|
The Company You Keep حلم ثورة لم تأتِ
محمود الصباغ
كاتب ومترجم
(Mahmoud Al Sabbagh)
الحوار المتمدن-العدد: 8491 - 2025 / 10 / 10 - 02:55
المحور:
الادب والفن
استهلال قبل الطوفان، كان كثيرون منّا يظنون أن المواقف السياسية مجرّد آراء، يمكن نقاشها ببرود، أو تجاوزها بلطفٍ اجتماعي. لكنّ ما جرى بعد ذلك لم يكن حدثاً سياسياً فحسب، بل اختباراً أخلاقياً كاشفاً، جعل كلّ واحد منا يرى نفسه والآخرين في مرآة الحقيقة. فالحدث في غزة لم يعد تفصيلاً في نقاش سياسي، بل حداً فاصلاً. بين من لم يجرب الخسارة بعد "الطوفان" وبين من خسر لاحقاً ولاذ في صمت عميق. فهل يمكن أن تبقى نظيفاً أخلاقياً إذا قرّرت الصمت؟ هل يمكن أن تحافظ على "مكانتك" من دون أن تخون نفسك؟ يطرح الفيلم، دون وعي ربما، سؤالاً حول نهاية الحلم بالثورة. إلى جانت العديد من الأسئلة الأخرى مثل فكرة "الزمن المؤجل" في حياة الثوار، أي، متى يتحول الماضي إلى عبء لا إلى ذاكرة؟ ثم هناك سؤال مهم يتعلق بموضوعة "العفران الأخلاقي"، فهل يستطيع الفن أن يبرّئ الثائر حين تفشل الثورة؟ مثل هذه الأسئلة تمثل مدخلاً مهماً للتفكير في مصير المثقف الثوري حين يدخل عصر ما بعد الثورات، عصر ما بعد الحلم. وهي قضية تتجاوز السياق المحلي الذي يطرحه الفيلم (أي السياق الأمريكي) لتلامس تجارب ثورية عديدة في عالمنا العربي. وصراع "الثوار" مع ذاكرتهم ومبادئهم وعناد الواقع الذي هو اقوى من طموحاتهم وتطلعاتهم. هذا ما يحاول الفيلم بنقله رسائل رمزية سياسية وفكرية مستمدة بالأساس من الرواية المقتبس منها الفيلم. ورغم افتقاد الفيلم لبعض العمق الروائي للعمل الأصلي، خاصة في تعدد الأصوات الداخلية للشخصيات. إلا أنه نجح في طرح التساؤلات الأخلاقية حول الولاء والصداقة والمبادئ وصراع الثوار مع الماضي، والتجربة الثورية مقابل الواقع البرجوازي. The Company You Keep نموذج للفيلم المعقد سياسياً وأخلاقياً الذي يثير التفكير أكثر مما يثير الحواس، وهذا يجعل تقويمه الفني والتجاري متفاوتاً بحسب منظور المتلقي والنقد. فعلى المستوى الرمزي، يستعير الفيلم لغة الطريق بوصفها مجازاً للبحث عن الذات، لكنه يقلب دلالتها، فكما نعلم يكون الطريق في أفلام الهروب مساراً للتحرر، بينما هو هنا عودة قسرية إلى الأصل، إلى الذاكرة التي لا تموت، بمعنى عدم انفتاحه على الحاضر وانغلاقه على الماضي. وكل محطة في رحلة الشخصيات تمثل مرحلة من مراحل انحلال الفكرة الثورية وتحولها إلى ذكرى شخصية. وسوف تكشف اللقاءات المتتالية مع الرفاق القدامى عن أشكال مختلفة من التكيف أو الخيانة أو التوبة بعيداً عن أي نسيج أو شبكة سياسية متوقعة في مثل هذه الحالات وهكذا يتحول الفيلم إلى دراسة في أنماط الذاكرة الأخلاقية: من ينسى؟ من يتذكر؟ ولماذا؟ غير أن الفيلم - في عمقه- ليس عن الماضي، بل عن استحالة الفكاك منه. فالمراقبة الحديثة-المتمثلة في الإعلام والشرطة- ليست سوى امتداد رمزي للضمير، ليتحول الهروب إلى اعتراف مؤجل، والعودة مجرد طقس رمزي للخلاص. نحن بحاجة، من حين لآخر، إلى شكل جديد من الانتماء، نعيشه على هيئة "صحبة" تظهر بعض أحاسيس الخذلان -اقرأها الخيانة إن شئت- القديمة. ...... The Company You Keep حلم ثورة لم تأتِ مدخل: عن السينما والأدب ثمة من يرى أن الأفلام المصنفة "كلاسيكية" أو تلك المقتبسة عن أعمال كلاسيكية أو ملاحم وأساطير أو قصص شعبي راسخة في الذاكرة الأدبية، تعاني من التمييز المعكوس لمصلحة النص الأدبي، كأنّ النص يفرض عليها سطوته الرمزية، ويحولها إلى مجرد ظلال لما كتب من قبل. وهذا ما يدفعنا لأن نكون حذرين في تقويمنا لها، فكل محاولة للحكم عليها رهينة بهذا الحذر، لأننا نحاكم الفيلم بما يقوله النص، وليس بما يريد المخرج قوله. ومن هنا لا تنتهي معظم الأسئلة السينمائية المتشابهة بإجابة واحدة، فالاختلاف بين الأفراد في رؤيتهم لدور السينما أعمق من أن يكون مجرد اختلاف عرضي، بل هو بالأحرى شرط أولي لتلك التساؤلات لأنها تقوم بالأساس على يقين جمالي متعدد يحمل في طياته التصعيد النتاج عن تلك الرؤى المتعددة للعالم. ولعل هذا التوتر هو الذي يمنح السينما معناها، كونها محرض على التفكير، ومساحة زمنية كثيفة تعيد ترتيب الوعي داخل صورة متحركة، وإن كانت إحدى أهم سمات الفرجة، كسردية بصرية، لا تنفك تنشغل بما وراء النص. إذ لطالما تعرفنا من خلالها على العديد من النصوص العظيمة لم نكن لنقرأها، لو لم نراها بأعيننا، بما يشبه دور الغناء في معرفتنا بالعديد من القصائد المجهولة أو المتوارية. وهذا لا يعني أن السينما تزعم أنها تقدم إجابات نهائية، بل على العكس ربما تكون مهمتها أحياناً في طرح الأسئلة دون الإجابة عليها، وبالتالي لا ينبغي للسينما توجيهنا إلى التعميم النهائي بقدر ما يكون عليها استجواب النص لتستخرج منه الفرجة التي يرغب فيها المتلقي. ونظراً لاعتمادها على الحركة، الصورة المتحركة، فقد باتت حاملاً أساسياً من حوامل الثقافة الحديثة لاحتوائها على أطر متنوعة وقدرتها على تثبيت أو تحريك الزمن حسب الرغبة والتأويل. فالعديد من أدوار الفرد الاجتماعية مثل البطولة والشرف والعمل والجنس والجشع والكذب والثورة والتضحية والظلم.. إلخ لعبت السينما في إعطائها مظهراً يتناسب مع ثقافة المجتمع الذي أنتجها ومع دور السلطة في فرض أو خلق معانيها حين تقوم السينما بسردها عن طرق تجارب واقعية أو افتراضية لأشخاص أو أمكنة أو حتى أشياء تحملها لنا عن طريق الصورة الناطقة. يستدعي منا الوعي بمسألة "التمثيل السينمائي"، وبعلاقته المتشابكة مع الأدب وتاريخه الزمني، الحذر من الوقوع في "غواية النصّ الأصلي"، أي الميل إلى تقويم الدراما البصرية وكأنها ظل لأصل "أدبي" [كلاسيكي أو سواه] يمنح نفسه سلطة رمزية مسبقة، لتفقد بذلك رؤيتنا إليها بصفتها عملاً مستقلاً. وتمس تلك الإشكالية جوهر العلاقة بين الفنون، والحديث هنا بالدرجة الأولى عن النقد السينمائي، لأنها تمسّ مسألة "المرجعية" و"الاستقلال الجمالي" للفنون عن بعضها البعض دون الادعاء بامتلاكها الأصل أو حتى تفسيره النهائي. ولعل هذه النقطة بالذات هي ما يضعنا أمام إحدى أهم رسائل فيلم The Company You Keep [يمكن ترجمته إلى "صحبة عمر" أو "عِشرة عمر" أو "الصحبة التي يجب الحفاظ عليها"] عن رواية بذات الاسم للكاتب "نيل غوردون"* ومن بطولة وإخراج "روبرت ريدفورد"**. وسوف نرى