أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الثورات والانتفاضات الجماهيرية - محمود الصباغ - ثمة مدزرة هنا :الصورة التي نزفت معناها















المزيد.....

ثمة مدزرة هنا :الصورة التي نزفت معناها


محمود الصباغ
كاتب ومترجم

(Mahmoud Al Sabbagh)


الحوار المتمدن-العدد: 8488 - 2025 / 10 / 7 - 02:51
المحور: الثورات والانتفاضات الجماهيرية
    


يقال أن رجل دين صوفي كتب -في قديم الزمان- على ما سوف يكون قبره بعد موته:
"يقول الرب:
من يبحث عني يجدني
ومن يجدني يعرفني
ومن يعرفني يحبني
‏ومن يحبني؛ أحبه
‏ومن أحبه .. أفنيه "
‏........
أمريكا اللاتينية "مهد الديكتاتوريات العتيقة"، جمهوريات موز وحديقة خلفية للعم سام، خليط شعوبٍ أصلية ومهاجرة (في معظمهم أوروبيين جنوبيين كاثوليك)، زنوج، خلاسيين، رجال أعمال قساة شرهين، كنيسة كاثوليكية صارمة، سماسرة يسيّرون مصالح الشركات الكبرى، ثوار بأحلام رومنسية ....
هكذا كانت فنزويلا في ستينيات القرن الماضي حين كان يحكمها بعض من الأوغاد الذين قال عنهم الرئيس الأمريكي ليندون جونسون: " قد يكونوا أوغاداً، لكنهم أوغادنا نحن".. هنا، في هذه القارة المظلومة، كان يمكن للحقيقة أن تضيع في أدغال الأمازون أو في قمم الأنديز، أو ربما تدفن بعيداً في أرخبيل غالا باكوس. هنا على طرف الأطلسي، حيث أوشك الصيف يرخي معطفه الحار على أرض القارة، انفجر في الأسبوع الأول من حزيران 1962 بركان تمرد في مكان هادئ، ربما لم يسمع به أحد من قبل: القاعدة البحرية في بويرتو كابيللو Puerto Cabello التي تبعد نحو 100 كم عن العاصمة كاراكاس.
في ذلك الحين لم يكن قد مضى عام على الدستور الجديد، ومع ذلك جرت محاولتا انقلاب لإطاحة الحكومة. ففي الثاني من حزيران، وفي عهد رومولو بيتانكور (1908-1981) انطلقت حركة تمرد أطلق عليها اسم البورتينيازو El Porteñazo بقيادة بونتي رودريغز وبيدرو ميدينا سيلفا وفيكتور هوغو موراليس، ولكنه لم يستمر لأكثر من بضعة أيام (6-2 حزيران 1962) خلفت نحو 400 قتيلا و 700 جريح.
في ذلك اليوم هرع مصور صحيفة "لاريبوبليكا" هكتور روندون لوفيرا إلى بويرتو كابيللو فوصلها في اليوم التالي ليشهد دخول الدبابات الحكومية إلى المدينة لسحق المتمردين. لم يهتم لوفيرا للدبابات، كان عليه أن يرسم خطاً آخراً خالداً. خط يتساوق مع سمت رصاصة لم يمنعه أزيزها من تركيز حواسه والاستلقاء أرضاً بحذر الحريص على الحياة ليقدم لنا صورة ستبقى خالدة في ذاكرتنا.
صورة لويس ماريا باديللا، القس الكاثوليكي وهو ينظر نحو قناص )غير ظاهر في الصورة( أثناء محاولته سحب جندي مصاب ( ومثلما هي العادة لم يقولوا لنا اسمه). تظهر ملامح الصورة ووظيفة القس كأنه يحاول تلقين الجندي -الذي يتشبث به- ترتيل الخلاص. لم يفقد القس باديللو إيمانه وسط الاشتباكات. هكذا توحي الصورة لتولد انطباع أنه يتلو صلواته ليسمعها الجندي تعيس الحظ قبل رحلته إلى العالم الآخر.
لعل بعضنا عاش مثل هذه اللحظات المعجونة بالذهول والهذيان ليستفزك، بعدها، جميع أسلحة الغضب، وكلما كلما مر موقف مشابه لكل لحظة شبيهة عشناها .. تقفز كل الصور من الذاكرة لتفق أمامك بعناد وتحد ... هيك يعني، لا إكراه ولا بطيخ.
فإذا كنا محكومين بالمعنى، على حد قول إدوارد سعيد، وإذا كان ما نراه حقيقيةً وليس وهماً، فنحن هنا أمام مقاتل تواجد في المكان الخطأ والتوقيت الخطأ في مواجهة القناص، فكانت الصورة أصدق تعبيراً عن هشاشة الحياة إزاء قسوة الموت .
ما الذي كان يفكر فيه القس في تلك اللحظة؟ كيف كان الجندي ينظر إليه؟ أي خلاص هذا؟ وهل يمحو طقس صلاة النفس الأخير جريمة قتل بسبب حربٍ قد لا يكون للقتيل مصلحة فيها؟
وكيف يمكن للصورة أن تنتج مصفوفتها التفسيرية بطريقة تدعونا لتأمل العلاقة بين الصورة والمعنى؟
