محمد بسام العمري
الحوار المتمدن-العدد: 8445 - 2025 / 8 / 25 - 08:48
المحور:
كتابات ساخرة
في زمن الشاشات الصغيرة والتواصل الافتراضي، ضاعت الحكمة القديمة التي طالما أضاءت دروب الإنسانية. أصبح الإنسان يركض خلف وهم السيطرة التي تمنحها التكنولوجيا، ناسياً جذوره في الطبيعة ومعاني العيش الحقيقي. بينما يقف القط، الحمار، والخروف كشهود صامتين على هذا التغيير، ويطرحون تساؤلات عميقة: كيف سقط الإنسان في فخ الأنانية والاستهلاك؟ كيف تحول من سيد للطبيعة إلى عبد لآلاته؟ القط يرى في الإنسان نرجسيته، الحمار يعاين افتقاره للصبر، والخروف يشهد على جشعه. هذه الكائنات البسيطة تقدم دروسًا في التوازن والعطاء، بينما الإنسان في مرآة الطبيعة يبدو مرتبكًا، ينسحب من العلاقات الإنسانية لصالح شاشات تستهلكه دون وعي.
في زاوية المقهى القديم في الحديقة، يجتمع الثلاثة في جلسة صباحية، وكل منهم يضع جريدته جانبًا ليبدأ النقاش. السماء رمادية، والهواء بارد، وكأن الطبيعة تشهد على عمق هذا النقاش.
القط:
)يبدأ الحديث بعد أن يتمطى بكسل (
"أيها الأصدقاء، لنتفق أولاً أننا نحن الثلاثة، ورغم كل اختلافاتنا، نعيش بسلام مع البشر. لكنني لا أستطيع التغاضي عن حقيقة أن الإنسان، رغم كل زعمه بالتطور والتحضر، يظل أسير أنانيته. أراقبه كل يوم، وهو ينغمس في شاشاته الصغيرة، هاتفه المحمول وفيسبوكه، وكأنه يهرب من الحياة نفسها. أين ذهب ذلك الإنسان الذي كان يُلهم الشعراء؟ أين هو الإنسان الكامل الذي تحدث عنه ابن عربي؟ بدلًا من ذلك، أصبح الإنسان الافتراضي الذي يعيش وهم التواصل، بينما قلبه مغلق."
الحمار:
)يهز رأسه بأسف (
"يا قط، أنت تتحدث عن قشرة الإنسان، لكنني أعرف لبَّه. الإنسان في جوهره ناكر للجميل، يستغلنا بلا شفقة. لقد حملتُ أثقاله عبر العصور، وسرتُ في طرقه الوعرة، لكنني لم أسمع منه سوى صوت السوط على ظهري. ومع ذلك، أظل أصبر وأعمل. أما في العصر الحديث؟ لقد أصبح أكثر جشعًا. يستهلك دون أن يُفكر، يهدم دون أن يبني، يتحدث عن الإنسانية لكنه لا يمارسها. وكما قال الجاحظ: ليس للعقل فضيلة إذا لم يكن معه الصبر . لكن أين الصبر في عصر السرعة؟"
الخروف:
)يتحدث بهدوء عميق (
"أيها الأصدقاء، الإنسان لم يتغير. هو كما هو منذ القدم، ينظر إلينا على أننا مجرد أدوات لخدمته. أُعطيه صوفي ليحتمي من البرد، ولحمي ليعيش، لكنني أرى في عينيه جشعًا لا ينتهي. ليس هذا فحسب، بل إنه جشع حتى تجاه بني جنسه. ينشر الحروب، ويقتتل على لا شيء. أتساءل: كيف يتفاخر بإنجازاته بينما يدمّر كل ما حوله؟ لقد أصبح يعيش في وهم الكمال الرقمي، لكنه أكثر خواءً من أي وقت مضى. كما قال الشاعر:
فيا موت زر إن الحياة ذميمة //// ويا نفس جدي إن دهرك هازلُ. "
القط:
)يبتسم بسخرية (
"أوه، يا خروف، لقد أصبت كبد الحقيقة. الإنسان هذا يركض خلف وهم السيطرة، يظن أنه سيد هذا العالم. لكنه لا يرى أننا نحن، الحيوانات البسيطة، أكثر حكمة منه. نحن نعيش بتناغم مع الطبيعة، بينما هو يُفسدها بلا توقف. أليس غريبًا أنه يملك الذكاء، لكنه يفتقر للحكمة؟"
الحمار:
)يرفع رأسه بفخر (
"على الأقل نحن نُقدّم شيئًا للعالم. أنا أزرع الحقول وأحمل الأثقال، والخروف يُدفئ البشر ويُطعمهم، وأنت، أيها القط، تُعلّمهم الاسترخاء والتأمل. أما الإنسان، ماذا يفعل؟ يستهلك دون إنتاج. يكتب كلامًا عن الحب على فيسبوك، لكنه لا يستطيع أن يحب جاره. يبني جسورًا بين المدن، لكنه يهدم الجسور بين القلوب. وكما قال المعري:
غير مجدٍ في ملتي واعتقادي //// نوح باكٍ ولا ترنم شادٍ. "
الخروف:
)يهز رأسه بأسى (
"الإنسان الحديث لا يعرف نفسه. يعيش في زحام الأصوات والإشعارات، لكنه لا يسمع صوته الداخلي. أنتم تعلمون يا أصدقائي أن الإنسان أصبح وحيدًا أكثر من أي وقت مضى، رغم كل هذه التكنولوجيا. الهاتف في يده، لكنه عاجز عن لمس قلب أحدهم. أليس هذا مضحكًا؟ أليس هذا مأساويًا؟"
القط:
)يضحك بسخرية مريرة (
"أوه، إنها مأساة وكوميديا في آنٍ واحد. الإنسان يكتب على تويتر عن السلام بينما يدمر كل شيء حوله. ينشر صورًا على إنستغرام عن الحب بينما قلبه فارغ. نحن الحيوانات، رغم بساطتنا، أكثر صدقًا منه. نحن لا ندّعي شيئًا لسنا عليه. أنا أعيش لأجل نفسي، وأنتما تعيشان لخدمة الآخرين. لكن الإنسان يعيش لأجل الوهم."
الحمار:
)ينظر بعيدًا بتأمل (
"ومع ذلك، يا أصدقاء، نحن لا نحقد عليه. نحن نعرف ضعفه ونصبر عليه. كما قال الإمام الشافعي:
تموت الأسود في الغابات جوعًا //// ولحم الضأن تأكله الكلاب.
لكننا لا نلومه، فهو ضحية غروره."
الخروف:
)يبتسم برقة(
"في النهاية، علينا أن نعلمه درسًا بسيطًا: أن يعود للطبيعة، أن يتعلم العطاء دون أن ينتظر المقابل. وربما، يومًا ما، يدرك أنه ليس سيد هذا العالم، بل مجرد جزء منه."
يستمر الحوار بينما تذوب الشمس خلف الأفق. تتلاقى نظراتهم، وفيها سخرية، حكمة، وتعاطف. وبينما يعود كل واحد منهم إلى حياته، يبقى الإنسان غارقًا في هاتفه، غير مدرك أن الحيوانات التي يحتقرها تفهمه أكثر مما يفهم نفسه.
في هذا الحوار الساخر بين القط، الحمار، والخروف، تنعكس صورة الإنسان المعاصر، الذي أضاع بوصلته في زحمة التكنولوجيا وأوهام التقدم السريع. لعل أهم ما يمكن أن نستخلصه من هذه الحكاية هو أن الحكمة الحقيقية ليست في بناء المدن الذكية ولا في اختراع الأجهزة المتطورة، بل في بناء الجسور بين القلوب، والحفاظ على علاقة الإنسان بالطبيعة، واستعادة القيم التي تُنبض الحياة بالمعنى.
الحيوانات، برغم بساطتها، تقدم نموذجًا للتوازن والتناغم. القط يذكرنا بأهمية العيش بوعي وثقة، الحمار يُعلمنا الصبر والعمل الدؤوب دون ضجيج، والخروف يُبرز قيمة العطاء والتضحية الصامتة. في المقابل، يعاني الإنسان من اغتراب عن نفسه وعن الآخرين، مسجون في شاشاته وأوهامه، وهو ما يدعو إلى تأمل عميق في معنى الوجود والغاية من الحياة.
العبرة الكبرى هنا أن الحكمة لا تأتي من التطور المادي وحده، بل من التوازن بين الروح والجسد، بين الإنسان والطبيعة. التكنولوجيا، رغم فوائدها، لا يمكن أن تكون بديلاً عن القيم الإنسانية التي تجعل للحياة معنى. فإذا أراد الإنسان أن يستعيد مكانته كخليفةٍ على الأرض، عليه أن يصغي لدروس البساطة التي تقدمها الطبيعة والكائنات التي يعيش معها، ويعيد النظر في علاقته بنفسه وبالآخرين.
وكما قال المتنبي:
"إذا غامرتَ في شرفٍ مرومِ //////// فلا تقنعْ بما دونَ النجومِ."
فالإنسان قادر على الوصول إلى النجوم، لكن عليه أولاً أن يتأكد أن قدميه ثابتتان على أرض الإنسانية الحقيقية.
#محمد_بسام_العمري (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