عند سرد وقائع الفيلم، كيف تعامل المخرج مع الرواية كحقل مفتوح للتأويل البصري والأخلاقي، بالتخفيف من وطأة الإيديولوجيا الذي حملته الرواية، ويستبدل الخطاب السياسي المباشر بتأملٍ هادئ حول معنى الالتزام والذاكرة والندم. كأنّه ينقل السؤال من ساحة الفعل إلى ساحة الضمير. وهنا يكمن أحد أهم شروط المعالجة الدرامية -اقرأها السينمائية إن شئت- للسرد، حين تعيد بناء "الحدوتة" من زاوية الذات التي تهرب من ماضيها وتحاول أن تتفاوض( أي تتحاور) مع الزمن، فيستحيل "التمثيل" إلى فعل قراءة لا يقل براعة عن فعل الكتابة ذاتها، ولكنها سوف تكون قراءة من نوع آخر، قراءة بالصورة أو ما يطلق عليه "سردية بصرية" منضبطة عن طريق الإيقاع (الصوت)، والضوء (التضاد) دون الحاجة إلى التعمق في التفسير. غير أن "استقلالية" هذه السردية البصرية لا يعني قطيعتها النهائية مع النص، بل سوف تدخل معه في علاقة محايثة وحوار تتبادل الأدوار فيها، أي العلاقة، الكلمة والصورة. فيمنح النص الفيلم بنيته المفهومية، وفي المقابل تقوم السينما بإعادة توزيع طاقته الرمزية، لتجعل من كل لقطة محاولة جديدة لفهم ما لم يكتب. هنا لا يعمل الإخراج على "ترجمة" الرواية أو النص الأدبي، بقدر ما يعيد تأليفها بـ "لغة أخرى" هي لغة الصورة التي سوف تمرن المشاهد على الإضفاء وإبطاء الزمن فتجعله كأنه يتكلم من تلقائه. يبرز الفيلم طبيعة الخلاف النقدي حول الأعمال السينمائية المقتبسة عن نصوص أدبية (روائية أو قصصية أو مسرحية، أو غيرها)، إذ تتوزع الآراء بين من يقيسها بمعيار النص الأصلي ومن يقرأها بوصفها عملاً مستقلاً له لغته الخاصة. علماً أن الخلاف النقدي حول الأفلام المقتبسة من الأدب ينشأ من سؤالٍ جوهري: هل على الفيلم أن يظل وفياً لنصه الأصلي، أم عليه أن "يخونه" كي يثبت استقلاله الجمالي؟ فـ"الوفاء" هنا ليس فضيلة مطلقة كما يبدو، بل قيد خفي قد يحرم السينما من لغتها الخاصة. بينما "الخيانة" -بالمعنى الخلّاق- ليست نكراناً للأصل، بل إعادة كتابته في بيئة أخرى، وفق منطق الصورة وليس منطق الجملة. ولا ينبغي أن يقاس نجاح الفيلم بمدى أمانته للأصل، بل بقدرته على تحويل النص إلى تجربة حسية وفكرية جديدة. فالسينما، حين تبدع "نصها البصري"، لا تشرح الأدب، بل تحاوره وتنسج معه علاقة خلافية أشبه بحوار بين لغتين تتبادلان الصمت والمعنى في آن معاً. الخلفية ما معنى الالتزام بعد سقوط الإيديولوجيا؟ وما الثمن الذي يدفعه من يحاول التوفيق بين أخلاقيات لا تلتقي؟ النجاة؟ ربما تكون النجاة هي الخيار الذي يجعل عنوان الفيلم يحمل سؤلاً أخلاقيا ما انفك يتجدد: من تختار -عند النجاة أو السقوط- أن يكون معك؟ أو تكون معهم" ومن تختار أن تتركهم خلفك؟ ذلك، في الواقع سؤال كلاسيكي قديم في فلسفة الثورة، تجسده سيرة الشخصيات التي "دخلت التاريخ في زمن، ثم خرجت منه في زمن آخر"، زمن الفعل وزمن الندم؛ أو إن شئت، زمن الثورة وزمن المراجعة، فمن بين الحقائق الكئيبة التي ترسم تاريخ الثورات، تبرز تلك الأشد كآبة المتعلقة بالمعضلة الجوهرية للثورة في لحظة اكتمالها وتمكنها من القبض على ناصية الحدث المحرك لها، أي استثمار اللحظة والسير بها نحو أهداف ليست بعيدة في أحد جوانبها عن رؤية طوباوية للمستقبل. هنا نلمس الفرق بين اللغة في السينما والأدب، الصورة لا تستطيع أن تحتفظ بكل ما يحتفظ به المجاز اللغوي من ظلال. السينما هنا لم تستطع أن تحتفظ بكل تعقيد الرواية، لكنها احتفظت بجوهر السؤال الذي طرحه نيل غوردون نفسه: "من تختار أن تكون؟ ومن تختار أن تبقى معه؟" وهذا، في النهاية، هو السؤال الأخلاقي الأعمق الذي يربط بين الثوري والإنسان العادي، بين الثورة كحالة سياسية والعلاقة كحالة وجدانية. ويظهر التاريخ، مرة تلو الأخرى، أن كثيراً من تلك الأهداف التي رسمت والأفكار والشعارات التي رفعت يتحول-بعد انتصار الثورة أو هزيمتها- إلى مطية للثورين للتخلص من "ماضيهم الثوري". وعندها، أي بعد فوات الأوان، سيخرج لنا التاريخ لسانه، ويقول أن لا داعي للقلق يا رفاق، فترويض الثوار ليس بالأمر العسير، ولا هو حكراً على ثورة بذاتها أو أشخاص بعينهم أو عصر أو مكان. فالمسألة، في النهاية، ليست سرد الحدث أو تأريخه، بل السؤال الأخلاقي العميق عن مصير "الثوري القديم" حين يجد نفسه وقد صار جزءً من البنية التي حاربها، وكأن الثورة لم تكن سوى تمرين طويل على كيفية التراجع. ما يطرحه الفيلم (والرواية بطبيعة الحال) بصورة أساسية، فضلاً عن موضوعة التجربة التاريخية التي يتبناها "نيل غوردون"، والتي تتعين بموجبها التجربة السياسية الحية، يرتكز بقوة على المعنى، أو المعاني التي باتت -لاحقاً- تمثل طبيعة خلافية كبيرة لقضايا سياسية وأخلاقية، وهي التي كانت تعبر عن حالة ثورية -في نهاية الستينيات- في الولايات المتحددة، متأثرة بالرياح "الثورية" التي وصلتها عبر الأطلسي من أوروبا فنشطت الحركات المدنية المناهضة للسياسات العنصرية الداخلية وللسياسات الإمبريالية الخارجية، فضلاً عن قضايا الدفاع عن الحقوق المدنية. ومثّلت حرب الفيتنام الذروة العاطفية لهذه القضايا وللحركات الراديكالية الأمريكية، وبات الجميع على قناعة باقتراب الحلم الأمريكي أكثر من أي وقت مضى، حلم تجسد في بيان منظمة الطلاب من أجل مجتمع ديمقراطي Students for a Democratic Society سنة 1962 في "بورت هورن" بشعاراتها الشهيرة "لا للحرب، لا للعنصرية، ضد الإمبريالية". من الشائع عند اندلاع الحرب أن يظهر من يقول "لا"، بغض النظر عن حجمهم وعددهم وتأثيرهم ومعنى "لا" التي يقصدونها أو يريدونها. ومجرد ظهور هذه الفئة يتشجع البعض الآخر "المحايد والرمادي" لتتحول هذه الـ "لا" إلى حركة احتجاجية جدية بما فيه الكفاية لتلفت نظر الجميع إلى نشاطها -مما يعرض حياة النشطاء منهم إلى أخطار عدة ليس أقلها تعريض حياتهم لمخاطر حقيقية- وهذا أمر حقيقي وواقعي ومقنع بذات الوقت، حتى لو كنا مع أو ضد هذه الحركة. ويبقى السؤال يدور، ما الذي يجعل هؤلاء يعارضون السياسات الحكومية؟ وهل أجاب الفيلم عن هذا السؤال الكبير؟ من القضايا التي لم يقم الفيلم بتوضيحها، هي الطريقة التي تحول فيها "جيم غرانت" من شخص طليعي راديكالي إلى شخص ذو توجه مجتمعي مندمج في مؤسسات المجتمع الذي ثار ضده ذات يوم. بمعنى لم تصل لنا الصورة التي أصبح فيها "جيم غرانت" " شخص عادي" يشبه العشرات وربما المئات الذي نصادفهم يومياً في حياتنا. سوف نكتشف ونحن نتابع بنية السرد، كيف يفشل الفيلم في تفسير تحول "جيم غرانت" الداخلي، أي كيف انقلب من "ثوري" يواجه الدولة إلى محامٍ يعيش داخل مؤسساتها. وهذا الفشل ليس ضعفاً تقنياً فحسب، بل عرض لفشل أوسع في ثقافة السينما الأمريكية التي تتعامل مع الثورة كمجاز رومانسي أكثر منه واقعة سياسية. فرغم حماسة المخرج للفكرة، لكنه يبقى أسير نظرة أخلاقية تصالحية: على الثائر أن "يتوازن مع حاضره" لا أن يصطدم به. فالفيلم إذن يروض الثورة كما يروض الثائر ذاته. هل هكذا تكون نهاية الثوار أصحاب القضايا " الكبيرة" والهموم "المصيرية"؟ في الحقيقة لم يقدم لنا أداء "ريدفورد" ولا حتى السيناريو مثل هذه الإجابات، بل على العكس تماماً، نلاحظ أن الحياة قبل الفيلم بقليل لا تعطي انطباعاً مقنعاً عن المجاز في معنى عنوان الفيلم (والرواية)، فحياة "جيم غرانت" المحامي، رب الأسرة المثالي قبل بداية الفيلم لا يمكنها أن تقودنا للاعتقاد أن ثمة "صحبة عُمر" بين أصدقاء ينبغي الحفاظ عليها وعليهم، على الرغم من تصريحات "ريدفورد" المتعددة كمخرج، والتي يعلن فيها عن تضامنه مع أبطال العمل الذين يشبههم ببؤساء "فيكتور هوغو"، وتأييده لقضاياهم لاعتقاده أن الحرب على الفيتنام قديماً مثلها مثل الحرب على العراق حالياً استندت على قضايا خاطئة. في لحظة ما، ينساق المشاهد وراء الميلودراما المشغولة في الفيلم، لإظهار مثالية سياسية تبدو أحياناً مبتذلة وساذجة بالنسبة للأجيال المعاصرة من خلال استحضارها ثقافة مضادة للتعبير عن المشاعر الممتزجة بفخر ومجد شخصي وغضب وحسن نية يثير من الإحباط أكثر مما يثير من تفهم الحالة "التاريخية"، وتجعلك ترثي لحال أولئك "الراديكاليين القدماء"، خاصة وأن الفيلم يتحول في الجزء الثاني منه إلى مطاردة شبه هوليوودية غير ناجحة ولا تحمل أي تشويق، رغم أن الفيلم يصنف كلاسيكياً كفيلم إثارة إلى أنه يختصر أزمة هوليوود مع السياسة، أي الرغبة في تحويل كل سؤال إلى حبكة تشويق، وكل مأزق إلى مطاردة، فهذه الأشكال التعبيرية (المطاردة، النهاية التصالحية، تفادي الأسئلة الصعبة) تعكس في جنباتها نزع الصراع من الفعل الثوري وتحويله إلى سرد أخلاقي مغلق. إنه باختصار يعبر عن خيبة أمل من عدم الوصل إلى الحلم الأمريكي. إلى ثورة جديدة تعصف بالمجتمع لتبني على أنقاضه المجتمع المثالي الجديد، خيبة أمل وشعور" الثوار" بالحزن والأسى (وربما الحسرة والندم عند البعض) كلما تقدم بهم العمر، حين ينظرون خلفهم ليجدوا أن جزءً كبيراً من نضالهم ليس بالضرورة كان نضالاً صائباً، بل أنه بات، للأسف، موضع تساؤل لدى الأجيال اللاحقة، وكما تقول "ميمي": "لقد عشت ستة حيوات.. ليس بينهن واحدة، هي، حياتي الخاصة"، أو كما يقول "نِك سلون": "لقد كنت "جيم غرانت" لفترة أطول مما كنت عليه أنا "نِك سلون"" . الأحداث يحكي الفيلم والرواية، من خلال تركيزه على القضايا السياسية والأخلاقية الكبرى، قصة رجل يساري (ما تعريف يساري هنا؟) يدعى "جيم غرانت" العضو السابق في منظمة سرية راديكالية تعرف باسم Weather Underground (التي تأسست في حرم جامعة ميشيغان بهدف الإطاحة بالحكومة الأمريكية) في فترة انقسم فيها المجتمع إلى قسمين: قسم مع "جون واين" [المؤيد للسياسة الأمريكية في فيتنام] وقسم مع "جين فوندا" [المعارضة للحرب]، العبارة التي كثيراً ما كان مؤلف الرواية "نيل غوردون" يرددها عند وصفه لأكثر الفترات اضطراباً في تاريخ الولايات المتحدة الحديث. عاش "غرانت"[روبرت ريدفورد] (باعتباره نقطة الارتكاز الأخلاقية في الفيلم) متخفياً فترة طويلة من حياته بسبب اتهامه بجريمة سطو على بنك، وقتل أحد الحراس، (وهي إشارة إلى حادثة السرقة الحقيقية التي حصلت في العام 1981، التي قامت بها المنظمة السرية التي تحمل ذات الاسم في الفيلم). وبعد سنوات طويلة من الاختباء ينكشف أمره ليبدأ رحلته المضنية في الدفاع عن نفسه وعن ماضيه. يسلط الفيلم الضوء على إرث حرب الفيتنام، وتأثيرها على المصالحة الاجتماعية والأخلاقية عبر الأجيال، من خلال حديثه عن "جيم غرانت" الذي يعمل محامٍ في نيويورك، ويعيش مع ابنته "إيزابيل" ذات الأحد عشر ربيعاً، بعد وفاة زوجته في حادث سيارة (في الرواية لا توجد إشارة إلى وفاة الزوجة). لا ينظر "غرانت" إلى الوراء كثيراً، بعكس الحكمة التقليدية التي تقول أن "النوستالجيا" هي أحد المهارات القليلة التي يحتفظ بها الثوريين وهم يقتربون من نهاية حياتهم. يفتتح الفيلم بلقطة تظهر رجال مكتب التحقيقات الفدرالي يقبضون على "شارون سولارز" [سوزان ساراندون] باعتبارها أحد المتورطين "بل العقل المدبر" لعملية السطو على البنك، وذلك بعد نحو ثلاثين عاماً من العيش متخفية باسم مستعار في أحد ضواحي نيويورك، مما يؤدي إلى توالي العواجل الإخبارية عبر تقارير متنوعة عن العناصر الراديكالية التي ما زالت حرة والمتهمة بالقيام بتفجيرات في عدة مدن أمريكية في أوائل السبعينيات. وتقارير أخرى تتحدث عن مسؤولية تلك المجموعة عن عملية السطو على بنك ميشيغان وقتل حارس الأمن فيه. وبطبيعة الحال تستدعي مثل هذه الأخبار نشاط الصحافة المحلية لتغطية الحدث ومنهم صحفي شاب طموح يدعى "بن شيبرد" [شيا لابوف] الذي يسعى بدافع من مجد شخصي وتكريس اسمه كصحفي لامع إلى إقناع رئيسه السماح له بمتابعة القضية، فيقوم باستغلال علاقته بزميلة له تدعى "ديانا" تعمل في مكتب التحقيقات الفدرالي ليضغط عليها بغية الحصول على بعض المعلومات عن تلك الجماعة، ورغم تحذيرات رئيسها تفصح عن اسم "بيلي كوزيمانو" كأحد أصدقاء "شارون" القدماء وصديق "جيم غرانت" أيضاً، وأحد زبائنه والذي كان قد اعتقل أكثر من مرة على خلفية تعاطي المخدرات، ومما يثير دهشة "شيبرد" رفض "غرانت" طلب تمثيل "شارون"، فيبدأ بملاحقة "غرانت" لاستجوابه، لكن هذا الأخير يتهرب منه خشية معرفة شخصيته الحقيقية وافتضاح أمره. وحرصاً على سلامة ابنته، يحاول "غرانت" الاتصال بصديقته القديمة "ميمي لوري"[جولي كريستي]، فهي الوحيدة القادرة على انتشاله من هذا المأزق وإثبات براءته. أثناء ذلك يكتشف "شيبرد" أن "غرانت" لا يملك رقم ضمان اجتماعي قبل العام 1979، كما يعثر على شهادة وفاة باسم "جيم غرانت" مسجلة في ولاية كاليفورنيا تتطابق مع شخصية "جيم غرانت" الحالية، فيستنتج أن "جيم غرانت" ليس سوى "نِك سلون" الشخص الثالث المطلوب في عمليتي السرقة والقتل (رفقة شارون وميمي)، فيقوم بكتابة مقال في الصحيفة المحلية، يخلق على إثره ضجة واسعة ويدفع مكتب التحقيقات الفدرالي لإعادة الاهتمام بالقضية. عند هذه الحد تزداد المخاطر على "جيم غرانت"، فيقرر الهرب بابنته وتسلميها إلى أخيه "دانيال سلون" [كريس كوبر] الذي كان مراقباً من قبل السلطات المحلية على أمل إلقاء القبض على "جيم"، لكنه يستطيع الفرار منهم وتضليلهم. في تلك الأثناء ترفض "شارون سولارز" التعاون أثناء التحقيق، وتقول بكل فخر "نحن لم نخن بعضنا من قبل ولو مرة واحدة، ولن أقوم بذلك الآن"، لكنها توافق على التحدث مع "بن شيبرد"، فتظهر كأنها غير نادمة على نشاطها السابق، وتكشف له أن "نِك و"ميمي" كانا يعيشان علاقة حب طويلة. يمضي "جيم"، بعد أن يطمأن على ابنته، باحثاً عن أصدقائه القدماء لعلهم يستطيعون مساعدته في إثبات براءته من جريمة القتل فيلتقي بصديقه المقرب "دونال فيتزجيرالد" الذي يثنيه عن مطاردة "ميمي"، لكنه يطلب منه التواصل مع العضو السابق في المنظمة الطلابية "جيد لويس" الذي يعمل أستاذاً للتاريخ والذي مازال يحافظ على ذات البروباغاندا القديمة للحركات اليسارية. يرفض "جيد" في البداية مساعدة "جيم"- في الحقيقة يخشى على مكانته وموقعه كأستاذ- لكنه يرضخ أخيراً عندما يخبره عن ابنته "إيزابيل"، فيقوم ببعض الاتصالات لمعرفة مكان "ميمي" التي تكون في تلك الأثناء تعمل بتجارة الماريجوانا مع صديق لها يدعى "ماك ماكلويد"، في غضون ذلك يأتي "بن شيبرد" إلى شيكاغو للتحقيق في الجريمة الأصلية فليتقي مع الشرطي المتقاعد "هنري أوزبورن" الذي كان أول من حقق في جريمة السرقة. يرفض "أوزبورن" التحدث أمام "ربيكا" (ابنته بالتبني)، ويدرك "شيبرد" أن "أوزبورن" يخفي أمر ما، فيقوم ببعض التحريات ليكتشف أن "أوزبورن" يرتبط بصلات وثيقة بعائلة "ميمي" قبل عملية السرقة. يقر "أوزبورن" بهذه العلاقة ويقول بأن حياة "جيم غرانت" مرتبطة بموقف "ميمي"، فإذا قالت أن "جيم" لم يكن موجوداً معهم أثناء السطو على البنك فسوف يتم تبرئته من جميع التهم (رغم أن المجموعة استخدمت سيارة "جيم" أثناء العملية). يبدو اللقاء بين "جيم" و"ميمي" هو الأكثر إثارة في الفيلم. أو هكذا أريد له أن يكون، فمازال الطرفان يكنان لبعضهما البعض تلك العاطفة والمشاعر القوية، كما يتشاركان بعدم الندم عن أعمالهم السابقة، وإن كان "جيم" بدا أقل حدّة، حيث يجادل بأن كل شيء تغير في الحياة، العمل، والمعيش، والمفاهيم والأفكار.. كل شيء تقريباً، ولكن "ميمي" تبدو أكثر تعنتاً وصلابةً فتقول بلغة مليئة باللوعة: "لم يكن حلماً ما ناضلنا من أجله.. ليس مجرد حلم.. بل كنا نعتقد أنه حقيقة واقعة". يطلب "جيم" منها أن تتغير مع هذه التغيرات، على الأقل من أجل ابنته "إيزابيل"، فهو لا يريد تكرار خطأ ارتكبه قبل ثلاثين عاماً، لا يريد ترك ابنته وحيدة تواجه مصيرها مثلما فعل هو و"ميمي" حينما تخليا عن "ريبيكا" ابنتهما الوحيدة (وهو ما سوف يكتشفه "بن شيبرد" لاحقاً حين يعرف أن "ربيكا" [ابنة "أوزبورن" بالتبني] هي في الحقيقة ابنة "جيم" و"ميمي") تهرب "ميمي" في اليوم التالي الذي يصل فيه "بن شيبرد" باحثاً عن "جيم"، فيخبره بأنه يعرف كل شيء عن "أوزبورن" وعن "ربيكا"، فيقول له "جيم"، لك أن تفشي السر أو تكتمه ثم يتركه ويمضي إلى أن يقبض عليه أخيراً العميل الفدرالي "كورنيلوس"، ثم تعرف "ربيكا" قصتها الحقيقية وظروف تبنيها. وما بين هذه الوقائع يبدو أن "ميمي" تقوم بمراجعة شاملة لحياتها وماضيها فتقرر العودة وتسليم نفسها للشرطة، فيتم الإفراج عن "جيم غرانت"، ويتخذ "بن شيبرد" في سره قرار عدم كشف هوية "ريبيكا" الحقيقية. عن العنوان لا يقدم العنوان الأصلي The Company You Keep كتسمية لفيلم، بل كعتبة فكرية تلخص المعضلة الأخلاقية التي يقوم عليها النص الروائي والسينمائي معاً. فالكلمة الإنجليزية company تعني في آنٍ واحد "الصحبة" و"الشركة"، أي أنها تحيل إلى الرفقة كما تحيل إلى المؤسسة. هذه الازدواجية ليست مجرد صدفة لغوية، بل هي قلب السؤال الذي يطرحه الفيلم: كيف يعيش الإنسان في عالمين متوازيين من الولاء والانتماء؟ كيف يظل وفياً لرفاقه القدامى دون أن يخون التزاماته الجديدة تجاه نفسه أو عائلته أو المجتمع الذي اندمج فيه؟ يقف "جيم غرانت" في قلب هذه التورية الدقيقة والمزدوجة في المعنى: "الصحبة التي تحتفظ بها" و"الشركة التي تنتمي إليها"، وكأنه عاش -ويعيش- في شركتين متناقضتين: شركة الثوار وشركة المحامين. هذا الازدواج هو الذي يُفلت، جزئياً، من المعالجة السينمائية، وينجح النص الروائي في التعبير عنه كمجاز وجودي، فالسؤال الجوهري الذي يطرحه النص يتعلق بكيفية الاحتفاظ بالصحبة القديمة (كذاكرة وماضي) دون هدم الحياة الجديدة؟ ويختبئ وراء هذا السؤال البسيط في ظاهره مجاز أخلاقي وسياسي عميق فـ "الصحبة" كاختيار أخلاقي تشير إلى أن هويتنا تتحدد بعلاقاتنا الني نبقيها ونحافظ عليها في سياق تفضيلاتنا الأخلاقية والسياسية، فالعلاقات الرفاقية الثورية تذكرنا بأن الثورات تُبنى على التحالفات، وأن هذه التحالفات تحمل تبعات أخلاقية تظل تلاحق أصحابها حتى بعد انتهاء الثورة، أو اقتضاء زمنها. وتشكل هذه الملاحقة تلميح مضمر بأننا، في واقع الأمر، "نصاحب" ذواتنا المتعددة في بعدها الزمني وسؤالها الوجودي (ذوات "جيم غرانت" في الفيلم تتأرجح بين ثوري سابق وأب ومحامي وهارب، وهل عليه أن يبقى وفياً لرفاق الماضي، أم عليه الانتماء إلى، اقرأها الاندماج في، المجتمع الجديد وقوانينه؟). بهذا المعنى تتحول الثورة ذاتها إلى مجاز عن الصحبة المفقودة، حين تنتهي بصفتها "صحبة" فتتحول العلاقات الثورية من تحالفات مصيرية إلى ذكريات مثقلة بالندم والحسرة ينتهي أطرافها كل على حدة وحيداً يحمل تبعات خياراته، لتصير عبئاً من الذكريات. وهنا يأخذ المجاز السردي دوره في تعريفنا بحكاية الصحبة الضائعة مع تحول القضية السياسية إلى قصة علاقات إنسانية يتقاطع فيها البعدين السياسي والإنساني بالوفاء والخيانة والمبدأ والعاطفة والمفاضلة الضمنية بين أي صحبة يجب الحفاظ عليها؟ صحبة المبادئ أم صحبة الأشخاص؟. ولكن المجاز الأهم-في الفيلم وكذلك في العنوان- هو مجاز الثورة كعلاقة عاطفية متجسداً في العلاقة بين "جيم" و"ميمي" وما تمثله من استعارة مركزية تختزل العلاقة بين الحب المؤسس على قضية والمبدأ، فالصحبة "العاطفية تستمر وتمتد لسنوات طويلة بعد زوال الثورة وتتحول إلى حنين سياسي، بل ربما إلى عبء ممتد عبر السنوات (وهي صحبة مثمرة على كل حال تتجسد في "ربيكا" (الابنة التي تمثل ذاكرة مشتركة ونتاج حب ثوري بين زمنين: زمن الفعل وزمن الندم)، سوف يعمل "بن شيبرد" جاهداً على عدم خروجه إلى العلن والحفاظ عليه كشبح يطارد ماضي "جيم" و"ميمي"). لا شك في أن العنوان يشير إلى خياراتنا الأخلاقية التي نتخذها في الحياة - من نختار أن نكون معهم، ومن نرفضهم، بما يعني ليس مجرد إشارة إلى الرفقة البشرية، بل إلى الالتزامات الأخلاقية والسياسية التي نختار تحملها، ولا ننسى أن اللغة الإنكليزية (وهي اللغة التي كتبت بها الرواية وهي لغة الفيلم أيضا) تحتفظ بعبارة قريبة جداً من العنوان، بل أنها تتضمن الكلمات بعينها وإن بصيغة مختلفة "You re known by the company you keep" بمعنى قل لي من تصاحب أقول لك من أنت. من هذه الزاوية، يعكس العنوان المعضلة الأعمق في اليسار الأمريكي، بعد حقبة الفيتنام: كيف يحافظ اليساري على مبادئه في زمن التكيف مع النظام وواقع ما بعد الحرب؟ ومن يستحق الولاء؟ رفاق النضال القدامى أم الأسرة الجديدة؟ وهل "الخيانة" السياسية يمكن أن تكون-أو على الأقل تتحول إلى- ضرورة أخلاقية؟ فالفيلم/ كما الرواية كلاهما يبحثان في فكرة أن هويتنا ليست ثابتة، بل تتشكل من خلال العلاقات التي نحافظ عليها ونخونها. فسؤال الخيانة هنا يتجاوز كونها "وجهة نظر"، بمعنى، هل تجوز الخيانة وكيف؟ ومتى تكون ضرورية؟ وهل يمكن أو يجوز خيانة رفاق العهد من أجل حياة جديدة؟ وفي هذا الإطار، يصبح "جيم غرانت" تجسيداً للإنسان الذي لا يخون رفاقه، بل يخون صورة الثورة الجامدة كي ينجو بما تبقى من إنسانيته، بينما تبقى "ميمي" ضميره الحي، تذكره أن الهروب من الماضي لا يعني محوه. وفي العمق أكثر، سوف نرى كيف يعمل العنوان على مستويين: مستوى العلاقات الشخصية، ومستوى الالتزام السياسي، وربما سيفهم الكثير من القراء العنوان بشكل حرفي جداً، بينما يهملون أو يغفلون المجاز الأخلاقي ليحصروا الفيلم في بعده البوليسي السطحي. ولذلك يجب فهم العنوان وقراءته بعيداً عن حرفيته، لا سيما لجهة البعد الأخلاقي للاختيار والمسؤولية وعلينا أن نضع في الحسبان أن العنوان-أي عنوان- إنما هو أول خيار أخلاقي يقدمه الكاتب للقارئ - لإنه يخبر مقدماً أن هذا العمل سيسأل القارىء من تختار أن تكون؟ ومن تختار أن تكون معهم؟" لأن العنوان هنا هو المفتاح التأويلي الأعمق، لكنه أيضاً الفخ الذي نصبه النص الأدبي للفيلم، فـ"الصحبة" ليست مجرّد جماعة من الأشخاص بل علاقة بين الذات وذاكرتها الأخلاقية. فالعنوان إذن، -من الناحية الرمزية والسياسية- ليس تسمية بريئة، بل مفتاح تأويلي للنص كله، وفخ لغوي في آن واحد، لأنه يدفع المشاهد إلى القراءة السطحية بينما يطلب منه الغوص في أعماق المعنى. فـ"الصحبة" في نهاية المطاف علاقة بين الذات وذاكرتها الأخلاقية، بين ما كنا عليه وما أصبحنا عليه. ولذلك، يتحدث الفيلم عن مطاردة الذات لظلّها، وعن الخيانة كفعل أخلاقي معقّد لا يُقاس بالمطلقات، وإنما بمدى قدرتنا على البقاء كبشر بعد أن نكف عن كوننا ثوريين. "جيم غرانت" تجسيد لمأزق الذاكرة اليسارية في المجتمع الأمريكي المعاصر. كان يوماً ثائراً ضمن جماعة مناهضة للحرب، ثم أصبح محامياً ناجحاً يعيش حياة مستقرة. وحين يُكتشف ماضيه، لا يهرب من الشرطة بقدر ما يهرب من فكرة أن ماضيه لم يمت بعد، وأن "الصحبة القديمة" لا تُغلق حساباتها بالزمن. وهكذا سيبدأ رحلة أخلاقية، من الحاضر إلى الماضي ومن صورة الأب إلى صورة الثائر، ومن سردية الاندماج إلى سؤال الهُوية. خاتمة يمكن فهم الفيلم على أنه استمرار طبيعي لمسار ريدفورد الإخراجي الذي بدأ مع Ordinary People (1980) وامتد إلى أعمال لاحقة مثل Lions for Lambs (2006)، إذ يظل محور اهتمامه مركزاً على الضمير الفردي في مواجهة التاريخ والمجتمع. ففي جميع هذه الأعمال، يتابع ريدفورد الشخصيات التي تضطر إلى الموازنة بين الواجب الأخلاقي والالتزام الاجتماعي من جهة، والحياة الشخصية من جهة أخرى، ويكشف كيف تتشكل هُويتهم من خلال هذه التوترات المستمرة. في هذا السياق، يطرح الفيلم السؤال ذاته الذي راود شخصياته السابقة: كيف يحافظ الإنسان على نزاهته الأخلاقية في عالم يفرض التكيف والبحث عن البقاء؟ كيف يمكن محاورة الماضي دون أن يسحق تحت وطأة القرارات التي اتخذها؟ وبالنظر إلى صعوبة الإجابة على هذه الأسئلة، بل ربما قتامة الإجابة، يختار ريدفورد تقنيات إخراجية تتراوح بين الإيقاعات البطيئة والإضاءة الطبيعية والكادرات الواسعة، بما يعكس هذا الصراع الداخلي في رؤية سينمائية للضمير الأميركي بعد مرحلة الثورات السياسية منها والاجتماعية. وهكذا، يصبح الفيلم امتداداً للتأملات الوجودية والأخلاقية لريدفورد كصانع أفلام، حيث تتقاطع السياسة مع الوجدان، والماضي مع الحاضر، والثوري السابق مع المواطن العادي، في فضاء رمادي، مغاير تماماً لما هو مألوف في هوليوود***، تغمره الأسئلة أكثر من الأجوبة. فكل حركة في الفيلم إنما هي صدى للإيقاع الداخلي للضمير، ضمير الشخصيات التي سنتعرف على حكاياتها تباعاً، فالألوان الباهتة والإضاءة الطبيعية تحفز الذاكرة، كما تمنح اللقطات الطويلة الممثلين مجالاً للتنفس. لعل ريدفورد لا يسعى إلى إقناعنا بصدق الحدث، وإنما بتعميق التناقض بين ماضي وحاضر الشخصيات، فحتى المونتاج يبدو، هنا، متأرجحاً بين السرعة والتأمل، كأن الزمن هو الذي يفكر عوضاً عن الشخصية التي تعيش فيه. الهروب هنا هروب ذهني، وهو ما يظهر على ملامح "غرانت" التي تظهر بأقل انفعال ممكن، فيظهر وجهه كأنه قناع يحجب أكثر مما يظهر، وهذه الصورة (المونتاج) مقصودة لا شك لأن "جيم غرانت" هنا لا يريد إثارة تعاطفنا، بل يدعونا إلى الحكم عليه، وإلى اختبار موقعنا نحن من فكرة الخيانة والولاء. بعكس "ميمي لوري" المليئة بشحنة مضادة ومتوترة وحادة، كأنها آخر شظية من حلم ثورة لم يكتمل. وسوف يكون لقاؤهما -في نهاية الفيلم- ذروة رمزية أكثر منها درامية؛ فهما لا يلتقيان كحبيبين سابقين، بل كرمزين لعهدين فكريين انتهيا بسلام بارد. وهنا يقبض المخرج على النهاية، بإحكام، بحيث لا تجعلها تهرب منه، حين يقنعنا بضرورة الموائمة بين ذكرياتنا وحاضرنا، بعملية توازن دقيقة وتفاؤل مدروس، دون أن ننسى أن هذا هو فعلاً ما نادى به البطل