أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - محمد علي محيي الدين - رياض أبو شبع شاعر الغربة والتمرد النبيل














المزيد.....

رياض أبو شبع شاعر الغربة والتمرد النبيل


محمد علي محيي الدين
كاتب وباحث


الحوار المتمدن-العدد: 8475 - 2025 / 9 / 24 - 14:07
المحور: سيرة ذاتية
    


في دروب الشعر الشعبي، حيث تتناسل المعاني من رحم الألم وتنهض القصائد من رماد الخيبات، يسطع اسم رياض أبو شبع مثل جذوة لم تنطفئ، وإن غطّاها النسيان. شاعر جاء من الكوفة، حاملاً في قلبه لهب القصيدة، وفي صوته أصداء الغربة، وفي خطوه عثرات المنفى الداخلي. لم يكن شاعرًا فحسب، بل كان شاهدًا على زمن خذل الشعراء واحتفى بالجلادين، فتمرد، واختار أن يكون صوته مراياً للمنسيين، ومرآةً للوجع الإنساني العابر للطوائف والحدود.
ولد رياض جواد كاظم أبو شبع عام 1947 في الكوفة، المدينة التي تحتشد بتاريخ التمرد وصدى الدماء الزكية. وهناك أكمل دراسته المتوسطة، لكن السياسة جذبته إليها كما تجذب النار فراشة عاشقة، فترك مقاعد الدرس ودخل دهاليز العمل السياسي مبكرًا. كان انتماؤه للحزب الشيوعي بوابة لمعاناة طويلة، ولأن القصيدة حين تلتقي بالحرية تصبح خطرًا مضاعفًا، فقد تنقّل شاعرنا بين سجون الوطن وسراديب المطاردة، يعمل تارة في محل تورنجي مع شقيقه، وتارة يخفي صوته بين الحلة وبغداد والنجف، حتى إذا ما أتعبته البلاد، اتكأ على قصيدته وراح يرثي أمله فيها.
تفتحت روحه على المدرسة الكلاسيكية، ونهل من معين الشاعر الكبير عبد الحسين أبو شبع، لكنه لم يقف عند عتبات التراث، بل انفتح على موجة الحداثة التي اجتاحت الشعر الشعبي في الستينيات. وفي هذا التيار الجديد، كان رياض أحد أركانه، بشعره الذي اجتمع فيه جمال المفردة، وغزارة المعنى، وجرأة الرؤية. صوت لا يشبه إلا ذاته، مزيج من الحزن النبيل والتحدي الصامت، يتقدم نحو المهرجانات والمجالس بخطى واثقة، كمن يحمل في صدره نشيدًا لا يُقال إلا همسًا.
غير أن ما آلم محبيه، أن جلّ قصائده ضاع في طرقات المدن الثلاث التي أحبها: النجف، الحلة، وبغداد. لم يكن شاعرنا من أولئك الذين يجمعون قصائدهم في دفاتر أنيقة، بل كانت قصيدته كحياته، حرة، متشظية، مكتوبة على هوامش المفكرات القديمة، أو محمولة في ذاكرة الأصدقاء. ولم يبقَ من إرثه الشعري إلا القليل، قصيدة هنا بخطه، وأخرى محفوظة عند شاعر زميل، وكثير من الذكرى التي تتنفسها المجالس حين يُذكر اسمه.
وتبقى "صلاة الكاولي" أيقونته الأثيرة، نصاً يفيض بالرؤية، مكتوباً بروح التمرد، ومشحوناً بحنين المغبونين. في هذه القصيدة، يؤمن الشاعر أن في قلب الإنسان، أيًّا كانت صورته، بقعة مضيئة لا يطالها ظلام، ويصرّ أن الخير يسكن الأرواح مهما غلفتها قسوة الظروف. إنها قصيدة كتبت برؤية ماركسية ترى في الإنسان أثمن رأسمال، لكنها تنفلت من الأيديولوجيا لتصبح نشيدًا للإنسان بوصفه كائنًا ذاكرًا، متألمًا، متمرّدًا.
يقول رياض أبو شبع في مطلع قصيدته صلاة الكاولي:
"شكد بيك من طيبة وأنت ابن السكه
شكد بيك من نغمة وأنت ابن التكه
شكد بيك من دمعه وأنت ابن الضحكه
حتى الترب يبكي إلك من تمشي بيه"
بهذه البداية المفعمة بالشجن، يربك الشاعر الصورة النمطية عن الإنسان "المهمش"، الكاولي الذي كثيرًا ما وُضِع في هامش المجتمع. يرفض الشاعر التنميط، ويعلن أن النبل ليس حكرًا على أحد، وأن الجمال يمكن أن ينبت في أرضٍ لم يرَها الآخرون إلا صحراء.
ويواصل مخاطبته:
"صليتلك بضحكتي... وبدمعتي صليت
نكّرت بيك الظنون الطيّبه وصفيت
طحت بحضن الهموم... وبيك اتعليت
يا خيط شمس دايب بجفن النديّه"
القصيدة تجسيد حيّ للفكرة التي كانت تسكن قلب الشاعر، وهي أن جوهر الإنسان لا تقرره طبقته ولا مظهره ولا نسبه، بل إنسانيته المتأصلة فيه. كانت "صلاة الكاولي" فعل إيمان حقيقي من شاعر مهمّش بإنسان آخر مهمّش، لكنها أيضًا صرخة ضد كلّ تصنيف قام على الجهل والخوف والموروث المتعسّف.
رأى النقاد في رياض أبو شبع شاعرًا ذا صوت خاص، مشبعًا بالرؤية الإنسانية، منحازًا للفقراء والمهمشين، ومتجاوزًا التصنيفات الضيقة التي قسمت البشر بحسب اللون أو الدين أو الطبقة. كان شعره تمردًا على العبودية المعاصرة، وانحيازًا لجوهر الإنسان الذي شوهته الأعراف، وأهانته السلطة، وأقصته التقاليد. وفي قصائده، كانت الفكرة تولد من رحم الألم، والصورة تندلع من رماد التجربة، واللغة تنهض من أعماق الواقع العراقي المذبوح، لتعيد تشكيله من جديد.
رياض أبو شبع لم يكن شاعرًا يحتفي بالزخرف اللفظي، بل كان يحفر في صخر الواقع، يبحث عن المعنى، ويعيد صياغة العالم بكلمات جريئة، حارة، نازفة. وكان في كل ما كتب، ابنًا للناس الذين عاش بينهم، وفمًا ناطقًا بمراراتهم، وحلمًا مؤجلًا في دفاترهم.
وفي عام 2000، أسدل الموت ستاره الأخير على هذا الشاعر الذي عاش حياته القصيرة كأنها قصيدة طويلة لم تكتمل، تاركًا خلفه إرثًا ضائعًا، ومحبين يفتشون في ذاكرة المدن عن أثره. لكن الأسماء التي تُولد من رحم الوجع لا تموت، بل تبقى كجمرٍ تحت الرماد، تنتظر من ينفخ فيها لتشتعل من جديد.
رحل رياض، وبقيت صلاة الكاولي تصلي على أطلال البلاد، وتبكي شاعرًا كان يرى في كل قلب زاوية مضيئة، حتى وإن أنكرها أصحابها.



