عباس موسى الكعبي
الحوار المتمدن-العدد: 8469 - 2025 / 9 / 18 - 00:07
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
الصرامة الأكاديمية وإقصاء غير المختصين
حتى اللحظة، مازلت أجادل بأنّ الفجوة بين أدب الرحلات والكتابة الأثارية ترتبط ارتباطاً وثيقاً بتطور الأخيرة كفرعٍ وضعيٍّ من العلوم الإنسانية وبالزيادة الكبيرة في حجم المعطيات التي وفّرتها الحفريات وفكّ رموز الكتابة المسمارية. ومع ذلك، في القرن التاسع عشر، خفتّ حدة العلاقة الضعيفة أصلًا بين الحقلين بفضل ما يمكن تسميته بالعملية ذات الطابع الأكاديمي البحت. لم يحدث هذا في مجال الممارسات الأثرية، بل في الدراسات التاريخية التخصصية التي كانت قيد التطوير آنذاك. فظهرت في أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين أولى الدراسات حول أصول وتطور هذا التخصص الحديث نسبياً. وبما أنّ التاريخ في تلك الحقبة كان يُفهم في الأساس كسرد لسِيَر العظماء والأحداث البارزة، فقد انصبّ التركيز في الدراسات التأريخية التخصصية على الإنجازات والاكتشافات الأثرية الكبرى. وباستثناءات قليلة، تم تسليط الضوء فقط على المستكشفين الذين قدموا مساهماتٍ اعتُبرت ذات أهمية في هذا المجال. وبذلك، وضعوا قائمةً بالأسلاف الذين يُنظر إليهم على أنهم من ذوي التخصصات العلمية، وباتت هذه القائمة بمثابة تراث معياري لم يتخطَّه معظمُ علماء الآثار في القرن العشرين في أبحاثهم.
أوسعُ هذه الدراسات المبكرة، وإن لم تكن مكرَّسة بدقّة في نطاق دراستنا، هي كتاب روبرت و. روجرز "تاريخ بابل وآشور" (الطبعة الثالثة، نيويورك: 1900؛ نسخة طبق الأصل، لونغ بيتش: 2003). ففي المجلّدين، سعى روجرز إلى رسم صورة شبه متكاملة عن الرحلات والاستكشافات في برسيبوليس. وقد انصبّ تركيزه على هذا الموقع تحديداً رغبةً منه في إبراز تطوّر الدراسات الخاصة بالخط المسماري، فجاء عرضه ذا قيمة من حيث كشفه عن مقاربة لتاريخ رحلات أقلّ ارتباطاً بالغايات المصلحية المباشرة: فقد أولى روجرز اهتمامه بكامل الطيف الذي شكّله المستكشفون، بدءاً من ذلك العابر العادي الذي يفتقر إلى المعرفة، مروراً بذلك الطامح المضلَّل بفكّ الرموز، وصولاً إلى من نجح فعليا في قراءة الأنماط المتعددة للكتابة المسمارية. أما عرضه لرحلات بلاد الرافدين، وهو الجانب الأكثر صلة ببحثنا، فكان أضيق نطاقاً؛ إذ لم يذكر سوى قلةٍ من الرحّالة الذين سبقوا الأكاديميين في القرن الثامن عشر وهم، حسب الترتيب الزمني: بنيامين التطيلي، وبتاحيا الراتيسبوني، وماركو بولو، وجون إلدرد، وأنطوني شيرلي، وجون كارترايت، وغاسبارو بالبي، وألكسندر هاميلتون، والدون غارسيا دي سيلفا فيغيروا، وبيترو ديلا فالي. وقد جاءت الاختيارات واضحة: حاخامٌ ذا شهرةٍ تمتد لقرون (بنيامين)، وحاخامٌ آخر أقل شهرةً بقليل (بتاحيا)، ورحّالة إيطالي شهير (ماركو بولو)، وأحد أوائل الرحالة البريطانيين الذين قدموا وصفًا أكثر تفصيلًا لبابل (إلدرد)، وقائد أول بعثةٍ دبلوماسيةٍ بريطانيةٍ إلى بلاد فارس (شيرلي)، ورجل دينٍ مُخضرم كثير التداول (كارترايت)، وأشهر رحّالة قبل القرن الثامن عشر (ديلا فالي). أما بالبي وهاميلتون وفيغيروا، فكان حضورهم أقل. وتم توحيد كتابات "بالبي" مع كتابات "دابر" عام 1680؛ " إذ لم يُحرزا أي تقدمٍ في أبحاثهم يزيد عما ذكره أسلافهم" (ص 97)، لكن روجرز تجاوزهما سريعًا.
