أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - محمد علي محيي الدين - جبر داكي شاعر غنّى للحياة حتى رحيله















المزيد.....

جبر داكي شاعر غنّى للحياة حتى رحيله


محمد علي محيي الدين
كاتب وباحث


الحوار المتمدن-العدد: 8478 - 2025 / 9 / 27 - 20:15
المحور: سيرة ذاتية
    


في قلب مدينة الحلة، حيث تتعانق ضفاف الفرات بعطر النخيل، وُلد الشاعر جبر داگي حسون الربيعي عام 1950 في محلة الجامعين. ومنذ طفولته، كان ابنًا للضوء والماء، يحمل في روحه نغمة الشعر، وفي قلبه شغف الحكاية.
أكمل دراسته الأولية في الحلة، ثم انتقل إلى بغداد ليلتحق بمعهد المعلمين المركزي في الأعظمية. وهناك بدأت ملامح شاعريته تتفتح كما تتفتح زهرة برية في مهبّ ريح الجنوب. عرفه زملاؤه صوتًا عذبًا وذاكرة تحتضن الشعر كأمّ تحتضن رضيعها. كانت حقيبته المليئة كل سبت لا تحمل طعامًا فحسب، بل أحلامًا وأمنيات، إذ كان يتوجه إلى بغداد للدراسة ويسكن قرب كلية الهندسة بباب المعظم، في شقة تحوّلت إلى ملتقى أدبيّ ضجّ بالشعراء والأصدقاء، من أبرزهم الشاعر كريم العراقي، زميله في المعهد.
كان جبر داگي مولعًا بالشعر، لا يفرّق بين فصيحه وشعبيّه، قرأ ما وقعت عليه يداه ونهل من ينابيعه حتى أجاد قرضه، فاحتفت به الصحف، ووجد في المهرجانات منابر تليق بصوته، لا سيّما مهرجان الشعر الشعبي في قاعة نقابة الفنانين بالحلة، حيث تألّق بين عمالقة الشعر الشعبي ككاظم الركابي وناظم السماوي وذياب كزار وعلي الشباني، وكان أصغرهم سنًا وأشدّهم تألّقًا.
اعتلى المنصة كمن يعتلي صهوة المجد، فغصّت القاعة بالتصفيق وهو يلقي قصيدته بصوت جهوري أخّاذ، متجاوزًا رهبة الحضور وجلال المناسبة. ومنذ تلك اللحظة وُلد الشاعر في أذهان من سمعه، واختُزن في ذاكرة الشعر العراقي كأحد الأصوات التي لا تُنسى.
امتد حضوره إلى "ندوة عشتار" فكان من أوائل المساهمين في نشاطاتها، رفيقًا لأدباء جيله، يسهر معهم، ويغني في ليالي السمر إلى جانب عبد الجبار عباس، وحامد الهيتي، وشاكر نصيف، وكريم النور، وآخرين من رفاق القصيدة والزمن الذين تبعثرت أحلامهم بين المنافي والمقابر بسبب الانتماء اليساري وما جرّه من ملاحقة وتغييب.
في مهنته كان معلمًا من طراز نادر، لا يعلّم بقدر ما يُغني للعلم، محوّلًا جفاف الدروس إلى أناشيد تترنّم بها أفواه التلاميذ. كانت الحروف تتراقص في صوته فتستقر في عقول طلابه وتخترق وجدانهم.
وإلى جانب الشعر، كتب القصة، ونُشرت أقاصيصه في الصحف المحلية. لكن نتاجه الأدبي ظل مبعثرًا لم يُجمع في كتاب، فطواه النسيان بين أوراق متفرقة وصفحات صفراء. ومع قِصر حياته، كانت عامرة بالشعر والمحبة والصوت فقد كان يغني قصائده في جلسات الاصدقاء بصوته العذب وأدائه الجميل.
في إحدى أمسياته التي خُصّصت له، وقف يغني ويتهكم ويهجو، مرتجلاً ومبتهجًا، ومن بين ما غنّاه:
انعل ابو السلطان لابوا لباشه
خذلك أبنيه من بنات الأسكان العين ساعه والحواجب رمان
خذلك أبنيه من بنات الشاوي العين ساعه والعـــيون أداوي
خذلك أبنيه من بنات الجامعين تتغنج أبخفه وتهز النهدين
خذلك ابنيه من بنات الثوره
وحين نفدت المقبلات من طاولته، التفت إلى صديقه كرم قائلًا بلحن شجي:
يا كــرم .... للحـــزب عـــوفه
وأترك الحله وأسكن الكوفه
بالأمن ساهر للبــسط حاضر
حزبك الساير بالعقل شوفه