#محمد_علي_محيي_الدين (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- صباح العسكري: الشاعر الذي أضحك القمر وبكى العراق
- راسم الخطاط شاعر الومضة ومهندس القصيدة
- الراحل كاظم الرويعي بين الأغنية الملتزمة والاغتراب الموجع
- شاكر ميم.. شاعر الغفوة والابتسامة العابرة
- عبد الستار شعابث شجرة الشعر التي نبتت على ضفاف الحلة
- الناقد والقاص سلام حربة صوتٌ نقدي وقلمٌ سردي في المشهد الثقا ...
- حامد كعيد الجبوري شاعرٌ خرج من رحم الحلة ومضى ليكتب للوطن وا ...
- علي السباك الكاتب الذي جعل من الحلة سطرًا أول في دفتر الحكاي ...
- عماد الطالباني طبيب الحرف وروح الباحث
- الباحث محمد هادي رحلة في آفاق البحث والتأليف
- الشاعر إبراهيم الشيخ حسون صائغُ الحرف الشعبي ومغني الروح الح ...
- عبد الأمير خليل مراد شاعر يُمسك بجمر القصيدة ويشعل بها خيمة ...
- مهدي المعموري ضفاف الحرف ومرافئ الذاكرة
- الدكتور عدنان العوادي حكمة الأكاديمي وروح الأديب
- ليلى عبد الأمير حين تتكئ القصيدة على ريشة وتكتب قلبًا
- حسين مبدر الأعرجي: القاص الذي كتب بمداد الذاكرة والمكان
- عمران العبيدي شاعر تتقد الكلمات بين أصابعه
- وسام العبيدي الباحث الجاد والشاعر المتأمل
- محمد الزهيري... فكرٌ يقاوم، وصوتٌ لا يهادن
- قيس الجنابي الناقد الذي حرّك سواكن النص، وفتّش في ضمير الترا ...


المزيد.....




- وفاة الصحفي ديفيد هيرست.. 5 عقود من الكتابة المتخصصة عن الشر ...
- محكمة أسترالية تأمر بتعويض صحفية فصلت بسبب منشور عن غزة
- العدوان على مدينة غزة يجبر مسنة تبلغ 100 عام على النزوح
- ماذا تعني قرارات الاعتراف بفلسطين؟
- ما فرص إبرام اتفاق أمني بين دمشق وتل أبيب؟ خبراء يجيبون
- تواصل جهود إطفاء الحرائق بريف اللاذقية
- صحف عالمية: الاعتراف بدولة فلسطين جيد وجهود أوروبا يقابلها ت ...
- أميركا في مواجهة الصين وروسيا.. إلى أين يتجه العالم؟
- أوامر للمباني الحكومية في فرنسا بإنزال العلم الفلسطيني
- لوموند: عودة العرقية البيولوجية إلى الولايات المتحدة وإلى فر ...


المزيد.....

- أعلام شيوعية فلسطينية(جبرا نقولا)استراتيجية تروتسكية لفلسطين ... / عبدالرؤوف بطيخ
- كتاب طمى الاتبراوى محطات في دروب الحياة / تاج السر عثمان
- سيرة القيد والقلم / نبهان خريشة
- سيرة الضوء... صفحات من حياة الشيخ خطاب صالح الضامن / خطاب عمران الضامن
- على أطلال جيلنا - وأيام كانت معهم / سعيد العليمى
- الجاسوسية بنكهة مغربية / جدو جبريل
- رواية سيدي قنصل بابل / نبيل نوري لگزار موحان
- الناس في صعيد مصر: ذكريات الطفولة / أيمن زهري
- يوميات الحرب والحب والخوف / حسين علي الحمداني
- ادمان السياسة - سيرة من القومية للماركسية للديمقراطية / جورج كتن


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - محمد علي محيي الدين - رياض أبو شبع شاعر الغربة والتمرد النبيل