|
ترامب يشيع الفاشية في الحياة السياسية والوعي الاجتماعي-2
سعيد مضيه
الحوار المتمدن-العدد: 8458 - 2025 / 9 / 7 - 10:03
المحور:
العمل المشترك بين القوى اليسارية والعلمانية والديمقرطية
دروس في التربية الفاشية و تطويع الجمهور لإرهاب السلطة
لا يقتصر الاحتفال بالقسوة وعنف الدولة على تسليط الضوء على أعداء ترامب السياسيين؛ فهو يمتد عبر مشاريع ترويجية بارعة يستخدمها أتباعه السياسيون. على سبيل المثال، وزيرة الأمن الداخلي الأمريكي، وهي * مسؤولة منتمية لحركة ماغا (لنجعل أمريكا عظيمة من جديد) نشرت بلا حياء فيديو دعاية لإرهاب حكومة السلفادور يتضمن مجموعة سجناء عراة الصدر في مركز احتجاز CECOT.، محجوزين داخل أقفاص* . بهذا الأ داء ، تم إخراج نظام الحبس المتوحش بمظهر جمالي للسلطة والعقاب، مسرح مُهيأً للطموح السياسي. يكشف مشهد نويم (الوزيرة) كيف ينتشر الاستعراض السلطوي العابر للحدود الوطنية: تصبح دولة السجن في السلفادور سيناريو مرئيًا للسياسيين الأمريكيين الحريصين على إظهار الصلابة، وتصدير قواعد الأداء الفاشي عبر الحدود. في هذه الثقافة المبهرحة ، تتحلل السياسة في جماليات القسوة، حيث يُعاد تغليف الفوضى والقمع على أنهما فضائل مدنية وتغليف فرص التقاط الصور بما أسماه *فيلهلم رايش*، في *السيكولوجيا الجماعية للفاشية، "المختلين جنسيًا." المشهد هنا لايخفي الفاشية بل يجسدها. كل مشهد يُضفي طابعًا دراميًا على الرسالة القائلة بأن ترامب وحده يقرر من هو آمن، ومن يُعاقب، ومن هم الفضلات البشرية . بصيرة رايش لـ "تحريف المتعة" الفاشي هي مركزية : ليس المقصود من عرض القسوة إنزال الرعب ققط، بل كذلك المقصود هو الإرضاء. يطلب من المواطنين ممارسة إذلال الضعفاء كنوع من التنفيس الذاتي ؛ يجدون الرضا في معاقبة من هم بلا حماية . تتجلى بوضوح هنا تحذيرات ثيودور أدورنو من الشخصية السلطوية : * "مزج الطاعة بالمتعة، والخضوع بالعدوان، يُنتج رعايا يرغبون في الهيمنة كما لو كانت حرية."* ما يبرز هو اقتصاد سلطوي للرغبة، حيث القسوة تتحول إلى مسرح. صور المسيرات العسكرية، لقطات الأعداء السياسيين، أو المهاجرين المحتجزين في أقفاص، تعمم عبر منصات الإعلام كإعلانات للقمع، منتجةً الخوف والمتعة غير المشروعة. هذا المشهد يدرب المواطنين على استهلاك القسوة كنوع من الترفيه، وإضفاء طابع جنسي على الهيمنة، وقبول الانتقام كأسمى فضيلة مدنية.الفرجة تغدو تواطؤًا؛ والتواطؤ يغدومصدر رضا، والرضا شكلا للولاء . لا يبقى هذا المسرح التسلطي داخل حدود الولايات المتحدة؛ بل يتردد صداه في أرجاء العالم ، تراه بصورة اعظم في إسرائيل وعدوان الإبادة الجماعية على غزة ؛ يجري تضخيم مشهدية عنف الدولة إلى نطاق عالمي: تفجيرات تبث في الحال صور لأحياء سويت بالأرض ً، ولمسيّرات تقصف عائلات باكملها، تدفنها تحت الأنقاض، يجري تعميمها كدعاية عسكرية ووسيلة تربية ثقافية. كما يُعيد ترامب تغليف القسوة في مسرح وطني ، تُحوّل إسرائيل الموت الجماعي عروضٍ ردع، مُصوّرةً الهيمنة ضرورة والإبادة أمنا. تُغدو غزة