ان جميع الرحالة المذكورين في القرن الثامن عشر ذوي تعليم أكاديمي صرف، وبالتالي ينتمون إلى فئة الرحّالة "المتخصصين" التي تُشير إلى مستوى أعلى، وهم: جان أوتر، الذي أصبح لاحقاً أستاذاً للغة العربية، وكان مهتمًا بشكل مباشر بزيارة مواقع الموصل وبابل؛ وإيمانويل دو سان-ألبير، الذي نُشرت كتاباته عن بابل في مذكرات دانفيل؛ وكارستن نيبور؛ وجوزيف دو بوشان، الذي دون ملاحظات تاريخية وجغرافية عن المنطقة. أما الطبيب الفرنسي "غيوم أ. أوليفييه"، الذي لم يكن يملك معرفة تُذكر بتاريخ المنطقة القديم، فقد شكّل استثناءً من هذه القاعدة. وأخيرًا، اعتبر "روجرز" أن "ريتش وكير بورتر" هما آخر الممثلين لمرحلة ما قبل الحقبة الاستكشافية الأثرية، تلك التي رآها تبدأ مع حفريات "بوتا" في نينوى عام 1843. أما بقية البحث فقد ركّز على علم التنقيب الأثري وتطوّر علم الآشوريات بوصفه فرع مستقل. وبينما قدّم روجرز صورةً تبدو شاملة نسبيًا عن أوائل الرحّالة المستكشفين، الإ أن جوهر ما أنجزه لم يكن سوى سردٍ عن شخصيات "مهمّة" في تاريخ هذا الفرع المعرفي. وقد وُصِفت هذه الشخصيات بالمهمة، إمّا لكونها عُدّت من الأوائل ضمن فئة معيّنة من الرحّالة، أو لأنها أظهرت وعيًا أثريًا محددًا. وكان التركيز الرئيس في البحث منصبًّا على القرن التاسع عشر، تلك الحقبة التي ارتبطت، في نظر روجرز، ارتباطًا وثيقًا بعلم الآثار المعاصر، والتي شهدت أولى الحفريات الواسعة في تلك المناطق. ويرى الكاتب إن هذه الحقبة يمكن، بل ينبغي، أن تحظى باهتمام أكبر من الناحيتين العملية والأيديولوجية.
في عام 1903 ، كتب "هـ. ف. هيلبريخت" عرضه الموسع عن علم الآثار في الشرق الأدنى. ولم يُضِف المجلد المتعلق ببابل وآشور الكثير إلى الفترة التي سبقت القرن التاسع عشر، إذ انصبّ التركيز مجددًا على بعض الرحلات التي عُدّت "مهمّة" من الناحية الأثارية. في الأيام الأولى، تم الإشارة إلى بنيامين التطيلي وأنطوني شيرلي وجون كارترايت في سياق موقع نينوى. وبالمقارنة مع قائمة روجرز، نلاحظ إضافة الطبيب وعالم النبات الألماني الشهير راوولف من القرن السادس عشر. وتلا ذلك ذكر الإيطالي الشهير عالميًا بيترو ديلا فالي، والفرنسي جان-باتيست تافرنييه، مع إغفال حقيقة أنّ الأخير، رغم ادعائه حب الاستطلاع، لم يُبدِ سوى اهتمامٍ ضئيل ببقايا العصور القديمة. ثم انتقل البحث مباشرة إلى الرحّالة الأكثر أكاديمية: أوتر ونيبور. وفي بحثه عن موقع بابل، أشار هيلبريخت إلى أسماء مثل ماركو بولو، وبالبي، وإلدرد، وماستر ألين، وبوفنتنغ، وتيخيرا، وفينتشنزو ماريا دي سانتا كاترينا، وإيمانويل دو سانت-ألبير، والأب دو بوشان، وإيف، وغيوم أوليفييه. وكان الاختيار واضحًا: فجميع هؤلاء الكتّاب إما اكتسبوا شهرة تاريخية، أو كانوا من الأوائل الذين زاروا الموقع أو ذكروه، أو وردت أسماؤهم في كتابات روجرز أو في مقدّمة كتاب ريتش. أمّا بوفنتنغ وتيخيرا فقد ورد ذكرهما على سبيل الاستطراد ليس إلا، إذ لم يُذكرا إلا عرضًا؛ وينطبق الأمر نفسه على "عددٍ من الرحّالة الآخرين من الحقبة ذاتها"، الذين ظلّوا