أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نعمة المهدي - صوت المطر على المظلة المعدنية














المزيد.....

صوت المطر على المظلة المعدنية


نعمة المهدي

الحوار المتمدن-العدد: 8480 - 2025 / 9 / 29 - 09:52
المحور: الادب والفن
    


حكاية عن العجز والانتظار

حين يسقط المطر على المظلة المعدنية في بغداد، لا يكتفي بغسل الشوارع من غبارها، بل يطرق الأرواح كما يطرق الأبواب الموصدة. بعضهم يسمعه ترنيمة لبداية جديدة، وآخرون يسمعونه كجرس يعلن انتهاء الوقت. أمّا أبو حسن، فقد كان يسمعه كاعتراف مؤجَّل، كصوت يذكّره بأن الحياة مرّت من بين يديه دون أن يمدّها لأحد.

في حيّ شعبي قريب من الكرادة، يعيش أبو حسن، موظف متقاعد من السكك الحديد. يقضي نهاره جالسًا أمام باب بيته، يعدّ خطوات المارة، ويتذكّر صفير القطارات التي كانت تشقّ الليل كنبض للحياة. زوجته مريضة منذ سنوات، وأولاده انشغلوا بأيامهم الخاصة. لم يبقَ له سوى صديقه القديم أبو قاسم، يزوره أحيانًا ليسترجعا وجوهًا غابت وأصواتًا خبت. لكن في أعماقه كان يشعر أن العمر انسلَّ سريعًا، وأن ما تبقّى ليس سوى انتظار طويل، كظلّ ممدود على رصيف مبلّل.
في يومٍ ماطر، طرق بابَه شاب من الحي، عاطل عن العمل. قال بخجل:
ـ عمي، ما تعرف واسطة أشتغل بيها؟
حدّق أبو حسن في عينيه طويلاً، ورأى نفسه هناك: شابًا يركض خلف أبواب موصدة. أراد أن يمدّ له يدًا، أن يمنحه بصيص أمل، لكنه لم يجد غير جملة باردة:
ـ الأيام صعبة يا ولدي… اصبر.
مضى الشاب بخيبة، وبقي أبو حسن مضطربًا: هل عشتُ عمري كله بلا جدوى؟ هل كنتُ سوى ورقة ذابلة على رصيف مهجور؟
في تلك الليلة، كان المطر يتساقط مثل أنغام حزينة على المظلة المعدنية. ومن نافذته لمح كرار يقف في زاوية الدرب، عينيه معلقتان بالفراغ. دقائق وظهرت ليلى، ابنة الجيران، تحمل كتب الجامعة تحت عباءتها. تبادلا نظرات خاطفة، وابتسامة خجولة، ثم تفرقا سريعًا قبل أن يلتقطهما فضول العيون. تذكّر أبو حسن أيامه الأولى مع زوجته، وكيف كان يخبئ رسائل صغيرة في كتبها، وكيف كان المطر آنذاك وعدًا لا خيبة. ابتسم للحظة، لكن ابتسامته انكسرت: الحياة تمنح الآخرين بدايات جديدة، وأنا لم أعد سوى متفرّج عجوز على مسرح مزدحم بالشباب.
في إحدى الليالي، عاد ابنه حسن متجهّم الوجه، تتبعه زوجته الشابة وهي ترمي كلمات غاضبة. ارتفعت الأصوات، واهتزّ البيت الصغير كأن المطر الذي يطرق المظلة صار يطرق القلوب.
قالت زوجة حسن بحدة:
ـ ما تعبت من وعودك الفارغة؟ كل يوم تكول باجر نتحسن، وباجر ما يجي أبد!
أجابها حسن بصوت غاضب:
ـ وأني شسوي؟ أشتغل ليل ونهار وراتبي ما يكفي… تريدين أجيب فلوس من الهوا؟
ردت وهي ترتجف من الغضب:
ـ البيوت مو بس أكل وشرب، نحتاج نعيش بكرامة، نحتاج نربي أولادنا بسلام، مو كل يوم مشاكل!
فضرب حسن الطاولة بيده وقال:
ـ إذا مو عاجبج، الباب يوسع جمل…!
صرخت زوجته بصوت متهدج:
ـ إي… وأولادك؟ خليهم يشردون وياي بالشارع؟

جلس أبو حسن في زاويته، يمسك بعصاه. أراد أن يتكلم، أن يقول كلمة واحدة توقف النزاع، لكن صوته اختنق في حلقه. ضرب بعصاه الأرض مرة واحدة، ثم صمت. لم يلتفت إليه أحد. شعر أن بيته نفسه صار مرآة لعجزه، وأن وجوده لا يتجاوز كونه ظلًّا في غرفة مكتظة بالضجيج.

