أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - محمد علي محيي الدين - سعد الشريفي شاعر الغربة والجمرات















المزيد.....

سعد الشريفي شاعر الغربة والجمرات


محمد علي محيي الدين
كاتب وباحث


الحوار المتمدن-العدد: 8479 - 2025 / 9 / 28 - 15:12
المحور: سيرة ذاتية
    


في الهاشمية، هناك حيث النخيل يهمس بأحزان الفرات، وحيث الطفولة تمضي بين دروب القصب وملامح الشجن، وُلد سعد مجيد عباس الشريفي عام 1945، في بيتٍ له مكانته وعلوّ مقامه بين بيوت العلم والوجاهة. وفي حضن هذه البيئة النابهة، أطلّ طفل يقرأ أكثر مما يلعب، ويصغي أكثر مما يثرثر. كان صغيرًا بجسده، كبيرًا بأحلامه، وكانت الكتب أولى معالم الطريق الذي اختاره لنفسه دون أن يُملى عليه، فراح ينهل من منابع الفكر والمعرفة، حتى أورق في داخله شاعر لا ينام.
لم يكن سعد الشريفي شاعرًا تقليديًا؛ لم يكن مجرد ناظم للقوافي أو صائغًا للغزل، بل كان شاعرًا يُلقي قلبه في قصيدته كما يُلقى حجرٌ في بركةٍ راكدة، يبعثر السكون ويهزّ السطح حتى الأعماق. وحين هزّته الرياح السياسية التي عصفت ببلاده، لم يكن من أولئك الذين يتوارون خلف جدران الحياد، بل انحاز منذ شبابه المبكر للعدالة الاجتماعية، وانتمى للحزب الشيوعي العراقي، مجسدًا شعريًا وفعليًا طموحات الفلاحين والعمال والفقراء.
في عام 1966، بعد خروجه من أحد التوقيفات، كتب سعد الشريفي أولى قصائده الغزلية، وسلّمها لمقدم برنامج الشعر الشعبي "أبو ضاري". يقول: "وحينها كان الشاعر عريان السيد خلف قد سبقني وكان جالسًا لنفس الغرض، وقد أُذيعت القصيدة من دار الإذاعة العراقية، ولا أتذكر منها شيئا الآن."
ومنذ تلك اللحظة، بدأ نهر القصيدة يجري، رغم أن الكثير منه جفّ قبل أن يصل. فقد أُحرقت أغلب قصائده المكتوبة في سبعينيات القرن الماضي، عندما أضرمت زوجته النار بمكتبته خوفًا عليه من ملاحقة السلطة. ومع ذلك، نجا بعضٌ منها، وبقي ينبض في ذاكرته وذاكرة أصدقائه، كقصيدة "أندهك" التي كتبها عام 1973، وقصيدة "إلى نصير" التي كتبها عام 1984 في جبال كردستان، وقطعٍ أخرى كُتبت في منفى سوريا، تحمل حنينًا شفيفًا لوطن لم ينسه.
وكان للشريفي حضور لافت في مهرجانات الشعر الشعبي، لكنه لم يلبس يوماً قفاز المجاملة. في مهرجان بابل القطري عام 1972، ارتقى المنصة متحديًا، وقال بصوت ملؤه النار والجرح:
السجن إلي مفخرة والقيد إلي خلخال
والمشنقة يا خلق مرجوحة الأبطال
عبارة لا تنتمي فقط إلى القصيدة بل إلى قدر الشاعر وسيرته، إذ لم يعرف غير المواجهة، حتى حين قررت السلطة أن تنفيه من الحياة العامة. صودرت أمواله، هُدّد، طورد، فهرب إلى جبال كردستان، وهناك التحق بقوات الأنصار الشيوعيين، حاملاً بندقيته بيد، وشِعره باليد الأخرى. ومن هناك، عبر إلى سوريا، ثم إلى هولندا حيث أقام منفاه الطويل.
لكن المنفى لم يُطفئ جذوة الشعر. بل كانت الغربة جمرًا آخرَ صقله وأوقده. كتب، وغنّى للوطن، وناجى بغداد التي لم تفارق روحه. قالها في إحدى قصائده التي لحنها كمال السيّد:
مجبور أفارگ هلي وأبقه العمر أشتاگ
وفي منفى الغربة، لم يغرق سعد الشريفي في الانعزال، بل كان وجهًا مألوفًا في أمسيات الجالية العراقية، مشاركًا في مهرجانات الرقة ودمشق، ناشرًا قصائده في صحف المعارضة، ومحتفيًا بالأمل ولو من بين ركام الحنين.