الشاب اليساري، الذي صار الآن برجوازياً متهالكاً في آخر عمره. وهكذا فما يثيرنا في الفيلم هو تحول حياة "جيم" إلى دراما حية، بطريقة ما، تنقل لنا مشاهد من لحظات رجل مضى في رحلة معقدة هدفها تجاوز ماضيه، فالماضي هو اللغز المتجدد في حياة الإنسان، وسطوته تكاد تكون أقوى من سطوة الحاضر (ما الحاضر إن لم يكن ماض مؤجل إلى حين؟) فتبدو "ميمي" الوجه الآخر لـ "جيم"، أي صحبة الثورة التي لم تتراجع، والتي ظلت خارج النظام لتحافظ على نقاء المبدأ ولو كان الثمن هو العزلة. وفي المقابل، يجسّد "بن شيبرد" نموذج الصحبة الجديدة في عصر الليبرالية الرقمية، بما ينطوي عليه من فضول لا يحمل أي درجة من درجات الالتزام، وإنما يسعى وراء القصة وليس وراء الحقيقة بدافع الشهرة وليس أي شيء آخر، كالعدالة مثلاً. في عالم لم يعد ينقسم بين الأبيض والأسود، بل ثمة منطقة رمادية يلتقي فيها الثوري السابق والمحامي صاحب المكانة الاجتماعية والأب ودوره الطبيعي... كلهم يجتمعون في جسد واحد. فمن سيختار "جيم"؟ هل يمضي إلى "ميمي"؟ أم ينسج خيوطاً جديدة مع "بن شيبرد"****؟ سوف تكون محصلة هذه المعادلة الوجودية نتيجة سيدفع ثمنتها "جيم"، أي أن إعلانه عن نفسه وما تمثل بالنسبة له، وربما بالنسبة لغيره أيضاً سيعتمد على من سيختار من "الصحبة". وهو مجاز يربط السرد الفردي بالذاكرة الجماعية للحركات الاحتجاجية في أميركا، من Weather Underground إلى حركات 2011، عبر فكرة الصحبة الأخلاقية مقابل صحبة المصلحة. ورغم حرفية "ريدفورد"، إلا أن تحويل الرواية إلى فيلم لم يكن بالأمر السهل. فالرواية بالأساس لا تتحدث بصوت شخصية واحدة، إذ ثمة منطوق داخلي لعدة شخوص بمستويات وظيفية مختلفة، وهذا ما يصعب من عملية تحويل هذه الأصوات إلى سردية بصرية. في الحقيقة لم ينجح "ريدفورد" المخرج، نوعاً ما، في هذه النقطة، ولذلك ظهرت في فيلم لحظات ضياع أو غياب تام لبعض الشخصيات، فضلاً عن اختفاء الحوار، وإن وجد فقد بدى ثقيلاً تقريرياً. أظهر المخرج التزامه واحترامه للعمل الأصلي، حين تتبع الحبكة الأصلية للنص الأدبي الذي هو بالأساس معمار روائي وليس معمار سينمائي. إن تحويل النص الروائي إلى فيلم كان لا بد أن يخفف من حدّته، لأن السينما الأمريكية لا تحتمل "اليسار الفعلي" إلا بعد أن يتحول إلى متحف للذكريات. وما يميز الفيلم، من الناحية الشكلية، ثلاث نقاط بارزة: فأولاً، يحسب له أنه فيلم هوليوودي تحدى موقف هوليوود من الثورات، وثانياً، كانت "سوزان ساراندون" السمة البارزة فيه. ففي المشاهد التي ظهرت فيها، لم يكن بمقدور المتلقي، الذي قرأ نص العمل الأصلي، أن يجد مسافة تفصل دورها وحوارها عما هو موجود في ذهن الكاتب، وأخيراً -ورغم الملاحظات العديدة حوله- ضم الفيلم أربعة فائزين بجوائز الأوسكار: "روبيرت ريدفورد" و"جولي كريستي" و"سوزان ساراندون" و"كريس كوبر". كما ضم خمسة مرشحين للجائزة: "تيرنس هوارد"، و"ريتشارد جنكينز"، و"آنا كندريك"، و"نيك نولت"، و"ستانلي توتشي". في النهاية، يثبت ريدفورد من خلال هذا العمل أن السينما يمكن أن تكون حقلًا لتأمل أخلاقي وجودي، حيث تلتقي الشخصية الفردية والتاريخ الجماعي، ويصبح السؤال المركزي: من تختار أن تصاحب، ومن تختار أن تكون؟ سؤال يربط بين الماضي والحاضر، بين الثورة والحياة، بين السياسة والعاطفة، ليترك للمشاهد مسؤولية التفكير والتفسير، بدل أن يقدّم له أجوبة جاهزة. ما تؤكده خلفية مؤلف الرواية السياسية والأخلاقية تجعل من الفيلم نصاً عن "الخيانة الكبرى للمثل"، خيانة الدولة الأمريكية لمواطنيها، وخيانة الثوار لماضيهم، وخيانة العالم لعدالته الموعودة. "صحبة عمر" فيلم ممتع رغم أنه لم ينل حظه من المتابعة والنقد، عربياً، رغم أهمية "نيل غوردون" -على الأقل فيما يخص القضية الفلسطينية ومسائل الصراع العربي الإسرائيلي- حيث لم يترجم -على حد علمي- أي عمل من أعماله الروائية إلى اللغة العربية. كلمة أخيرة: ذاكرة العدالة بين انهزامية "جيم غرانت" وفعالية غزّة يدور الفيلم، كما رأينا (الذي ظاهره دراما سياسية عن جيلٍ من ثوار سابقين) في جوهره حول الذاكرة، والخيارات، والولاء، وثمن الموقف، وكيف يتحوّل "الموقف السياسي" إلى مرآة للذات الأخلاقية، وكيف يبدو الصراع كأنه يدور بين الذاكرة والمصلحة وبين العدالة كقيمة وبين الاستقرار كإغراء. حين نشاهد الفيلم الآن، يصعب ألّا نرى التشابه بين ما عاشه جيل الستينيات الغاضب في أمريكا وما نعيشه نحن اليوم، فهؤلاء حلموا بالعدالة وتمرّدوا على حرب فيتنام، ثم اضطروا لاحقاً إلى التواري أو المساومة. وبيننا نحن، على اختلاف أجيالنا، -الذين وجدنا أنفسنا فجأة أمام اختبارٍ أخلاقي في مواجهة حرب إبادة تُبَثّ على الهواء مباشرة. في الفيلم، يعيش "جيم غرانت" حياة مزدوجة، هارب من ماضيه الثوري، يحاول حماية ابنته، لكن الماضي يطارده بلا هوادة. فهل يمكنه الاستمرار في العيش حياة "نظيفة" بعد أن تخلّى عن قضيته؟ في الحقيقة يعبر "غرانت" عن هروب جيل كامل من ماضيه الثوري، يحاول الآن إقناع نفسه بأن الثورة كانت خطأ شباب غاضب. لكنّ الماضي لا يختفي، بل يتخفى (مثل "غرانت")، إلى أن يعود فجأة في وجه جديد ؛ صحفي شاب، أو حرب جديدة تنتهي بسؤال أخلاقي لا يمكن تجاهله. ذلك الماضي أشبه بما فعله الطوفان بنا، حين نزع عنا أقنعتنا. فجعلنا نرى وجوهنا القديمة التي ظننا أننا تجاوزناها. في الفيلم، كلّ شخصية تبرّر ما فعلته باسم "الزمن تغيّر". لكنّ الزمن لا يُغيّر شيئاً جوهرياً، هو فقط يكشف ما كان مختبئاً. وهذا بالضبط ما فعله الطوفان حيث كشف عن هشاشة الروابط التي بدت يوماً صلبة، والاختلافات الأخلاقية التي كانت مستترة تحت شعارات الوحدة. لا يغدو الفيلم، في قراءته من بعد الطوفان، مجرد حكاية عن الماضي الأميركي، بل مرآة لما نعيشه اليوم. كيف تُمحى الذاكرة باسم الواقعية، وكيف يُعاد تعريف البطولة لتناسب شاشات الأخبار؟ وحين تضع الحرب أوزارها سنتذكر أن البطولة ليست حدثاً، بل اختياراً متكرراً. أن تكون في صفّ المقهورين، كل يوم، دون استعراض ودون مبررات. لا يظهر الصراع السياسي في الفيلم بوصفه معركة بين الحكومة والثوار، بل كاختبارٍ أخلاقي طويل المدى، يمتدّ عقوداً، يتسلّل إلى تفاصيل الحياة اليومية، ويتحوّل إلى سؤالٍ عن المعنى ذاته: ماذا يبقى من العدالة حين تُستبدَل الذاكرة بالسكينة؟ لا يتذكر "جيم غرانت" من الثورة سوى أنها خطيئة رومانسية. لكن الجيل الجديد ( الصحفي الشاب "بن شيبرد") حين يعيد فتح الملفات القديمة سيضعه أمام مرآة ذاته التي لم يواجهها منذ عقود، وعند هذا الحد يصبح الفيلم عن ذاكرة العدالة وعن سؤال الموقف السياسي وتحوله إلى عبء شخصي، وكيف يمكن للزمن أن يطمس الحقيقة، دون أن يمحوها تماماً. بعد طوفان الأقصى، بدا المشهد العربي والعالمي كأنه يمرّ بالاختبار ذاته. كثيرون عاشوا مثل "جيم غرانت" تحت الرماد القديم مطمئنين، متصالحين مع النظام القائم، متعايشين مع الظلم ما دام لا يطرق أبوابهم مباشرة. فأتى الطوفان ليكون أكثر من مجرّد حدث عسكري أو سياسي. لقد كان لحظة مواجهة وانكشاف: انكشاف لما تحت الرماد، ومواجهة السؤال الأخلاقي الصعب: في أيّ صفّ نقف، ونحن نشاهد الإبادة على الهواء؟ وسقوط الأقنعة وتبدد المسافة بين الخيانة ووجهة النظر. نرى في الفيلم شبكة علاقات تصدّعت تحت ضغط الزمن والموقف. الأصدقاء القدامى صاروا خصوماً، والحب القديم صار دليلاً قانونياً ضدّ صاحبه، والبطولة السابقة تحوّلت إلى تهمة. كذلك نحن اليوم: كم من صداقات انهارت لأن أحدهم قرّر أن الحياد فضيلة؟ كم عدد من سقطوا -وكنا نحترمهم سابقاً- في اختبار الكرامة؟ وإذا كان "جيم غرانت" لا ينتصر ولا يُهزم تماماً (يظل عالقاً في منطقة رمادية)، يطلب الغفران دون أن يناله. فغزة لم تهرب من ماضيها. وستبقى تقرع خزان الذاكرة في زمن إنكار الفعل الأخلاقي. ليتحول التذكر إلى فعل حياة وسط الموت. ...... اعتمدت هذه المادة على المصادر التالية • https://www.motionpictures.org/2013/04/company-man-a-conversation-with-the-company-you-keep-author-neil-gordon/ • https://www.penguinrandomhouse.com/books/288139/the-company-you-keep-by-neil-gordon/readers-guide/?utm_source=chatgpt.com • https://www.theguardian.com/film/2011/jul/20/robert-redford-shia-labeouf?utm_source=chatgpt.com • https://www.theguardian.com/film/2013/apr/20/robert-redford-reinvents-himself • https://www.nytimes.com/2017/06/05/books/neil-gordon-dead-novelist-who-wrote-company-you-keep.html • https://www.counterpunch.org/2003/07/25/a-review-of-neil-gordon-s-the-company-you-keep/ ...... *نيل غوردون (1958- 2017) : كاتب وروائي ولد في جنوب أفريقيا لعائلة يهودية، تعود بأصولها إلى ليتوانية التي هجرتها قبيل الحرب العالمية الثانية بسب تزايد معاداة السامية هناك. تربى "نيل" في أجواء مناهضة لسياسات الفصل العنصري التي اتبعتها الأقلية البيضاء في جنوب أفريقيا، تلك السياسة التي دفعت عائلته مرة أخرى للهجرة، وهذه المرة كانت وجهتها الولايات المتحدة حيث نشأ وترعرع في أجواء مشحونة بوقائع الحرب الأمريكية في فيتنام، وهو ما جعل منه شخصاً سياسياً كما يصف نفسه، مما سوف ينعكس على بقية حياته، فرغم عمله كأستاذ للأدب المقارن بحكم حصوله على شهادة الدكتوراه في الأدب الفرنسي، إلا أن اهتماماته توزعت بين موضوعات النقد الأدبي والقضايا السياسية الاجتماعية، فضلاً عن العمل الروائي. وقد صدرت له أربعة أعمال روائية يكاد يكون الهم السياسي هو الخيط الذي يربط أعماله الروائية جميعها. عاش غوردون في سبعينيات القرن الماضي لعدة سنوات في فلسطين المحتلة، وهذا ما يفسر اهتمامه بالقضية الفلسطينية، والحالة الاستعمارية التي شكلها قيام إسرائيل، وإن كان تناوله للموضوع تم من نقطة أكاديمية شديدة الخصوصية وعميقة التفكير مما يؤثر إلى حد ما على مستواها الأدبي، ولكنه لا يقلل منه، وللتدليل على ذلك قام نيل غوردون سنة 2016 بتدريس طلابه كأستاذ مادة الكتابة الإبداعية في كلية "The New School" في نيويورك، مقرراً بعنوان" قراءة فلسطين"، بمعنى "قراءة الآخر"، الهدف منه كما يقول، شرح ما تتمتع به الرواية من قدرات على تعزيز الفهم العميق للتجربة التاريخية الحية التي تمر بها فلسطين بصورة خاصة والمنطقة العربية (و يقصد ثورات الربيع العربي) بصورة عامة، حيث يمكن للرواية أن تتقصى واقع وحياة الناس هناك في الفضاء الجغرافي العربي المحكوم بحدود سايكس بيكو، حيث كانت فلسطين، ثم أعيد تعريفها لتصبح " إسرائيل" و "الضفة الغربية" و "غزة". وهو ما انعكس في روايته الأولى "التضحية بإسحق" (Sacrifice of Isaac) التي طرح فيها العديد من الأسئلة حول حقيقة المشروع الصهيوني في فلسطين قبل العام 1948 "أي مجتمع الييشوف" والعلاقة بين "المحرقة" و"قيام" الدولة" و"النكبة"، وهل كان الصراع الذي خاضه الييشوف صراع من أجل البقاء والحياة الطبيعية، أم صراع كان هدفه المشاركة في سياسة التوسّع الاستعماري؟ هل كانت هناك وضعية حضارية محلية فلسطينية قبل وخلال الانتداب البريطاني؟ وكيف يمكن لمشروع قومي مفترض أي يقوم ببناء سرديته الخاصة، وخلق أبطاله القوميين من العدم، واستدعاء مرويات دينية وأسطورية ، وسواهما بمفردات معاصرة للتأكيد على تلك المزاعم القومية .في حين تتحدث روايته "ابنة مهرب السلاح" (Gunrunner‘s Daughter) عن أمريكا وإسرائيل وتجارة السلاح، أما رواية "صحبة عمر" (The Company You Keep) وهي الأشهر بين أعماله الأدبية (ربما بسبب تحويلها إلى فيلم) يدور موضوعها حول اليسار الأمريكي، وحرب الفيتنام، والمعارضة الأمريكية الداخلية للحرب. وروايته الأخيرة "ها قد صرت الآن فتاة كبيرة "(You re a Big Girl Now) تغوص في تاريخ اليسار الأمريكي منذ الحرب الأهلية الإسبانية وصولاً إلى حركة "احتلوا وول ستريت". ** كثيراً ما يوصف الممثل والمخرج الأمريكي روبرت ريدفورد (1936–2025) بأنه "الموهبة الخفية" التي كانت تحتاج إلى الظرف المناسب لتتألق. ولعل المشاهد العربي يتذكره أساساً من دوره في فيلم الإثارة السياسي الكلاسيكي All the President’s Men (1976) إلى جانب داستن هوفمان، والذي تناول فضيحة ووترغيت الشهيرة، أو من فيلم Indecent Proposal (1993) مع ديمي مور، فضلاً عن عدد كبير من الأعمال التي رسّخت مكانته في السينما الأمريكية. ورغم شهرته الواسعة، ظل ريدفورد قليل الاحتفاء بموهبته الخاصة، وكأن تواضعه الشخصي كان يحجب عن الجمهور عمق أدائه. كانت أدواره تكشف دوماً عن جوهر داخلي أصيل، يجعل تمثيله يبدو سهلاً وبسيطاً في الظاهر، بينما يخفي دقة كبيرة في التعبير والانفعال. وغالباً ما تتجلّى هذه الفوارق الدقيقة عند مقارنته بأقرانه عبر ستة عقود من العمل، مثل بول نيومان، وناتالي وود، وداستن هوفمان، وميريل ستريب، وجين فوندا وغيرهم. ارتبط اسم ريدفورد في البداية بحركة "هوليوود الجديدة" في ستينيات القرن الماضي، ثم تحول لاحقاً ليصبح إلى أحد رموز سينما هوليوود الكلاسيكية في السبعينيات والثمانينيات. وشارك في سلسلة طويلة من الأفلام التي أصبحت علامات ثقافية ثابتة في الذاكرة السينمائية، منها:Jeremiah Johnson، The Way We Were، The Great Gatsby، The Sting، Three Days of the Condor، The Natural، وOut of Africa.