الصورة -أي صورة حين تدعي أنها حالة تمثيلية لتنقلنا إلى ما وراء المعنى- لا يمكنها -منفردة- تقديم تفسير للحدث كما هو دون حمولات خارجية. بل هي بالأحرى، بحاجة لتعليقنا نحن ورؤيتنا نحن وتأويلنا نحن، لمواصلة اتساقها السردي وخلودها. وهذا يتطلب قدراً من الاستجابة النفسية منا كمتلقين، بغض النظر عمّن التقط الصورة، أو العلاقة المكانية المنغلقة على عناصرها الأولية (المصور، "الضحية"، المعنى، الإطار، الزمان) وحيزها ( بافتراض أن الحيز يعني "امتلاء" الفضاء بالمعنى). بل يتعلق الأمر -كما أراه هنا- بالمقترح الثقافي- السياسي الذي يتضمنه تأويل المتلقي للصورة لتكتسب شرعية إضافية فـ "الصورة" (ليست ما تراه، بل ما يجرحك ويصيبك بالوخز punctum) كما يقول الأخ رولان بارت
فكم من صورة تصادفنا تعبر عن مشهد واحد، لكنَّ صورة ما بذاتها هي التي تنفرد وتحظى بالأفضلية، وضمن هذه "الاحتفالية" بها (قد تكون متباينة ومن أطراف متناقضة) تأخذ مكانها في الذاكرة (وربما في التاريخ) وتترسب حتى في وعينا, فنقول "الصورة لا تكذب" و "من رأى ليس كمن سمع". ويصبح المشهد موضوعاً أخلاقيا بطريقة ما كتعبير شديد الخصوصية لعدم قدرتنا على الابتعاد عن حالة التخيل، فنقول (دع الصور البشعة "تطاردنا" و "تطاردهم")
لا شك أن للصورة مرجعية، ووظيفة تمثيلية تحاول أن تقنعنا بحقيقتها (نحن في الواقع لا نعلم على وجه الدقة تلك اللحظة التي سبقت الصورة، ولا اللحظة التي تلتها، ولا حتى الشحنة النفسية التي يحملها المصور).
بيد أن الصورة تمثل فرصة -حين نتأملها- للتعرف على الحقيقة وعلى الواقع الذي تمثله، ففي تكثيف (ربما غير مقصود، بل على الأرجح مصادفة لا تقل أهمية عن منظر القس باديللا و الجندي) يظهر في الخلفية مبنى هو في الحقيقة محل جزارة، ليقوم -بدوره- بتقديم معنى إضافي للحرب وللقتل وينتظر تأويل ما يتجاوز القيود المفروضة على تأويل الواقع ذاته حيث تنتج الصورة إطارها الخاص بعيداً عن كون صور الحروب في معظمها ليست سوى "ثيمة" جوهرية للسلطة تتضمن جملة معطيات تحمل وجهة نظرها.
فما هو مكتوب بالإسبانية خلف الجندي والقس (carnicería) لا يعني فقط محل الجزار أو متجر الجزار، بل تنتقل الكلمة (فعلاً وليس مجازاً فقط) في أذهاننا نحو مطارح أخرى لتعبر عن الحقيقة الدموية لأي حرب: مجزرة، مذبحة، أشلاء، لحم، دم... وهذا يقودنا إلى محاولة تقصي البعد البصري المتعلق بأولئك الذين يموتون ولا نعرفهم، ولا أحد يعرف من هم. أولئك الذين يمكن بسهولة أن يخسروا حياتهم خارج أطر التمثيل التي تفرضها القواعد الثقافية والاجتماعية والسياسية وحتى النفسية للحرب .
يقولون في الإسبانية: fue una carnicería بمعنى [ثمة مجزرة هنا]. والمقارنة هنا التي التقطتها عدسة هكتور لوفيرا ترسم الرعب الذي يمثله المشهد الذي لن ينفصل بعد الآن عن خلفيته وإطاره ليبقى يلاحقنا إلى ما هو أبعد من لحظة التقاط الصورة، وإلى ما هو أبعد من استعدادنا للاستجابة الأخلاقية لما هو ضد ترحيل أو تحييد أو محو المشهد الماثل أمامنا. فليس صحيحاً -كما يبدو- أن الصورة لم تعد تغضبنا، بسبب "قصف" الصور الذي بتنا نتعرض له -مثل البراميل والقنابل- على مدار الساعة. فكل جندي يترك ليموت هو "لحم مفروم" على مذبح السلطة، وكل قس يحاول جرّ المصاب نحو الخلاص إنما يجرّه نحو المعنى.
ما زالت الصورة تقدم لنا أفقاً رحباً لفهم التكلفة البشرية الباهظة التي يدفع البعض منا حياتهم ثمناً لها. كما أن بعضها تتناسل كما الأحداث، بمعجزة أحياناً، لأن فيها رسالة تُحتّم عليها الظهور ونكش الوجدان، ولو لم تكن تحمل داخلها مثل هذه الطاقة لما امتلك المصور كل تلك الشجاعة لاتخاذها.
ومازالت الصورة -باعتبارها خطاب يقود إلى تأويل- لديها القدرة على إغضابنا.
بالمناسبة؛ حصلت صورة هكتور روندون لوفيرا على جائزة الصحافة العالمية للعام 1962، وحصلت في العام التالي على جائزة بوليتزر للتصوير الفوتوغرافي واعتبرت صورة العام.
فإذا كان صحيحاً ما يزعمه ألبير كامو بأننا لا نفكر إلا من خلال الصور، فقد ألهمت صورة لوفيرا الفنان الأمريكي نورمان روكويل (1894 – 1978 ) لإنتاج عمله المعروف "جريمة قتل في المسيسيبي"