هكذا كان جبر، شاعرًا يعيش الشعر حتى في المزاح، غيورًا على أصدقائه، حاضر النكتة، متوقد الذكاء، وفيًا لمن حوله، محبًا للحياة.
وعندما اجبر صديقه الشاعر الشهيد شاكر نصيف على المشاركة في الحشد الشعبي في قاطع الأهوار قال ساخرا منه:
أفرح يگلبي وكيف أخذوه لأبن أنصيف
حلوه وجميله البـــدله وتلوگ لأبو گذله
وفرحانه كل الحله بالهور خله أيصيف
الرحيل الشاعري
في قاطع ميسان عام 1982، سقطت قذيفة على ناقلتهم فتناثرت أجسادهم، ورحل جبر كما يليق بالشعراء. كان في الخطوط الخلفية حين مازحه أحدهم بأن يستشهد، فردّ ضاحكًا: "أنا في الخطوط الخلفية"، ولم يدرك أن الموت بانتظاره.
أمّه التي أحبّته حبًا يفوق الوصف، لم تحتمل الفقد، فرمت بنفسها من سطح المنزل فور سماع نبأ استشهاده، ثم لحقت به بعد أربعين يومًا، كأنها لم تُرِد أن يظل وحيدًا في قبره.
تقول أخته إنها كانت تراه في المنام يناديها: "أخرجوني من القبر". وحين قرروا فتح القبر ونقل الجثمان، وُجد الكفن كما هو، والجسد لم تقربه دابة، كأن الأرض حفظته كما يحفظ التراب القصائد.
ترك وراءه طفلة تُدعى "سجى"، ورثت منه ملامحه الأدبية وسماته النقية: صدق الكلمة، وضحكته البريئة، ووفاءه لمن حوله. واليوم تتغنى بشعره، وتغزل من ذكراه عطرًا لا يفنى.
أما صديقه ورفيق دربه، الأستاذ طه فرحان الربيعي، فكتب عنه كلمات تفيض بالحنين، وصفه فيها بأنه "الإنسان الذي جمع القرابة والصداقة والصدق في آن"، مؤكّدًا أن طيفه لا يزال يلازمه، وأنه من الأرواح التي لا تموت في الذاكرة.
الغياب الذي لا يُعوّض
للأسف، ورغم البحث المتواصل، لم يُعثر على أي قصيدة أو مقطوعة تحمل توقيعه. وحتى المتبقّي من عائلته لم يحتفظوا بشيء من إرثه الأدبي، فكأنّ شعره قد طواه النسيان. جرى الحديث عن لقاء أجراه معه الناقد عبد الجبار عباس نُشر في جريدة الراصد وتضمّن آراء مهمة، لكنه لم يصل إلينا.
وتذكّره الشاعر مجيد الحلي في رثائه لصديقه حامد الهيتي، مشيرًا إلى جلسة غنائية أحياها جبر داگي مرددًا:
بستان الحلو هب الهوى وطاب
وكعدنه أنه وجليل أمره والأحباب
وفي قصيدة إهدائية طويلة، خصّه الشاعر حامد كعيد الجبوري بتحية وفاء في ديوانه البخيت، قائلًا:
يا الشايل همومك والفرح خنياب
عرفتك بالزغر، هسّه شبابي شاب
كما نشر له الدكتور سعد الحداد قصة قصيرة في كتابه أنطلوجيا القصة، وهي من الشذرات القليلة الباقية من إنتاجه الذي ضاع أغلبه.
ورغم النداءات لتوثيق نتاجه، لم يستجب أحد، لكن الأمل لا ينطفئ، فلعلنا نظفر يومًا بمخطوطة أو صفحة من دفاتر النسيان، ليعود صوته من الغياب.
رمزية الفقد
غياب جبر داگي ليس غيابًا فرديًا، بل تمثيل رمزي لغياب جيلٍ كامل من المبدعين الذين طحنهم التهميش، وأكلت أصواتهم رياح السياسة والنسيان. لم تُنشر كتبهم، ولم تُجمع دواوينهم، وكأنهم عبروا كالشهاب في ليل التاريخ: أضاءوا لحظة ثم خبا ضوؤهم، تاركين أثرًا لا تحفظه الأرشيفات.
استذكارهم اليوم واجب إنساني، لا لتخليد أسمائهم فقط، بل لإعادة الاعتبار لتجارب تنزف الشعر والحلم في صمت.
كان جبر داگي نسيج وحده: شاعرًا وقاصًا، معلمًا وصديقًا، ومناضلا غنى حزبه الشيوعي في اعياده ومناسباته، ومن المؤسسين لجمعية الشعراء الشعبيين في الحلة قبل أن تجيرها سلطة البعث لحسابها، عاش كما يليق بالشعراء، ورحل كما يليق بالأنقياء، تاركًا أثرًا لا تمحوه الأيام.



