محمد بسام العمري
الحوار المتمدن-العدد: 8453 - 2025 / 9 / 2 - 10:16
المحور:
الادب والفن
في عالم التواصل الاجتماعي، لم تعد النقاشات الأدبية والفلسفية محصورة فقط بين جدران الجامعات والمجلات المتخصصة، بل أصبحت تتداول بشكل يومي بين مختلف الشرائح المثقفة على منصات التواصل. مثال على ذلك الحوار الذي جرى مؤخرًا بين الناشطتين الأدبيتين بهية شابو وعزف الرباب على صفحات الفيسبوك، حيث دار نقاش حول أهمية الشعر النثري مقارنة بالشعر التفعيلة، مما أثار جدلاً أدبيًا وفكريًا حول مكانة الشعر الحر وقدرته على التعبير عن التجارب الإنسانية بشكل أعمق وأوسع.
في هذا الحوار، علقت بهية شابو برأيٍ يعبر عن تحفظها تجاه الشعر النثري، حيث وصفته بـ "الكركيب" – أي أنه عبارة عن مجموعة من الجمل غير المنظمة التي لا تتبع نظامًا محددًا، مما يعكس رؤيتها التي تفضل الأشكال التقليدية للشعر، وخاصة شعر التفعيلة. وعلى الجانب الآخر، جاء رد عزف الرباب بشكل ساخر نوعًا ما، لكنه يحمل في طياته تأييدًا لفكرة الشعر الحر وإمكانياته الإبداعية.
هذا النقاش القصير يلخص الصراع الفكري الذي يعيشه الوسط الأدبي بين الحفاظ على الأشكال الشعرية التقليدية وبين التحرر الإبداعي الذي يمثله الشعر النثري. هنا يتعين علينا أن نلقي نظرة أعمق على أهمية الشعر الحر، وكيف استطاع أن يسمو فوق شعر التفعيلة، مع التركيز على علاقته بالعواطف النفسية والاجتماعية.
الشعر الحر، الذي ظهر على الساحة الأدبية كتطور طبيعي للتجارب الشعرية، أثار العديد من التساؤلات حول قدرته على التفوق على الأشكال الشعرية الأخرى مثل شعر التفعيلة. في الشعر الحر، يتحرر الشاعر من قيود الوزن والقافية، مما يتيح له فرصة أكبر للتعبير عن مشاعره وأفكاره دون أي حواجز. كما أنه يعزز من إمكانية الدخول في عوالم العاطفة والنفس والعلاقات الاجتماعية بطريقة أعمق وأشمل.
النقاش بين بهية شابو وعزف الرباب يعكس حيرة قائمة بين من يعتقد أن الشعر يجب أن يكون ملتزمًا بقوالب محددة ومن يرى أن التحرر من هذه القوالب هو ما يمنح الشعر قوته وجاذبيته. في هذا المقال، سنقوم بتفصيل أهمية الشعر الحر، وكيف تمكن من التفوق على شعر التفعيلة من حيث التعبير العاطفي والنفسي والاجتماعي، مع الاستشهاد بأمثلة شعرية من عمالقة الشعر الحديث مثل محمود درويش وأدونيس ونزار قباني، مما يبرز مكانته في العالم الأدبي المعاصر.
الشعر الحر يُعدّ أحد أعظم تطورات الأدب الحديث، حيث استطاع بفضل طبيعته المتحررة أن يتجاوز الحدود التقليدية التي فرضتها الأوزان والقوافي على الشعر القديم، خاصة شعر التفعيلة. هذا الشكل الجديد للشعر أتاح للشعراء التعبير عن عواطفهم ومواقفهم الاجتماعية والسياسية بحرية أكبر، مما جعله يحتل مكانة متميزة في الأدب العالمي والعربي على حد سواء. في هذا المقال، سنقوم بتحليل أهمية الشعر الحر، وكيف تمكن من التفوق على شعر التفعيلة، وتأثيره العميق في العلاقات النفسية والعاطفية والاجتماعية.
شعر التفعيلة، الذي يعتمد على الإيقاع المنتظم للأوزان الشعرية، كان لقرون عديدة يُعتبر الشكل الأمثل للشعر العربي. لكن مع بداية العصر الحديث، ظهر الشعر الحر كوسيلة جديدة للتعبير، متجاوزًا قيود الأوزان التقليدية. هذا التغير الجذري مكّن الشعراء من تقديم تجربة شعرية أكثر تحررًا وعفوية.
محمود درويش، أحد أعلام الشعر الحر في العالم العربي، استخدم هذا الشكل للتعبير عن مشاعر الحب والانتماء والهوية بأسلوب غير مقيد. يقول درويش في إحدى قصائده:
"على هذه الأرض ما يستحق الحياة،
على هذه الأرض سيدةُ الأرض،
أم البدايات أم النهايات."