مختبرًا وشاشةً عرض ، في آنٍ معا، حيث القسوة المُعسكرة تعرض باستمرار ، تمنح شكلا جماليا ثم تُصدّر كنموذجٍ للأنظمة الاستبدادية في أنحاء العالم، ووسيلة للعبور الى ريفيرا !! حيال هذه الظروف، تختفي المشاهدة الأخلاقية، ويقوض عبء الضمير على المستوى العالمي، وتنهار روابط التضامن القديمة مع تدمير المؤسسات الثقافية والتعليمية المكرسة للصالح العام. يغدو ظهور الدولة العسكرية حيث السجن مكان للترفيه ، مشهد يدمج التعذيب وإباحية العنف والإلهاء الجماعي مفردات ثقافة مركزية للسياسة. المشهد مدمر للفكر، يمحو الذاكرة، يخترع الأشرار المزيفين وينتج أمية مدنية تترك الجمهور عرضة سائغة للخوف والتلاعب. ما يختفي خلل هذا الضباب هو الاقرار بأن الولايات المتحدة لا تمر بانحراف مؤقت، بل بتوطيد أركان فاشية جديدة، تدمج العنف العسكري والإرهاب وسيلة تربية وقسوة في الداخل برعاية الدولة موجهة لتركيب رعايا فاشيين يليقون بالقرن الحادي والعشرين. فاشية اليوم ليست مجرد معرض قوة تديره الدولة ؛ إنه نظام تربوي، وجهاز هندسة ثقافية يقرر من يعتبر مواطناً، حياته مهمة، ومن حياته يجوز التخلص منها ..
الإرهاب بالداخل نظام لأساليب التربية الفاشية في كنف إدارة ترامب، لم تعد الثقافة مجرد مرآة للسلطة السياسية، بل هي الأرضية التي تتجذر فيها السلطوية، تشكل رعاياها، وتشرعن دولة الحرب. لا شك أن اعتماد ترامب على القوة المتوحشة ، وإدمانه على عنف الدولة، وتوسيعه* لدولة مصادرة الحريات* لا شك فيه؛ ومع ذلك فالوعي بالذات هو ميدان المعركة الأكثر استدامة للإرهاب في الداخل. هنا يدرب الجمهور على النسيان، ويدرّس لفهم الأكاذيب حقيقة ، ويتم إخضاعه لتربية بوسيلة العنف تؤديها آليات شطب التخييل تشن حربها ضد المعرفة والتخييل . يُحيل نظام ترامب الهندسة الثقافية سلاحا ، يُقرر ما الذي يتم تذكره وما الذي يُمحى، أي القيم تُقدّس وأيها تنبذ. لا ينحصر الهدف في السيطرة على السياسة، إنما استعمار الوعي، إنتاج جمهور يخزن في داخله الطاعة والخوف وفقدان الذاكرة التاريخية . هذا هو منطق الإرهاب وسيلة تربية : جهاز ثقافي وتعليمي يحيل الإكراه والمحو وسلب إنسانية الإنسان أمورا مالوفة ، وذلك بواسطة تعليم الناس تقبلها كإدراك عام . إن الهجوم على متحف سميثسونيان، وحظر الكتب، وإسكات الجامعات، وتقدير "اليقظة " كلمة شيفرة للعدالة العرقية والحقيقة التاريخية، كل ذلك يُظهر بوضوح كيف ان التفوق العنصري للبيض يغذي مشروع التطهير ، الذي تلوّح به سلطوية ترامب . هنا نجد ما هو اكثر من محاولة ترامب إعادة كتابة التاريخ؛ فهو مشروع يرمي لشطب الذاكرة التاريخية. يوضح الأمر تشونسي ديفيغا، الكاتب بمجلة "صالون"، بتفصيل يلقي الضوء ، إذ يقول : إن هجوم الرئيس على متحف سميثسونيان خطير. غير ان حملته لتبييض- أو بتحديد أدق مشروعه الأبيض[ يقصد الكاتب عنصرية البيض] - لا توجد في فراغ؛ فهي تمتد إلى ما هو أبعد من متحف سميثسونيان. نحن شهود نظام جريمة الفكر يحكم قبضته على تاريخ البلاد الفكري والذاكرة الجمعية، التي ظلت حتى الآن تُعتبر " يقظة ". يشمل ذلك التعليم العالي، مع التركيز بشكل خاص على الكليات والجامعات النخبوية؛ وإعادة صياغة كتب التاريخ المدرسية وغيرها من المواد التعليمية؛ وتدمير وسائل الإعلام العامة مثل PBS و NPR؛ وترميم معالم الكونفدرالية؛ وإزالة السياق التاريخي للحدائق العامة وغيرها من المساحات وعلاقتها بالتمييز العنصري؛ وخفض التمويل الفيدرالي للأبحاث العلمية والصحية التي تفيد المجتمعات المهمشة، بما في ذلك النساء؛ وإصدار أوامر للبنتاغون بتطهير الضباط وغيرهم من القادة غير البيض، وإزالة أسماء ومساهمات المحاربين القدامى الأمريكيين من أصل أفريقي وغيرهم من غير البيض - بالإضافة إلى النساء والأمريكيين ممن طلبوا اللجوء بالخارج - مكتباتهم ومواقعهم الإلكترونية وكل ما يعود اليهم من قواعد وسفن .
على مستوى الولايات، يتخذ هذا المشروع أشكالًا غريبة، كما هو الحال مع رايان والترز ولاية أكلاهوما، يشترط على المتقدمين من "الولايات الليبرالية" اجتياز اختبار ضد اليقظة قبل دخول سلك التدريس. ليست هذه الهجمات معزولة؛ فهي جزء من جهد ممنهج لجعل التربية والثقافة والذاكرة سلاحا كي تصنع أتاعا فاشيين ، سلبيين، مذعنين ومجردين من الفكر النقدي.
عسكرة المجتمع ومشهد إرهاب الدولة
لا تقتصر هذه الهجمات على تفكيك نظرية التنوع والإنصاف والشمول أو نظرية العرق النقدية، بل هي هجمات على القيم والمؤسسات التي تُتيج إمكانية الديمقراطية. ان مزج العسكرة مع هندسة الثقافية مؤشر على ان السلطوية في الوقت الراهن تعمل بازدواجية كشكل كولنيالي يشمل مؤسسات وأجهزة تقافية واساليب تربوية تُشكّل الوعي بالذات . إرهاب دائرة الهجرة والجمارك، والاختطافات السرية ينفذها وحدات مقنعة شبه عسكرية ، وتجريم المعارضة في الجامعات، وفرض الرقابة على الأماكن العامة يمضي بموازاتها كولنيالية اللغة والهوية والذاكرة. كلام ترامب عن الجريمة والفساد والغزو يؤدي ليس فقط دور مسرح سياسي فحسب، بل يُمثّل كذلك مشهدًا لإرهاب الدولة. يجدر تكرار القول ان ترديده المتكرر حول "العدو بالداخل " ماركسيون فاشيون وآخرون يذمهم بصفات "مرضى " و "أشرار" ليست مجرد إهانات ، إنما هي جزء من سيناريو فاشي لأعداء داخليين مزعومين. يشير جريج سارجنت إلى أن مثل هذا الكلام يمضي مباشرة على غرار التقاليد الفاشية التاريخية ، حيث تجرف إنسانية المعارضة ويحالون تهديدا للوجود ، مما يشرعن العنف ضدهم. اقترنت هذه اللغة بالقوة. أطلق ترامب الحرس الوطني في واشنطن العاصمة، دفع الدبابات إلى العاصمة في عرض عسكري، مشيرًا إلى سكان المدينة، السود والديمقراطيين، بأنهم يعيشون تحت قوة مسلحة. ومؤخرًا، حوّل 2000 فرد من الحرس الوطني في كاليفورنيا إلى قوات فيدرالية دون موافقة الحاكم لقمع الاحتجاجات في لوس أنجلوس؛وهذه هي الخطوة الأولى من نوعها منذ 60 عامًا. ألقى عملاء دائرة الهجرة والجمارك قنابل صوتية وأطلقوا رصاصات "غير مميتة" على الحشود، بينما هدد وزير الدفاع بيت هيجسيث بحشد مشاة البحرية إذا استمرت الاضطرابات. وصف ترامب لوس أنجلوس بأنها "محتلة من قبل