أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - محمد بسام العمري - تأملات في فلسفة الحديث مع النفس














المزيد.....

تأملات في فلسفة الحديث مع النفس


محمد بسام العمري

الحوار المتمدن-العدد: 8459 - 2025 / 9 / 8 - 07:26
المحور: قضايا ثقافية
    


حين يجد الإنسان نفسه وحيدًا، بعيدًا عن ضجيج العالم، يبرز سؤال وجودي عميق: عندما نتحدث مع أنفسنا، هل نكون المتحدث أم المستمع؟ يبدو السؤال لأول وهلة بسيطًا، لكنه يفتح أبوابًا واسعة على فلسفة الوعي والحرية والعزلة والآخر، وقد شغل هذا التوتر الداخلي عقول الفلاسفة والأدباء منذ العصور القديمة حتى الفكر الوجودي المعاصر. إن الحوار مع النفس ليس مجرد آلية نفسية، بل هو ممارسة فلسفية تكشف طبيعة الكائن البشري، وتضعه في مواجهة ذاته والآخر والوجود ككل.
لقد اعتبر سقراط أن “الحياة غير المفحوصة لا تستحق أن تُعاش”، وهو ما يجعل المساءلة الذاتية شرطًا جوهريًا لكرامة الوجود. وهذا الفحص لا يتحقق إلا عبر تبادل الأدوار بين المتحدث والمستمع داخل الذات الواحدة. أما ديكارت فقد حوّل الحوار الداخلي إلى برهان أنطولوجي على الوجود ذاته، حين صاغ عبارته الشهيرة: “أنا أفكر، إذن أنا موجود”، حيث يصبح التفكير الذاتي – أي مخاطبة النفس لنفسها – دليلًا على الكينونة. وقد ناقشت العديد من الدراسات المعاصرة (انظر: جون كوتينغهام، Descartes: A Very Short Introduction، 2018) أن الكوجيتو الديكارتي لا يُفهم إلا في إطار هذا المونولوج الداخلي، الذي يمزج بين القول والإنصات.
ومع الفلسفة الوجودية، تعمّق السؤال أكثر. يرى مارتن هايدغر في الوجود والزمان أن الإنسان ليس ذاتًا منعزلة، بل هو “كائن-في-العالم”. والوحدة عنده ليست فراغًا، بل انكشاف على الإمكانات الأصيلة للوجود. والحديث مع النفس ليس لعبًا للأدوار، بل استجابة لما يسميه "نداء الكينونة" (Ruf des Seins)، حيث تصغي الذات إلى صوت وجودها الذي يذكّرها بحدودها وبالموت كأفق لا مفر منه. وقد أشارت دراسات حديثة (تشارلز غيونغ، Heidegger and the Quest for Authenticity، 2009) إلى أن الحوار الداخلي هو الشرط الذي يتيح للإنسان أن يخرج من "الوجود الزائف" نحو "الوجود الأصيل".
أما جان بول سارتر، في الوجود والعدم، فقد أبرز أن الحوار مع النفس ليس مجرد فعل فردي معزول، بل هو مشبع بحضور الآخر. فالوعي عنده لا ينفصل عن “نظرة الآخر” (le regard de l’Autre). وحتى في عزلة النفس، يتردد صوت الآخر في أعماق الذات، وكأن المتحدث والمستمع كلاهما ملوثان بآثار الغير. ولذا فإن الحرية، في نظر سارتر، تنكشف في هذا الصراع الداخلي بين الذات التي تريد أن تكون مطلقة والآخر الذي يحدّدها. إن حوار النفس مع نفسها، بحسب التحليلات النقدية (توماس فلين، Sartre and Existentialism، 2014)، هو ممارسة مستمرة لإعادة تعريف الحرية في مواجهة الوجود.
سورين كيركغارد، الفيلسوف الوجودي المبكر، قدّم رؤية مختلفة، إذ اعتبر أن العزلة هي الطريق إلى "الإيمان الأصيل". ففي وحدته، يسمع الإنسان صوت ذاته وهو يواجه المطلق، وهو ما أسماه بـ"القلق" (Angest)، ذلك الدوار الذي يكشف عمق الحرية الإنسانية. الحوار مع النفس عند كيركغارد ليس مجرد حوار داخلي، بل هو مواجهة وجودية مع الحقيقة النهائية التي تتجاوز الذات. دراسات نقدية مثل أعمال ميريام أرنولد (Kierkegaard’s Philosophy of Selfhood، 2016) تؤكد أن هذا القلق الذي يُعاش في عزلة النفس هو الذي يخلق ذاتًا أصيلة قادرة على اتخاذ قرار حقيقي.
أما نيتشه فقد ذهب أبعد حين دعا إلى "الوحدة الكبرى". فالإنسان عنده، لكي يبلغ مرتبة “الإنسان الأعلى”، يجب أن يدخل في عزلة خالصة، حيث يكون الحوار مع النفس فعل خلق وإعادة بناء للقيم. الذات عند نيتشه لا تكتفي بأن تكون متحدثة ومستمعَة، بل تتحول إلى مبدعة تبتكر معانيها الخاصة بعيدًا عن صخب الجماعة. وهذا ما أكده والتر كوفمان في دراسته الكلاسيكية Nietzsche: Philosopher, Psychologist, Antichrist (1974) بأن نيتشه يرى أن العزلة الخلّاقة هي الشرط الضروري لكل تفوق إنساني.
وإذا عدنا إلى التصوف والشعر، وجدنا أن جلال الدين الرومي اختصر هذه الرؤية بقوله: “أصغ إلى نفسك، فبها يكمن كل السر”. في حين جعل ريلكه من هذا الإصغاء دعوةً للشاعر لأن يحيا جوهر ذاته: “لا تبحث عن الإجابة في الخارج، كل شيء في داخلك ينتظر أن يُعاش” (رسائل إلى شاعر شاب). أما نجيب محفوظ فقد نقل هذا السؤال إلى حقل السرد الروائي، حيث قدّم في أولاد حارتنا صورة الإنسان ككائن مزدوج يعيش في حوار داخلي دائم، تتجاذبه أصوات متعددة تعكس عمق الصراع بين المتحدث والمستمع في الذات البشرية.
إن الحوار الداخلي، إذاً، ليس مجرد ثنائية بين صوتين، بل هو مرآة تعكس جدل الذات والآخر، العزلة والحرية، القول والإنصات. في العزلة، يبدو الإنسان وحيدًا، لكنه في الحقيقة محاط بأصداء الآخرين وبصوت التاريخ والثقافة. وفي الحرية، يتصور نفسه المتحدث الوحيد، لكنه لا يكف عن الإصغاء إلى حدود وضعها الآخرون أو إلى نداءات وجودية تتجاوزه.
وعليه، فإن سؤال: من يكون المتحدث ومن يكون المستمع؟ لا ينحصر في ثنائية لغوية، بل هو تعبير عن جوهر الوعي الإنساني. إنه سؤال عن معنى أن تكون، عن كيفية حضور الذات أمام نفسها وأمام الآخر وأمام المطلق. ومن هنا فإن الحوار الداخلي يظل أفقًا فلسفيًا مفتوحًا، يمزج بين الفحص العقلاني عند سقراط وديكارت، والوجود الأصيل عند هايدغر، والحرية المشروطة بالآخر عند سارتر، والقلق الإيماني عند كيركغارد، والإرادة الخلّاقة عند نيتشه، والرؤية الشعرية والروحية عند الرومي وريلـكه ومحفوظ.
إن الإنسان، في لحظات وحدته، لا يكون متحدثًا أو مستمعًا فقط، بل هو الاثنين معًا، وهو أيضًا القارئ والكاتب، الفيلسوف والشاعر، الباحث عن معنى وجوده في صمت العزلة وضجيج الحرية. ومن هنا يظل الحوار الداخلي ليس وسيلة فحسب، بل غاية: غاية الوعي الذي يسعى لأن يفهم نفسه والعالم، دون أن يجد يومًا إجابة نهائية، لأن السؤال ذاته هو علامة على حيوية الروح وسعيها الدائم إلى الاكتمال.



