أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - محمد بسام العمري - الألم كجمالية وجودية: دراسة فلسفية وفكرية واجتماعية














المزيد.....

الألم كجمالية وجودية: دراسة فلسفية وفكرية واجتماعية


محمد بسام العمري

الحوار المتمدن-العدد: 8460 - 2025 / 9 / 9 - 00:47
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


منذ البدايات الأولى للتجربة الإنسانية، ارتبط الألم بالبحث عن المعنى. فقد مثّل الجرح، سواء كان جسديًا أو نفسيًا، سؤالًا مفتوحًا عن طبيعة الوجود وغاياته. لم ينظر الإنسان إلى الألم باعتباره مجرد عارض عضوي، بل اعتبره قوة تكشف هشاشته وتُعيد صياغة علاقته بالعالم. ولعلّ هذا ما يفسر الحضور الطاغي للألم في الفلسفات القديمة، وفي النصوص الدينية، وفي الأدب على اختلاف عصوره.
تتجاوز هذه الدراسة حدود القراءة الأدبية البحتة، لتقارب الألم بوصفه بنية وجودية وجمالية واجتماعية، تسهم في بناء الفرد وتشكيل الوعي الجمعي.

أولًا: البعد الفلسفي للألم
1. الألم والوعي بالذات
• عند كيركغارد، الألم هو شرط الوعي، إذ لا يمكن للإنسان أن يعرف نفسه إلا من خلال "القلق الوجودي" الذي يولّده الوجع.
• يرى هايدغر أنّ الكينونة الأصيلة لا تُكشف إلا عبر مواجهة الموت والقلق، أي عبر المرور بتجربة الألم بوصفها كاشفة للحقيقة.
• بالنسبة لـ نيتشه، الألم ليس نقمة بل طاقة خلاقة، لأنه يُعيد للإنسان صلابته ويقوده إلى "إرادة القوة".
إذن، الألم فلسفيًا هو نافذة على الأصالة، يعيد تعريف الحرية والمعنى.
2. الألم والعدمية
في الفلسفة العدمية، يمثل الألم الوجه الأكثر صدقًا للحياة. إذ يرى شوبنهاور أن العالم محكوم بإرادة عمياء لا تولّد سوى المعاناة، ولا خلاص للإنسان إلا في إنكار الرغبة وتبنّي الزهد.
وبينما يتبنى نيتشه العكس، أي استثمار الألم في خلق إنسان أقوى، تبقى النتيجة أن الألم هو نقطة المركز التي يدور حولها معنى الحياة.

ثانيًا: البعد الاجتماعي للألم
1. الألم كذاكرة جمعية
المجتمعات لا تعيش الألم كحالة فردية فحسب، بل تختزنه في ذاكرة جماعية.
• الحروب والمجازر والكوارث تصنع "جروحًا جمعية" تنتقل من جيل إلى جيل.
• وفقًا لعلم الاجتماع الثقافي، تُعاد صياغة هذه الجروح في الطقوس، والآداب الشعبية، والأمثال، والأغاني، مما يحول الألم إلى هوية مشتركة.
2. الألم كأداة للتماسك الاجتماعي
• يرى إميل دوركايم أن الألم الجماعي (في الطقوس الدينية أو الأحداث الكبرى) يعزز التماسك الاجتماعي لأنه يخلق شعورًا مشتركًا بالمعاناة.
• في المقابل، قد يتحول الألم إلى أداة للهيمنة، حيث تستخدمه السلطة السياسية لإنتاج خطاب الضحية أو الشهادة لتبرير شرعيتها.
3. الألم المعاصر وثقافة الاستهلاك
في مجتمعات الحداثة السائلة (زيجمونت باومان)، أصبح الألم فرديًا معزولًا، محاصرًا بثقافة "السعادة الإلزامية". يُمارس نوع من القمع النفسي على الأفراد لإخفاء معاناتهم، مما يجعل التعايش مع الألم أكثر صعوبة، لأنه يفتقد شرعية الاعتراف الاجتماعي.

ثالثًا: البعد الفكري والأنثروبولوجي
1. الرموز الثقافية للألم
• في الأساطير القديمة، ارتبط الألم بالفداء والتضحية (أسطورة بروميثيوس، المسيح المصلوب).
• في الديانات، يتحول الألم إلى طريق للخلاص أو للتكفير، كما في الصوم والنسك.
• في الأدب الصوفي، يُعد الألم سبيلًا للوصول إلى "المعرفة الباطنية"، إذ يقول الحلاج: قتلتني محبتك.
2. الألم والمعرفة
الألم ليس مجرد تجربة جسدية، بل معرفة مضافة.
• يُعيد للإنسان إدراك حدود جسده.
• يجعله أكثر وعيًا بالزمن (الجرح كساعة لا تتوقف).
• يفتح أمامه أسئلة كبرى عن المصير والعدم والمعنى.

رابعًا: البعد الجمالي للألم
1. الألم في الشعر والفن
• في التراجيديا الإغريقية، الألم هو الشرط الأساسي للتطهير (Aristotle: catharsis).
• في الشعر العربي الحديث، تحوّل الألم إلى محور أساسي: عند درويش كوسيلة مقاومة، عند نزار كقناع للحب، عند أدونيس كرمز كوني.
• في الرواية الحديثة، يُعرض الألم كبنية سردية (دوستويفسكي، كافكا)، حيث يصبح بطل الرواية محاصرًا بجروح داخلية لا خلاص منها.
2. من الألم إلى الجمال
يرى بول ريكور أن الاستعارة قادرة على "ترويض" الألم عبر تحويله إلى صورة قابلة للتأمل.
وبذلك يتحول الجرح من تجربة مأساوية إلى مادة جمالية، تُعاش وتُعرض وتُعاد صياغتها عبر الصور والمجازات.