معارضة غير شرعية ومجرمين"، متعهدًا "بتحرير" المدينة. وحسب أقوال ترامب، فهذا الاحتلال العسكري سيشمل قريبًا شيكاغو وبالتيمور، إن لم يشمل جميع المدن الرئيسية في أميركا يحكمها ديمقراطيون . في مؤتمر صحفي، أعلنت كريستي نويم(وزيرة الداخلية)، بمنطقٍ مُتحمّس، أن على القوات الفيدرالية أن تحتل لوس أنجلوس وغيرها من المدن الديمقراطية ذات الأغلبية من الديمقراطيين والسود زاعمة أن هذه العسكرة ضرورية "لإنقاذها من الاشتراكيين". هذه الأفعال مثال للإرهاب الداخلي: تسخير قوة الحيش والشرطية لترويع السكان المدنيين، وتجريم المعارضة، وإعلان مدن الديمقراطيين والمعاقل متعددة الثقافات مناطق معادية تحتاج إلى احتلال عسكري. أفعال بمثابة المعادل المحلي للأحكام العرفية. من ناحية تاريخية، تردد أصداء كلاب بول كونور البوليسية في برمنغهام، ورصاصات الحرس الوطني بجامعة ولاية كينت عام ١٩٧٠، واستخدام بينوشيه للدبابات والجنود لإرهاب سانتياغو. النمط واضح: عنف الدولة يُمارس ضد المواطنين لضمان استقرار الحكم الاستبدادي، وكل ذلك يُتغذى من فانتازيات ترامب التسلطية . وكما يلاحظ جاكسون ليرز، فإن نظام ترامب "*مخمور بفانتازيات استثنائية وملتزم بقهر الجماهير التي يعتبرها بمرتبة أدنى *".
قليلة هي الأماكن التي تكشف عن سياسات إرهاب الدولة بما هو أصرخ من فانتازيا ترامب حول "القبة الذهبية" فوق الولايات المتحدة. فكرة مستعارة من القبة الحديدية الإسرائيلية، تُقدم نفسها كدفاع لكنها تعمل فانتازيا السيطرة الشاملة : مظلة لحماية السلطة الاستبدادية مع إضفاء الشرعية على عنفها. الدرس الحقيقي من قبة إسرائيل هو أن الأمن للبعض يُشترى مقابل إبادة الآخرين. داخل قوسها، تتم أسطرة ؛ اما خاررجه فيسيطر التدمير . يُظهر تدمير غزة وإبادتها الجماعية كيف يغدو الدفاع ذريعةً للإبادة الجماعية. وستؤدي "القبة الذهبية" لترامب نفس الحيلة ،تترجم الحرب الدائمة والقمع المُسلّح إلى لغة الحماية.
شأن جميع خرافات الاستبداد، فهي أسلوب تربية : تدرب المواطنين على معادلة السلامة بالطاعة، وتعيد تعريف المعارضة كتهديد للبقاء الوطني. * تحذير والتر بنيامين من أن الفاشية تجمل السياس*ة يجد هنا صداه الطازج؛ فالقبة لم تعد تقنية للحرب، بل فانتازيا سياسية للجمال والنظام القائمين على العنف والشطب.
عسكرة الفضاء العام: ولادة الجمالية الفاشية من جديد أصبح الفضاء العام الآن مُعسكرًا، تحول إلى مسرح حيث تقنيات المراقبة والوجود الكثيف للشرطة المسلحة في كل مكان بمثابة الفصل الافتتاحي في سيناريو الإرهاب الداخلي المبهرج . في كنف نظام ترامب، مقاطع الفيديو الحكومية الممسرحية عامل دمج لإباحية الخوف مع مفردات بصرية للافتتاحيات الراقية، جمالية تظهر فيها وزيرة الداخلية، كريستي نويم، نموذجا مجمدا للاضطهاد ، يواجه التركيب الهندسي البارد لجدران السجن والأسلاك الشائكة والقوافل المدرعة. هذه ليست مجرد د بروباغاندا، بل هي جمالية الفاشية تولد من جديد، حيث العنف مندمج بالاضطهاد مصمم وفق نسق مميز ، و آلية إرهاب الدولة ذات إغراء .