وقد اعتمد في أدائه على موهبته بقدر جماله الشخصي الذي حوله إلى أيقونة في هوليوود تلك المرحلة. وكانت نيويورك تايمز قد اشارت (في العام 1974) إلى هذه النقطة بإظهار طيف كان "يبدو على الشاشة في أبهى صورة، كأحد أكثر الممثلين سحراً منذ مارلين مونرو، وإن بدا خارج الشاشة أقل إثارة للإعجاب"، فيما وصفته بعض الترسيمات الإعلامية بأنه "رجل وسيم للغاية، لكنه عادي الملامح، بابتسامة معلم تربية بدنية مثالي". في العام 1980 اتجه ريدفورد إلى الإخراج، ففاجأ النقاد بفيلمه Ordinary People الذي نال عنه جائزة الأوسكار لأفضل مخرج، لتبدأ مرحلة جديدة من مسيرته ترسخت فيها رؤيته الفنية المتأنية والعميقة. ثم حصل في العام 2002 على جائزة الأوسكار الفخرية تقديراً لإسهاماته في السينما، جائزة قد تبدو غريبة لمن عرفوه أولًا كممثل قبل أن يكتشفوا حسّه الإخراجي الرفيع. اعتزل ريدفورد التمثيل في العام 2018، واختتم مسيرة امتدت لأكثر من ستة عقود من الإبداع والالتزام الفني الهادئ. توفي في السادس عشر من أيلول 2025، تاركاً وراءه إرثاً سينمائياً يجمع بين بساطة الأداء وعمق المعنى، وبين صورة النجم وجوهر الفنان. ***هذا التناقض يوضح طبيعة الفيلم كـ عمل هوليوودي "متمرد"، فهو ينتمي للصناعة الأمريكية من حيث التمويل والإنتاج، لكنه يرفض أساليبها التسويقية والنمطية، مفضلاً طرح الأسئلة الفكرية والسياسية على الجمهور بدلاً من تقديم متعة بصرية مباشرة، ورغم فشل الفيلم تجارياً، إلا أنه حقق نجاحاً رمزياً على الأقل حين حاول ريدفورد حاول تقريب الرواية للشاشة من خلال أسلوب مضبوط ومتأمل عبر حوارات دقيقة وتصوير واقعي وإيقاع هادئ وإبراز الصراعات الداخلية للشخصيات بدل المطاردات أو الأكشن التقليدي. والنتيجة: فيلم يحمل قيمة رمزية وفكرية كبيرة، وفشل تجاري جزئي في جذب جمهور هوليوود المعتاد على الإثارة البصرية. إذ وجد الكثير فيه فيلماً بطيئاً أو يحمل شحنة زائدة من الميلودراما مقارنة بما كانوا يتوقعونه من فيلم إثارة. ****يمثل الصحفي "بن شيبرد" الوجه الآخر لـ "جيم غرانت". فهو ابن جيل لم يعرف الثورة إلا عبر الأرشيف. يطارد القصة كمن يطارد معنىً ضائعاً. والصحافة هنا ليست سلطة كشف بل سلطة نسيان؛ كل تحقيق جديد هو دفن رمزي لماضٍ قديم. لذلك حين يتورط "بن" أخلاقياً في حكاية "جيم"، يصبح الفيلم عن العلاقة بين الجيلين: جيل الثورة وجيل المراقبة. "الصحبة" في العنوان تمتد لتشمل علاقة الأجيال وليس الأفراد فحسب. ومجاز "الصحبة" هنا هو شكل آخر من أشكال المعادلات الأخلاقية في المجتمع، وعلى هذا يمثل "بن" الحياد المريح لجيل "الميديا" والوسائط الاجتماعية الرقمية. ولا يتوقف الأمر عند "بن"، فكل شخصية تكمل شكلاً من أشكال الصحبة - وبالتالي شكلاً من أشكال المعادلة الأخلاقية- فنرى "ميمي" تمثل الوفاء للمبادئ ولو على حساب الحياة ذاتها، في حين يعبر "جيم" عن الموازنة بين المسؤولية الفردية والولاء الجماعي. بهذا المعنى، الفيلم لا يروي حكاية هروب، بل يقترح معادلة جديدة للمسؤولية الأخلاقية في زمن ما بعد الأيديولوجيا. فالثورة حين تفقد خطابها الجماعي تتحول إلى ذاكرة شخصية، والرفاق إلى شركاء في الذنب، ويتبدد الحلم. وكل ما قيل عن الصحبة الثورية التي لم تتراجع، يُختزل في "ميمي"، وهي تذكّر "جيم" بأن الماضي حاضر وأن الهروب منه لا يعني نسيانه. أما "بن شيبرد" يبقى المثال على الصحبة الجديدة، الفضولية والمستقلة، غير المرتبطة بالالتزام القديم.
#محمود_الصباغ (هاشتاغ)
Mahmoud_Al_Sabbagh#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
عن الطوفان وأشياء أخرى (43)
-
ثمة مدزرة هنا :الصورة التي نزفت معناها
-
عن الطوفان وأشياء أخرى(42)
-
-الفلسطينزم- والسؤال الأساس للمثقف
-
تاجر البندقية: The Merchant of Venice أو سرديات الغنيمة
-
ما بعد إيران... أم ما بعد الخطاب؟
-
عن الطوفان وأشياء أخرى (41)
-
عنتريات السيادة في العصر الإسرائيلي: لبنان المقاطعجي نموذجاً
-
عن الطوفان وأشياء أخرى 40
-
عن الطوفان وأشياء أخرى (38)
-
عن الطوفان وأشياء أخرى (39)
-
قراءة في كتاب -المملكة الكتابية المنسية-: حين يغمس إسرائيل ف
...
-
عن الطوفان واشياء اخرى (37)
-
عن الطوفان واشياء أخرى (35)
-
عن الطوفان وأشياء أخرى (35)
-
عن الطوفان واشياء أخرى (34)
-
الطوق والأسورة: من الرواية إلى السينما... ميلودراما عجزت عن
...
-
عن الطوفان وأشياء أخرى (33)
-
-مأساة النرجس، ملهاة الفضة-... عن تجربة بنيوية في ذاكرة شخصي
...
-
عن الطوفان وأشياء أخرى (32)
المزيد.....
-
صورة المعلم في الرواية العربية: دراسة نقدية منهجية تطبيقية ت
...
-
أسماء أطفال غزة الشهداء تقرأ في سراييفو
-
الكاتب المجري لاسلو كراسناهوركاي يفوز بجائزة نوبل للأدب
-
تامر حسني يعيد رموز المسرح بالذكاء الاصطناعي
-
رئيس منظمة الاعلام الاسلامي: الحرب اليوم هي معركة الروايات و
...
-
الدكتور حسن وجيه: قراءة العقول بين الأساطير والمخاطر الحقيقي
...
-
مهرجان البحرين السينمائي يكرم منى واصف تقديرا لمسيرتها الفني
...
-
مهرجان البحرين السينمائي يكرم منى واصف تقديرا لمسيرتها الفني
...
-
صدور كتاب تكريمي لمحمد بن عيسى -رجل الدولة وأيقونة الثقافة-
...
-
انطلاق مهرجان زاكورا السينمائي في المغرب
المزيد.....
-
شهريار
/ كمال التاغوتي
-
مختارات عالمية من القصة القصيرة جدا
/ حسين جداونه
-
شهريار
/ كمال التاغوتي
-
فرس تتعثر بظلال الغيوم
/ د. خالد زغريت
-
سميحة أيوب وإشكالية التمثيل بين لعامية والفصحي
/ أبو الحسن سلام
-
الرملة 4000
/ رانية مرجية
-
هبنّقة
/ كمال التاغوتي
-
يوميات رجل متشائل رواية شعرية مكثفة. الجزء الثالث 2025
/ السيد حافظ
-
للجرح شكل الوتر
/ د. خالد زغريت
-
الثريا في ليالينا نائمة
/ د. خالد زغريت
المزيد.....
|