ادم عربي
كاتب وباحث
الحوار المتمدن-العدد: 8489 - 2025 / 10 / 8 - 12:59
المحور:
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
بقلم : د . ادم عربي
لم يكن تراجع الصين عن مسارها الاشتراكي في أواخر السبعينيات، ثم تفكّك الاتحاد السوفيتي والمنظومة الاشتراكية بعد عقدٍ من ذلك، مجرد تحوّل سياسي أو اقتصادي عابر. لقد كان زلزالاً حضارياً أعاد تشكيل خريطة العالم، وترك جرحاً عميقاً في الجسد الشيوعي العالمي، وألقى بظلاله الثقيلة على فكرة الاشتراكية نفسها كبديل تاريخي للرأسمالية.
فبانهيار هذين المركزين الكبيريْن، فقدت الحركة الشيوعية العالمية عمودها الفقري، وفقدت الأحزاب التقدمية في البلدان النامية حليفها الموثوق ومرجعها النظري في فهم المعضلات الاجتماعية والاقتصادية. ومع غياب تلك المرجعية، تاهت البوصلة الفكرية، وترددت الأحزاب في تحديد أهدافها التاريخية. لم تعد الاشتراكية غاية النضال، بلْ تراجعت أمام شعارات أكثر عمومية كـالديمقراطية والعدالة الاجتماعية والمساواة وهي شعارات صحيحة من حيث المبدأ، لكنها فارغة المضمون حين تُطرح في ظل احتكار قلة من الرأسماليين للثروة والسلطة.
ولأنَّ الصدمة كانت عنيفة، لجأت معظم الأحزاب الشيوعية إلى مراجعة برامجها، وألغت أو أجلت مشروعها الاشتراكي. توقفت عن تثقيف أعضائها بالوعي الطبقي، وضعفت قدرتها على تعبئة الجماهير. فبدل أنْ تواجه النظام الطبقي القائم وتسعى إلى إعادة توزيع الثروة، انزلقت إلى مطالب إصلاحية متواضعة، وغاب عنها الإيمان بقدرة الطبقة العاملة على التحول إلى قوة تاريخية قادرة على قلب النظام.
أعطى هذا التحول انطباعاً واسعاً بأنَّ تلك الأحزاب لم تكن مستقلة في قراراتها، بلْ تابعة للمركز السوفيتي؛ شيوعية ما دام هو كذلك، وتغادر الشيوعية حين يغادرها هو. وكأنَّ كلَّ ما قدّمته الشعوب من تضحياتٍ جسيمة في سبيل التحرر والعدالة كان استجابةً لتوجيهات موسكو، لا لاحتياجاتها الوطنية والإنسانية. وهو ما استغلته القوى الغربية والرجعيات المحلية لتأكيد دعايتها القديمة وهي أنَّ الشيوعيين أدوات في يد الكرملين.
لكن الحقيقة أعمق من ذلك. فالحركة الشيوعية كانت كياناً عالمياً واحداً، شكّل فيه الاتحاد السوفيتي قلبها النابض. وحين توقف القلب، دبّ الوهن في الجسد كله. لقد أصاب الشلل معظم القوى اليسارية، فانكفأت على ذاتها وتراجعت عن الميدان السياسي والفكري. ولم تفلح حتى الأزمات الرأسمالية المتكررة كأزمة 2008 مثلاً في إيقاظها من سباتها، رغم أنها كشفت مجددا هشاشة النظام الرأسمالي العالمي.
ورغم ذلك، لم تمت الفكرة. فمنذ أواخر التسعينيات، بدأت محاولات متفرقة لإعادة لمّ شمل الحركة الشيوعية. ففي عام 1998، استضاف الحزب الشيوعي اليوناني مؤتمرا جمع ممثلين عن أحزاب من البرازيل وروسيا وكوبا وجنوب أفريقيا والبرتغال وغيرها، بهدف إعادة الحوار حول قضايا النضال الطبقي ومستقبل الاشتراكية. ومنذ ذلك التاريخ، أصبحت المؤتمرات السنوية للأحزاب الشيوعية تقليداً دائماً، وآخرها عُقد في مدينة إزمير، تركيا، بين 19 و22 أكتوبر 2023. وقد كان هذا هو المؤتمر الثالث والعشرون ضمن سلسلة اللقاءات السنوية التي تنظمها الحركة الشيوعية العالمية منذ عام 1998.
صحيح أنَّ هذه اللقاءات لم توحّد الحركة، لكنها خلقت جسوراً للتواصل والتضامن، وأكدت أنَّ الخطر الحقيقي الذي يواجه البشرية اليوم هو عودة النزعة الحربية الإمبريالية، وتزايد احتمال اندلاع صراعٍ نوويّ بين القوى الكبرى.
في هذا السياق، يصبح واجباً على القوى التقدمية أنْ تبني حركة جماهيرية عالمية مناهضة للحرب، تقف في وجه من يحوّلون الأرض إلى ساحة صراعٍ من أجل الأرباح. إنَّ وحدة الحركة العمالية العالمية ليست مجرد شعار رومانسي، بلْ شرط لإنقاذ البشرية من جنون الرأسمالية الإمبريالية.
وفي خضم هذه التحولات، عُقدت عام 1990 في نيويورك ندوة فكرية بعنوان "مستقبل الاشتراكية"، نظّمتها مجلة مونثلي ريفيو الماركسية بإشراف المفكر بول سويزي. كان السؤال المركزي حينها: هل فشلت الماركسية والاشتراكية؟
أجاب سويزي بهدوء وثقة: "لا، لم تفشل الماركسية. إنها ما تزال التفسير الأفضل للواقع، لكنها لم تجد بعد الطريق لتجاوز التحدي." أوضح أن َّالمشكلة ليست في النظرية، بلْ في الظروف التاريخية التي ولدت فيها التجارب الاشتراكية، إذْ قامت في بلدان متخلفة اقتصادياً وفي مناخٍ عالميٍ معادٍ.