على مسرح الهيمنة هذا، لم يعد الفضاء العام محتلاً فحسب، بل مُصمم في نسق مشهدي يغدو فيه الخوف سلعةً واستعراضاً في آنٍ معا . وكما هو الحال مع جميع أساليب تربية الاستبداد، فإن هذه الصور لا تُبرز القوة فحسب؛ بل تُعلّم الجمهور كيف يشتهيها، تضفي تطبيع وجود السلطة المُعسكرة أمراًٍ حتميٍّا ومطمحا . باتت القبلية البدائية للذكورة السامة مقترنة بما تُسميه* أرييلا عائشة أزولاي "التقنيات الإمبريالية*" ، التي "تُعسكر السياسة الأمريكية وتُسيّس الجيش الأمريكي". في قلب هذا النظام الاستبدادي المُبهرج يكمن اندماج العقاب والمحو في دائرة مغلقة من وسائل التربية ؛ حلقة تحيل الثقافة سلاحا مزدوجا، أداة هيمنة ووسيلةٍ تشكيل للذاتية . العقاب لايقتصر مفعوله على تجريم المُعارضة وفرض ا نضباط على المجتمعات بواسطة الشرطة المُعسكرة ، إنما يشمل كذلك تطبيع الإكراه. تعمل مداهمات دائرة الهجرة والجمارك الأمريكية، وعمليات الاختطاف العلني، وانتشار المراقبة، بمثابة دروس عامة، تُدرّب الناس على ا ابتلاع الخوف و تقبل الاضطهاد كجزء من حياتهم اليومية. الشطب يتمم أسلوب التربية هذا بواسطة تطهير جرائم السلطة من الذاكرة التاريخية والوعي الثقافي. يتخذ هذا شكل الرقابة، حظر الكتب، إسكات الجامعات باعتبارها مجالات عامة ديمقراطية، واختفاء الحقائق المزعجة من المخيلة الاجتماعية. معًا، العقاب والمحو يخلقان ثقافة إرهاب يؤدي دورا تربويا فيه يُطبَّع الاضطهاد ، و يغدو فقدان الذاكرة التاريخية الأساس لشكل مُطوّر من سياسات الفاشية، سياسات لا ُتتوقف عند التحكم بالأجساد والمؤسسات ، بل تُعيد أنتاج الثقافة نفسها جهازًا للحكم الاستبدادي.
استعمار الذاكرة وعسكرة الوعي
لا تكتفي الفاشية باحتلال المؤسسات؛ بل تحتل الذاكرة كذلك . تُملي ما يُمكث بالذاكرة وما ينتسى مما يضمن أن الرؤى البديلة للتاريخ والديمقراطية لا تمد جذورها . حذّرت *حنة أرندت* من أن تدمير المواطنة وترك الناس بلا دولة يُعادل "الطرد من الإنسانية ذاتها". بالمثل تطرد سلطوية هذه الأيام الأصوات المعارضة من الحياة العامة بمحو تواريخها. في مركز عملية الشطب هذه القضاء على الفضاء العام، عسكرة المؤسسات التي تُنتج مواطنين مطلعين ، وتحويل الأجهزة الثقافية، أو ما أسماه أدورنو "صناعة الثقافة"، إلى آليات ت وسائل تربية للإسكات والبروباغاندا . في مركز هذا الاستعراض للعسكرة ليس خلق ذات تسلطية فحسب، بل وكذلك ما يجب ان يشطب – قيم الديمقراطية ، دولة الرفاه، التعليم النقدي، الصالح العام، مجتمعات التضامن، الاحتياجات الإنسانية الأساسية، ودولة الرفاه، حكم القانون، الوعد بالمساواة الاقتصادية، ورؤية ديمقراطية للمستقبل. مقاومة السلطوية لا تتطلب مجرد عمل سياسي، بل تتطلب إعادة تأهيل