أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد بسام العمري - الصفصاف الهرم














المزيد.....

الصفصاف الهرم


محمد بسام العمري

الحوار المتمدن-العدد: 8432 - 2025 / 8 / 12 - 15:00
المحور: الادب والفن
    


في أعماق كل إنسان، شجرة صامتة تنمو على حافة ذكرى.
تتدلّى أغصانها من الحنين، وتتغذى على ظلال الفقد.
بعضنا يهرب منها، وبعضنا يعود إليها...
لأننا نعلم، أو لا نعلم، أن هناك صوتًا خفيًا يسكن جذورها،
ينادينا لا لنُجِيبه، بل لنستمع إلى أنفسنا في صوته.
"الصفصاف الهرم" ليست شجرة، بل مرآةٌ من طين...
تعكس ملامح من رحلوا، وتُعيد تشكيل أرواح من ظلّوا يبحثون عن وداعٍ لم يكتمل.

كان المساء ينسدل بلطفٍ على البحيرة، يغمرها بضوءٍ رماديٍّ لا هو نور ولا هو ظلمة.
وعلى حافتها، وقفت الشجرة.
الصفصاف الهرم.
كائنٌ منسيّ، يغرس جذوره في الطين، ويدلّي أغصانه كأذرعٍ نسيَت شكل العناق.
لم تكن تلك الشجرة عادية.
كانت تشبه شيخًا عجوزًا يغفو واقفًا، وكل ورقة فيها تهمس بسرّ.
الابن عرفها منذ الطفولة، لكنّه لم يكن يعود إليها إلا في المساء، حين يصمت العالم ويبدأ الخيال في التحدّث.
كل مساء، كان يأتيها.
يقف بصمتٍ تحت ظلالها الثقيلة، يستمع إلى الريح وهي تمر بين أوراقها.
الهواء كان دائمًا مشبعًا برائحة الطين، كأن الأرض نفسها تبكي شيئًا لم يُقال.
وذات مرة، تذكر كلمات والده:
"الصفصاف يحمل أرواح أولئك الذين ضاعت أحلامهم، لا تقف طويلًا تحت ظله إن لم تكن مستعدًا لسماع ما لا يُقال."
ابتسم في داخله، لكنه لم يتحرك.
لقد بدأ يسمع.
الريح لم تعد ريحًا، بل همسات.
كلماتٌ لا يفهمها تمامًا، لكنها مألوفة بشكلٍ مخيف.
صوتٌ خافت، يذكره بضحكة والده، بصوته وهو يروي حكايات قبل النوم، بصراخه في لحظة خيبة.
ذاك الوالد الذي اختفى ذات مساء، دون رسالة، دون قبر.
ليلةً بعد أخرى، كان يأتي.
وكانت الشجرة تزداد حيوية.
في سطح الماء الساكن، بدأ يرى وجهًا يتشكل... لم يكن وجهه.
كان وجه والده.
انعكاس غريب، لا يختفي حتى حين يرمش.
عينان تملؤهما نظرة لم يعرفها حيًّا: نظرة اعتذار.
في الليلة الأخيرة، لم يكن القمر ظاهرًا.
كان السكون أعمق من العادة، كأن الزمن نفسه توقف.
تململت الشجرة.
أوراقها ارتجفت، وأصدرت صوتًا يشبه البكاء، لا، ليس بكاء... بل اعتراف.
اقترب الابن أكثر.
لامست قدماه الماء، وكان الضوء الخافت المنعكس من البحيرة يلمع على لحاء الشجرة.
ثم رآه.
وجهٌ محفور على الجذع، كمن نُحت من الزمن.
عينان من خشبٍ ورجفة من روح.
فتح الفم الخشبيّ، وقال:
"سامحني... ظننتُ أن الهروب نجاة، لكنني متُّ في كل خطوة."
ثم صمت.
لم تكن كلمات، كانت نبضًا.
الابن ارتجف، لا من الخوف، بل من الانكشاف.
كل شيء داخله تحرّك، كأن الشجرة كانت مرآةً عميقةً لروحه المتعبة.
مدّ يده ليلمس اللحاء... فاختفى الوجه.
وسكنت الشجرة.
كأنها تنفّست كل ما فيه، ثم عادت إلى صمتها الأبدي.
وقف هناك طويلًا، ثم تنهد.
لأول مرة، شعر أن الندم لم يعد يطارده، وأن الغياب لم يعد مطلقًا.
ربما لم تكن الشجرة سوى لغة الطبيعة لتقول ما لا يُقال،
أو ربّما كانت مجرد إسقاط... على روحه هو.
في كل الأحوال، عاد إلى المنزل وفي قلبه مساحة فارغة…
لكنها فارغة بشكلٍ مريح.
ليست خسارة، بل تصالح.
ومع شروق الفجر، ابتعد عن البحيرة، وقد أدرك أن بعض الأرواح لا تعود كي تُرَاك، بل لتُفهم.



#محمد_بسام_العمري (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- صناعة النفاق الثقافي في فكر ماركس وروسو
- بين شبرا والمطار
- العجيلي... الكاتب الذي جعل من الحياة كتاباً
- في مهرجان سياسي لنجم سينمائي.. تدافع في الهند يخلف عشرات الض ...
- ماكي صال يُحيّي ذكرى بن عيسى -رجل الدولة- و-خادم الثقافة بل ...
- الأمير بندر بن سلطان عن بن عيسى: كان خير العضيد ونعم الرفيق ...
- -للقصة بقية- يحقق أول ترشّح لقناة الجزيرة الإخبارية في جوائز ...
- الكاتبة السورية الكردية مها حسن تعيد -آن فرانك- إلى الحياة
- إصفهان، رائعة الفن والثقافة الزاخرة
- سينمائيون إسبان يوقعون بيانًا لدعم فلسطين ويتظاهرون تنديدا ب ...


المزيد.....

- الرملة 4000 / رانية مرجية
- هبنّقة / كمال التاغوتي
- يوميات رجل متشائل رواية شعرية مكثفة. الجزء الثالث 2025 / السيد حافظ
- للجرح شكل الوتر / د. خالد زغريت
- الثريا في ليالينا نائمة / د. خالد زغريت
- حوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الأول / السيد حافظ
- يوميات رجل غير مهزوم. عما يشبه الشعر / السيد حافظ
- نقوش على الجدار الحزين / مأمون أحمد مصطفى زيدان
- مسرحة التراث في التجارب المسرحية العربية - قراءة في مسرح الس ... / ريمة بن عيسى
- يوميات رجل مهزوم - عما يشبه الشعر - رواية شعرية مكثفة - ج1-ط ... / السيد حافظ


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد بسام العمري - الصفصاف الهرم