أصدر ديوانه الأول "حبيناك" عام 1992، وهو ديوان مطبوع خارج الوطن، وأعدّ مجموعة شعرية أخرى نشرت قبل رحيله بعام. عاد إلى العراق بعد سقوط النظام، لكنه فوجئ أن البلاد التي حلم بها لم تعد كما كانت في رؤياه. حاول العودة إلى وظيفته، لكنّ أذرع البعث التي تغلغلت في عراق ما بعد السقوط حالت دون ذلك. فعاد إلى منفاه مجددًا، هذه المرة لا هاربًا بل مُنكسرًا. وحين عاد زائرًا، لم يجد غير الجحود من بلدٍ احتضن سياسيي الصدفة، وركل أبناءه الحقيقيين.
كتب عنه الشاعر كاظم سيد علي قائلًا: "من بين تلك البيوت الغافية على الفرات... بزغ ذلك الوجه الأسمر سعد الشريفي بنقاء وعفوية يكتب الشعر الشعبي والفصيح معًا، مستمدًا من المعاناة السياسية والاجتماعية وعذابات تلك السنين...".
كان سعد الشريفي عاشقًا للحياة، للحرية، للناس البسطاء. حمل الوطن في قلبه كما يحمل اليتيم صورة أمه. وناجاه حتى الرمق الأخير، لم يهادن، لم يساوم، ولم يزِغ عن خط الشرف الشعري والسياسي الذي رسمه لنفسه منذ أول قصيدة. كان شاعرًا لا يكتب للحاكم، بل ينظم للمغيبين، للمنفيين، للمحزونين، للذين "ما ظل بيهم بَت" كما كتب:
شعندك تناشد عالخبر؟
وشعندك وي الشربت؟
سنتين أوصي وما نفع
وگليبي ما ظل بيه بت
في ليل العاشر من شباط 2024، رحل سعد الشريفي بحادث سير مؤسف. لكنه لم يغب. فالشعراء لا يُدفنون، بل يذهبون ليستريحوا قليلًا، ثم يعودون في صوت غريب، أو بيت شعر، أو ومضة دمعة من عراقي سمع قصيدة وقال: هذا يشبهني.
سلامٌ عليك يا سعد، يا ابن الهاشمية، يا من جعل من الشعر وطنًا، ومن القصيدة سلاحًا، ومن المنفى مأوىً لكرامة لم تُهزم.
من شعره:
مشه طولي يحلو الطول وياك وعلى ضيم السنــــين العين بالعين
التعب كلما كثر اتباهه بهـواك واصبر الصبر بيه وصبرك اسنين
تعلمنه المحنه ابطيب ملــگاك يبو حلو الغـــناوي وصوت تلحين
يوازيني العمر بالشــيب وتناك مثل كــــل اليتــاني اشتاله بالطين
حبيب وانه ادري الناس تلـگاك شمـــس بعــناد كلمن رادك اتغيب
يلاحباب اشكثر رادونه افراگ يظــل ما بينـــي وما بيـــنكم طيب
وفي قصيدة أخرى كتبها قبل هجرته يقول:
مشه طولي يحلو الطول وياك وعلى ضـيم السنين العــين بالعين
التعب كلما كثر اتباهه بهـواك واصبر الصبربيه وصبرك أسنين
تعلمنه المحنه ابطيب ملگــاك يبو حلـو الغناوي وصوت تلحــين
يوازيني العمـر بالشيب وتناك مثل كــل اليتاني اشــــتاله بالطين
حبيب وانه ادري الناس تلگاك شمس بعـــناد كلمــن رادك أتغيب
يلاحباب اشكثر رادونه افراگ يظــــل مابيني ومابينكم طيــــب
وفي رد على قصيدة "المكير "للشاعر الراحل زامل سعيد فتاح يقول في قصيدته "بعد عگبيش" نقتطف منها هذا المقطع:
بعد عگبيش ماشي وياه للمگير اودعــنه
مشاحيف العشگ چلت شلك بالدنيه تتمنه
شلك بمعاتب الوادم گطيع المـــاي أشوفنه
أظنك ما حسبت أحساب خزر أعيونك الحلوات ياذنه
وردلي وعطب جروحك بعطب دخــــان وتعنه
يتراوالي عشــــگكم مـــات والمـــات شيطيبنه
وعليمن چا تعت بالريل گبلك عتني وضلوعي شهگت منه
ولك گلبي ثجيل أسنين بالونه
ولك گبلك سواد عيوني زتنه
وجزاني يعلعل بروحي وما مش حيل أسمعنه
يتبـــاهه بفراگيــنه يهـــز بعضــاي أهـــيسنه
قريت أچفوفي.. يردنه
وأدگن وشيفيد الدگ خرز طشيت أريدنه
وقصيدته "غياب الورد "كتبها في المنفى يقول فيها:
ورده مرْ بيها النسيم... فزز الغافي بگَلبها
ولعيونه كل الليل.. كل الليل سهرت
نزل فوگ الروح نجمه واختلف عدها الحنين وما غفت
بلبل أبيض غنّه نايل كَعد البستان والخلان ..وعيونه على ألورده بچت
***



