نعمة المهدي
الحوار المتمدن-العدد: 8483 - 2025 / 10 / 2 - 08:14
المحور:
الادب والفن
هناك أشياء صغيرة تفوق حجمها الحقيقي، تختزن في صمتها وجع أجيالٍ كاملة. قد يكون خاتماً في إصبع، أو لعبة مهملة في زاوية، أو صورةً باهتة على جدار. لكنها حين تُفقد، تصير شاهداً على حياةٍ كاملة اختفت. ومن بين هذه الأشياء، يبقى الحذاء الصغير… رمزاً للغياب الذي لا يُملأ، للطفولة التي قُطعت قبل أن تخطو خطواتها الأولى.
عند عتبة بيت قديم في حيّ السيدية، جلست امرأة عجوز، يداها ترتجفان وهي تمسح حذاءً صغيراً باهت اللون. الحذاء لا يساوي شيئاً في عيون المارة، لكنه بالنسبة لها كنز، قطعة من روحها. كل مساء تخرج إليه، تنظفه بقطعة قماش مبللة، وتحادثه بصوت خافت:
– "ها قد عدتُ يا علي… نظّفت حذاءك من غبار النهار، غداً سترتديه وتلعب في الزقاق، لا تتأخر يا حبيبي."
الجيران يمرّون صامتين. بعضهم يشيح بوجهه، وبعضهم يطيل النظر بحزنٍ عابر. الأطفال يتهامسون: ما سرّ هذا الحذاء؟ لم يعرف أحد القصة كاملة… سوى هي.
ومن هناك، تبدأ الحكاية.
كان علي، الطفل الوحيد بين ثلاث بنات، مدلّل العائلة، ضحكته تملأ البيت، وركضه يدوّي في الممرات. كل شيء كان يُصنع له: ألعابه، طعامه، حتى دموعه الصغيرة تُعامل كأوامر. أخته ليلى كانت تناديه "ابن أمّه وأبيه"، وهو يفتخر بهذا اللقب، يظن أن العالم كله له، وأن البيت لا يتنفس إلا به.
لكن بغداد في تلك السنوات لم تكن مدينة للضحك. أصوات الانفجارات صارت جزءاً من النهار، وصفير الرصاص موسيقى ليلية لا تنقطع. الطرقات تُغلق فجأة، والأحياء تُفتّش بلا رحمة. والناس يمشون وعلى وجوههم ظل خوفٍ دائم.
في ظهيرة خانقة، كانت الشمس تضرب الأرض بقسوة. علي وقف عند الباب، يضرب كرته الصغيرة بالأرض ثم يلتقطها. بعيداً عنه، رتل عسكري أمريكي توقّف عند مدخل الشارع، الجنود يترجلون، وجوههم غريبة لا تعرف المكان ولا أهله. علي لم يفهم شيئاً، عيناه بقيتا تتبعان أصواتهم وضجيج محركاتهم.
ثم خرجت سيارة من زقاق ضيق بسرعة غير مألوفة. لحظة خاطفة، وميض أبيض، صرخة مكتومة، والأرض ترتجف. سقطت الجدران من حوله، وتناثر الغبار في الهواء. وعندما انقشع الدخان، لم يبقَ من علي سوى حذاء صغير، مرمياً عند العتبة. انسحب الرتل كما جاء، لم يُصب جندي واحد. وحده البيت هو الذي تهدّم من الداخل.
منذ ذلك اليوم، صار للحذاء مكانه الدائم. الأم جلست قربه كل مساء، تنظفه وتكلمه:
– "علي، هل تسمعني؟ اليوم جاء أولاد الجيران من المدرسة، بحثتُ عنك بينهم ولم أرك. أيعقل أن تغيب كل هذا الوقت؟"
– "علي، رائحتك غابت، لم يبقَ إلا الغبار. كيف لي أن أحتضن الغبار؟"
الأب لم يشاركها طقوسها. كان يمرّ صامتاً، ينكس رأسه، يشعل سيجارة، ويجلس في الظل. لم يعد يطيق النظر في عينيها ولا في ذلك الحذاء. صار يمشي ليلاً في الأزقة المظلمة حتى الفجر. في إحدى المرات رأت ليلى دموعه على خده، وهو يظن أن الجميع نيام.