نتيجة لذلك في غياهب النسيان. وكما في السابق، تمحور جوهر الدراسة حول الأبحاث الأثرية "الحقيقية" التي جرت في القرن التاسع عشر. وبعد هذين البحثين المهمّين، ظلّ علم آثار الشرق الأدنى محتفظًا برؤيةٍ قائمةٍ إلى حدٍ كبيرٍ على النتائج المباشرة لتطور هذا التخصص، رغم تحوّل اهتمام المؤرّخين لاحقًا نحو ظواهر ثقافية أكثر عمومية، على خطى منشورات مدرسة الحوليات الفرنسية في ثلاثينيات القرن العشرين والمدرسة التاريخية المرتبطة بها. وقد بقيت مجموعة الأسماء تقريبًا على حالها دون تغيير يُذكر؛ وحتى عندما أُضيفت بعض الأسماء الجديدة، كان يتم في المقابل حذف أسماء أخرى من الدراسات الجديدة اللاحقة. فعلى سبيل المثال، أضاف أندريه بارو في تاريخه التخصّصي كلًا من توماس هيربرت ودومينيكو سيستيني إلى قائمةٍ مختصرةٍ بشكلٍ كبيرٍ من المستكشفين الأوائل. كما أُضيف عالم النبات الفرنسي أندريه ميشو إلى الأكاديميين في القرن الثامن عشر، لكونه أول من جلب إلى أوروبا حجر الكودورو (وهو حجر لتحديد الملكية يعود إلى العصر الكيشيّ)، غير أنّ سائر رحّالة عصر الأنوار لم يُذكَر منهم سوى دو بوشان وأوليفييه. أما باقي البحث، فقد خُصّص بأكمله للعصر الأثري في القرن التاسع عشر.
بعد عقدٍ من الزمن، لم يذكر "سفند أ. باليس" من بين "الرحّالة الأوائل"، على الأقل فيما يتعلّق بمجال دراستنا، سوى ديلا فالي ودو بوشان وتوماس هيربرت، قبل أن ينتقل مباشرةً إلى القرن التاسع عشر. والمفارقة اللافتة أنّ هذا العرض بالذات كان هو الجزء الذي وجده الناقد البروفيسور "إغناس غِيلب" الأكثر إثارةً للاهتمام في كتاب "باليس"، إذ رأى أنّه لم يكن ينقصه سوى شيء من التوسّع الجغرافي. أما الطبعة الموسّعة من كتاب سيتون لويد "أسس في التراب" (1980)، فقد قلّصت قائمة "الرحّالة الأوائل" إلى: الحاخامَين، وراوولف، وإلدرد، وديلا فالي، وتافرنييه، وفينسينزو ماريا، ودو سانت-ألبير، وأوتر، ونيبور، ودو بوشان. ثم جاء كتاب موغنس ت. لارسِن "غزو آشور" (1996) ليؤكد مجددًا على ان منتصف القرن التاسع عشر كان نقطة الانطلاق للدراسات الآشورية، في أسلوب كتابي ذي طابع شبه استعماري، وهو ما تعرّض بسببه للنقد المبرر.
رغم أنّ بعض الكتّاب الرحّالة الذين ذُكروا في هذه الدراسات لم يقدّموا معلومات ذات شأن حيال المواقع الأثرية، وهو ما يخفّف نسبيًا من الطبيعة العامة القائمة على النتائج لهذه الدراسات، إلا إننا لا نستطيع إنكار حقيقة أنّه بعد أربعين عامًا على أعمال روجرز وهيلبريخت، ظلّت قائمة "الرحّالة-المستكشفين المهمّين" شبه ثابتة لا تتغيّر، بل إنّ حجمها قد تقلّص، إلى حد ما، في الدراسات الجديدة اللاحقة. ويمكن تفسير هذه الظاهرة باعتبارها النظير الأكاديمي للانقسام المبكر بين الرحّالة والآثاريين. فمع اقتصار علماء الآثار على هذه الدراسات الثانوية بوصفها كاشفة عن أصول تخصّصهم، يبدو أنهم أسهموا في إضفاء الطابع المؤسسي على الفجوة المفاهيمية القائمة بين الأثاريين وأسلافهم من المتخصصين.
يتبع..
#عباس_موسى_الكعبي (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