الذاكرة كإجراء ديمقراطي. وهذا يعني رفض احتكار الدولة للروايات التاريخية، والحفاظ على ذاكرة التضامن والنضال، وغرس رؤى جديدة للعدالة. تغدو الذاكرة ساحة للمقاومة الديمقراطية، ووسيلة التربية المضادة لثقافة الفاشية ، ثقافة فقدان الذاكرة. الجانب الأشد مكراً في دولة الحرب يكمن في عدم الاكتفاء بالسيطرة على المؤسسات، فتعمد الى استعمار الفكر ، إذ تسخر المعرفة سلاحا ، أحد أشكال القوة. إنها تُعيد صياغة الحرب كحالة دائمة، وتُعلّم القسوة والخوف فضائل مدنية، وتُصوّر التعاطف ضعفا. يُسلّط كتاب أدورنو *"الشخصية الاستبدادية"* الضوء على هذه العملية: فالأنظمة الاستبدادية تزرع ليس الطاعة فقط ، بل وكذلك نزعة نفسية تُساوي الهيمنة بالقوة، والرحمة بالخيانة. ما يجب ان لا يغيب عن الوعي ، إن أريد ردع الفاشية ، أنها ليست مجرد نظام سياسي، بل هي، كما يُشير *إرجين يلديز أوغلو*، نظام في أسلوب التربية ، آلية للتعليم وعدم اكتساب العلم ، وعدم شكيل الوعي بالذات من خلال الجماليات، ووسائل الإعلاع، و مقاربة خوارزميات الذكاء الاصطناعي. أسلوبها التربوي هو أسلوب هيمنة: أسلوب يصوغ العواطف ، ويُملي القيم، ويغرس سرديات تُحدّد من يتوجب كراهيته ، ومن يجب نسيانه، ومن يجب أن يبقى في الظل. الفاشية لا تقتصر على الاستيلاء على الدولة؛ بل تستعمر اللغة والذاكرة والهوية. إنها تمحو الماضي عن طريق إسكات الذاكرة التاريخية، وتُضيّق آفاق التخييل ، و تجفيف الحيوية النقدية للحياة العامة. تُنتج رعايا لا يُوالون الحقيقة بل السلطة، يطيعون الأمر وليس للضمير . هذا هو الهدف الأسمى لإرهاب أساليب التربية : التربوي: ليس فقط عسكرة الدولة والمعرفة والقيم، بل أيضًا عسكرة العقل . بتضييق ما يجوز قوله أو تذكره أو تخيله، تجرّم المعارضة وتحوّل اللغة نفسها إلى ترسانة من القسوة. في عهد ترامب، لم تعد الفاشية مجرد مشهديات عسكرية، بل نموذج للحرب. الفاشية، إن لم تفهم مجرد حكومة أو أحد أشكال رأسمالية العصابات، بل فوق ذلك ثقافة، فإن مكافحتها يجب ألا تقتصر على الاقتصاد والأيديولوجيا ، بل تشمل كذلك حيز أسلوب التربية حيث التعليم يغدو محور السياسة، وتخاطب الثقافة الأفراد بلغة يمكنهم من خلالها التعرف على أنفسهم والانتظام في حركة جماهيرية. كما يذكّرنا* أنطونيو غرامشي في "دفاتر السجن*"، "كل الأنشطة السياسة تربوية". إذا كانت الفاشية تُعلّم الخوف والقسوة والطاعة، فإن المقاومة يجب أن تُعلّم التضامن والذاكرة النقدية وشجاعة تخيل مستقبل مختلف. في مواجهة أساليب تعليم الفاشية القائمة على التجريد من الملكية ، يتوجب علينا غرس أسلوب تعليم التحرير ــ أسلوب تربية يوسع نطاق الممكن، يستعيد كرامة الذاكرة، ويعيد تأهيل اللغة سلاح ديمقراطية وليس الهيمنة.