وبالفعل، لم يكن سقوط الاتحاد السوفيتي وليد ضعفٍ داخلي فحسب، بلْ نتيجة مؤامرة دولية طويلة، ترافقت مع نهب واسعٍ لممتلكات الدولة واحتياطاتها النقدية. فبينما كانت الشعارات تُرفع باسم "الإصلاح والديمقراطية"، كانت الشركات الغربية تشتري المصانع والمؤسسات العامة بأبخس الأثمان. لقد تحوّل الانتقال من الاشتراكية إلى الرأسمالية إلى واحدة من أضخم عمليات السطو في التاريخ الحديث.
لم تكن الاشتراكية هي التي فشلت، بلْ أُفشلت. لقد كانت محاصَرة منذ ولادتها، تتعرض للحروب، وللحصار، وللدعاية السوداء التي لم تهدأ يوماً. فالمناخ العالمي الذي تحدّث عنه سويزي كان ببساطة: مناخاً معادياً لأي محاولة لتحرير الإنسان من قبضة رأس المال.
لقد ساهمت الرأسمالية العالمية ومعها النخب المحلية الرجعية في نشر الشك والبلبلة داخل المجتمعات الاشتراكية نفسها. استُخدمت وسائل الإعلام والمنظمات "الإنسانية" لتقويض الثقة بالنظام، وترويج فكرة أنَّ الماركسية قد عفا عليها الزمن. وبهذا، حين سقطت التجربة، بدا الأمر للكثيرين وكأنه دليل على فشل الفكرة ذاتها، لا على قوة أعدائها.
ومع ذلك، فإنَّ المنصفين من الاقتصاديين الغربيين يعترفون بأنَّ التجارب الاشتراكية حققت إنجازاتٍ اجتماعية ضخمة: القضاء على البطالة، مجانية التعليم، الرعاية الصحية الشاملة، وتحسين مستويات المعيشة. كانت هناك أخطاء، نعم، خاصة في مجالات التخطيط والإدارة، لكن تلك الأخطاء كانت ثمن تجربة جديدة تحاول أنْ تخلق علماً اقتصادياً جديداً، لم يكن له وجود سابق.
فحين قامت ثورة أكتوبر، لم يكن هناك "علم اقتصاد اشتراكي" جاهز. كان البناء يتم بالتجربة، بالخطأ والصواب، وبمعاناةٍ فكرية وتنظيمية هائلة. احتاجت الجامعات عقوداً لتأسيس أقسام متخصصة في التخطيط الاقتصادي، ولصياغة أدوات علمية لإدارة الاقتصاد الجديد. كان ذلك مغامرة فكرية لم يشهد التاريخ مثيلاً لها.
وفي ختام الندوة، قال بول سويزي ما يزال صالحاً اليوم:
"على الاشتراكيين أنْ يفكروا في مستقبل الرأسمالية وهم يبحثون مستقبل الاشتراكية. فالرأسمالية ربحت الحرب الباردة، لكنها لم تنتصر على أزماتها الداخلية. هي نظامٌ يعيش على الاحتكار، ويغذّي نفسه بالأزمات، ويسير نحو ركودٍ طويل الأمد."
أما البروفيسور مانينغ مارابل، فقد حذّر من أنَّ انهيار الاتحاد السوفيتي مكّن المحافظين في الغرب من فرض هيمنتهم على العالم، وجعل من السهل على الشركات الكبرى نهب ثروات الجنوب. واختفى بذلك التوازن الذي كان يمنح العالم الثالث متنفساً في مواجهة الإمبريالية.
وأضاف مارابل بوضوح:
"الديمقراطية ليست صناديق اقتراع فقط، بلْ نظام اقتصادي يضمن للمحرومين حقهم في العمل والسكن والتعليم والرعاية. الاشتراكية لا تُبنى بمجرد إسقاط السلطة البرجوازية، بلْ بإقامة نظام يحقق العدالة التي من أجلها قامت الثورة."
إنَّ مأساة التجربة الاشتراكية لا تعني نهاية الحلم. فالفكر الماركسي ما يزال أداة حيّة لتحليل الواقع وفهم تناقضاته. وإذا كان القرن العشرون هو قرن الصراع بين الاشتراكية والرأسمالية، فإنَّ القرن الحادي والعشرين قد يكون قرن إعادة اكتشاف الاشتراكية، لا بوصفها عقيدة مغلقة، بلْ كحاجة إنسانية جديدة، تفرضها أزمة الحضارة الرأسمالية ذاتها.
فما بعد انهيار المشروع الاشتراكي، لم تولد نهاية التاريخ كما بشّر فوكوياما، بلْ بدأت مرحلة جديدة من الصراع من أجل المعنى، من أجل الإنسان، من أجل أنْ يبقى على هذا الكوكب مكانٌ للعدالة والأمل.
: لمزيد من الاطلاع يراجع
*- WikipediA- The Free Encyclopedia , Labour and Communist Parties Meeting in Athens , Greece 1998
**- Mike Morris The Future of Socialism Michigan State University,Transformation 14 , 1991
***- Paul Sweezy , The Commetment of Intellectual, Monthly Review , An Independent Socialist Magazine..
#ادم_عربي (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