#محمد_بسام_العمري (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- اهتمامات المرأة بين البناء الذاتي والتحديات المجتمعية: قراءة ...
- -ملهمة الفجر وإشراقة الروح-
- الكذب القهري: مقاربة نفسية لاضطراب الميثومانيا-
- الدكتور الذي يعرف كل شيء
- -السكر: المتهم الأول في قائمة أمراض العصر-
- ظلال الخرسانة: حين يُبنى الشك
- الأدب الأفريقي: ذاكرة تتكلّم بلسان الأسطورة وصوت الأرض
- الحاج مراد: أسير التوقعات بين أنين الروح وشهقات الزمن
- -فضول الإنسان: بين الحاجة المعرفية وانتهاك الحريات-
- من خدش بسيط إلى عدوى خطيرة: أمراض قد تنقلها القطط للبشر
- الخطوة الأخيرة: حين ابتلعني ظلّي
- الشعر الحر: ثورة إبداعية في مواجهة التفعيلة التقليدية-
- الإنسان بين غموض الذات وأسرار الكون
- الشعر والزمن في فكر العقاد: تعميق اللحظات وإغناء التجربة الإ ...
- النجمة التي لا يراها سوانا
- - فلسفة المناعة العاطفية في عالم لا يعرف الحنان-
- حكاية الفصول
- صراع الفكر الحر مع سلطة الدين عبر التاريخ-
- -التحرش سببه ملابس المرأة أم أخلاق الرجل؟-
- الأكسجين والغباء في منظور إنساني وفلسفي


المزيد.....




- عالم الزومبي في انتظارك.. خيال يتحوّل إلى واقع في قلب أبوظبي ...
- وزير الدفاع الإسرائيلي يهدد بـ-إعصار هائل- سيضرب مدينة غزة ا ...
- عاجل: عملية إطلاق نار في القدس ونجمة داوود الحمراء تبلغ عن إ ...
- -طريق طويل وتحديات-..ماكرون يعين فرانسوا بايرو رئيسا للوزراء ...
- فرنسا ـ الإعلان عن تشكيل رابع حكومة خلال عام واحد
- الاتحاد الأوروبي ـ تراجع طلبات اللجوء بعد سقوط نظام الأسد
- فرنسا - تصويت حاسم في الجمعية الوطنية يهدد بانهيار حكومة باي ...
- بيديْن مبتورتين.. فتاة يمنية تتحدى الإعاقة بالتفوّق الأكاديم ...
- مسيّرة إسرائيلية تبتر أطراف طفل داخل غرفته في غزة
- رحلة نهرية إلى صرح العظماء في قلب بافاريا


المزيد.....

- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الساد ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الثال ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الأول ... / منذر خدام
- ازمة البحث العلمي بين الثقافة و البيئة / مضر خليل عمر
- العرب والعولمة( الفصل الرابع) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الثالث) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الأول) / منذر خدام
- مقالات في الثقافة والاقتصاد / د.جاسم الفارس
- مقالات في الثقافة والاقتصاد / د.جاسم الفارس
- قواعد اللغة الإنكليزية للأولمبياد مصمم للطلاب السوريين / محمد عبد الكريم يوسف


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - محمد بسام العمري - تأملات في فلسفة الحديث مع النفس