الخلاصة: مقاومة دولة الحرب
تعيش الولايات المتحدة الآن في ظل دولة حرب تدمج الإرهاب الداخلي بإرهاب أساليب التربية (البيداغوجيا) . ولا تتوقف اساليبها عند السيطرة على الأجساد، بل تشمل كذلك استعمار العقول، ومحو الذاكرة، وصياغة ثقافة السلبية والطاعة والتوحش . من ثم لا يمكن اختزال المقاومة في فضح الفساد، أو عنف الشرطة، أو معارضة السياسات، مهما بلغت أهميتها؛ بل يجب إعادة تأهيل الثقافة واللغة والذاكرة باعتبارها عصب النقد وفرص الديمقراطية. ليس بغير إعادة التأهيل هذه بمقدورنا ان نعي كيف أُعيدت إلى الحياة الراهنة أحلك دوافع الماضي ، وكيف تعمل منصات الإعلام الجديدة وآلات ت ثلم التحييل بلا كلل لتطبيع الخوف والجهل وعنف الدولة والإرهاب الداخلي، وصناعة رعايا مُسلّحين.
فيما يتعلق بصناعة رعايا مُسلّحين، تُذكّرنا *سابل إليس سميث* بأن الجهل ليس مجرد غياب المعرفة، بل هو أحد أشكال العنف. خيوط نسيجه عاصر الحياة اليومية تحيكها آلات ثلم التخييل ، التي تُدرّبنا ليس فقط على استهلاك الألم، بل على الاستمتاع به كذلك، والسمو بالقسوة الى تسلية. أباح ترامب ثقافة الهجر الاستعراضية واشتط في ذلك . أباح بذلك سياساتٍ باتت العدالة حيالها فضلات يمكن الاستغناء عنها والمؤسسات المدنية مُجرّفة . فهو أقل انحرافا من أن يكون رمزا مُقطرا لرأسمالية العصابات - وحش فرانكشتاين ما بعد الحداثة، مسرحي مفتون بذاته ، يجسد عقودًا من الجشع والتوحش والقسوة بلغت حده الأقصى السامّ في السلطوية الأمريكية . مشهد ية السياسة الفاشية ليست عرْضًا جانبيًا، بل الحدث الرئيس. ترامب، كما يلاحظ تي جيه كلارك، يفهم بغريزته قدرته على "استشعار رد فعل الجمهور الافتراضي". تذكرنا نعومي كلاين وأسترا تايلور بأن الاستعراضية الترامبية، مصحوبة برواياته المروعة، ترمز لأيديولوجية تخلت ليس فقط عن الديمقراطية ولكن عن قابلية العيش في عالمنا المشترك. ما يبرز هو ثقافة حرب، بيداغوجيا سلطوية فيها تطبَع القسوة، وتمحى الذاكرة، ويغدو الخوف مفردة الحياة اليومية. في التصدي لهذه البيداغوجيا العسكرية القائمة على السلب، يجب فضح وتعرية كل عنصر من عناصر الفاشية المُبهرجة: تسليط الأضواء على فظاعتها ؛ تمزيق الأقنعة عن أكاذيبها ؛ وكشف أكاذيبها، وتفكيك آلية إرهابها. يتوجب للتربية ان تكون الفاس تخترق "الحس السليم" الذي اصطنعته السلطوية ، لغةً تُخاطب أعمق احتياجات الجمهور، تشعل الذاكرة، وتُبرز للعيان كلا من المكابدة والقدرة على مقاومتها . إذا كانت الفاشية تُعلّم الخوف والطاعة، فعلى الديمقراطية أن تحتضن قوة النقد والأمل والتضامن والمقاومة الجماهيرية. المهمة التي تنتظرنا لا تقتصر على الدفاع عن بقايا المؤسسات الديمقراطية، بل تشمل غرس ثقافة وتخييل تربويين قادرين على تفتيت قبضة الاستبداد. المقاومة هي إعادة تأهيل المستقبل: صياغة أساليب تربوية للتحرير تُعيد الكرامة للذاكرة، والإمكانية للنشاط السياسي ، والعدالة للنسيج الاجتماعي. ليس بغير هذا وبعده يمكننا تفكيك آلية الإرهاب وإعادة تأهيل احتمالات الديمقراطية الاشتراكية ، مشروعا حيا ينبض بالحرية والمساواة والعدالة.
