أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - داود السلمان - مَن رجل الدين؟














المزيد.....

مَن رجل الدين؟


داود السلمان

الحوار المتمدن-العدد: 8503 - 2025 / 10 / 22 - 21:30
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


رجل الدين هو: إنسان مشوش العقل، يبحث في رماد المقابر القديمة عن شيء حيّ غير موجود. بمعنى آخر: رجل الدين، كما صُوّر في هذه العبارة، إنسان مشوش العقل، ليس بالضرورة لأنه يفتقد الذكاء أو التفكير، بل لأن عقله مأسور في دوامة من الأفكار الموروثة، والنصوص المجتزأة، والمفاهيم التي تجاوزها الزمن، لكنه ما يزال يحاول إحياءها بكل ما أوتي من قوة. يبحث في رماد المقابر القديمة، في الكتب المهترئة، في الفتاوى المندثرة، وفي الأحاديث المتنازع عليها، عن شيء غير موجود، شيء يبرر له موقفه، وسلطته، ودوره في عالم يتغير من حوله بسرعة لا يستطيع مجاراتها. إنه لا يبحث عن الحقيقة، وإنما عن الهيمنة؛ لا يسعى للمعرفة، بل لتكريس الجهل المقدس، ذاك الجهل المغلف بقداسة زائفة تحصنه من النقد وتمنحه مناعة ضد الأسئلة.
وبتوضيح أدق، هو سليل قرون من التكرار، صدى لصوت قديم يتردد في كل جيل دون أن يُسمح له بأن يتغير. يتحدث بلغة الماضي، يلبس عباءة الأقدمين، وينظر إلى الحاضر بعين الريبة، كأن كل جديد هو بدعة، وكل تطور هو تهديد، وكل تساؤل هو تمرد يجب وأده. في داخله يقين مطلق، يقين لا يعرف الشك، ولا يتسع له. واليقين الذي لا يراجع نفسه، يتحول إلى أداة عنف، عنف معنوي في أقل تقدير، حين يُستخدم لتكفير المختلف، أو تحقير الخارج عن السرب، أو شيطنة العقل الحر.
والكارثة إن رجل الدين ينظر إلى الإنسان لا بوصفه فردًا حُرًّا قادرًا على التفكير والاختيار، بل ككائن ناقص يحتاج إلى وصاية مستمرة. هو لا يرى أن الإنسان يستطيع أن يكون أخلاقيًا دون تهديد بجحيم أو وعد بجنة. في عينيه، الإنسان مدفوع دائمًا بالشهوة والضلال، ما لم يُكبح بلجام الدين، والدين عنده لا يُفهم إلا عبره هو، لا عبر النص مباشرة. هو الوسيط، والحَكَم، والمفسر، والمخول بمنح صكوك الغفران أو الحرمان. هذه المركزية التي يمنحها لنفسه تجعله غير قادر على رؤية نفسه خارج دائرة السلطة. فإذا زالت سلطته، انهارت هويته.
لكن، هذا الكائن(رجل الدين) ليس مجرد فرد، بل مؤسسة ذهنية متجذرة في المجتمعات التقليدية، تُنتج رجالًا على شاكلته وتُعيد إنتاج خطابهم عبر المدارس، والجامعات، والمنابر، ووسائل الإعلام، المختلفة. هي آلة ضخمة لتثبيت اليقين، ومحاربة الشك، وإدامة السكون، والخوف من الحرية. رجل الدين لا يقف وحده، بل خلفه نظام ثقافي بأكمله يحميه ويغذيه، ويمنع عنه أي تهديد وجودي يأتي من فكر علمي، أو نقد فلسفي، أو حتى قراءة معاصرة للدين ذاته.
حين نمعن النظر، نجد أن هذا النوع من رجال الدين لا يمثل الإيمان، بل يمثل الخوف: الخوف من العقل، من التغير، من الأسئلة التي لا أجوبة جاهزة لها. ولهذا، حين يواجه بفكرة جديدة، يرد عليها بالتكفير أو الاتهام بالزندقة أو العمالة. إنه لا يملك أدوات الحوار، بل أدوات الإقصاء. هو لا يصغي ليفهم، بل يصغي ليرد. في داخله شعور دائم بأنه في معركة، أن العالم كله يتربص به، أن “الحق” الذي يحمله مهدد في كل لحظة، وأن عليه أن يظل متأهبًا لحمايته. لكن هذا “الحق” ليس سوى مجموعة من التفسيرات البشرية التي رُفعت إلى مرتبة القداسة.
المشكلة أن هذا النوع من التدين لم يعد قادرًا على مواكبة العالم. فحين يواجه بعالم يتحدث عن الذكاء الاصطناعي، والهندسة الوراثية، وحقوق الإنسان، وحرية الفرد، ونسبيّة المعرفة، وضرورة الشك البنّاء، فإنه يعود فورًا إلى موروثه، ينبش فيه وكأنه يبحث عن دواء حديث في كتاب طب من العصور الوسطى. يبحث في رماد المقابر القديمة عن علاج لأمراض الحاضر، فينتهي دائمًا إلى الفشل، لكنه لا يعترف به. بل يحمّل الفشل للناس، للمجتمع، للحداثة، للعلم، لكل شيء إلا لمنهجه المتكلس.
ولعل أخطر ما في هذا النموذج من رجال الدين هو استغلاله للمقدس في تبرير الدنيوي. يستخدم النص الديني ليبرر الاستبداد السياسي، ويبارك الظلم الاجتماعي، ويُسكّت ضحايا الفقر والعنف بحجج مثل “الابتلاء”، و”الصبر”، و”الحكمة الإلهية”. يسعى إلى تطبيع البؤس، لا تغييره، وإلى تبرير القمع، لا مقاومته. هو بذلك يعيد إنتاج الواقع كما هو، لا كما يجب أن يكون. فبدل أن يكون صوتًا للمظلوم، يصبح صوتًا يُخرِس المظلومين، وبدل أن يكون ضميرًا للناس، يصبح أداة في يد السلطة، أياً كانت هذه السلطة.
لا يعني هذا أن الدين نفسه هو المشكلة، فحسب ولا حتى الإيمان، بل الإشكال في من يحتكر تفسيره، ويوظفه لخدمة مصالحه أو مصالح من يحميه كذلك. رجل الدين بهذا المعنى يصبح كائنًا خارج الزمن، يحاول جرّ الحاضر إلى الماضي، لا العكس. وهو يفعل ذلك بلهجة يقينية، ونظرة استعلائية، ومنطق لا يحتمل التفنيد. لذلك، فإن تحرير الفكر الديني لا يبدأ بتجديد النصوص، بل بكسر احتكار التفسير، وسحب البساط من تحت أقدام رجال دين يرفضون أن يكونوا جزءًا من التطور، لأنهم يرونه تهديدًا لمكانتهم، لا فرصة لفهم أعمق.
وبالتالي، رجل الدين كما وُصف، ليس فقط إنسانًا مشوش العقل، بل إنسانًا أسيرًا لعالمه الداخلي، عاجزًا عن الانفتاح على الإنسان الآخر، المختلف، والمتجدد. هو أشبه بحارس قبر، يحرس بقايا أفكار ماتت منذ قرون، لكنه يرفض الاعتراف بذلك. في رماد المقابر القديمة، لا شيء يُبعث من جديد، لكن رجل الدين لا يتوقف عن الحفر. فهو لا يبحث عن الحقيقة، بل عن الماضي، والماضي وحده، لأنه لا يعرف العيش خارجه.