#محمد_علي_محيي_الدين (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- جبر داكي شاعر غنّى للحياة حتى رحيله
- جابر القاري صوت السدة الذي ذاب في الحسين
- كريم النور... شاعر الطين والنخوة والكرامة العالية
- رياض أبو شبع شاعر الغربة والتمرد النبيل
- صباح العسكري: الشاعر الذي أضحك القمر وبكى العراق
- راسم الخطاط شاعر الومضة ومهندس القصيدة
- الراحل كاظم الرويعي بين الأغنية الملتزمة والاغتراب الموجع
- شاكر ميم.. شاعر الغفوة والابتسامة العابرة
- عبد الستار شعابث شجرة الشعر التي نبتت على ضفاف الحلة
- الناقد والقاص سلام حربة صوتٌ نقدي وقلمٌ سردي في المشهد الثقا ...
- حامد كعيد الجبوري شاعرٌ خرج من رحم الحلة ومضى ليكتب للوطن وا ...
- علي السباك الكاتب الذي جعل من الحلة سطرًا أول في دفتر الحكاي ...
- عماد الطالباني طبيب الحرف وروح الباحث
- الباحث محمد هادي رحلة في آفاق البحث والتأليف
- الشاعر إبراهيم الشيخ حسون صائغُ الحرف الشعبي ومغني الروح الح ...
- عبد الأمير خليل مراد شاعر يُمسك بجمر القصيدة ويشعل بها خيمة ...
- مهدي المعموري ضفاف الحرف ومرافئ الذاكرة
- الدكتور عدنان العوادي حكمة الأكاديمي وروح الأديب
- ليلى عبد الأمير حين تتكئ القصيدة على ريشة وتكتب قلبًا
- حسين مبدر الأعرجي: القاص الذي كتب بمداد الذاكرة والمكان


المزيد.....




- حين يتحول الحق إلى جريمة: بين الدستور والهراوات أي مغرب نريد ...
- عقوبات أوروبية جديدة على إيران وطهران تلوّح بتشريع مضاد
- مؤتمر الحزب الوطني التاسع ينجز أعماله تحت شعار “نحو الإرتقاء ...
- فرنسا: ساركوزي يؤكد أنه لا ينتظر -إطلاقا- العفو الرئاسي عنه ...
- ضريبة الثروة بفرنسا: الشركات المملوكة للعائلات الثرية تدخل ع ...
- قبيل مؤتمر أممي بشأن أوضاعهم.. أمنستي تحذر: إعادة الروهينغا ...
- تايمز: الناتو يتدرب على مواجهة بحرية مفترضة ضد روسيا
- بداية جديدة في علاقة ترامب وأردوغان
- تحديات كبيرة تواجه عودة الدراسة في اليمن
- صفقة تيك توك.. الأثرياء يواصلون الاستحواذ على الإعلام


المزيد.....

- أعلام شيوعية فلسطينية(جبرا نقولا)استراتيجية تروتسكية لفلسطين ... / عبدالرؤوف بطيخ
- كتاب طمى الاتبراوى محطات في دروب الحياة / تاج السر عثمان
- سيرة القيد والقلم / نبهان خريشة
- سيرة الضوء... صفحات من حياة الشيخ خطاب صالح الضامن / خطاب عمران الضامن
- على أطلال جيلنا - وأيام كانت معهم / سعيد العليمى
- الجاسوسية بنكهة مغربية / جدو جبريل
- رواية سيدي قنصل بابل / نبيل نوري لگزار موحان
- الناس في صعيد مصر: ذكريات الطفولة / أيمن زهري
- يوميات الحرب والحب والخوف / حسين علي الحمداني
- ادمان السياسة - سيرة من القومية للماركسية للديمقراطية / جورج كتن


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - محمد علي محيي الدين - سعد الشريفي شاعر الغربة والجمرات