#سعيد_مضيه (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ترامب يشيع الفاشية في الحياة السياسية والوعي الاجتماعي
-
اسرائيل الكبرى استراتيجيا صهيو امبريالية
-
أميركا وبريطانيا وطلعات الطيران التجسسية إسهام مباشر في الإب
...
-
اغتيال الصحافيين الفلسطينيين ممارسة للأبارتهايد
-
البحث مستمرفي خضم الصراع في ميدان البحوث الأثرية الفلسطينية
-
فلسطين لم تكسب فائض قوة يؤهل للتوسع
-
فلسطين لم تكسب عبر التتاريخ فائض قوة يؤهل للتوسع
-
امبراطورية داود حقيقة أم أسطورة ؟
-
إبادة جماعية فصولها تجري بغواتيمالا..لكنها صامتة
-
اختلاق تاريخ إسرائيل القديمة
-
رد الاعتبار للتاريخ الفلسطيني
-
تمزيق الأقنعة التنكرية -3
-
بناء القوة لفلسطين ولنظام عالمي جديد
-
تتمزق الأقنعة التنكرية-2
-
لتمزيق الأقنعة التنكرية عن الكيان الصهيو امبريالي
-
ترامب يعاقب ألبانيز!!
-
تقرير ألبانيز يتهم شركات عالمية بالمشاركة في الإبادة الجماعي
...
-
مؤامرة العصر لاختطاف فلسطين
-
تسليك الدروب نحو دولة إسرائيل الكبرى-4
-
تسليك الدروب نحو دولة إسرائيل الكبرى-3
المزيد.....
-
تجديد الاتحاد العام التونسي للشغل حتى لا يصبح أثراً رمزياً ب
...
-
تجمعوا احتجاجًا على حظر منظمة -فلسطين أكشن-.. شرطة لندن تعتق
...
-
رئيس الوزراء أنتوني ألبانيز يساري أسترالي أغضب إسرائيل
-
مالذي كشفه تسريب عن لقاء بين صحافيين فرنسيين ومسؤولين من الح
...
-
اتهام صحافيين بالتواطؤ مع الحزب الاشتراكي في فرنسا بعد تسريب
...
-
الشرطة البريطانية تعتقل متظاهرين احتجوا على حظر -فلسطين أكشن
...
-
شرطة لندن تعتقل متظاهرين احتجوا على حظر «فلسطين أكشن» ببريطا
...
-
حفيد مانديلا يعلن الانضمام إلى -أسطول الصمود العالمي- المتجه
...
-
رسالة جديدة من المعتقل السياسي المناضل محمد جلول
-
بيان حزب النهج الديمقراطي العمالي بجهة الجنوب
المزيد.....
-
مَشْرُوع تَلْفَزِة يَسَارِيَة مُشْتَرَكَة
/ عبد الرحمان النوضة
-
الحوكمة بين الفساد والاصلاح الاداري في الشركات الدولية رؤية
...
/ وليد محمد عبدالحليم محمد عاشور
-
عندما لا تعمل السلطات على محاصرة الفساد الانتخابي تساهم في إ
...
/ محمد الحنفي
-
الماركسية والتحالفات - قراءة تاريخية
/ مصطفى الدروبي
-
جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية ودور الحزب الشيوعي اللبناني
...
/ محمد الخويلدي
-
اليسار الجديد في تونس ومسألة الدولة بعد 1956
/ خميس بن محمد عرفاوي
-
من تجارب العمل الشيوعي في العراق 1963..........
/ كريم الزكي
-
مناقشة رفاقية للإعلان المشترك: -المقاومة العربية الشاملة-
/ حسان خالد شاتيلا
-
التحالفات الطائفية ومخاطرها على الوحدة الوطنية
/ فلاح علي
-
الانعطافة المفاجئة من “تحالف القوى الديمقراطية المدنية” الى
...
/ حسان عاكف
المزيد.....
|