#داود_السلمان (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- المرأة في فلسفة شوبنهاور: نظرة دونية تشاؤمية
- سقوط النجمة في جيب الزورق
- خلاصة كتابي (اعترافات) قيد النشر
- حين يصير التفكير ألمًا: قراءة في (محنة الإنسان في عالم الإمك ...
- إلى أين يمضي الفساد في العراق
- ليس دفاعًا عن ترامب
- احتمالات الذات بين الخيبة والقداسة
- هبّ الله: وجوه الأمومة المفقودة
- أياد الطائي… ضحية وطن
- من بغداد إلى هلسنكي: خيبة الهجرة وصراع الذات
- حين صار الشيطان شيخًا… والفقر طريقًا إلى الجنة!
- نيتشه والمرأة: سردية الحب والعزلة
- حين يكتب الشعر وجعه: قراءة في مجموعة هاجس الزوال
- في العاشرة: كانت تحلم بلعبة فوجدت نفسها زوجة!
- (المدعو) لخضير فليح الزيدي: الهوية كعبء وجودي
- دور رجال اللاهوت في تسطيع العقل وصناعة الجهل*
- دلالة الزمن في السرد
- المثقف المقولب: السلطة بصوت ناعم(36)
- المثقف في مواجهة القوالب الأيديولوجية(35)
- النماذج الفكرية كيف تؤثر على المثقف(34)


المزيد.....




- إحباط إسرائيلي من تزايد انفصال يهود العالم عن الاحتلال وتبني ...
- أكثر من 450 شخصية يهودية بارزة حول العالم يطالبون بفرض عقوبا ...
- محافظة القدس تحذر من حفريات إسرائيلية حول المسجد الأقصى
- بين الانهيار والاستثمار.. قصة بيوت اليهود في دمشق
- البروفيسور ساري حنفي: الليبرالية الرمزية تقوض العدالة والعلم ...
- القدس تستنجد!..المسجد الأقصى مهدد بالانهيار
- محافظة القدس تحذر من احتمال انهيار أجزاء من المسجد الأقصى
- شخصيات يهودية تدعو لفرض عقوبات على الاحتلال بسبب -جرائم الإب ...
- قوات الاحتلال تشرع بهدم منزل في بروقين غرب سلفيت
- محافظة القدس تحذر من احتمال انهيار أجزاء من المسجد الأقصى


المزيد.....

- الفقه الوعظى : الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- نشوء الظاهرة الإسلاموية / فارس إيغو
- كتاب تقويم نقدي للفكر الجمهوري في السودان / تاج السر عثمان
- القرآن عمل جماعي مِن كلام العرب ... وجذوره في تراث الشرق الق ... / مُؤْمِن عقلاني حر مستقل
- علي قتل فاطمة الزهراء , جريمة في يترب / حسين العراقي
- المثقف العربي بين النظام و بنية النظام / أحمد التاوتي
- السلطة والاستغلال السياسى للدين / سعيد العليمى
- نشأة الديانات الابراهيمية -قراءة عقلانية / د. لبيب سلطان
- شهداء الحرف والكلمة في الإسلام / المستنير الحازمي
- مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي / حميد زناز


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - داود السلمان - مَن رجل الدين؟