#محمود_الصباغ (هاشتاغ)       Mahmoud_Al_Sabbagh#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- عن الطوفان وأشياء أخرى(42)
- -الفلسطينزم- والسؤال الأساس للمثقف
- تاجر البندقية: The Merchant of Venice أو سرديات الغنيمة
- ما بعد إيران... أم ما بعد الخطاب؟
- عن الطوفان وأشياء أخرى (41)
- عنتريات السيادة في العصر الإسرائيلي: لبنان المقاطعجي نموذجاً
- عن الطوفان وأشياء أخرى 40
- عن الطوفان وأشياء أخرى (38)
- عن الطوفان وأشياء أخرى (39)
- قراءة في كتاب -المملكة الكتابية المنسية-: حين يغمس إسرائيل ف ...
- عن الطوفان واشياء اخرى (37)
- عن الطوفان واشياء أخرى (35)
- عن الطوفان وأشياء أخرى (35)
- عن الطوفان واشياء أخرى (34)
- الطوق والأسورة: من الرواية إلى السينما... ميلودراما عجزت عن ...
- عن الطوفان وأشياء أخرى (33)
- -مأساة النرجس، ملهاة الفضة-... عن تجربة بنيوية في ذاكرة شخصي ...
- عن الطوفان وأشياء أخرى (32)
- -شقيقات قريش-: قراءة أنثروبولوجية في سرديات العرب الكبرى
- فاضل الربيعي: رثاء بفكرة مؤجلة (إعادة قراءة)


المزيد.....




- رائد فهمي: سقف الإنفاق الانتخابي محدد قانوناً .. ويجري تجاوز ...
- انتصار صحفيو “الوفد”.. درس في التنظيم
- أكبر مظاهرة مؤيدة لفلسطين في تاريخ ألمانيا
- تغطية خاصة: اتفاق تجاري بين الاتحاد الأوروبي والمغرب يشمل ال ...
- بيان حزب النهج الديمقراطي العمالي بوجدة بشأن الاحتجاجات الشب ...
- تنظيمات مغربية تعلن دعمها الكامل للمطالب الاجتماعية والاقتص ...
- حزب التقدم والاشتراكية ينظم جامعته السنوية تحت شعار “ساعة ال ...
- ‎شباب حزب التقدم والاشتراكية يطلقون مبادرة رقمية للتعبير عن ...
- هل تلحق صحيفة -لو باريزيان- الفرنسية بركب اليمين المتطرف؟
- حزب النهج الديمقراطي العمالي يدين بشدة استمرار اختطاف الرفي ...


المزيد.....

- ليبيا 17 فبراير 2011 تحققت ثورة جذرية وبينت أهمية النظرية وا ... / بن حلمي حاليم
- ثورة تشرين / مظاهر ريسان
- كراسات شيوعية (إيطاليا،سبتمبر 1920: وإحتلال المصانع) دائرة ل ... / عبدالرؤوف بطيخ
- ورقة سياسية حول تطورات الوضع السياسي / الحزب الشيوعي السوداني
- كتاب تجربة ثورة ديسمبر ودروسها / تاج السر عثمان
- غاندي عرّاب الثورة السلمية وملهمها: (اللاعنف) ضد العنف منهجا ... / علي أسعد وطفة
- يناير المصري.. والأفق ما بعد الحداثي / محمد دوير
- احتجاجات تشرين 2019 في العراق من منظور المشاركين فيها / فارس كمال نظمي و مازن حاتم
- أكتوبر 1917: مفارقة انتصار -البلشفية القديمة- / دلير زنكنة
- ماهية الوضع الثورى وسماته السياسية - مقالات نظرية -لينين ، ت ... / سعيد العليمى


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الثورات والانتفاضات الجماهيرية - محمود الصباغ - ثمة مدزرة هنا :الصورة التي نزفت معناها