحببتُه بلا حدود
- اعذريني يا بنت الحرير-
- سامي آغا شامي الجيزاني.. ابن البصرة الذي كتب المنافي على جدا ...


المزيد.....




- متحدثة البيت الأبيض تفسر لـCNN قرار ترامب بإلغاء قمته مع بوت ...
- كوريا الشمالية تختبر صواريخ تفوق سرعة الصوت لتعزيز ترسانتها ...
- عودة الكهرباء الخارجية لمحطة زابوريجيا النووية بعد شهر من ال ...
- ما خلفيات المواجهات بين القوات السورية والجهاديين الفرنسيين ...
- لقاء بين حماس وفتح في القاهرة يبحث مستقبل غزة وترتيبات ما بع ...
- أوكرانيا: هل غير ترامب استراتيجيته مع بوتين؟
- قضية هانيبال القذافي في لبنان: جدل بشأن كفالة الـ11 مليون دو ...
- رويترز: خطة أميركية بديلة -لمؤسسة غزة الإنسانية- تشمل تسليم ...
- إسلام آباد تحظر حزب -لبيك باكستان- الإسلامي
- مقتل عشرات المسلحين بهجمات شرق نيجيريا


المزيد.....

- الفاكهة الرجيمة في شعر أدونيس / د. خالد زغريت
- المفاعلة الجزمية لتحرير العقل العربي المعاق / اسم المبادرتين ... / أمين أحمد ثابت
- في مدى نظريات علم الجمال دراسات تطبيقية في الأدب العربي / د. خالد زغريت
- الحفر على أمواج العاصي / د. خالد زغريت
- التجربة الجمالية / د. خالد زغريت
- الكتابة بالياسمين الشامي دراسات في شعر غادة السمان / د. خالد زغريت
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الساد ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الثال ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الأول ... / منذر خدام
- ازمة البحث العلمي بين الثقافة و البيئة / مضر خليل عمر


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - حامد الضبياني - المسرح ككائن سيكولوجي: جدلية النصّ والفنّان والجمهور بين الخلق والفشل