هنا نجد أن درويش استخدم الشعر الحر ليعبر عن انتمائه للأرض والقضية الفلسطينية بشكل لا يمكن لشعر التفعيلة أن يقدمه بنفس الصدق والعفوية. فقد جعل الشعر الحر من الممكن للشاعر أن يتحدث عن المشاعر الإنسانية الأكثر تعقيدًا بدون الاضطرار للالتزام بالوزن التقليدي، مما أضاف عمقًا نفسيًا إلى النص.
التحرر من القافية والوزن في الشعر الحر أتاح للشعراء الدخول في عالم من الحرية التعبيرية، مما ساعدهم على استكشاف جوانب نفسية وعاطفية جديدة. في العديد من القصائد الحديثة، نرى كيف يُستخدم الشعر الحر لنقل مشاعر الفقد والحب والاغتراب بشكل مباشر وقوي.
على سبيل المثال، في قصيدة أدونيس "قبر من أجل نيويورك"، يعبر الشاعر عن التوتر النفسي والاجتماعي الناتج عن العنف والفوضى. يقول:
"القتلة يحبّون ضحاياهم،
والضحايا يعبدون قتلتهم،
القتلة قساة،
لكنهم واثقون من أن القسوة طريقٌ إلى الجنة."
استخدام الشعر الحر هنا يتيح لأدونيس التعبير عن التناقضات النفسية والاجتماعية بحرية كاملة. إذ يوفر هذا الأسلوب إمكانية استكشاف مشاعر القسوة والألم، وهو ما يجعل القارئ يشعر بالاضطراب الداخلي الذي يريد الشاعر نقله. بينما في شعر التفعيلة، كان يمكن أن يحدّ الوزن المنتظم من إيصال هذه الأفكار العميقة.
من خلال التحليل الأدبي والفلسفي للشعر الحر، نجد أن هذا الأسلوب أتاح للشعراء أيضًا نقل الأفكار السياسية والاجتماعية بشكل أكثر مباشرة وقوة. في الشعر الحر، يستطيع الشاعر أن يعبّر عن احتجاجه وغضبه من الأوضاع السياسية والاجتماعية دون أن يكون مقيدًا بأي شكل شعري تقليدي.
في شعر نزار قباني "خبز وحشيش وقمر"، نرى كيف أن الشعر الحر يمكنه أن يصور الحياة اليومية والعلاقات الاجتماعية بطريقة حرة وبسيطة، يقول:
"أخرج من معطفه الجريدة
ومنديلًا من النعناع
ورغيف الخبز
وقارع الناقوس."
قباني هنا يخلق نصًا شعريًا يصف الحياة اليومية بأدق تفاصيلها. إن استخدامه للشعر الحر يُظهر بساطة الحياة بشكل ملموس وواقعي، ويعطي مجالاً أكبر للتعبير عن الروابط الاجتماعية والعلاقات الإنسانية.
في مجال العلاقات العاطفية، يُعد الشعر الحر وسيلة مثالية للتعبير عن مشاعر الحب والاشتياق والفقد. فالتحرر من الوزن يمنح الشاعر القدرة على نقل أفكاره بشكل عفوي وصادق، بعيدًا عن القيود التي يمكن أن تفرضها التفعيلات. نرى هذا بوضوح في قصيدة بدر شاكر السياب "أنشودة المطر"، حيث يمزج بين الشعر الحر وشعر التفعيلة:
"عيناكِ غابتا نخيلٍ ساعة السحر
أو شرفتان راح ينأى عنهما القمر."
هنا، يختار السياب التحرر من الوزن الكامل في بعض الأبيات ليتيح للمشاعر العاطفية بالتدفق بحرية، مما يضيف عمقًا عاطفيًا إلى النص. الشعر الحر يمكنه تجاوز الحدود التي يفرضها الوزن والقافية، ليصبح وسيلة أكثر مرونة للتعبير عن الحب والتوترات النفسية التي قد لا يمكن التعبير عنها بالكامل في إطار الشعر التقليدي.
إن الشعر الحر لا يمثل مجرد تطور في الشكل الشعري، بل هو انعكاس لتطور الفكر الإنساني والاجتماعي والنفسي. من خلال التحرر من القواعد الصارمة للعروض التقليدي، أتاح الشعر الحر للشعراء إمكانية التعبير عن مشاعرهم وأفكارهم بشكل أكثر عمقًا وشمولاً، سواء في العلاقات العاطفية أو النفسية أو الاجتماعية.
إذ أن الأبيات والشواهد التي استعرضناها تؤكد أن الشعر الحر هو مساحة إبداعية تمكن الشاعر من التفاعل مع متغيرات العصر وتقديم تجربة شعرية أعمق وأكثر تأثيرًا. هذا النوع من الشعر يمكنه التعبير عن أعمق الأحاسيس الإنسانية، ويعد وسيلة لا غنى عنها لفهم التغيرات النفسية والعاطفية والاجتماعية التي يمر بها الإنسان في العالم المعاصر.
#محمد_بسام_العمري (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