خامسًا: التعايش مع الألم بدلًا من تجاوزه
تُظهر التحولات الفكرية والنفسية الحديثة أن الألم ليس شيئًا يمكن "الشفاء منه"، بل تجربة يُعاد دمجها في الذات.
• في علم النفس الحديث، يُنظر إلى الصدمات كخبرات يعاد استيعابها لا كندوب قابلة للمحو (Judith Herman, Trauma and Recovery).
• في الفكر الفلسفي، يتجلى "التعايش" مع الألم كفعل أصيل، حيث لا يتحقق التحرر إلا بقبول الجرح كجزء من هوية الفرد.


الألم ليس طارئًا عابرًا في حياة الإنسان، بل بنية جوهرية تكشف عن عمق وجوده وهشاشته في آن. فلسفيًا، هو شرط الوعي بالذات؛ اجتماعيًا، هو رابط للذاكرة الجماعية؛ فكريًا، هو رمز ثقافي ومعرفي؛ جماليًا، هو مادة الشعر والفن.
إنّ القيمة الكبرى للألم تكمن في تحويل المعاناة إلى معنى، والجرح إلى مدرسة، والدمعة إلى صورة شعرية. ولعلّ أخطر ما يمكن أن يحدث هو إنكار الألم، لأنه في هذه الحالة يفقد الإنسان جزءًا من صدقه مع نفسه.
وعليه، يمكن القول إنّ الألم، في بعده الوجودي، ليس مجرد نقيض للسعادة، بل هو المحرّك الأساسي للوعي والإبداع والهوية.



#محمد_بسام_العمري (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- تأملات في فلسفة الحديث مع النفس
- اهتمامات المرأة بين البناء الذاتي والتحديات المجتمعية: قراءة ...
- -ملهمة الفجر وإشراقة الروح-
- الكذب القهري: مقاربة نفسية لاضطراب الميثومانيا-
- الدكتور الذي يعرف كل شيء
- -السكر: المتهم الأول في قائمة أمراض العصر-
- ظلال الخرسانة: حين يُبنى الشك
- الأدب الأفريقي: ذاكرة تتكلّم بلسان الأسطورة وصوت الأرض
- الحاج مراد: أسير التوقعات بين أنين الروح وشهقات الزمن
- -فضول الإنسان: بين الحاجة المعرفية وانتهاك الحريات-
- من خدش بسيط إلى عدوى خطيرة: أمراض قد تنقلها القطط للبشر
- الخطوة الأخيرة: حين ابتلعني ظلّي
- الشعر الحر: ثورة إبداعية في مواجهة التفعيلة التقليدية-
- الإنسان بين غموض الذات وأسرار الكون
- الشعر والزمن في فكر العقاد: تعميق اللحظات وإغناء التجربة الإ ...
- النجمة التي لا يراها سوانا
- - فلسفة المناعة العاطفية في عالم لا يعرف الحنان-
- حكاية الفصول
- صراع الفكر الحر مع سلطة الدين عبر التاريخ-
- -التحرش سببه ملابس المرأة أم أخلاق الرجل؟-


المزيد.....




- المقررة الأممية: قارب بأسطول المساعدات لغزة يبدو أنه تعرض له ...
- غارات إسرائيلية قرب حمص واللاذقية، والخارجية السورية تطالب ب ...
- هل يُعاقَب منتقد ماكرون بغرامة 3750 يورو؟
- محللون: ترامب ونتنياهو يعرفان أن حماس سترفض خطتهما الجديدة
- عاجل | إدارة أسطول كسر حصار غزة: تعرض سفينة رئيسية بالأسطول ...
- حماس: تفاخر نتنياهو بتدمير الأبراج سادية وإجرام
- مقتل 4 جنود إسرائيليين في -كمين- بغزة.. والجيش يكشف الملابسا ...
- رئيس وزراء إسبانيا يصف ما تفعله إسرائيل في غزة -بالإبادة الج ...
- ترامب يحتفل بإلغاء حفل تكريم توم هانكس ويصفه بالمدمر
- شاهد.. أسباب تخلي الجزائر وتونس والمغرب عن الأداء و الاكتفاء ...


المزيد.....

- الصورة النمطية لخصائص العنف في الشخصية العراقية: دراسة تتبعي ... / فارس كمال نظمي
- الآثار العامة للبطالة / حيدر جواد السهلاني
- سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي / محمود محمد رياض عبدالعال
- -تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو ... / ياسين احمادون وفاطمة البكاري
- المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة / حسنين آل دايخ
- حوار مع صديقي الشات (ج ب ت) / أحمد التاوتي
- قتل الأب عند دوستويفسكي / محمود الصباغ
- العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا ... / محمد احمد الغريب عبدربه
- تداولية المسؤولية الأخلاقية / زهير الخويلدي
- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - محمد بسام العمري - الألم كجمالية وجودية: دراسة فلسفية وفكرية واجتماعية