الزمن مضى، والحي تغيّر. بيوت تهدمت، وجوه رحلت، وجيران جدد سكنوا البيوت. كانوا يسألون: ما قصة الحذاء عند هذا الباب؟ فيجيب القدامى: "ابنهم… استشهد." لكن أحداً لم يكن يعرف أن الأم لا تزال تنتظر، تنظفه كأن علي سيعود غداً ليرتديه.
كبرت البنات، تزوجت ليلى ورحلت، وأخواتها شغلهن المستقبل. لكن كل واحدة كانت تحمل جرحاً خفياً اسمه "الحذاء". وفي ليالٍ قليلة حين يرتفع صوت الحديث في البيت، يكفي أن ترفع الأم نظرها نحو العتبة، حتى يسكت الجميع.
– "أخواتك كبرن يا علي، تركن البيت، بقيتُ معك وحدك. أليس هذا يكفيني؟"
مرّت السنوات، صار الحذاء أغمق لوناً من الغبار، لكن الأم لم تعترف أنه بَالٍ. كانت تقول: "الأحذية لا تشيخ، فقط نحن من نشيخ."
وفي إحدى الذكرى السنوية لموته، أقام الأب مجلس فاتحة صغير. جلس الرجال في الغرفة، قرأ الشيخ سورة يس، وبكت النساء بحرقة. أما الأم فقد وضعت الحذاء أمامها على وسادة صغيرة، كأنه ضيف شرف لم يغادر. وبعد أن انفض المجلس، همست:
– "رأيتَ يا علي؟ جاؤوا وقرأوا لك الفاتحة، لكنني الوحيدة التي ما زلت أنتظرك."
الحرب لم تهدأ. كل يوم جنازة جديدة في الحي، كل يوم بكاء جديد. وفي كل مرة تقول الأم بهدوء:
– "على الأقل نحن عندنا ذكرى… غيرنا لم يبقَ له حتى حذاء."
مرت عشر سنوات. الأم شاخت فجأة، يداها صارت ترتجفان وهي تمسح الحذاء. الناس تعودوا على المشهد: امرأة عجوز، أمامها حذاء طفل، تحادثه في صمت. الأطفال يخافون أن يلمسوه، النساء يشيحن بوجوههن، والرجال يكتفون بهزّ رؤوسهم.
ثم جاء يوم رحل الأب. مات بهدوء في ليلة شتاء باردة. جلست الأم تبكي قربه، ثم حملت الحذاء وحاولت أن تضعه في كفنه، لكن إخوتها منعوها. أعادته إلى العتبة، وقالت:
– "لا عليك يا علي، سيبقى معك هنا."
وبعد سنوات قليلة، تبعته الأم إلى التراب. البنات عدن ليفرغن البيت استعداداً لبيعه. جمعن الأثاث، الصور، الكتب، الذكريات. وعند العتبة وجدوا الحذاء مكانه، مغطى بغبار السنين.
ترددت ليلى طويلاً، ثم التقطته بين يديها. كان أثقل مما توقعت. كأنه يحمل كل الصمت، كل الدموع، كل الحكاية. ضمّته إلى صدرها وقالت بصوت مرتجف:
– "لن نتركه هنا… هذا ليس حذاءً، هذا روح."
لكنها لم تقرر شيئاً. هل ستأخذه معها لتحفظه أمانة أبدية؟ أم تتركه مكانه ليظل شاهداً عند العتبة؟ أم تدفنه مع أمها وأبيها ليرتاح أخيراً؟ لم تجب.
وبقي السؤال مفتوحاً. الحذاء لم يعد حذاء علي وحده، بل صار رمزاً لكل الأطفال الذين ابتلعتهم الحروب، ولم تترك خلفهم سوى أشياء صغيرة، أشياء أبسط من أن تحكي، لكنها أصدق من كل الكلمات.
وفي ذاكرة الحي، ظلّت الحكاية تُروى: عند تلك العتبة، كان هناك حذاء صغير… وكل من مرّ به، سمع فيه وجع أمة كاملة.
#نعمة_المهدي (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