#محمد_علي_محيي_الدين (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- جابر القاري صوت السدة الذي ذاب في الحسين
- كريم النور... شاعر الطين والنخوة والكرامة العالية
- رياض أبو شبع شاعر الغربة والتمرد النبيل
- صباح العسكري: الشاعر الذي أضحك القمر وبكى العراق
- راسم الخطاط شاعر الومضة ومهندس القصيدة
- الراحل كاظم الرويعي بين الأغنية الملتزمة والاغتراب الموجع
- شاكر ميم.. شاعر الغفوة والابتسامة العابرة
- عبد الستار شعابث شجرة الشعر التي نبتت على ضفاف الحلة
- الناقد والقاص سلام حربة صوتٌ نقدي وقلمٌ سردي في المشهد الثقا ...
- حامد كعيد الجبوري شاعرٌ خرج من رحم الحلة ومضى ليكتب للوطن وا ...
- علي السباك الكاتب الذي جعل من الحلة سطرًا أول في دفتر الحكاي ...
- عماد الطالباني طبيب الحرف وروح الباحث
- الباحث محمد هادي رحلة في آفاق البحث والتأليف
- الشاعر إبراهيم الشيخ حسون صائغُ الحرف الشعبي ومغني الروح الح ...
- عبد الأمير خليل مراد شاعر يُمسك بجمر القصيدة ويشعل بها خيمة ...
- مهدي المعموري ضفاف الحرف ومرافئ الذاكرة
- الدكتور عدنان العوادي حكمة الأكاديمي وروح الأديب
- ليلى عبد الأمير حين تتكئ القصيدة على ريشة وتكتب قلبًا
- حسين مبدر الأعرجي: القاص الذي كتب بمداد الذاكرة والمكان
- عمران العبيدي شاعر تتقد الكلمات بين أصابعه


المزيد.....




- لحظة لا تُصدّق.. شخص مطلوب يظهر أمام كاميرا بث مباشر والمراس ...
- بعد مرور عام على اغتياله من هو حسن نصرالله أمين عام حزب الله ...
- ترامب يأمر بنشر -كل القوات المسلحة الضرورية- في بورتلاند ويج ...
- نجمة شهيرة بهوليود تصف ما يجري بغزة بالإبادة الجماعية
- شاهد.. ألونسو يرتدي عباءة أنشيلوتي ليتسبب في خسارة دربي مدري ...
- 10 طرق طبيعية لتجاوز خمول الخريف
- مقتل عنصر أمن بريف دمشق وإحباط تهريب أسلحة بحمص
- فيديو.. نقص المستهلكات المخبرية في غزة يعيق الفحوصات ويهدد ب ...
- صحف عالمية: تكليف بلير بإدارة غزة يعيد احتلال العراق للأذهان ...
- أسرة عبد الحليم حافظ تحذر من التلاعب باسمه وتؤكد: منزله للجم ...


المزيد.....

- أعلام شيوعية فلسطينية(جبرا نقولا)استراتيجية تروتسكية لفلسطين ... / عبدالرؤوف بطيخ
- كتاب طمى الاتبراوى محطات في دروب الحياة / تاج السر عثمان
- سيرة القيد والقلم / نبهان خريشة
- سيرة الضوء... صفحات من حياة الشيخ خطاب صالح الضامن / خطاب عمران الضامن
- على أطلال جيلنا - وأيام كانت معهم / سعيد العليمى
- الجاسوسية بنكهة مغربية / جدو جبريل
- رواية سيدي قنصل بابل / نبيل نوري لگزار موحان
- الناس في صعيد مصر: ذكريات الطفولة / أيمن زهري
- يوميات الحرب والحب والخوف / حسين علي الحمداني
- ادمان السياسة - سيرة من القومية للماركسية للديمقراطية / جورج كتن


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - محمد علي محيي الدين - جبر داكي شاعر غنّى للحياة حتى رحيله