في مساء آخر، تناهى إلى سمعه شجار من بيت الجيران: صراخ امرأة، وبكاء أطفال. حاول أن ينهض، لكن جسده أثقلته السنوات. جلس خلف النافذة، يراقب الضوء المرتجف المنبعث من هناك. شعر أن صمته خيانة، وأن المطر الذي يقرع المظلة كأنه مطرقة تدينه. تذكّر أحلامه القديمة: أن يكون سندًا للناس، صوتًا ضد الظلم. لكنه اكتشف أنه صار ظلًّا، عاجزًا حتى عن كلمة.

مع طلوع الفجر، وجدوه جالسًا في مكانه المعتاد، مطرق الرأس، وعيناه معلّقتان في الفراغ. لم يمت بعد، لكنه بدا وكأنه غادر العالم من الداخل. سأله أبو قاسم عن حاله، فأجاب بصوت مبحوح:
ـ يا صديقي… ليست المشكلة في الفقر ولا في المرض. المشكلة أننا نمضي العمر كله ننتظر أن نصبح شيئًا، ثم نكتشف متأخرين أننا لم نكن سوى متفرجين.
غادر أبو قاسم وهو يردّد كلماته، بينما بقي المطر يتساقط، يعزف على مظلات بغداد تلك المقطوعة الحزينة: أن الإنسان، في نهاية المطاف، لا يُقاس بما يملك، بل بما يجرؤ على فعله حين يحتاجه الآخرون.



#نعمة_المهدي (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- السماء المفتوحة
- غروب في المقبرة
- مذكّرات قائد فرقة عسكرية / ١
- أنابيب ضائعة
- دم الشهيد بين المكاتب
- تأملات راحل
- الجامعة وجرح لا يندمل
- بين البندقية والباسون
- ذكريات لا تُنسى / ٣
- ذكريات لا تنسى / ١
- ذكريات لا تُنسى / ٢
- ذكريات لا تموت
- الزانية
- حين صار الحزن انا
- انتظر .... عسى الله يفرجها
- ابتسامة على دفتر الدَّين
- نزف الغياب
- ظلّ البطاقة
- لقاء الأرواح
- أبنة السجان


المزيد.....




- تجربة الشاعر الراحل عقيل علي على طاولة إتحاد أدباء ذي قار
- عزف الموسيقى في سن متأخرة يعزز صحة الدماغ
- درويش والشعر العربي ما بعد الرحيل
- -غزة صوت الحياة والموت-.. وثيقة سينمائية من قلب الكارثة
- -غزة صوت الحياة والموت-.. وثيقة سينمائية من قلب الكارثة
- بائع الصحف الباريسي علي أكبر.. صفحة أخيرة من زمن المناداة عل ...
- لماذا انتظر محافظون على -تيك توك- تحقق نبوءة -الاختطاف- قبل ...
- فاضل العزاوي: ستون عامًا من الإبداع في الشعر والرواية
- موسم أصيلة الثقافي 46 يقدم شهادات للتاريخ ووفاء لـ -رجل الدو ...
- وزير الاقتصاد السعودي: كل دولار يستثمر في الثقافة يحقق عائدا ...


المزيد.....

- سميحة أيوب وإشكالية التمثيل بين لعامية والفصحي / أبو الحسن سلام
- الرملة 4000 / رانية مرجية
- هبنّقة / كمال التاغوتي
- يوميات رجل متشائل رواية شعرية مكثفة. الجزء الثالث 2025 / السيد حافظ
- للجرح شكل الوتر / د. خالد زغريت
- الثريا في ليالينا نائمة / د. خالد زغريت
- حوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الأول / السيد حافظ
- يوميات رجل غير مهزوم. عما يشبه الشعر / السيد حافظ
- نقوش على الجدار الحزين / مأمون أحمد مصطفى زيدان
- مسرحة التراث في التجارب المسرحية العربية - قراءة في مسرح الس ... / ريمة بن عيسى


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نعمة المهدي - صوت المطر على المظلة المعدنية